الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عظمة رسول لله صلى الله عليه وسلم وهدايته
(1)
أيها السادة!
رأت جمعية الهداية الإسلامية أن تحتفل بذكرى مولد الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا معنى لاحتفالها بهذه الذكرى إلا أن تلقي على حضرات المحتفلين كلمات تلتقط من بحر عظمته، أو تقتبس من سني هدايته. جعلت أنظر هذه العظمة؛ لأصف جانباً منها، وأبصر بتلك الهداية؛ لأقبض قبضة من أثرها، فأحجم الفكر روعة، ونكست الخطابة رأسها صاغرة.
وذكرت قول الوزير ابن الخطيب:
أيروم مخلوق ثناءك بعدما
…
أثنى عليك الواحد الخلاقُ؟!
فخطر لي أن أستضيء في حديثي عن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدايته بآيات من الكتاب العزيز، وسبق إلي في التلاوة قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فرأيت في الآية مرعى خصيباً، ومجالاً فسيحاً.
ننظر في سيرة الرسول الأكرم، فنرى ما يبهر الأبصار وضاءة، ويملأ
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الثاني الصادر في ربيع الآخر 1349. محاضرة للإمام في احتفال جمعية الهداية الإسلامية بذكرى مولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم مساء يوم الخميس 12 ربيع الأول 1349.
القلوب جلالة، فما شئتم من أخلاق عظيمة، وحكم غزيرة، وهمم خطيرة، وأعمال جليلة، فهو الرسول الذي بعثه الله تعالى لإبلاع شريعته المحكمة، وجعله المثل الأعلى لأقصى ما يبلغه البشر في مراقي الكمال والعظمة.
ومن أجل هذا عهد الله إلى الناس كافة أن يقتدوا بسنته، ويعملوا للسعادة على سيرته، فقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]
تتناول الآية الكريمة كل ما يتحلى به صلى الله عليه وسلم من محاسن الشيم، أو يصدر منه على أنه شرع سماوي، إلا ما علم أنه مختص به؛ كالوصال الذي هو إلحاق الليل بالنهار في الصيام، أما ما يفعله على وجه العادة أو الجبلة، دون أن يظهر فيه معنى للتشريع؛ كالقيام والقعود في بعض الأمكنة أو الأزمنة، وكتركه كل بعض الأطعمة مع تصريحه بإباحتها، فذلك ما لا يتناوله طلب التاسي به، وإن كان عبدالله بن عمر لا يدع التأسي في مثل هذا ما أمكنه.
وقد يختلف أهل العلم في بعض ما يفعله عليه الصلاة والسلام، فيذهب قوم إلى أنه فعله على وجه التشريع، ويذهب آخرون إلى أنه وقع على سبيل العادة.
ومثال هذا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل شعر رأسه إلى أذنيه، فقال بعض أهل العلم؛ كأبي بكر بن العربي: إنه من قبيل الهيئات المشروعة، فالحالق لشعر رأسه يعد تاركاً لما هو سنة، وقال كثير منهم: إنه من قبل العادات التي يأخذ فيها كل قوم بما يجري في وطنهم أو زمانهم.
ولو تفقهنا في هذه الآية الكريمة، لانكشف عنا ظلام البدع والمحدثات؛ ذلك أننا نتعرف سيرة رسول الله من طرق الروايات الصحيحة، ونتأسى بها في التقرب إلى الله، فلا نتعدى حدودها لإحداث ما لا يصح أن يكون
قربة في حال.
أما احتفالنا بذكرى مولده الشريف، فإنا لم نفعل غير ما فعله حسان ابن ثابث رضي الله عنه حين كان يجلس إليه الناس، ويُسمعهم مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعر، ولم نفعل غير ما فعل علي بن أبي طالب، أو البراء بن عازب، أو أنس بن مالك رضي الله عنه حين يتحدثون عن محاسن رسول الله الخُلُقية في جماعة.
ليس في استطاعتي أن أفصل القول في السيرة النبوية التي أرشدت الآية إلى اقتفائها، وإنما أنبه على ناحيتين، ترينا إحداهما: كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطيع الخالق بإخلاص، وترينا أخراهما: كيف كان يعامل الناس في نصح، ويسوسهم في حكمة ورفق.
نقلب الوجه في طريقته المثلى، فنجده قد أسلم وجهه للخالق، واستقام على طاعته آناء الليل وأطراف النهار، فكان يتهجد في حجرته كما يتهجد في المسجد، ويعبد الله خالياً كما يعبده في جماعة، ويبتغي رضوانه في السر كما يبتغيه في العلانية.
ونحن نعلم أن من أمهات المؤمنين من كان أبوها من أشد الناس إيماناً به، وإجلالاً لقدره؛ كعائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، ومنهن من كان أبوها من أشد الناس عداوة ومحاربة له؛ كأم حبيبة بنت أبي سفيان، فلو لم يكن يقوم الليل على الدوام كما فرض عليه القرآن، لعلم به المخلصون في صحبته، ودخلهم الريب في صحة دعوته، أو علم به خصومه الألداء فوجدوا في أيديهم ما يطعنون به في صدق نبوته.
نحول النظر إلى موققه تجاه الخالق حين تمسه الضراء، فنراه كالعلم
الشامخ تهب عليه عواصف اليلاء، فلا تلقى إلا قلباً صابراً، وقدماً ثابتاً، وحسبكم شاهداً على هذا: ما كان يلاقيه في بعض غزواته من شدائد، فلا يكون من هذه الشدائد إلا أن تؤكد عزمه، وتشد أزره، وتزيد داعية توكله على الله قوة، وكذلك ينبغي للمسلم أن يواجه البأساء في صبر ووقار، ويعمل على كشفها ما استطاع، ويضيف إلى هذا الدواء الناجع الاعتمادَ على من بيده ملكوت كل شيء، فقد قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
هذا شأنه صلى الله عليه وسلم في الخطوب، أما إذا أفاض الله عليه نعمة، فإنها تنزل بأرض طيبة المنبت، فلا تثمر إلا شكراً، ومن شكره للنعمة: أن لا يتعاظم بها، أو يلبس في معاملة الناس حالاً غير ما كان يلبسه قبلها. وقد كان حاله صلى الله عليه وسلم في الزهد والتواضع بعد فتح مكة وغيرها من البلاد كحاله يوم كان يدعو إلى الله وحيداً، وسفهاء الأحلام في مكة يسخرون منه ويضحكون.
نصوَّب النظر بعد هذا إلى سيرته في الخليقة، فنراهم أمامه أربع طوائف:
1 -
طائفة المهتدين: وهؤلاء يلاقيهم في بشر وطلاقة محيا، ويخالطهم في تواضع يعلَّمهم به أدب المساواة بين الرئيس والمرؤوس، ويحمل لهم من الرحمة ما هو أرق من النسيم، وأجود من الغيث العميم.
أما البشاشة وطلاقة المحيا، فإنا نقرأ في الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي: أنه قال: "ما حجبني (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم". فالذين يلقون ذوي النفوس الطاهرة في كلوح وانقباض بعلة المحافظة على الوقار، لم يهتدوا إلى السيرة الحميدة سبيلاً.
(1) ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته ما استأذنت عليه.
وأما التواضع، فقد قال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقاً، وإن كان ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير:"يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ ". فالذين يخرجون للناس في وجوه عليها غبرة الكبرياء إنما يلقون قلوباً نافرةً، وألسنةً ساخرةً، ولقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة لو شاؤوا أن يكونوا أجلاء محترمين.
وأما الرحمة، فقد قال تعالى في كتابه الكريم:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وحدثنا عن هذه الرحمة مالك بن الحويرث إذ قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَة (1) متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أننا اشتقنا أهلنا، وسألَنا عمن تركنا وراءنا من أهلنا، فأخبرناه، وكان رقيقاً رحيماً، فقال:"ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم، ومروهم، وصلُّوا كما رأيتمُوني أصلي".
2 -
طائفة المنافقين: وهؤلاء كان عليه الصلاة والسلام يعاملهم بما يشبه معاملة المهتدين من الرفق بهم، والإحسان إليهم، ومقابلة إساءتهم بالعفو. نقرأ في السيرة: أن طائفة منهم هموا بقتله في طريق إيابه من غزوة تبوك، وخاب سعيهم بما أوحى الله إليه من أمرهم، فقال بعض المسلمين: ألا تأمر بهم يا رسول الله فنضرب أعناقهم؟ فكان جوابه أن قال: "أكره إن يقول الناس: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه".
3 -
طائفة المخالفين المسالمين: وهؤلاء يلقاهم بالجميل، ويقسط إليهم، ولا يهضم لأحد منهم حقاً، يأخذ فيهم بأدب قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ
(1) جمع شاب.
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. ونقرأ في الصحيح: أن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض الغلام، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام، فأجاب الدعوة، ومات مسلماً. وحسن معاملته عليه الصلاة والسلام للمخالفين الذين دخلوا معه في عهده، أو رضوا بأن يعيشوا تحت راية الإسلام، من أوضح الشواهد على سماحة الدين الحنيف، وبنائه على رعاية قاعدتي: الحرية، وتوطيد السلام، فراية الإسلام صالحة لأن تخفق على رؤوس أمم مختلفة في عقائدها، متفاوتة على مرافق حياتها.
4 -
طائفة المخالفين المحاربين: وهؤلاء يخرج لهم عليه الصلاة والسلام في مظهر الحزم والاحتراس، ويدفعهم بالتي هي أحكم وأعدل، فيرفق بهم إن كان هنا موضع للرفق، ويأخذ فيهم بسنة العزم إن طغى بهم الشر، فلم يكن الرفق ليزيدهم إلا تمرداً.
فإذا أذن - صلوات الله عليه - بقتل كعب بن الأشرف، فلأن كعباً هذا كان شاعراأ، وكان يهجو رسول الله، ويحرض عليه كفار قريش، ويفعل بعد هذا شيئاً هو أشد على قلوب العرب من وقع السهام النافذة، وهو أنه كان يشبب بنساء المسلمين، وقد احتمل منه النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأذى حيناً، ولما أبى كعب أن ينزع عن إثارة هذه الفتن، أذن لأحد الأنصار في قتله؛ ليميط عن سبيل الدعوة إلى الله حية تسعى، ويدفع عن أعراض المسلمين شعراً مقذعاً.
قال سخيفٌ معروف في العراق يتزلف لمذهب النصرانية: إن عيسى فدى العالم بنفسه، ومحمداً قاتل أعداءه حرصاً على حياته.
ومن ذا يجهل أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أفاض على العامل حكمة وهداية
وإصلاحاً، وما الحسام الذي يأمر بانتضائه إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد؛ حرصاً على صحته وسلامته، ومن تقصى السيرة النبوية، وجد فيها ما يصدق قول عائشة- رضي الله عنها:"ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله، فينتقم لله".
فمحمد عليه الصلاة والسلام لم يقاتل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون حرصاً على حياته، وإنما كان يقاتلهم حرصاً على حياة الفضيلة، وظهور الحق، وإقامة نظم المدنية المهذبة، ولكن الناشئين على اللهو واتباع الشهوات لا يفقهون.