الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالآية ظاهرة في أن هؤلاء القسيسين والرهبان لم يزيدوا على أن سمعوا قرآناً يتلى، فعرفوا فيه وجه الحق، فقالوا:{رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
وفي قوله تعالى: {وَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] ما هو صريح في أن القرآن آية كافية للدلالة على صدق الدعوة وصحة الرسالة.
وانظروا إلى قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ] [التوبة: 6].
فالآية منبهة لما نقول من أن تلاوة القرآن على الضالين تكفي في هدايتهم، وإقامة الحجة عليهم متى كانوا يتدبرون، ومجادلتهم- بعد إسماعهم القرآن- إنما هي لازاحة الشبهة التي تخالظ أوهامهم، أو تكشف عما يلفقونه من زور وبهتان.
والحقيقة أن دلالة القرآن على [صدق] محمد صلى الله عليه وسلم لا تنحصر في ناحية واحدة، بل هي ذات وجوه مختلفة، يجتليها كل من يتلوه بيقظة، أو يلقي إليه أذناً واعية.
*
بلاغته:
ومن هذه الوجوه: بلوغه في فصاحة الألفاظ، وبلاغة المعاني، وجودة النظم منزلة تقف دونها فطاحل البلغاء.
ذلك أن البلاغة لعهد البعثة المحمدية قد وصلت إلى درجتها العليا، كان العرب يتنافسون في فنونها، ويطلقون الأعنة في مضمارها، حتى أتى محمد - صلوات الله عليه - بما عجز عن أن يأتي بمثله بلغاء العرب قاطبة.
ثم إنك تجد القرآن لا يتناول فناً من فنون الكلام إلا أتى باللفظ الرائع، والأسلوب البديع، وقصارى الواحد من بلغاء البشر أن يبرع في بعض فنون القول، ويضيق باعه في فنونه الأخرى، فلا يدرك فيها سوى المنزلة المتوسطة أو السفلى.
وإذا نظرت إلى الأفراد الذين يفوقون أقرانهم فصاحة وبلاغة، ويصبح كل واحد منهم علماً في عصره يشار إليه بالبنان، لم تجد منزلتهم بعيدة من منازل البارعين من غيرهم بعد أن يجعلها خارقة للعادة، كالبعد ما بين منزلة القرآن ومنازل غيره من منظوم الشعراء ومنثور الخطباء.
وإذا بدا لنا أن في الإسلاميين أو المحدثين من يفوق بلغاء العرب يوم البعثة، فالفضل في هذا عائد إلى القرآن؛ إذ كانوا يهتمون بنور بيانه، ويجتهدون في أن ينسجوا على منواله، وهم على ما سنه القرآن من طرق الإبدل، وأدناه من قطوف البيان، لَمْ يستطيعوا أن يأتوا بما يداينه، فضلاً عما يقف بجانبه.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب منطقاً، ونجد الفرق بين حديثه والقرآن الكريم جلياً واضحاً، ومن عقد بينهما مقايسه، رأى حق اليقين أن أولئك الذين يقولون: إن القرآن من تاليف محمد، قوم لم يذوقوا للبلاغة طعماً، أو لم يهتدوا للإنصاف سبيلاً.
ومن تلك الوجوه: ما احتواه من الأخبار عن أمور من قَبيل الغيب، وظهرت بعدُ كما أخبر. من شواهد هذا الوجه: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
فقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاط بأعدائه الذين يتمنون له الموت العاجل، ويحرصون أشد الحرص على أن لا يتاخر في الحياة ساعة من زمان،
وهم أصحاب جرأة واغتيال، ولم يكن عليه الصلاة والسلام ممن يجعل بينه وبين الناس حجاباً، ولا يهتم بأن يتخذ منهم حراساً، وكان يضع نفسه عندما يحمى وطيس الحرب بالمكانة الأولى، ومع ما لأعدائه من التلهف على قتله، والتهالك على الفتك به، ومع ماله من الانفراد عن أصحابه في كل حين من الأحيان، وظهوره لأعدائه كلما رغبوا في الاجتماع به، وتقدمه لمواقع الجهاد ليس بينه وبينهم حامية، لم يأته أجله إلا وهو على فراشه، وذلك مصداق قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
ومن شواهد هذا: قوله تعالى:
وقد وقع ما أخبر به القرآن، فعاد الروم بعد غلبهم إلى محاربة الفرس، وظهروا عليهم في السنة السابعة من الهجرة، ويروي أن خبر هذه الواقعة كان السبب في إسلام أناس من الجاحدين غير قليل.
ومن تلك الوجوه: قوة أدلته؛ فقد عرفنا أن محمداً - صلوات الله عليه - قد نبت في وادي جاهلية، ونشأ في أمية، ونجد مع هذا حجج القرآن العقلية القائمة نافذة، كقوله في الاستدلال على وجود الخالق:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].
فإن المعنى: أوجدوا من غير موجد، أم هم الذين أوجدوا أنفسهم؟!. وكلا القضيتين غير صحيح، فوجب أن يكونوا صنع قادر حكيم.
وكقوله في الاستدلال على وحدته: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
ففي الآيتين برهان قائم على وجوب وحدة الإله، وأن الألوهية تقضي الاستقلال بالتصرف في السماوات والأرض تغييراً وتبديلاً، إيجاداً وإعداماً.
وكقوله يدفع شبهة منكري البعث، ويريهم أنه من قَبيل ما يدخل تحت سلطان قدرته:[قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79].
وهكذا نجده يأتي على شُبههم بما يزيحها، وينادي على غلطهم في إيرادها؛ كقوله تعالى في الرد على من ألحفوا في أن يكون الرسول مَلَكَاً:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]، يريد: أنهم لا يستطيعون الأخذ من المَلَك وهو في صورته الملكية، ولو بعثه إليهم في صورة بشر، لعادوا إلى هذا اللبس الذي يلبسون، وما كانوا مؤمنين.
فجميع حجج القرآن واردة على قانون المنطق الصحيح، ومن لم ينتفع بها، ويستقم على طريقتها، فلأنه استكبر عليها، أو لم يوقع النظر على وجه دلالتها.
قال الرازي: "وقد تأملت. الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأحسن الأدلة العقلية: الأدلة التي بينها القرآن، وأرشد إليها الرسول، فينبغي أن يعرف أن أجلَّ الأدلة العقلية وأكملها
وأفضلها مأخوذ عن الرسول".
ومن تلك الوجوه: غزارة حِكَمِهِ ونبوغها؛ بحيث جاءت آخذة بأسباب السعادة، آتية على الخصال التي تسمو بها الأفراد والجماعات إلى سماء السيادة، ومن أمثلة هذا قوله تعالى:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
فمن الطبائع الغالبة على البشر: التسرع إلى إذاية العدو بما أمكن. ومن مقاصد القرآن: تقويم الطباع التي تنزع إلى الأذى، وتبعث على التقاطع، فجاءت هذه الآية تامر الإنسان بأن يسللك في دفع خصمه الطريقة التي هي أجمل؛ رجاء أن يكون لهذه المجاملة أثر صالح، هو قلب العداوة ألفة وصداقة.
ومن أمثلة هذا الوجه: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
أمر بالتثبت فيما ينقله الفاسق؛ حذراً من أن يكون حديثاً مفترى، فيكون العمل عليه على الجهالة، وعاقبة عمل الجاهل ندامة وخسران، وكم من بلاء يلحق الأشخاص أو الجماعات من اندفاعهم إلى العمل على خبر الفاسق قبل أن يتبينوا!.
وانظروا إن شسّم إلى قوله تعالى: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8]. فهذه الآية نصيحة للأمة بأن لا ينخدعوا لقول لين، ووعد مؤكد يبذله لهم العدو، فيركنوا إليه بقلوبهم، ولا يأخذوا منه حذرهم، فإذا هو يبسط عليهم
سلطاناً طاغياً، ويريهم أنه ألانَ لهم القول خادعاً، وقطع لهم العهد غادراً، وإن هذه النصيحة لمن أبلغ النصائح التي تقوم عليها حياة الأمة وعظمتها، ولو حفظها المسلمون في سويداء قلوبهم، وجعلوها بمرأى من أبصارهم، لاستقاموا على عزتهم، ولم يفقدوا شيئاً من حريتهم.
ويدخل من قبيل حِكَم القرآن ونصائحه: عنايته بمكارم الأخلاق، فهو مملوء بالحثِّ على نحو الصدق، والحلم، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والعدل، والوفاء،. تلك الأخلاق التي تقوم عليها قواعد العمران، وتتأكد بها روابط التوادد والاتحاد، وبها تحرز الأمة قوة معنوية، وأخرى مادية، فلا يجد أعداؤها الطريق إلى أن يطؤوا موطئاً يغيظها.
عني القرآن بأصول الفضائل التي هي مطلع السعادة، ومن أجلّ هذه الفضائل: ما يسمونه: الشجاعة الأدبية، وهي خلق الصراحة والإقدام على قول الحق؛ فقد جاء القرآن بها على كمل وجه، وفرضها على الناس في أبلغ خطاب، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].
فهذه الأية تأمر الرجل أن يؤثر الحق على الهوى، ولا يبالي عند إقامة الحق ما ينازعه من عاطفة القربى، وإن بلغت أشدها، وكانت عاطفته نحو والديه اللذين ربياه صغيراً.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].
فهذه الآية تذكر الذين يكتمون ما يعرفون من الحق، وتجعل جزاءهم اللعنة من الله، ومن يتأتى منه اللعنُ من الملائكة والمؤمنين، ومَنِ الذي يجهل
المفاسد التي تجري على يد عالم يشتري رضا المخلوق برضا الله، ويتبدل متاع هذه الحياة بما هو خير وأبقى؟!.
وكم نتلو في القرآن من أنباء دعاة الإصلاح ما شأنه أن يطبع النفوس على خصلة الجهر بالحق، والدعوة إلى الاصلاح، وإن وجدوا الناس على أهواء غالبة، ولقوا في سبيل الدعوة أذى كثيراً. ومن أوضح الآيات في هذا المعنى: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71].
فالأمة التي تملك الشجاعة الحربية لا تصل إليها يد العدو بأذى، فإذا ضمَّت إلى ذلك الشجاعة الأدبية، استقامت شؤونها الداخلية، وأمنت من أن يفسد عليها رؤساؤها أمر سياستها، أو يضلوا السبيل، فيهيئوا لأبنائها مستقبلاً منكراً شقياً.
ومن تلك الوجوه: ما أتى فيه من كلمات العتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أشياء فعلها، أو همَّ أن يفعلها، ووجه دلالتها على أن دعوته لله خالصة: ما نراه في طبائع الرجال، ولا سيما ذوي المكانة في قومهم؛ من أنهم يحرصون ما استطاعوا على أن تكون جميع آرائهم في نظر الناس سديدة، وجميع أعمالهم حكيمة ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم من أولئك الذين يدعون القرب من الله، والكرامة عنده رياء وخداعاً، وكان هذا القرآن من تأليفه- كما يزعم الجاحدون -، لوجد نفسه في غنى عن هذه الآيات التي تحمل وتدلُّ قراءها على أنه فعل خلاف ما هو الأولى.
لو كان القرآن من تأليف محمد عليه الصلاة والسلام، وكان محمد