الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شريعة عادلة، وجعلها - وهي فئة قليلة - تظهر على الأمم الكثيرة، دون أن تكون أكثر منها مالاً، وأجود منها سلاحاً.
ثم إذا نظرنا إلى هذا المصلح الكبير، والمشرع الخطير، والمجاهد الظافر، نجده طلق اليد إذا بذل، واسع الحلم إذا أوذي، صادق اللهجة إذا حدّث، وبعبارات أوجز: نجده المثل الأعلى لكل خصلة تطمح إليها الهمم الكبيرة.
إن هذا إلَاّ محمد بن عبدالله الذي بعثه الله في الأميين رسولاً.
وقد دلَّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه على أن خلقه عليه الصلاة والسلام بالغ من الكمال غاية تنقطع دونها الآمال، فقال حين تشاغل بحرب أهل الردة، واستبطاته الأنصار:"أما كلفتموني أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله! ما ذاك عندي، ولا عند أحد من الناس".
*
المعجزات المحسوسة:
الإسلام دين عام يتوجه الخطاب به إلى كل قبيل، ولا يختص به جيل دون جيل، ومن أجل هذا جعل الله تعالى لصدق المبعوث به دلائل تدرك بالعقل، حتى يمكن للأجيال- على اختلاف أزمنتها- أن تهتدي بها، فيكون إيمانها عن بينة لا عن تقليد، وقد عرفنا أن هذه الدلائل ترجع إلى ما احتواه الكتاب العزيز من حكمة ويلاغة، ثم إلى أخلاق الرسول، وسيرته العملية المنقولة إلينا على طرق صحيحة.
وهناك نوع ثالث من أعلام النبوة شهده الناس الذين أدركوا عهد البعثة نسميه: المعجزات المحسوسة، وشأننا في هذا أن نضيفه إلى تلك الدلائل المعقولة متى كان سنده صحيحاً، ووسعته دائرة الإمكان.
ولهذا النوع من المعجرات أثر في زيادة الإيمان، وإن نقل إلينا على طرق الآحادة فإن أخبار الآحاد المستوفية لشروط الصحة يفيد كل واحد منها ظناً قوياً، والدلائل الظنية إذا تعددت، وأخذ بعضها برقاب بعض، أصبحت بجملتها كالخبر المتواتر، لا تقصر عن أن تضع في النفس اعتقاداً جازماً.
درسنا هذا النوع من المعجزات، فوجدناه يروى بأسانيد متينة إلى أمة كبيرة من أكابر الصحابة؛ كعبدالله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعدي بن حاتم، وعائشة أم المؤمنين، وعمران بن جصين، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وجماعة من غير هؤلاء، ويرويه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعات من أهل العلم والتقوى، حتى يتصل بأمثال الإمام مالك بن أنس، والإمامين: البخاري، ومسلم.
ومن أمثلة هذا النوع: إخباره صلى الله عليه وسلم بغيوب واقعة؛ كنعيه للنجاشي يوم موته، وقوله للصحابة:"مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة"، أو إخباره بغيوب مستقبلة؛ كقوله لعدي بن حاتم: "لئن طالت بك الحياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف إلا الله، ولئن طالت بك حياة، لتفتحن كنوز كسرى،. قال عدي بن حاتم: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى.
ومن أمثلة هذا النوع: دعاؤه صلى الله عليه وسلم، واستجابة الله له في الحال؛ كواقعة استسقائه وهو قائم في خطبة الجمعة، والسماء مصحية، فما انتهى من الخطبة حتى أرسلت السماء مدراراً.
إلى غير هذا مما لا يسع المقام الحديث عنه بتفصيل؛ كوقائع تكثير الماء أو الطعام القليل، وآية انشقاق القمر التي لم تبلغ شُبَهُ منكريها أن تضعف الثقة بصحة روايتها ذاتِ الطرق المتينة المتعددة.
وهذا النوع من المعجرات قد يقصد به إقامة الحجة على الجاحدين الذين يؤخذون بالدلائل المحسوسة أكثرَ مما يؤخذون بالدلائل المعقولة، وقد يجري بمحضر المؤمنين؛ لتطئمن قلوبهم، ويزدادوا إيمانا على إيمانهم، ومنها ما يشهده الرسول وحده؛ ليرى من آيات الله ما لم يكن قد رأى؛ كواقعة الإسراء، وعلى هذا يدل قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
فمن تدبر القرآن الكريم، ودرس السيرة النبوية بعقل سليم، ونظر فيما يرويه أئمة الحديث من المعجرات نظرَ الراسخين في العلم، لم يكن منه إلا أن يكون مسلماً عقيدة قيَّمة، وعملاً صالحاً.