الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فتاوى الرملي (4/ 72)]
* * *
أَكْلُ الحَيواناتِ البَحْريَّة القِشْريَّة
(111) السؤال: ما حُكمُ أَكْلِ الحيوانات البحريَّة القِشْريَّة كالرُّوبيان والقُبْقُب وغيرها
…
؟
الجواب: ذهب جمهور الفقهاء إلى أنَّه يَحِلُّ أكْلُ كلِّ حيوان البحر؛ سَمَكاً كان أو غيره؛ لعموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم في شأن البحر:(هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)، ولم يخالف في هذا من فقهاء المذاهب الأربعة إلَّا محمَّد بن الحسن فإنَّه استثنى «الجِرِّيث» و «المارماهي» ، والجِرِّيث هو: سمكٌ مدوَّر كالتِّرْس. والمارماهي هو: ثعبان البحر، والفتوى في مذهب الحنفيَّة على خلاف ذلك، واستثنى الحنفيَّة أيضاً إنسان الماء وخنزيره، والسَّمَك الطافي وهو الذي يموت حَتْف أنفه؛ وذلك لخبث هذه الأنواع أو ضررها.
وعليه؛ فإنَّ الرُّوبْيان والقُبْقُب وغيرهما من الحيوانات البحريَّة ولو كانت ذات قِشْرٍ حلالٌ أَكْلُها باتِّفاق العُلماء؛ للأدلَّة المتقدِّمة. والله أعلم.
[الدرر البهية من الفتاوى الكويتية (10/ 46)]
* * *
أَكْلُ الجَمْبَري عِنْدَ الحَنَفيَّةِ
(112) السؤال: ما حكم أكل الجَمْبَري عند الحنفيَّة؟ حيث إنَّ بعض الناس ينسبون إلى المذهب الحنفي تحريم أكل الجَمْبَري؛ حيث إنَّه لا يباح عندهم إلَّا الأسماك فقط، وانطلاقاً مِن شَبَهِه بالعَقْرب أو الدُّود؛ حيث يحرم من حيوانات البحر ما شابه المحرَّم من ح
يوانات البَرِّ.
الجواب: الجَمْبَري: حيوان مائيٌّ صغير لا فقاري من القشريَّات، يتنوَّع
إلى حوالي ألفي نوع، وهو معروف.
وكلمة «جَمْبَري» في الأصل كلمة إيطاليَّة سَرَتْ حديثاً مع غيرها مِن الألفاظ الإيطاليَّة إلى لهجة أهل مصر كما ذكره غير واحد مِن المصنفين؛ منهم عبد الرحمن بدوي في «سيرة حياتي» (1/ 12 - 13)
ويُسَمَّى في بلاد المغرب العربي باسم «القَمرون»
…
وكان «الجَمْبَري» يُسَمَّى عند أهل مصر قديماً «بالقُرَيْدِس»
…
وقد يُسَمَّى «الجَمْبَري» بأسماء أخرى؛ منها: «الجراد البحري»
…
، و «برغوث البحر»
…
، و «أبو جلنبو»
…
واسم «الجَمْبَري» في اللُّغة العربيَّة الفُصْحَى -كما هو في معاجم اللُّغة العربيَّة قديماً وحديثاً-: «الإِرْبِيَانُ: بكسر الهمزة، وفتح همزته لَحْنٌ»
…
ويُسَمِّيه «بالرُّوبيان» أهلُ الخليج والعراق حتَّى الآن.
فتحصَّلَ
…
أنَّ «الجَمْبَري» المعروف بين الناس «بالقُرَيْدِس» و «القَمرون» ، وباللُّغة الإنجليزيَّة (Shrimp) و (Prawns) هو عينُه «الإِرْبِيَانُ» و «الرُّوْبِيَانُ» المنصوصُ عليهما في كتب السابقين من أهل اللُّغة والفقه والحيوان والطبِّ وغير ذلك
…
وكما يُعْلَمُ مِن وصف «الإِربِيان» و «الرُّوبِيَان» في كتب السابقين؛ حيث يصفه الصاحب بن عَبَّاد بأنَّه: «سمكٌ أحمرُ نحو الإصبع المعقوفة» اهـ،
…
ويصفه الدَّمِيري بأنَّه: «صغيرٌ جدًّا أحمر» اهـ، ويصفه داود الأنطاكي بأنَّه:«أحمر كثير الأَرْجُل نحو السرطان، لكنَّه أكثر لحماً» اهـ، إلى غير ذلك من النصوص
…
وقد نصَّ أهل اللُّغة على عَدِّ «الإِرْبِيَان» نوعاً مِن أنواع السَّمَك بلا خلاف بينهم في ذلك؛ فالجاحظ (ت 255 هـ) في كتاب (الحيوان)(4/ 311، ط. دار الكتب العلميَّة) يسوقه في أصناف السَّمك، وقال أبو بكر بن دُرَيْد (ت 321 هـ) في
(جمهرة اللغة 3/ 1236، ط. دار العلم للملايين): «وإرْبِيان: ضَرْبٌ مِن الحِيتان أحسبه عَرَبيًّا» اهـ
…
وقال العلَّامة المجد الفيروزآبادي (ت 817 هـ) في «القاموس المحيط» في مادة (أرب): «والإِرْبِيانُ بالكسر: سَمَكٌ» اهـ، وقال في مادَّة (ربو):«سَمَكٌ كالدُّودِ» اهـ، والإمام الفيروزآبادي حنفيُّ المذهب
…
وقد نصَّ السادة الحنفيَّة على إباحة أكْلِ جميع أنواع السَّمَك، من غير تفريق بين نوعٍ ونوعٍ، قال الإمام السرخسي في (المبسوط 11/ 248، ط. دار المعرفة): «جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَكِ حَلَالٌ؛ الْجِرِّيثُ وَالمَارِهِيجُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ» اهـ.
وعِلَّة القول بإباحة أنواع السَّمَك المختلفة عند الحنفيَّة: اندراجُها تحت اسم «السَّمَك» في اللغة، قال العلَّامة العَيْني الحنفي في (البناية شرح الهداية 10/ 730، ط. دار الفكر): «وقال: ولا بأس بأَكْل الجِرِّيث والمارماهي وأنواع السَّمَك والجراد من غير ذكاة، ش: أي: قال القدوري رحمه الله: (والجِرِّيثُ بكسر الجيم وتشديد الراء بعده آخر الحروف ساكنة، وفي آخره ثاء مثلثة. قال في كتب اللغة: هو نوع من السَّمَك). قلت: (الجِرِّيث: السَّمَك السود: والمارماهي: السَّمَكة التي تكون في صورة الحيَّة، و (ماهي): هو السَّمَك، وإنَّما أُحِلَّ أنواع السَّمَك؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ
…
) الحديث» اهـ.
بل نقل الإمام الكاساني الحنفي الإجماع على حِلِّ جميع أنواع السَّمَك من غير فرق بين نوع وآخر؛ فقال في (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5/ 36، ط. دار الكتب العلميَّة): «ويستوي في حِلِّ الأكل جميعُ أنواع السَّمَك من الجِرِّيث والمارماهي وغيرهما؛ لأنَّ ما ذكرنا من الدلائل في إباحة السَّمَك لا يفصل بين سمكٍ وسمكٍ إلَّا ما خُصَّ
بدليل، وقد رُوي عن سيِّدنا عليٍّ وابن عبَّاس رضي الله عنهما إباحة الجِرِّيث والسَّمَك الذَّكَر، ولم يُنْقل عن غيرهما خلافُ ذلك، فيكون إجماعاً» اهـ.
ونقل الإجماعَ على إباحة السَّمَك بكُلِّ أنواعه كذلك غيرُ واحد من العُلماء.
قال الإمام النووي في (شرح مسلم 13/ 86، ط. دار إحياء التراث العربي): «وقد أجمع المسلمون على إباحة السَّمَك» اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري 9/ 619، ط. دار المعرفة): «لا خلاف بين العُلماء في حِلِّ السَّمَك على اختلاف أنواعه» اهـ.
فكُلُّ ما كان من جنس السَّمَك لغةً وعُرْفاً فهو حلالٌ عند الحنفيَّة بلا خلاف في ذلك، وجاء في نصوص عُلمائهم التصريحُ بحلِّ أَكْل الرُّوبِيَان بخصوصه مع غيره مِن أنواع السَّمَك بلا خلاف؛ لدخوله في مُسمَّى «السَّمَك» لغةً وعُرْفاً، وسبق سياق نصِّ العلَّامة الفيروزآبادي -وهو من عُلماء الحنفيَّة- على أنَّ الإِرْبِيَان مِن السَّمَك.
وهذا هو ما عليه العمل والفتوى لدى عُلماء الحنفيَّة في الدِّيار الهِنْديَّة والباكستانيَّة وغيرها. وأجمعُ مَن تكلَّم مِن متأخِّري الحنفيَّة على حكم أَكْل الإْرْبيان: هو العلَّامة الشيخ أحمد رضا خان البريلوي الحنفي (ت 1340 هـ)؛ فإنَّه حقَّق في (فتاواه) القولَ بحِلِّه على مقتضى إطلاق المتون، غير أنَّه أفتى بأولويَّة التورُّع عنه؛ خروجاً من الخلاف فيه؛ جاء في كتابه الحافل (العطايا النبويَّة في الفتاوى الرضوية ص 333 - 337، ط. رضا فاؤنديشن، لاهور 1994 م - مع الترجمة العربية): «استفتاء رقم 173: المستفتي: شوكت علي المحترم، 2 ربيع الثاني الميمون 1320 هـ: ماذا يقول عُلماء الدين وأهل الفتوى في الشرع المتين في حكم
الإِرْبِيَان؛ هل يجوز أَكْلُه أم لا؟ وهل أَكْلُه مكروهٌ أم حَرامٌ؟
الإجابة: نُقِلَ في (الحمَّاديةَّ) قولان بالجواز وعدمه؛ حيث قال: الدود الذي يُقال له جهينگه عند بعض العُلماء؛ لأنَّه لا يشبه السَّمَك، وإنَّما يباح عندنا من صيد البحر أنواع السَّمَك، وهذا لا يكون كذلك، وقال بعضهم: حلال؛ لأنَّه يُسمَّى باسم السَّمَك.
أقول: ظاهر عبارة (الحمَّاديَّة) أنَّ عدم الجواز هو المختار لديه؛ لأنَّه قدَّمه، والتقديم أمارة التقديم، وسمَّاه دُوداً، والدُّود حرامٌ، واستدلَّ للقول بالحِلِّ بأنَّه يُسَمَّى باسم السَّمَك دون أن يُسمِّيَه هو بذلك.
والتحقيق في هذا المقام: أنَّه لا يجوز من صيد البحر غيرُ السَّمَك، وغيرُه حرامٌ مطلقاً في مذهبنا، وعلى هذا: فمن ظنَّ أنَّ الجَمْبَري ليس من أنواع السَّمَك فينبغي أن يكون حراماً عنده، غير أنَّ العبد الفقير رجع إلى كتب اللغة وكتب الطبِّ وكتب عِلْم الحيوان فوجدها جميعاً تنصُّ على أنَّه نوع مِن السَّمَك صراحةً
…
وبناءً على هذا، وعلى إطلاق المتون وتصريح (معراج الدِّراية): ينبغي أن يكون مباحاً مطلقاً؛ فإنَّ المتون صرَّحت بحِلِّ جميع أنواع السَّمَك، والطافي ليس نوعاً برأسه، بل وصفٌ يعتري كُلَّ نوع. وصرَّح صاحب (المعراج) بأنَّ الأسماك الصغيرة التي لا تُشَقُّ بطنها ولا يُنَظَّف ما بداخلها من نجاسات وتُحَمَّرُ وتُقْلَى، كما هي مباحةٌ لدى جميع الأئمَّة سوى الإمام الشافعي.
وفي (ردِّ المُحتار): «وفي (معراج الدِّراية): ولو وُجِدَتْ سمكةٌ في حوصلة طائر، تُؤكَل، وعند الشافعي: لا تؤكَل؛ لأنَّه كالرَّجيع، ورجيع الطائر عنده نجس، وقلنا: إنَّما يُعتَبَرُ رجيعاً إذا تغيَّر، وفي السَّمَك الصغار التي تُقلَى من غير أن يُشَقَّ جوفه؛ فقال أصحابه:
لا يَحِلُّ أكْلُه؛ لأنَّ رجيعه نجس، وعند سائر الأئمَّة: يحلُّ». اهـ.
ولكن العبد الفقير رأى في (جواهر الأخلاطي) نصًّا بحُرْمَةِ أكْلِ السَّمَك الصِّغار وصحَّحه؛ حيث قال: «السَّمَك الصغار كلُّها مكروهة كراهة التحريم، هو الأصح» . اهـ.
هذا وصورة الإِرْبِيَان مختلفة تماماً عن السَّمَك وقريبة إلى شكل السرطان وغيره من الديدان، والكلمة الفارسية «ماهي» (السَّمَك) تطلق على غير جنس السَّمَك أيضاً؛ كما يقال بالفارسيَّة «ماهي سَقَنْقُور» وهو من الحيوانات البَرِّيَّة التي تولد على سواحل النيل، وكذلك «ريگ ماهي» أو (سمك الرِّمال) وهو سَمَنْدَل الماء، وهو حيوان لا شكَّ في كونه من حشرات الأرض، ولا نعلم لأحدٍ مِن أئمَّتنا قولًا في حِلِّ الإِرْبِيَان بخصوصه، وعلى افتراض كونه سمكاً فإنَّ الذي يوجد عندنا منه صغير، فينطبق عليه تصحيح (جواهر الأخلاطي) السابق. ومهما يكن من أمر ففيه شُبْهةٌ، والأَوْلَى اجتناب الشُّبَه؛ خروجاً من الخلاف، والله تعالى أعلم» انتهى النقل عن (الفتاوى الرضويَّة).
وهذه النقول التي ساقها العلَّامة أحمد رضا خان رحمه الله تعالى تقتضي حِلَّ الإِرْبِيَان عند الحنفيَّة، وأمَّا ما يوهم التحريم أو نقل الخلاف فيه فلا مُعَوَّلَ عليه، ويحتاج إلى تحرير القول فيه على الوجه الآتي:
- إنَّ ذِكْرَ الخلاف في حِلِّ الإِرْبِيَان عند الحنفيَّة غيرُ معتمَد؛ فإنَّ صاحب (الفتاوى الحمَّاديَّة) -وهو أبو الفتح رُكن الدين الناكوري الحنفي- إنَّما نقل ذلك عن (كنز العُبَّاد)، ونصُّ عبارة (الحمَّاديَّة) ص: 778، ط. در آمد) مِن (كنز العُبَّاد): «الدود الذي يقال له (جهينگه) حرامٌ عند بعض العُلماء؛ لأنَّه لا يشبه السَّمَك، وإنَّما يُباح عندنا مِن صيد البحر أنواعُ السَّمَك، وهذا
لا يكون مِن أنواع السَّمَك، وقال بعضهم: حلال؛ لأنَّه يُسَمَّى بأسماء السَّمَك» اهـ.
والمنقول منه هو (كنز العُبَّاد في شرح الأَوْراد) للشيخ علي بن أحمد الغوري، وهو شرحٌ فارسيٌّ لأوراد الشيخ العارف شهاب الدِّين السُّهْرَوَرْدِي؛ كما ذكر صاحب (كشف الظنون 2/ 1517، ط. مكتبة المثنى)، وهو من الكتب غير المعتمدة عند الحنفيَّة.
قال العلَّامة المحدِّث أبو الحَسَنات اللكنوي (ت 1304 هـ) في (النافع الكبير ص 29، ط. إدارة القرآن والعلوم الإسلاميَّة): «ومِن الكتب غير المعتبرة
…
(كنز العُبَّاد)؛ فإنَّه مملوءٌ من المسائل الواهية والأحاديث الموضوعة، ولا عبرة له لا عند الفقهاء ولا عند المحدِّثين، قال عليٌّ القاري في (طبقات الحنفيَّة): علي بن أحمد الغوري له كتاب جمع فيه مكروهات المذهب، سماه (مفيد المستفيد)، وله (كنز العُبَّاد في شرح الأَوْراد)؛ قال العلَّامة جمال الدِّين المرشدي: فيه أحاديث سَمِجَة موضوعة، لا يَحِلُّ سَماعها» اهـ.
وقال أيضاً في (التعليق المُمَجَّد على موطَّأ محمَّد 1/ 613، ط. دار القلم): «وذكر بعض أصحاب الكتب غير المعتبرة كصاحب (كنز العُبَّاد)» . اهـ.
فإذا انضاف إلى ذلك أنَّه لم يَنقل هذا الخلافَ مِن الحنفيَّة غير صاحب (كنز العُبَّاد) هذا، مع مخالفة نقله لإطلاق المتون عند متقدِّمي الحنفيَّة ومتأخِّريهم في حِلِّ كلِّ أنواع السَّمَك مع عَدِّ الإِرْبِيَان نوعاً من السَّمَك من أن يُستَثْنَى مِن الحِلِّ: كان ذلك آكد لإطلاق القول بالإباحة كما أشارت إليه الفتوى، وأَدْعَى إلى اطِّرَاحِ هذا النقل وعدم الاعتداد به.
- وأمَّا ما يوهمه نقلُ (جواهر
الأخلاطي) من تصحيح الكراهة التحريميَّة للسَّمَك الصِّغار عند الحنفيَّة: فغير سديد؛ إذ هو مخالفٌ لِمَا ذُكِرَ قبلَه عن صاحب (معراج الهداية) من نسبة الحُرمة فيه إلى الشافعيَّة، ونسبة الحِلِّ إلى الحنفيَّة وسائر الأئمَّة، وقد نقله أيضاً غيرُه من الحنفيَّة؛ كالحافظ العَيْني في (البناية شرح الهداية 10/ 734) وفيه تصحيف يُصَحَّح من نقل ابن عابدين، وهو على الصواب أيضاً عند العلَّامة التهانوي في (إعلاء السنن 17/ 191، ط. إدارة القرآن والعلوم الإسلاميَّة)، وهو يوافق نقل الإمام ابن قُدامة الحنبلي في (المغني)؛ حيث لم ينقل تحريم ذلك عن غير أصحاب الشافعي؛ فقال (9/ 395، ط. مكتبة القاهرة): «ويباح أكل الجراد بما فيه، وكذلك السَّمَك، يجوز أنْ يُقْلَى من غير أنْ يُشَقَّ بطنُه، وقال أصحاب الشافعي في السَّمَك: لا يجوز؛ لأنَّ رجيعَه نجس» . اهـ.
على أنَّ ما نقله ابنُ قَدامة وصاحب (معراج الهداية) عن أصحاب الإمام الشافعي مِن تحريم أكل السَّمَك الصغار التي تُقلَى من غير أن يُشَقَّ جوفها، إنَّما هو أحد الوجهين عند الشافعيَّة، والمُرَجَّحُ عندَهم الحِلُّ؛ إمَّا لطهارة رجيعه عند الإمام الرُّوياني، واحتج له غيرُه بأنَّه يُعْتَدُّ ببيعه، وإمَّا للمُسامحة؛ لعُسر شقه وإخراجه عند الإمام القَفَّال وصحَّحه الإمام الفوراني وغيره؛ كما في (المجموع للإمام النووي 9/ 73، ط. دار الفكر)، ورجَّحه الحافظ السيوطي في (الأشباه والنظائر، 1/ 433، ط. دار الكتب العلميَّة)، وهو المعتمد في المذهب الشافعي كما نصَّ عليه الشيخان: العلَّامة ابن حجر الهيتمي في (تحفة المحتاج، 9/ 317، ط. المكتبة التجاريَّة الكبرى)، والعلَّامة الرَّمْلي في (نهاية المحتاج 8/ 151، ط. دار الفكر)، والقول بالحِلِّ هو ما نقله صاحب
(معراج الهداية) عن سائر الأئمَّة.
ثُمَّ إنَّ التحريم عند مَن قال به متعلِّقٌ بالسَّمَك الصغار الذي يَحْوي في جوفه رجيعاً؛ لقولهم بنجاسة رجيعه، أمَّا إطلاقُ القول بتحريمه ولو أُخْرِجَ ما في جوفه، أو بتحريم السَّمَك الصغار مطلَقاً حتَّى ما لا رجيعَ فيه كالإِرْبِيَان ونحوه: فلا قائلَ به، وهو مخالفٌ لما تقرَّر عند الحنفيَّة من فروعٍ مبنيَّةٍ على حِلِّ السَّمَك الصغار؛ كجواز السَّلمِ فيه، بل هو مخالف للإجماع الذي نقله الحنفيَّة وغيرهم في حِلِّ جميع أنواع السَّمَك.
ولا يَرِدُ على ذلك أيضاً: ما ذُكِرَ مِن مشابهة الجَمْبَري للعَقْرب أو الدُّود، وهما من حيوانات البَرِّ المُحرَّمة؛ حيث نُقِل الاختلافُ بين الفقهاء في حكم ما كان من حيوان البحر على صورة غير المأكول من حيوان البر؛ وذلك لعدَّة أوجه:
أوَّلها: أنَّ هذا الخلاف مخصوص عند الحنفيَّة بالسَّمَك؛ فما كان من أنواع السَّمَك فهو عندهم حلال حتَّى لو شابه ما حَرُمَ مِن حيوانات البَرِّ؛ قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري 9/ 619): «وإنَّما اختُلِفَ فيما كان على صورة حيوان البَرِّ؛ كالآدميِّ والكَلْب والخنزير والثُّعْبان؛ فعند الحنفيَّة، وهو قول الشافعيَّة: يَحْرُمُ ما عدا السَّمَك .. وعن الشافعيَّة الحِلُّ مطلقاً على الأصحِّ المنصوص، وهو مذهب المالكيَّة إلَّا الخنزير في رواية
…
وعن الشافعيَّة ما يؤكل نظيره في البَرِّ حلال، وما لا فلا، واستثنوا على الأصحِّ ما يعيش في البحر والبَرِّ» اهـ.
ثانيها: أنَّه لا تشابه في الحقيقة بين الجَمْبَري والعَقْرَب أو الدُّود؛ فالجَمْبَري من طائفة القِشْريَّات، وهو معدود مِن طيِّبات السَّمَك عند العرب وغيرهم وفي أعراف الناس، وهو مفيد ونافع للطعام والصحَّة، ويُعَدُّ من أشهر المأكولات البحريَّة وأشهاها، وفيه
فوائد عدَّة؛ حيث يحتوي على كمية كبيرة من الكالسيوم، واليود، والبروتين، والكولسترول، مع انعدام نسب الدهون المشبعة؛ فهو أيضاً مفيد للدورة الدمويَّة.
أمَّا العقرب فمن طائفة العنكبوتيَّات، ومعظم أنواعه سامٌّ، وهو مستقذَرٌ طبعاً وشرعاً وعُرْفاً، بل هو من الفواسق الخمس التي صرَّح النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتلها في الحِلِّ والحَرَم لِكَفِّ أذاها، فلكلٍّ منهما خصائص ومميِّزات تجعله مختلفاً تمام الاختلاف عن الآخر، وإن ادُّعِيَ التشابهُ الظاهريُّ بين بعض أنواعهما، وكذلك الحالُ في الدُّود؛ فإنَّه مُستَقْذَرٌ كذلك، وما يكون من التشابه الظاهري بينه وبين الجَمْبَري لا يُنْبِئُ عن أي مشابهة حقيقيَّة بينهما في الخصائص أو المميزات.
ثالثها: أنَّ العبرة في التحريم -عند من قال به- ليست مطلق المشابهة في الصورة، بل التوافق في الصفات والخصائص المقتضية للتحريم؛ فالمارماهي -وهو ثعبان البحر- حلال عند الحنفيَّة، ولا يخرجه عن الحِلِّ مُجرَّدُ المشابهة الصوريَّة لثعبان البَرِّ؛ قال العلَّامة شيخي زاده المعروف بداماد أفندي الحنفي في (مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 2/ 514، ط. دار إحياء التراث العربي): «(كالجِرِّيث) بكسر الجيم وتشديد الراء: نوع من السَّمَك غير المارماهي. (والمارماهي) وإنَّما أفردهما بالذِّكْر لمكان الخفاء في كونهما من جنس السَّمَك، ولمكان الخلاف فيهما لمحمَّد، ذكره صاحب (المغرب)، وما قيل أنَّ الجِرِّيث كان دَيُّوثاً يدعو الناس إلى حَليلَتِه فمَسَخَ الله تعالى به فممنوعٌ؛ لأنَّ الممسوخ لا نَسْلَ له ولا يقع باقياً بعد ثلاثة أيَّام، وإنَّ المارماهي متولِّدٌ من الحيَّة ليس بواقع، بل هو جنسٌ شبيهٌ بها صورةً» اهـ.
ولهذا كُلِّه كان التحقيق عند الحنفيَّة: حِلُّ الإِرْبِيَان بلا خلاف، وهو الذي
نصَّ عليه العلَّامة المحدِّث ظفر أحمد العثماني التهانوي الحنفي (ت 1394 هـ) في كتابه الحافل (إعلاء السُّنن 17/ 188)؛ حيث قال: «
…
وفي (الدر المختار - مع الشاميَّة): ولا يَحِلُّ حيوانٌ مائي إلَّا السَّمَك غير الطافي، وإلَّا الجِرِّيث: سمكٌ أسود، والمارماهي: سمكٌ في صورة الحيَّة، أفرَدَهما بالذكر؛ للخفاء، أي: لخفاء كونهما من جنس السَّمَك، وخلاف محمَّد، قال في (الدُّرر): وهو ضعيف (5/ 300)، وفيه ما يُشعِرُ بكون الجِرِّيث غير المارماهي، وفي (حياة الحيوان): الجِرِّيث: هو هذا السَّمَك الذي يشبه الثعبان، ويقال له أيضاً: الجري، وهو نوعٌ من السَّمَك يشبه الحيَّة، ويُسمَّى بالفارسيَّة: مارماهي، وحكمه الحِلُّ. قال البغوي: إن الجِرِّيث حلالٌ بالاتِّفاق، والمراد: هذه الثعابين التي لا تعيش إلَّا في الماء، وأمَّا الحيَّات التي تعيش في البَرِّ والبحر، فتلك من ذوات السموم، وأَكْلُها حَرام». اهـ (1/ 177).
وبالجملة؛ فكُلُّ ما كان من جنس السَّمَك لغةً وعُرْفاً فهو حلالٌ بلا خلاف؛ كالسَّقَنْقور والرُّبْيان ونحوهما، والله تعالى أعلم بالصواب» اهـ.
وأمَّا الإفتاء بأولويَّة تركه اجتناباً لشُبْهَةِ الخلاف فيه: فهو إنَّما يتفرَّع على ثبوت الخلاف، وقد ذكرنا أنَّ نقل الخلاف فيه غيرُ معتمد، كما أنَّ المفتَى به عند السادة الحنفيَّة منذ قرون متطاولة: أنَّه لا يُفْتَى بالأورع أو الأحوط؛ لأنَّ الزمانَ لم يَعُدْ زمانَ اجتناب الشبهات، قال العلَّامة برهان الدِّين محمود بن مازه الحنفي (ت 616 هـ) في (المحيط (5/ 499، ط. دار الكتب العلميَّة): «رُوِيَ عن علي بن إبراهيم أنَّه سُئِل عن هذه الشبهات، فقال: ليس هذا زمانَ الشبهات؛ اتِّق الحرام عياناً؛ بمعنى: إن اجتنبت عن غير الحرام كفاك» اهـ. والمحكيُّ عنه هو العلَّامة الفقيه المفتي
أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نَصْرَوَيْه السَّمَرْقَنْدي (ت 441 هـ)؛ كما ترجمه الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء، 17/ 604، ط. الرسالة).
وقال العلَّامة قاضيخان (ت 592 هـ) في (فتاواه- 3/ 402)، المطبوعة بهامش (الفتاوى الهنديَّة، ط. الأميريَّة 1310 هـ): «ليس زمانُنا زمانَ الشبهات؛ فعلى المسلم أنْ يتَّقيَ الحَرامَ المُعايَن» اهـ.
وقال العلَّامة الشيخ خليل النحلاوي الشيباني الحنفي (ت 1350 هـ) في (الدُّرَر المُباحة في الحظر والإباحة، ص: 80): «الورعُ من تناول الشبهات في الحلال والحرام ليس كالورع في أمر الطهارة والنجاسة، بل هو أهمُّ في الدِّين، وهو سيرةُ السَّلَف الصالحين، ولكن في زماننا هذا لا يمكن ذلك الورعُ من الشُّبهات في الحلال والحرام، بل لا يمكن الأخذُ بالقول الأحوط في الفتوى» . اهـ.
وقال الشيخ محمَّد سعيد البرهاني الداغستاني (ت 1386 هـ) في التعليق على (الدُّرر المباحة، ص 80) بعد أن ساق النقل السابق عن (فتاوى قاضي خان): «وكذا صاحب (الهداية)، وزمانُهما قبل ستمائة سنة من الهجرة النبويَّة، ولا خفاء أنَّ الفساد والتغيُّر يزيدان بزيادة الزمن؛ لبُعدِه عن عهد النبوَّة، فالورع والتَّقوى في زماننا: في حفظ القلب واللسان وسائر الأعضاء، والتحرُّز عن الظلم وإيذاء الغير بغير حقٍّ» اهـ.
على أنَّ بعض الناس قد يترك أَكْلَ الإِرْبِيَان -ومثلُه الجراد- على سبيل التقذُّر واجتناب غير المألوف من الطعام لا على جهة التورُّع؛ كما ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْل الضَّبِّ والأرنب وغيرهما مع إقراره الجواز، وقد نقل أبو الطيِّب الوشَّاء (ت 325 هـ) في (المُوَشَّى في أوصاف الظُّرَفاء، ص 169، ط. مكتبة الخانجي): «ولا يأكلون الجَرَاد