الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأَكْلُ من لحمِ الخِنزيرِ حال الضَّرورة
(49) السؤال: [ما حُكمُ الأَكْلِ من لحم الخنزير عند الاضطرار
؟]
الجواب: الواجب علينا كمسلمين أنْ نؤمن إيماناً جازماً أنَّ الله سبحانه ما أحلَّ لنا إلَّا الطيِّب، وما حرَّم علينا إلَّا الخبيث؛ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. وهو سبحانه حكيم في كلِّ أفعاله، وكلُّ ما أمر به عباده أو نهاهم عنه إنَّما هو لخيرهم وصلاح أمرهم لحكمةٍ بالغةٍ، حتَّى ولو غابت هذه الحكمة عن العباد، فواجبنا أنْ نُطيعَ الأمر الإلهي، نعبد الله سبحانه حتَّى وإنْ لم تصل مداركنا البشريَّة القاصرة لحكمة الله في أوامره ونواهيه، ومع ذلك وبالنسبة للحم الخنزير، فإنَّ لحم الخنزير ضارٌّ بالأبدان، مولِّدٌ للأمراض، مُفسِدٌ للأخلاق؛ ذلك أنَّه يحمل من الميكروبات ما ثبت بالتجربة العِلْميَّة أنَّها لا تموت في أقصى درجات الحرارة والغليان، فتنتقل إلى الإنسان الذي يأكلُه فتصيبه بأمراضٍ كثيرةٍ قد لا يستطيع التخلُّص منها، كميكروب (التينيا) وغيرها، هذا من الناحية الجسميَّة.
أمَّا من الناحية النفسيَّة والأخلاقيَّة؛ فإنَّ من المعروف أنَّ خصائص الحيوان قد تنتقل إلى الإنسان بالأكل منه، والخنزير معروف بالبَلَادَةِ والخِسَّة، وأنَّه عديم الغَيْرَة على أُنْثاهُ، وهذه الصفات الخَسيسَةُ لا يرضاها الإسلام لأتباعه.
أمَّا حالة الاضطرار التي أباح الله فيها للمضطرِّ أنْ يتناول ما حَرَّم الله عليه؛ فقد حدَّدتها الآية الكريمة بالمَخْمَصَةِ؛ أي المجاعة، فأبيح في حالة المَخْمَصَةِ أنْ يأكلَ المُسلِمُ ما حُرِّم عليه لرَدِّ مخمصته؛ فقد قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]؛ أي غير مائل لإثمٍ يتجاوز به سدَّ الرَّمَق، وقال تعالى في الآية الأخرى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]. وقد بيَّنت لنا السُّنَّة المُطهَّرة أنَّ هذه الحالة إنَّما تكون حين تنعدم جميع الأطعمة التي أحلَّها الله، فإذا حدثت المَخْمَصَةُ ولا يجدُ المسلمُ في البلد الذي يُقيمُ فيه طعاماً ولا شراباً من لَبَنٍ أو لَحمٍ أو بَقْلٍ أو غيرها، إلَّا الطعامَ المُحَرَّم؛ فإنَّ الإسلام يُبيحُ له أنْ يأكُلَ غير باغٍ ولا عادٍ.
فقد روى أحمد والطبراني عن أبي واقدٍ اللَّيثيِّ رضي الله عنه قال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا المَخْمَصَةُ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ المَيْتَةِ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا وَلَمْ تَغْتَبِقُوا وَلَمْ تَخْتَفِئُوا بها بَقْلاً فَشَأْنَكُمْ بِهَا).
والاصطباح: هو أكل الصَّبُوح، وهو هنا الغداءُ، والاغتباق: هو أكل الغَبُوق، وهو هنا العشاء. وقد ذكر الشوكاني في (نيل الأوطار) أنَّ الصَّبوح شُرْبُ اللَّبَنِ أوَّل النهار، والغَبُوق -بفتح الغين- شُرْبُ اللَّبن آخر النهار، ثمَّ استُعْمِلا في الأكل للغداء والعشاء، [ومعنى] لم تختفئوا بها بَقْلًا: إنْ لم تقتلعوا من الأرض بَقْلًا تأكلونه فيُغْنيكُم عن أكل المَيْتَةِ، (فشأنُكُم بها) أي: فكُلُوا وفق مقتضى حالِكُم مع الميتة، أي إنْ لم تجدوا غير الميتةِ فكلوا منها لاضطراركم للأكل منها إذا لم تجدوا غيرها.
ويؤخذ من الحديث الشريف: أنَّ الطعامَ المُحرَّم لا يَحِلُّ تناولُه إلَّا في حالة الاضطرار، وأنَّ حالة الاضطرار لا تكون إلَّا عند المَخْمَصَةِ، ولم يجدوا أيَّ طعام من الأطعمة التي أحلَّها الله؛ لحماً أو بقلاً أو غيرهما من أنواع الأطعمة.
وفي اعتقادنا أنَّ هذه الحالة لا توجد في أي معيشة من المُدُنِ في هذه الأيَّام، ومع ذلك فالحلالُ بَيِّنٌ والحَرامُ بَيِّنٌ. وحالةُ الاضطرار بيَّنَتْهَا السُّنَّة المُطهَّرة، والمسلمُ أمينٌ على دِينِه، مسؤولٌ أمامَ رَبِّه، والله الهادي إلي سواء السبيل.
[فتاوى عبد الحليم محمود (2/ 228 - 230)]