الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الكتاب
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومن يُضلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إِله إِلَّا اللهُ وحدَهُ لا شرِيكَ لهُ، وأنَّ مُحمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ من أجلِّ نِعَم الله تعالى على عِبادِهِ أن سَخَّرَ لهم ما في الأرض؛ فَرَزَقَهم من خَيْراتِها، وأباحَ لهم طيِّباتِها، يأكلون منها، وينتفعون بها، وحَرَّم عليهم الخبائثَ وكُلَّ ما من شَأْنِه إلحاقُ الضَّرَر بهم؛ قال تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
ولقد حثَّت الشريعة الإسلاميَّة الغرَّاء على لزوم تناول الطَّيِّب من المَطْعَمِ؛ لأنَّ طيبَ المَطْعَمَ له أثرٌ حِسِّيٌّ ومَعْنَويٌّ على الإنسانِ وسُلوكِهِ، وحياةِ قَلْبِه، وقبولِ دُعائِه، وعلى العَكْسِ من ذلكَ الأثرُ السَّيِّئ للمَطْعَم الخبيثِ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّباً، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ؛ فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَّ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)
(1)
.
(1)
رواه مسلم (ح 1015).
يقول العلَّامة ابن باديس رحمه الله: «في تقديم الأَكْل من الطيِّبات على العمل الصالح تنبيهٌ على أنَّه هو الذي يُثْمِرُها؛ لأنَّ الغِذاءَ الطيِّبَ يَصْلُحُ عليه القَلْبُ والبَدَن؛ فتَصْلُح الأعمالُ، كما أنَّ الغِذاءَ الخبيثَ يَفْسُدُ به القَلْبُ والبَدَنُ؛ فتَفْسُدُ الأعمالُ»
(1)
.
وحيثُ كان الحلالُ كثيراً كان ذلك علامةً على وجود الصالحين، وحيث قَلَّ الحلالُ وكَثُرَ تعاطي الحرامِ أو المُشْتَبِهاتِ كان ذلك علامةً على قِلَّةِ الصالحين؛ قال الإمامُ ابنُ حَجَرٍ الهَيْتَمِيُّ رحمه الله:«ومِنَ المُشاهَدَةِ أنَّ بعضَ النواحي يَكْثُرُ فيها الصالحون والمُتَّقون، وبعضَها يَقِلِّون فيه، ولقد اسْتَقْرَيْنا سببَ ذلك فلم نَجِدْهُ غيرَ أَكْلِ الحَلالِ، أو قِلَّةِ تعاطي الشُّبُهاتِ، فكُلُّ ناحيةٍ كَثُرَ الحِلُّ في قُوتِ أَهْلِها كَثُرَ الصَّالِحون فيها، وعَكْسُه بعَكْسِه»
(2)
.
ومن هنا كان تَحَرِّي الحلال فيما يأكُلُه المُسلمُ أو يستعمِلُهُ واجباً من الواجبات الدِّينيَّة التي أَكَّدَتْها نصوصُ الشريعةِ وشَدَّدت في شأنها.
ومع تقدُّم الزَّمان وتطوُّر الصناعات وتوسُّعها، وتعلُّق كثيرٍ من الناس بالمادِّيَّات، والبَحْثِ عن الرِّبْح السَّريع، أَضْحَت صِناعَةُ الحَلالِ وإنتاجِهِ تُشَكِّل هاجِساً وَهَمًّا لدى كثيرٍ مِنَ المُسلمين؛ نظراً لانتشارِ المُنْتَجاتِ الاستهلاكِيَّة التي لم يُرَاعَ فيها الضَّوابِطُ والمَعايِيرُ الشَّرْعِيَّة لإنتاج الحَلالِ، سواء كانت هذه المنتجاتُ غِذائيَّةً، أو دَوائِيَّةً، أو حتَّى مُسْتَحْضَراتِ التَّجْمِيل؛ فكان لا بُدَّ من الاهتمام بمسائل صِناعَةِ الحلالِ، وعَرْضِها على عُلَماءِ الشَّريعةِ؛ لدِراسَتِهَا، ومَعْرفَةِ مَدَى تَوافُقِها مع القَواعِدِ
(1)
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، عبد الحميد محمد بن باديس (ص 355).
(2)
الفتاوى الفقهية الكبرى، أحمد بن حجر الهيتمي (3/ 372).