الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: لا بأس به إذا غُسِلَ.
[مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله (1/ 47)]
* * *
عِظامُ المَيْتَة وحافِرُها وقَرْنُها وظُفْرُها وشَعْرُها ورِيشُها وإنْفَحَتُها
(207) السؤال: عظام الميتة وحافِرها، وقَرْنها، وظُفْرها، وشَعْرها، وريشها، وإِنْفَحَتها؛ هل ذلك كُلُّهُ نَجِسٌ أم طاهرٌ؟ أم البعض منه طاهرٌ والبعض نَجِسٌ
؟
الجواب: أمَّا عَظْمُ الميتة وقَرْنُها، وظُفْرُها، وما هو من جنس ذلك -كالحافِرِ ونحوه-، وشَعْرُها وريشُها، ووَبَرُها؛ ففي هذين النَّوعين للعُلماء ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدُها: نجاسةُ الجميع؛ كقول الشَّافعيِّ في المشهُور عنهُ، وذلك روايةٌ عن أحمد.
والثَّاني: أنَّ العِظامَ ونحوها نَجِسَةٌ، والشُّعورُ ونحوها طاهرةٌ؛ وهذا هو المشهورُ من مذهب مالكٍ وأحمدَ.
والثَّالث: أنَّ الجميع طاهرٌ؛ كقول أبي حنيفة، وهو قولٌ في مذهب مالكٍ وأحمد. وهذا القولُ هو الصَّوابُ؛ وذلك لأنَّ الأصلَ فيها الطَّهارةُ، ولا دليلَ على النَّجاسة.
وأيضاً؛ فإنَّ هذه الأعيان هي من الطَّيِّبات ليست من الخبائث، فتدخُلُ في آية التَّحليل؛ وذلك لأنَّها لم تدخُل فيما حرَّمهُ الله من الخبائث لا لفظاً ولا معنًى، فإنَّ الله تعالى حَرَّم الميتة، وهذه الأعيانُ لا تدخُلُ فيما حرَّمَه اللهُ لا لفظاً ولا معنًى.
أمَّا اللَّفظ؛ فلأنَّ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لا يدخل فيها الشُّعورُ وما أشبهها؛ وذلك لأنَّ الميِّت ضدُّ الحيِّ، والحياة نوعان: حياةُ الحيوان، وحياةُ النَّبات؛ فحياةُ الحيوان خاصَّتُها الحِسُّ والحركة الإراديَّة، وحياة النَّبات خاصَّتها النُّمُوُّ والاغتذاء.
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إنَّما
هو بما فارقته الحياة الحيوانيَّة دون النَّباتيَّة، فإنَّ الشَّجَر والزَّرْع إذا يَبِسَ لم يَنْجُس باتِّفاق المسلمين، وقد قال تعالى:{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل: 65]، وقال:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17]، فموت الأرض لا يُوجِب نجاسَتَها باتِّفاق المسلمين، وإنَّما الميتة المُحرَّمة ما فارَقَها الحِسُّ والحَرَكة الإراديَّة.
وإذا كان كذلك؛ فالشَّعر حياتُه من جنس حياة النَّبات، لا من جنس حياة الحيوان؛ فإنَّه ينمو ويغْتَذي ويَطُول كالزَّرع، وليس فيه حِسٌّ، ولا يَتَحَرَّك بإرادَتِه؛ فلا تَحِلُّه الحياة الحيوانيَّة حتَّى يموت بمُفارَقَتها؛ فلا وَجْه لتَنْجيسِه.
وأيضاً؛ فلو كان الشَّعْر جُزْءًا من الحيوان لما أُبيح أخْذُه في حال الحياة؛ فإِنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ قَومٍ يَجُبُّون أَسْنِمَة الإبل وَأَلْيَات الغَنَمِ، فقال:(مَا أُبِينَ مِنَ البَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيِّتٌ) رواه أبو داود وغيره. وهذا مُتَّفقٌ عليه بين العُلماء، فلو كان حُكمُ الشَّعْر حُكمَ السَّنام والأَلْيَة لما جاز قَطْعُه في حال الحياة، ولا كان طاهراً حلالًا. فلمَّا اتَّفق العُلَماء على أنَّ الشَّعْر والصُّوف إذا جُزَّ من الحيوان كان طاهراً حلالًا، عُلِمَ أنَّه ليس مثل اللَّحم.
وأيضاً؛ فقد ثبت (أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى شَعْرَهُ لمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ لِلْمُسْلِمِينَ)، (وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَنْجِي وَيَسْتَجْمِرُ)، فمن سَوَّى بين الشَّعر والبَوْل والعَذِرَة فقد أخطأَ خطأً بَيِّناً.
وأمَّا العِظام ونحوها؛ فإذا قيل: إنَّها داخلةٌ في الميتة؛ لأنَّها تحسُّ وتألم. قيل لمن قال ذلك: أنتم لم تأخذوا بعموم اللَّفظ؛ فإنَّ ما لا نَفْس له سائلةٌ -كالذُّباب والعَقْرب والخُنْفُساء- لا يُنجِّسُ عندكم وعند جمهور العُلماء، مع أنَّها مَيِّتةٌ موتاً حيوانيًّا، وقد ثبت في الصحيح أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ في إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ
لْيَنْزَعْهُ؛ فَإِنَّ في أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءٌ، وَفي الآخَرِ شِفَاءٌ). ومَنْ نَجَّسَ هذا قال في أحد القولين: إِنَّهُ لا يُنجِّسُ المائعات الواقع فيها لهذا الحديث. وإذا كان كذلك: عُلِمَ أنَّ عِلَّةَ نجاسة الميتة إنَّما هو احتباس الدَّم فيها؛ فما لا نَفْسَ له سائلةٌ ليس فيه دَمٌ سائلٌ، فإذا ماتَ لم يحتبس فيه الدَّمُ، فلا يَنجُس، فالعَظْمُ ونحوه أَوْلَى بعدم التَّنجيس من هذا؛ فإنَّ العَظْم ليس فيه دمٌ سائلٌ، ولا كان مُتحرِّكاً بالإرادة إلَّا على وجه التَّبع، فإذا كان الحيوان الكامل الحسَّاس المُتحرِّك بالإرادة لا يَنجُسُ؛ لكونه ليس فيه دمٌ سائلٌ، فكيف يَنجُسُ العَظْمُ الذي ليس فيه دمٌ سائلٌ؟
وممَّا يُبيِّنُ صحَّة قول الجُمهور: أنَّ الله سبحانه إنَّما حرَّم علينا الدَّم المسفوح؛ كما قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، فإذا عُفِيَ عن الدَّم غير المسفوح مع أنَّه من جنس الدَّم، عُلِمَ أنَّه سبحانه فرَّق بين الدَّم الذي يسيلُ وبين غيره، ولهذا كان المسلمون يَضَعون اللَّحم في المَرَقِ وخُطوطُ الدَّمِ في القُدور تَبينُ، ويأكُلون ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخبرت بذلك عائشةُ، ولولا هذا لاستخرجوا الدَّمَ من العُروق كما يفعل اليهود، والله تعالى حَرَّم ما مات حَتْف أنْفِه أو بسبب غير جارحٍ مُحدَّدٍ؛ فحرَّم المُنْخَنِقَة والمَوْقُوذَة والمُترَدِّية والنَّطيحَة، وحَرَّمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ما صِيدَ بعَرْض المِعْراضِ، وقال:(إِنَّهُ وَقِيْذٌ)، دون ما صِيد بِحَدِّه، والفَرْقُ بينهما إنَّما هو سَفْحُ الدَّمِ؛ فَدَلَّ على أنَّ سبب التَّنْجيس هو احْتِقانُ الدَّم واحْتِباسُه، وإذا سُفِحَ بوجهٍ خبيثٍ بأنْ يُذْكَرَ عليه غيرُ اسم الله، كان الخُبث هنا من جهةٍ أُخرى؛ فإنَّ التَّحريم يكون تارةً لوجود الدَّم، وتارةً لفَساد التَّذْكِيَة؛ كذَكاة المجوسيِّ والمُرْتَدِّ، والذَّكاةِ في غير المَحَلِّ. وإذا كان كذلك؛
فالعَظْم والقَرْن والظُّفْر والظِّلْف وغير ذلك ليس فيه دمٌ مَسفُوحٌ، فلا وجه لتَنْجيسِه، وهذا قول جُمهور السَّلف؛ قال الزُّهريُّ: كان خِيارُ هذه الأُمَّةِ يَمْتَشِطون بأَمْشاطٍ من عظام الفيل، وقد رُوِيَ في العاج حديثٌ معروفٌ، لكن فيه نظرٌ ليس هذا موضعُه، فإنَّا لا نحتاج إلى الاستدلال بذلك.
وأيضاً؛ فقد ثبت في الصحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في شاة مَيْمونة: (هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟ قَالُوا: إنَّها مَيِّتةٌ. قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا). وليس في (صحيح البخاري) ذِكْرُ الدِّباغ، ولم يَذْكُرْه عامَّة أصحاب الزُّهريِّ عنه، ولكن ذَكَرَه ابنُ عُيَيْنَة، ورواه مُسلمٌ في (صحيحه)، وقد طَعَنَ الإمام أحمد في ذلك، وأشار إلى غلط ابن عُيَينة فيه، وذَكَرَ أنَّ الزُّهريَّ وغيره كانوا يُبيحون الانتفاع بجُلود المَيْتَة بلا دِباغ لأجل هذا الحديث، وحينئذٍ فهذا النَّصُّ يقتضي جواز الانتفاع بها بعد الدَّبْغ بطريق الأَوْلَى.
لكن إذا قيل: إنَّ الله حَرَّمَ بعد ذلك الانتفاع بالجُلود حتَّى تُدْبَغ، أو قِيلَ: إنَّها لا تطهُرُ بالدِّباغ. لم يَلزَم تحريم العِظام ونحوها؛ لأنَّ الجِلْدَ جزءٌ من المَيْتَة، فيه الدَّمُ كما في سائر أجزائها، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جعل دِباغه ذَكاته؛ لأنَّ الدِّباغَ يُنَشِّف رُطوباته؛ فَدَلَّ على أنَّ سبب التَّنْجيس هو الرُّطوبات، والعَظْم ليس فيه رُطوبةٌ سائلةٌ، وما كان فيه منها فإنَّه يَجِفُّ ويَيْبَس، وهو يَبْقى ويُحْفَظ أكثر من الجِلْد، فهو أَوْلَى بالطَّهارة من الجِلْد.
والعُلماء تنازعوا في الدِّباغ؛ هل يُطَهِّر؟
فذهب مالكٌ وأحمدُ في المشهور عنهُما: أنَّه لا يُطَهِّر.
ومذهب أبي حنيفةَ والشَّافعيِّ والجمهور: أنَّه يُطَهِّر. وإلى هذا القول رجع أحمد، كما ذَكَر ذلك عنه التِّرمِذِيُّ عن أحمد بن الحسن التِّرْمِذِيِّ عنه. وحديث ابن عُكَيْم يَدُلُّ على أنَّ
النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهاهُم أن ينتفعوا من المَيْتَة بإِهابٍ أو عَصَبٍ، بعد أن كان أَذِنَ لهم في ذلك، لكنَّ هذا قد يكون قَبْلَ الدِّباغ، فيكون قد أَرْخَصَ؛ فإنَّ حديث الزُّهريِّ الصَّحيحَ يُبيِّنُ أنَّه كان قد رَخَّص في جُلُود المَيْتَة قَبْلَ الدِّباغ، فيكون قد أرخص لهم في ذلك ثُمَّ لمَّا نَهَى عن الانتفاع بها قَبْلَ الدِّباغ نَهاهُم عن ذلك؛ ولهذا قال طائفةٌ من أهل اللُّغة: إنَّ الإِهاب اسمٌ لما لم يُدْبَغ، ولهذا قَرَنَ معه العَصَبَ، والعَصَبُ لا يُدْبَغ.
فصلٌ: وأمَّا لَبَنُ المَيْتَة وإِنْفَحَتُها؛ ففيه قولان مشهوران للعُلماء:
أحدُهُما: أنَّ ذلك طاهرٌ؛ كقول أبي حنيفة وغيره، وهو إحدى الرِّوايتين عن أحمد.
والثَّاني: أنَّه نَجِسٌ؛ كقول مالكٍ والشَّافعيِّ، والرِّواية الأُخرى عن أحمد.
وعلى هذا النِّزاع انْبَنَى نِزاعُهُم في جُبْن المَجُوس؛ فإنَّ ذبائح المَجُوس حَرامٌ عند جماهير السَّلَف والخَلَف، وقد قيل: إنَّ ذلك مُجمَعٌ عليه بين الصَّحابةِ؛ فإذا صَنَعوا جُبْناً -والجُبْنُ يُصْنَع بالإِنْفَحَة- كان فيه هذان القولان.
والأظْهَر أنَّ جُبْنَهُم حلالٌ، وأنَّ إنْفَحَة المَيتَة ولَبَنَها طاهرٌ؛ وذلك لأنَّ الصَّحابةَ لمَّا فَتَحوا بلاد العراق أَكَلوا جُبْنَ المَجُوس، وكان هذا ظاهراً شائعاً بينهم، وما يُنْقَل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نَظَرٌ؛ فإنَّه من نَقْلِ بعض الحِجازيِّين، وفيه نظرٌ. وأهل العراق كانوا أعلم بهذا؛ فإنَّ المَجُوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحِجاز، ويدلُّ على ذلك أنَّ سَلْمان الفارسيَّ كان هو نائب عُمَرَ بن الخَطَّاب على المدائن، وكان يدعو الفُرْسَ إلى الإسلام، وقد ثبت عنه أنَّه سُئِلَ عن شيءٍ من السَّمْن والجُبْن والفِراء؛ فقال: (الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي