الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آداب الدعوة وحكمة أساليبها
(1)
الإسلام دين يدعو إلى أقوم محجَّة، ويرمي إلى أشرف غاية، وما دعوته إلا هداية الناس إلى سبيل الحق، وتنبيهم إلى مكان الفضيلة، وما غايته إلا أن يحيا الناس حياة طيبة، ويتمتعوا بمدنية فاضلة، ثم يفوزوا في الأخرى بسعادة خالدة.
وللحق نور باهر، وللفضيلة جمال ساحر، ولكن النفوس الناشئة في بيئات خاسرة، أو الغارقة في أهواء سافلة، يقف أمامها الحق، فتخاله باطلاً، وتتعرض لها الفضيلة، فتحسبها شيئاً منكراً، فلا يكفي في دعوة الحق أن يطرق الداعي بها المجالس، ويصدع بكلمة الحق والفضيلة من غير أن يشد أزرها بالحجة، ويتخير لها الأسلوب الذي يجعلها مالوفة للعقول، خفيفة الوقع على الأسماع.
وفي القرآن الكريم ما يدلكم على أن الدعوة الصادقة يثبت أصلها، وتمتد فروعها، وتؤتي ثمرها، إلا أن يقوم بناؤها على أساس الحجة، ويذهب بها الداعي كل مذهب حكيم، ويأخذ فيها بكل أدب جميل، اقرؤوا في شواهد
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن التاسع والعاشر من المجلد السادس الصادران في ربيع الأول وربيع الثاني 1353. محاضرة الإمام في الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في دار جمعية الهداية الإسلامية مساء يوم الأحد 12 ربيع الأول سنة 1353.
هذا قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقوله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
وكذلك كانت دعوته عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام، فإنها كانت محفوفة بما يقرّب العقول إلى قبولها، وتألف النفوس إلى سماعها، فكان صلى الله عليه وسلم يراعي في إبلاغها الطرق الكفيلة بنجاحها، فيورد لكل مقام مقالاً يناسبه، ويكسو كل معنى من المعاني ثوباً يليق به، ويخاطب كل طائفة على قدر عقولهم، ويلاقيهم بالسيرة التي هي أدعى إلى إقبالهم، وأسرع أثراً في صرفهم عن غوايتهم.
كان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق، ويتلو الدعوة بالحجة، والقرآن الكريم لم يدَع أصلاً من أصول الدين إلا أقام عليه البرهان الساطع، وأزاح عنه كل شبهة، وكثيراً ما نقرأ في قصص الداخلين في الإسلام قديماً وحديثاً: أنهم دُعوا إلى الإسلام، وقرئ عليهم القرآن، فانقلبوا إلى إيمان لا تحوم عليه شبهة، ولا تزلزله عاصفة فتنة.
يدعم صلى الله عليه وسلم الدعوة بالحجة، ويدفع ما كان يعرض للناس من شُبه. قال المغيرة بن شُعبة:
بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا فيما قالوا: أرأيت ما يقرؤه: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28]، وقد كان بين عيسى وموسى ما قد علمتم، قال: فأتيت صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، قال:"أفلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، والصالحين الذين كانوا قبلهم؟ ".
ومن طرق دعوة الإسلام: التذكير مما يصير إليه المتقون من عزّ وسلامة،
وما يلحق المجرمين من خزي ومهانة، ومن التذكير ما يرجع إلى البشارة بالخير في الدنيا، والحسنى في الآخرة، ومنه ما يرجع إلى الإنذار بسوء المنقلب في هذه الدار، أو عذاب الهون في تلك الدار، وللبشارة والأنذار أثر كبير في حث المؤمنين على الحسنات، وردعهم عن السيئات، وأثر البشارة والأنذار في غير المؤمن: أنهما يدعوانه إلى النظر في الدعوة، وإذا نظر بروية، أدرك أنها حق، فيفتح لها صدره، ويمد إليها عنقه مذعنا.
ومن مظاهر دعوته صلى الله عليه وسلم: إرسال الحكم البالغة، وكثرة ما في الكتاب العزيز والحديث الشريف من الحكم الرائعة تدل الناظر على أن دعوة الإسلام قول فصل، وما هي بالهزل، ولو كان في المقام سعة، لسقت إلى حضراتكم من تلك الحكم الغالية ما يبلغ عنان السماء، ولو كان في المقام سعة، لأوردت جانباً من الحكم التي يذكرها الناس لشاعر أو خطيب بالإعجاب، وبينت أن معنى تلك الحكمة يقتبس من كتاب الله، أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانظروا مثلاً قول المعري:
فلا نزلت بأرضي أو بقومي
…
سحائبُ ليس تنتظِمُ البلادا
تجدوا روح هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وكنت قرأت في بعض كتب الفلسفة: أن الصداقة لا تدوم إلا بين الناس الطيبين، فحضر في ذهني عند قراءة هذا البحث قوله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
ظهر الدين الحنيف، وامتدت ظلاله في الآفاق، بما كان معه من آيات بينات، وحِكم بالغات، أما السيف، فإنه يجرد لدفع عدو مهاجم، أو متحفز
للهجوم، وقد تُجرد السيوف من أغمادها؛ لتسير دعوة الحق تحت ظلالها آمنة مطمئنة، فدعوى أن الإسلام انتشر بالسيف يكذبها التاريخ الصحيح، ويطعن فيها أن الدين يكتفي من غير المسلمين بالجزية، ويرضى لهم أن يعيشوا وهم تحت رايته آمنين على أنفسهم وأعراضهم، متمتعين بأموالهم وشعائر دينهم.
وإذا تراءى لك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعان في بث الدعوة بما كان يهبه لأشراف القبائل من المال، قلنا: إن الهدايا تذهب بالأحقاد، وتضع مكان التقاطع ائتلافاً، فغايتها أنها تجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، أما العقيدة، فإنما تتصل بالقلوب من ناحية الآيات البينات.
وكا صلى الله عليه وسلم يؤثر بعض حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال؛ للاحتفاظ ببقائهم على الهداية، يفعل ذلك حيث يظهر له أن إيمانهم لم يرسخ في قلوبهم رسوخ ما لا تزلزله الفتن، وإلى أمثال هؤلاء أشار عليه الصلاة والسلام بقوله:"إني لأعطي الرجل، وغيرُه أحبُّ إليَّ منه؛ خشية أن يكبه الله في النار".
ومن أدب دعوته عليه الصلاة والسلام: أخذُه فيها بالصبر والرفق والأناة، فكان يعرضها في لين من القول، ويقابل الجاهل بالإعراض، والمسيء بالعفو أو الإحسان، وإن أذى كثيراً كان يلحقه من مشركي قريش وسفهائهم، فيلقاه بالصبر، ولا ينال من عزمه واسترساله في الدعوة ولو شيئاً قليلاً. وكم من كلمة سيئة يرميه بها بعض المنافقين، أو بعض الجفاة من الأعراب، فيكون جزاؤها الصفح، أو التبسم والإنعام.
وكان يأخذ في التأديب والزجر عما لا ينبغي مأخذاً لطيفاً، حتى إنه
لا يوجّه الإنكار إلى الرجل بعينه ما وجد في الموعظة العامة كفاية. قالت عائشة- رضي الله عنها: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فرخص فيه، فتنزَّه عنه قوم، فبلغه ذلك، فخطب، فحمد الله، ثم قال:"ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله! إني لأعلمهم بالله، وأشدهم خشية له".
ومن حكمته في الدعوة: أنه لا يجعل الوعظ على الناس ركاماً، بل كان يتحرى بالموعظة وقت حاجاتهم إليها، أو وقت نشاطهم لسماعها، قال عبد الله بن مسعود: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا.
وكان صلى الله عليه وسلم يسلك في رسائله إلى الملوك والطوائف طريق الإيجاز، ويأكل بسط الدعوة وتفصيل الحجة ودفع الشبه إلى من يبعثهم بتلك الرسائل، وفيهم الكفاية لهذا الشأن، كتب إلى أهل نجران كتاباً أرسله مع عمرو بن العاص، وهو:"أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم، فالجزية، فقد آذنتكم بحرب، والسلام".
وقصَّ علينا أصحاب السيرة محاورة دينية جرت بينهم وبين عمرو بن العاص بعد أن قرأوا الكتاب.
ومن بديع أسلوبه صلى الله عليه وسلم في إجابته السائلين: أنه يأتي بالجواب في صورة قاعدة عامة، والسائل يكفيه أن يقال له في الجواب: نعم، أو لا.
كان رجل من محارب يؤذيه أيام كان يعرض نفسه على القبائل، ثم جاء ذلك الرجل في وفد محارب مسلماً، وذكَّر رسولَ صلى الله عليه وسلم بما كان يلقاه به من الأذى، وقال له: استغفر لي؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يجبُّ ما قبله
من الكفر". ولو قال في الجواب: "غفر الله لك"، لبلغ السائل مرامه، ولكنه عليه الصلاة والسلام أورد الجواب في صورة يؤخذ منها غفران كل ذنب صدر من السائل قبل الإيمان، ويؤخذ منه أن هذه المغفرة العامة لا تختص به، بل تحصل لكل من ارتكب آثاماً في عهد الكفر، ثم دخل في حظيره الإسلام.
ومن أسلوبه في الدعوة: صوغ التشابيه البديعة، وضرب الأمثال الرائعة، وللتشبيه والتمثيل أثر كبير في جعل الحقائق الخفية واضحة، والمعاني الغربية مألوفة، ومن أبدع ما سمعناه في هذا الباب: قوله صلى الله عليه وسلم: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمَّى".
ومن سياسته في الدعوة: أنه كان يخاطب كل قوم بما يفهمون، ويتحامى أن يخاطب أحداً بما لا يحتمله عقله، وأرشد إلى هذا الأدب بقوله:"حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ".
وربما فعل صلى الله عليه وسلم الشيء مسايرة لمن يبتغي فعله، وإنما يأخذ بهذا الأدب فيما يرجع إلى العادات، ولم يكن في فعله ضرر يستدعي تركه.
أراد أن يكتب إلى بعض الملوك رسائل يدعوهم فيها إلى الإسلام، فقيل له: إنهم لا يقرأون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة نقشُه:"محمد رسول الله".
وقد يترك الأمر الذي لا ضرر في تركه؛ اتقاء للفتنة؛ كما ترك هدم الكعبة وبقاءها على أساس إبراهيم اتقاء لفتنة قوم هم حديثو عهد بجاهلية، وقال لعائشة رضي الله عنها: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت
بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أُخرج منه، وبلغت به أساس إبراهيم".
وله صلى الله عليه وسلم في الحث على فعل الشيء، أو الزجر عنه طرق حكيمة:
منها: إعطاء الوسائل صورة ما تفضي إليه من المصالح أو المفاسد؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "الدال على الخير كفاعله" فقد أراك الدلالة على فعل الخير في صورة فعل الخير نفسه؛ إذ جعلهما بوسيلة التشبيه في منزلة واحدة، وذلك مما يقوي داعية الدلالة على الخير في نفسك، وكما قال صلى الله عليه وسلم:"إن من كبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه؟ قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه".
فانظر كيف أعطى سب الرجل لأبي الرجل صورة سب الرجل لوالديه، وفي ذلك من تكيد الزجر عن إطلاق اللسان بالسب ما لا تجده في النهي عن سب الناس بطريق غير هذا الطريق.
ومنها: إعادة الجملة ثلاثاً؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يؤمن جاره بوائقه".
وقال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، حرم الله عليه الجنة، وأوجب عليه النّار". قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: "وإن كان قضيباً من أراك، وإن كان قضيبا من أراك، وإن كان قضيبا من أراك".
ومنها: أنه كان يقرن القول ببعض إشارات حسية تناسب المعنى، والإشارة بنحو اليد مضمومة إلى القول يزداد بها المعنى جلاء، ويأخذ بها في النفس صورة غير صورته المجردة عن الإشارة، ومثال هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، وشبك بين أصابعه.
ومنها: افتتاحه الكلام بسؤال المخاطيين عن الشيء الذي يريد تعليمهم
إياه؛ لما في الاستفهام من تهيئة النفوس للإصغاء إلى ما يقوله من بعد، وتشويقها إليه، فيقع منها في قرار مكين.
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: بينما أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال:"يا معاذ! ". قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك؛ ثم سار ساعة، ثم قال:"يا معاذ بن جبل"، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك؛ قال: "هل تدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"حق الله على عباده: أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً".
ويشابه هذا أن يأتي بالكلام على وجه الغموض يستدعي طلب البيان، حتى إذا سألوه البيان، كشف الغموض، فيتقرر المعنى في نفوسهم بأشد مما لو أتى به من أول الأمر واضحاً بيناً، ومن هذا الباب: قوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". فقالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال:"تأخذ فوق يده".
ومن حكمته في الدعوة: تصريحه، أو إيماؤه إلى علل كثيرة من الأحكام والآداب، وذلك مما يزيد القلوب إيماناً بصدقها، وينادي بأنها دعوة قائمة على رعاية المصالح، وقطع دابر الفساد.
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أأستأذنُ على أمي؟ قال: "نعم"، فقال: إني معها في البيت، قال:"استأذن عليها"، فقال: إني خادمها، قال:"استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟! "، قال: لا، قال:"استأذن عليها"؛ فعلة أدب الاستئذان الخوف من أن يكون صاحب المنزل في حال يكره أن يراه عليها أحد من الناس، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حالة هي من أشد ما يكره الإنسان أن يشهده عليها أحد، وهي حال تجرده من الثياب؛ ليقنع السائل بوجوب الاستئذان، ويقطعه عن أن يراجع في الأمر مرة أخرى.