الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صبر محمد عليه السلام ومتانة عزمه
(1)
نحمدك اللهم على أن هديتنا صراطاً سويا، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد الذي أنزلت عليه قرآنا عربياً، ورفعته في سماء السيادة والعظمة مكاناً عَلِيّا، وعلى آله وصحبه وكل من دعا إلى سبيلك مخلصاً تقياً، أما من زاغ عن الهدى، أو اتخذ من المضلين عضداً، فإليك إيابه، وعليك حسابه.
أيها السادة!
نحتفل بذكرى مولد أكمل الخليقة، وانما نحتفل بمطلع الهداية التي أخرجت العالم من الظلمات إلى النور، وعلمت البشر من وجوه الحكمة مالم يكونوا يعلمون. وخير الاحتفال بذكرى مولد المصطفى: أن نلقي على حضراتكم كلمات نقتبسها من سيرته السنية، وخلقه العظيم، وقد اخترت أن أجعل تذكرة بسعة صبره، ومتانة عزمه؛ فإنهما من أسمى الخصال التي بلغ بها الغاية من الدعوة، وما كان محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلا إلى سعادةٍ وإصلاحٍ ونظام.
أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، فكان نور اليقين يسعى بين يديه، ويسيربه في سبيل الدعوة، فلا يسأم ولا ييئس، ولا يرهب سطوة غير سطوة
(1) مجلة"الفتح" - العدد 113 من السنة الثالثة في 29 ربيع الأول 1347 هـ 13 سبتمبر 1928 م القاهرة. محاضرة الإمام في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم.
الخالق، ولا يخشى.
يتجلى صبر محمد صلى الله عليه وسلم في استقامته كما أمره الله، ومواصلته العبادة آناء الليل وأطراف النهار، فقد كان- صلوات الله عليه- يقوم الليل ناسكاً متهجداً. وكان هذا القيام في حقه أمراً مفترضاً عليه. يقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1 - 4]. وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]،. وفي حديث المغيرة المروي في "صحيح البخاري":"إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه، فيقال له، فيقول: أفلا كون عبداً شكوراً؟ ".
وسئلت أم المؤمنين عائشة عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق؟.
ولو لم يكن محمد - صلوات الله عليه - مخلصاً فيما يفعل، صادقاً فيما يبلغ، لما استطاع أن يملأ الليل والنهار بعبادات يأخذ بها نفسه في الحضر والسفر، ويقوم بها في العلانية كما في حجرته وأهلُ الحجرة نائمون.
وقد خطر على أذهان بعض الصحابة أنهم في حاجة إلى أن يُجهدوا أنفسهم في العمل الصالح أكثر مما يجهد رسول الله نفسه؛ بحجة أن الله اصطفاه برسالته، وخلع عليه من حلل رضوانه، فهو مغفور له، ومحمود المقام عند الله على أي حال، ذكروا هذا الخاطر في حضرة الرسول، فقابله بالغضب، وأرشدهم إلى أن العبادة والتقوى على قدر المعرفة بالله، وأنه أتقاهم لله، وأعلمهم به، وفي "صحيح البخاري": "كان إذا أمرهم، أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله؛ إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك
وما تأخر، فيغضب حتى يُعرف الغضب في وجهه، ثم يقول:"إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا".
ولو لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم مخلصاً فيما يفعل، صادقاً فيما يبلغ، لكان شأنه أن يرتاح لخاطر كهذا، ويتكئ عليه في الإقلال من العبادة، فيخفف عن نفسه شيئاً من حملها الكبير.
يُعلِّم محمد صلى الله عليه وسلم بسيرته عظماء الرجال: أن القيام على العبادة الخالصة لا يبطئ بالرجل أن يكون فاتحاً مظفراً، أو سياسياً راشداً، أو طامحاً إلى همم تطلع وتغرب من تحتها كواكب الجوزاء، بل إن تقوى الله بحق هي أساس كل عزة وعظمة.
يتجلى صبر محمد صلى الله عليه وسلم، وشدة عزمه في احتمال ما تجري به صروف الأقدار من الشدائد والخطوب؛ فإنه كان يتلقاها بقلب لا يخضع للنوائب، وعزم تزول الراسيات ولا يزول، وأقرب مثل نسوقه على هذا الخلق الجليل: واقعة أحد التي قضى الله بأن يبلو فيها المسلمين، ويميز بها المنافقين من المؤمنين، فقد لقي فيها رسول الله بأساً شديداً، وكسرت فيها ربَاعيته، وجرحت وجنته وشفته، وجشت ركبته، حتى اضطر أن يؤدي الصلاة في ذلك اليوم جالساً، وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب، ومُثل فيه أفظع تمثيل، ولكنه حذر عليه الصلاة والسلام أن يظن المشركون به وبأصحابه وهناً، وتدور نشوة الانتصار في رؤوسهم، فيهموا بالعودة إلى المدينة، ويطمعوا في استئصال من فيها من المسلمين، فقصد إلى أن يريهم قوة وعزماً، فبعث في الغد من ينادي في الناس بطلب العدو، ويؤذنهم أن لا يخرج معه إلا من شهد الوقعة بالأمس، فانتدب منهم سبعين رجلاً، فخرج بهم يقفو أثر القوم حتى بلغ القوم
مكاناً يقال له: "حمراء الأسد"، فألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فانصرفوا إلى ديارهم، وانقلب رسول الله والذين معه إلى المدينة وقد أمنوا ما كانوا يحذرون.
يُعلِّم محمد صلى الله عليه وسلم بسيرته المجاهدَ في سبيل الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل ولا يَهن في دفاعهم وتقويم عوجهم، ولا يهوله أن تقبل عليهم الأيام، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم، فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة، فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون.
يتجلى صبر محمد صلى الله عليه وسلم وقوة عزمه ساعة يعتدي عليه السفهاء من خصوم هدايته، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يقابل أذاهم بالتجلد، والمضي في الدعوة كيف يشاء، ولشدَّما لقي من الأذى، فلم يحجم به يوماً عن أن يصدع بما أمره الله، ولم يحجم به يوماً عن أن يضرب بالدعوة في وجوه أولئك الجبابرة، وهذه السيرة تعلِّم الناهضين بالأمم إلى مراقي الفلاح كيف يؤثرون الحق على أنفسهم ومن في الأرض جميعاً.
ولا أدل على عظمة الرجل من أن يستبين سبيل الرشد، فيسلكها في سكينة وقرارة جأش، ثم لا يبالي عبث المستهزئين، وما يعترضه من أذى المبطلين.
يتجلى صبر محمد صلى الله عليه وسلم وقوة عزمه في إقدامه على همم لا تدرك إلا بمعاناة مصاعب واقتحام أخطار.
له همم لا منتهى لكبارها
…
وهممته الصغرى أجلُّ من الدهر
بلغه صلى الله عليه وسلم أن الروم ومن يظاهرهم من قبائل العرب المتنصرة أخذوا يتأهبون للزحف عليه بالمدينة، فنادى بالنفير العام، وانبعث في سفر بعيد
الشقة إلى أن وطئ أرض الروم، فخالط قلوبهم رعب، وجنحوا للسلم، فجنح لها، ووادعهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
يُعلّم محمد صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الغزوة رؤساء الشعوب أن لا يقعد بهم حب الراحة والنعيم العاجل، ويغيبوا عما وراء بلادهم حتى يطل عليهم العدو بخيله ورجله، ويصب عليهم من سيطرته عذاباً مهيناً.
يتجلى صبر محمد صلى الله عليه وسلم وقوة عزمه في أقوال يتبرأ من أن يصرفه عن الدعوة إلى الدين الحنيف صارف، وهو الذي يقول:"والله! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته".
بمثل هذا الكلم النوابغ يعلم محمد صلى الله عليه وسلم دعاة الإصلاح من بعده أن يكونوا من العزم الصامت بحيث يمضون في سبيلهم مضي الشهاب الثاقب، ولا يتردد بهم في هذا السبيل أن يصانعهم الذين لا يحبون الناصحين، ولو ملؤوا ما بين أيديهم لجيناً وعسجداً.
وإذا كان الرفق والأناة شعبة من شعب الصبر، فكان محمد - صلوات الله عليه - يقابل الإساءة بالرفق والأناة.
نقرأ في "صحيح البخاري": أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه، فأغلظ له في القول، فهّم به أصحابه، فقال:"دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالا".
ونقرأ في "صحيح البخاري": أن رهطاً من اليهود دخلوا عليه، وقالوا:" السام عليكم" محرفين كلمة "السلام" إلى "السام"، والسام: الموت، فلم يزد رسول الله على أن قال:"وعليكم"، ولما ردت عليهم أم المؤمنين عائشة بقولها:"وعليكم السام واللعنة"، قال لها: "مهلاً يا عائشة، إن الله يحب
الرفق بالأمر كله".
ونقرأ في "صحيح البخاري": أن عائشة بنت الصديق تصف رسول الله، فتقول:"والله! ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم له".
ونحن إذا تقصينا سيرته بحثاً وتنقيباً، وجدناها مصدقة لما وصفته به أم المؤمنين من الرفق والحلم، فما عاقب عليه الصلاة والسلام أحداً مسه بأذى، ولا اضطغن على أحد أغلظ له في القول، بل كان يلاقي الإساءة بالحسنى، والغلظة بالرفق، إلا أن يتعدى الشر، فيلقي في سبيل الدعوة حجراً، أو يحدث في نظام الأمة خللاً. فلمحمد صلى الله عليه وسلم يومئذ شأنه الذي يقول فيه:"لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها".
فهذه السيرة ترشد رئيس القوم إلى أن يوسع صدره لمن يناقشه ويجادله، ولو صاغ أقواله في غلظ وجفاء، فسيرة رسول الله هي التي علمت معاوية ابن أبي سفيان أن يقول: والله! لا أحمل السيف على من لا سيف له، فإن لم يكن من أحدكم سوى حكمة يقولها ليشتفي بها، فإني أجعل له ذلك دُبْرَ أذني، وتحت قدمي.
فمحمد صلى الله عليه وسلم الذي قرر الحرية في الأموال والأنفس والأعراض، قد قرر الحرية في نقد أعمال الرعاة المسؤولين، فحقيق على عشاق الحرية الفاضلة أن يحتفلوا بذكرى مولد النبي الذي جامل من أغلظ له في القول، وقال لأصحابه:"دعوه؛ فإن لصاحب الحقِّ مقالاً".