الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ)
(1)
. ومنه ما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ)
(2)
. ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ)
(3)
. ومنه كذلك ما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ! فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ. قَالَ: لَا وَاللهِ، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(4)
. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَةَ وَالمُسْتَوْصِلَةَ، وَالوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ)
(5)
. وغير ذلك ممَّا سَيَرِدُ مفصَّلًا في هذه الموسوعة.
ثالثاً: الطِّبُّ والتَّداوي:
اعتنت الشريعة أيضاً بجانب الطبِّ والتداوي؛ لما يمثِّلُه من أهمِّيَّةٍ في المحافظة على النفس البشريَّة التي هي إحدى الكلِّيَّات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها، وحتَّى يَقْوَى الإنسانُ على القيام بواجبه في أداء العبوديَّة لله تعالى، وعمارة الأرض؛ فشرعت التطبُّب والتداوي من الأمراض، وحثَّت عليه؛ فعن أُسامة بن شُرَيْك العامري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ فَإِنَّ اللهَ عز وجل
(1)
رواه البخاري (ح 5426)، ومسلم (ح 2067).
(2)
رواه البخاري (ح 5885).
(3)
رواه ابن ماجه (ح 6953).
(4)
رواه مسلم (ح 2090).
(5)
رواه البخاري (ح 5933).
لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلَّا المَوْتَ وَالهَرَمَ)
(1)
. ولكنَّها في الوقت نفسه نَهَت عن التداوي بالمُحرَّم أو الخبيث؛ لأنَّه داءٌ وليس بدواءٍ؛ فعن طارق بن سُوَيْدٍ الجُعْفِي (سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَمْرِ، فَنَهَاهُ -أَوْ كَرِهَ- أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ)
(2)
. وعن أمِّ سَلَمَة رحمه الله قالت: (نَبَذْتُ نَبِيذًا فِي كُوزٍ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْلِي، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْتُ: اشْتَكَتْ ابْنَةٌ لِي فَنُعِتَ لِي هَذَا. فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيْمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)
(3)
.
ولقد أحسنت الشريعة غاية الإحسان حينما عمدت إلى بيان وتفصيل ما يتعلَّق بهذه الأمور من الأحكام، ووضعت القواعد والضوابط والكلِّيَّات العامَّة التي يمكن من خلالها الوصول إلى حُكْمِ الله فيها، وما يستجدُّ منها، وذلك بعد بيانها: أنَّ الأصلَ في كُلِّ ما خَلَقَهُ اللهُ عز وجل على هذه الأرض هو الطَّهارة والحِلُّ، وعكسُه لا يثبتُ إلَّا بدليلٍ؛ قال الله عز وجل:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقال أيضاً:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، يقول ابن تيمية رحمه الله:«فاعْلَمْ أنَّ الأصْلَ في جميع الأعْيان الموجودة على اختلاف أصنافها وتَبايُن أوصافِها أن تكون حَلالًا مُطْلَقًا للآدَمِيِّين، وأن تكون طاهِرَةً لا يَحْرُمُ عليهم مُلابَسَتُها ومُباشَرَتُها ومُماسَّتُها وهذه كلمةٌ جامِعَةٌ ومَقالَةٌ عامَّةٌ وقَضِيَّةٌ فاضِلَةٌ عظيمةُ المَنْفَعَة واسِعةُ البَرَكَة يَفْزَعُ إليها حَمَلَةُ الشَّريعَة فيما لا يُحْصَى من الأعمال وحوادث النَّاس»
(4)
.
(1)
رواه أحمد (ح 18455)، وابن ماجه (ح 3436).
(2)
رواه مسلم (ح 1984).
(3)
رواه البيهقي (ح 19769).
(4)
مجموع الفتاوى (21/ 535).
ومن الضَّوابط التي أَرْشَدَت إليها الشَّريعة للحُكْم بالحُرْمَة فيما يتعلَّق بهذه الأمور ما يلي:
1 -
أن يُنَصَّ على التَّحريم نصًّا، بأيِّ صِيغةٍ من الصِّيَغ الدَّالة على التَّحريم؛ كقول الله عز وجل:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، وقوله جَلَّ وعَلَا:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ)
(1)
. وعن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال: (أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ذَهَبًا بِيَمِينِهِ، وَأَخَذَ حَرِيرًا بِشِمَالِهِ، ثُمَّ رَفَع بِهِمَا يَدِيْهِ فَقَالَ: هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي)
(2)
، وغير ذلك من النصوص.
2 -
أن يقوم به وَصْفٌ اعْتبرَهُ الشَّرْع مانِعاً من الحِلِّ؛ كما في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ)
(3)
، وكما في حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)
(4)
، ومن ذلك حديث جابِرٍ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ)
(5)
. ومنه ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّوَاءِ الخَبِيثِ)
(6)
. ومنه حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
(1)
رواه البخاري (ح 4199).
(2)
رواه أحمد (ح 750)، وأبو داود (ح 4057).
(3)
رواه مسلم (ح 1934).
(4)
رواه مسلم (ح 2003).
(5)
رواه أبو داود (ح 3681)، والترمذي (ح 1865)، والنسائي (ح 5607)، وابن ماجه (ح 3393).
(6)
رواه أحمد (ح 8048)، وأبو داود (ح 4780).
قال: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ المِيثَرَةِ، وَالقَسِّيَّةِ، وَحَلْقَةِ الذَّهَبِ وَالمُفَدَّمِ)
(1)
؛ والمِيثَرَة: جُلود السِّبَاع، والقَسِّيَّة: ثيابٌ مُضَلَّعَةٌ من إِبْرَيْسَمٍ، والمُفَدَّم: المُشَبَّع بالعُصْفُر.
3 -
أن يكون خَبيثاً مُسْتَقْذَراً غير مقبولٍ لدى أصحاب الطَّبائِع السَّليمة؛ كالحَشَرات والهَوامِّ ونحو ذلك؛ قال الله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ، والمُعتَبَر في ذلك ما اسْتَخْبَثَتْهُ العَرَبُ في أحوالهم العاديَّة من غير ضرورة؛ كما هو رأي جمهور الفقهاء
(2)
؛ إذِ العَرَبُ هم المخاطبون ابتداءً بالقُرآن والسُّنَّة، والقُرآن نزل بِلِسانِهِم ولُغَتِهم، كما أنَّهم جِيلٌ مُعتدلٌ لا يغلب فيهم الانهماك على المُسْتَقْذَراتِ، ولا العَفافَةُ المتولِّدَةُ من التَّنعُّم، فيضيِّقوا المَطاعِمَ على الناس
(3)
.
4 -
أن يكون نَجِساً؛ فكُلُّ نَجِسٍ يَحْرُمُ تناولُه إجماعاً؛ سواء كان نَجِساً لذاتِه أو لغِيرِه؛ يقول ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله: «لأنَّ المسلمين لا يختلفون في أنَّ النَّجاسات مُحرَّمات العَيْن أشدَّ التَّحريم، لا يَحِلُّ استباحةُ أَكْلِ شيءٍ منها»
(4)
. ويقول الفَخْرُ الرَّازي رحمه الله: «إنَّ الأُمَّة مُجْمِعَةٌ على حُرْمَةِ تناول النَّجاسات»
(5)
.
5 -
أن يَترتَّب على تناوله ضَررٌ مُحَقَّقٌ؛ وذلك كالأشياء السَّامَّة من حيوانٍ أو نباتٍ أو غير ذلك؛ كالعَقارب، والوَزَغ، والسَّمَك السَّام، والمُخَدِّرات، والفَحْم، والطِّين، ونحو ذلك ممَّا يترتَّب على تناوله ضَررٌ مُحقَّقٌ. ولا شكَّ أنَّ المُعَوَّل عليه في معرفة الضَّرر وثُبوتِه هم المُخْتصُّون من الأطبَّاء الحاذِقين وأهل الخِبْرَة
(6)
.
(1)
رواه أحمد (ح 5751).
(2)
انظر: حاشية ابن عابدين (6/ 305)، المجموع للنووي (9/ 26)، المغني لابن قدامة (11/ 65)، الأطعمة والصيد والذبائح للفوزان (ص 52 - 53).
(3)
انظر: المجموع (9/ 26).
(4)
التمهيد (1/ 142).
(5)
تفسير الرازي (بتصرف يسير)(13/ 172).
(6)
انظر: أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد الله بن محمد الطريقي (ص 113 - 114).
وذلك لأنَّ الشريعة قَصَدَتْ -من جملة ما قَصَدَتْ إليه- حفظَ النَّفْس والعِنايةَ بها، ومِنْ ثَمَّ حَرَّمت كُلَّ ما يُؤدِّي إلى وقوع الضَّرر ولُحُوق الأذى بها؛ قال الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وقال أيضاً:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقال صلى الله عليه وسلم:(لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)
(1)
، يقول الإمام النَّوَويُّ رحمه الله:«كلُّ ما ضَرَّ-أي أَكْلُه- كالزُّجَاج والحَجَر والسُّمِّ يَحْرُمُ»
(2)
.
ولقد فَطَنَ فقهاؤنا رحمهم الله لمدى عناية الشَّريعة واهتمامِها البالِغ بهذه الجوانِب، فضَمَّنوها كُتُبَهُم الفِقهيَّة، وعَقَدوا باباً للأَطْعِمَة، وآخرَ للأَشْرِبة، وثالثاً للصَّيْد والذَّبائِح، ورابعاً للِّباس والزينة، كما أفردوا في بعض المصنَّفات باباً للطبِّ والتداوي؛ تناولوا فيها -بياناً وتفصيلاً- ما يَحِلُّ ويَحْرُمُ من هذه الأمور، وشروط حِلِّها، بالإضافة إلى بيان سُننها وآدابها.
وفي عَصْرِنا الحاضِر أُفْرِدَتْ فيها المُؤلَّفاتُ والرَّسائلُ العِلْميَّةُ؛ وتناولَتْهَا بالبحث والدِّراسَة والمناقَشَة، مع بيان ما استُجِدَّ منها.
هذا كلُّه يُبَيِّنُ لنا إلى أيِّ مَدًى اهتمَّت شريعةُ الإسلام بهذه الجوانب المهمِّة من حياة النَّاس، ولا عَجَبَ في ذلك؛ إذْ بها تحقيق عبوديَّتهم لربِّهم، وتحصيل مرضاته، كما أنَّ بها قَوامَ حياتِهِم وصِحَّةَ أجسادِهم؛ فتَقْوَى على أداء المَهامِّ المُناطَةِ بهم.
وصَلَّى اللهُ وسَلَّم وبارَكَ عَلَى نَبيِّنا مُحمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِه أَجْمعين.
* * *
(1)
رواه ابن ماجه (ح 2341).
(2)
روضة الطالبين (3/ 281).