الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنايةُ الإسلامِ بالغِذاء والدَّواء
وضوابطها الشَّرعيَّة
إنَّ من محاسن الشريعة الإسلاميَّة التي تميَّزت بها أنَّها شريعةٌ عامَّةٌ جامعةٌ؛ تُعنَى ببيان وتوضيح ما تحتاج إليه النفس البشريَّة في سَيْرها إلى الله عز وجل، بما يضمن لها طِيبَ دنياها، وسعادةَ أُخراها.
ومن الجوانب العظيمة التي أَوْلَتها الشريعةُ عنايتها، واهتمَّت بها اهتماماً بالغاً، ما يتعلَّق بالحلال والحرام في مَطْعومِ الإنسان ومَشْروبِه، ولِباسِه وزِينَتِه، وتَطَبُّبِه وتَداويه؛ حيث حرصت غاية الحرص على كونه حلالًا طيِّباً؛ من جهة أَصْلِه، ومن جهة كَسْبِه
(1)
.
ولقد حثَّت الشريعة على ذلك وأمرت به في نصوص كثيرة؛ وذلك على النحو التالي:
أوَّلًا: المَطْعومِ والمَشْروب:
لقد تضافرت النصوص الشرعيَّة التي تأمر المسلم وتحثُّه على تناول الطيِّب من المطعوم والمشروب، واجتناب الخبيث منه؛ ومن ذلك: قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]. وقوله جلَّ وعلا: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. وقوله تقدَّست أسماؤه: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
(1)
انظر: المسالك في شرح موطأ مالك للقاضي ابن العربي (7/ 373)، تفسير السعدي (ص 80).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الله طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ الله أَمَرَ الْمؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمرْسَلِينَ؛ فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟)
(1)
.
ذلك لأنَّ طِيب المَطْعَم والمَشْرب له أثرٌ عظيمٌ في تزكية النَّفس وإشراقها، وصَفاء القَلْب واستنارته وقوَّة بصيرته، فَضْلاً عن قبول العبادة والدُّعاء، وعكسه صحيحٌ؛ فإنَّ خُبْث المَطْعَم والمَشْرَب يمنع ذلك كُلَّه؛ يقول ابن كثير رحمه الله: «والأَكلُ من الحلال سَببٌ لتَقَبُّلِ الدُّعاءِ والعبادَةِ، كما أنَّ الأَكلَ من الحرامِ يَمْنعُ قَبولَ الدُّعاء والعِبادَةِ؛ كما جاء في الحديث: (
…
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الله طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيَّبًا
…
)»
(2)
.
ويقول ابن رَجَبٍ رحمه الله -تعليقاً على حديث (إِنَّ الله تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيَّبًا) -: «وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أنَّه لا يقبل العملُ ولا يزكو إلاَّ بأكل الحلال، وأنَّ أَكْل الحرام يُفْسِد العملَ، ويمنع قَبولَه؛ فإنَّه قال بعد تقريره (إنَّ الله لا يقبلُ إلاَّ طيِّباً): إنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} ، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . والمراد بهذا: أنَّ الرسل وأُممهم مأمورون بالأَكْل من الطيِّبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح، فما دام الأَكْل حلالاً، فالعملُ صالحٌ مقبولٌ، فإذا كان الأَكْلُ غير حلالٍ، فكيف يكون العمل مقبولاً؟ وما ذكره بعد ذلك من الدُّعاء، وأنَّه كيف يُتقبَّل مع
(1)
سبق تخريجه (ص 5).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 480 - 481).
الحرام، فهو مثالٌ لاستبعاد قَبولِ الأعمال مع التغذية بالحرام»
(1)
.
وأيضاً؛ فإنَّ سلوكَ الإنسان وأخلاقَه يتأثَّران بسلوك مَأْكولِه -كما ثبت ذلك- وبعض الحيوانات أو الطيور طبيعتُها البَغْيُ والعُدوانُ والافْتِراسُ؛ كذوات الأنياب أو المخالب، وبعضها طبيعتُه البَلَادَةُ وقلَّةُ الغَيْرة؛ كالخنزير، والتشبُّه بسلوك هذه أو تلك ممَّا لا ترضاه الشريعة لأهلها والمنتسبين إليها؛ ولذا كانت حِكْمتُها ظاهرةً في النَّهي عن تناول مثل هذه الحيوانات؛ يقول ابن تيمية رحمه الله:«فأحَلَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الطَّيِّبات وحَرَّم الخبائِثَ مِثلَ كُلِّ ذي نابٍ من السِّباع وَكُلِّ ذي مِخْلَبٍ من الطَّير؛ فإنَّها عاديَةٌ باغِيةٌ فإذا أَكَلَها النَّاسُ -والغاذِي شَبيهٌ بِالمُغْتذِي- صار في أخلاقهم شَوْبٌ من أخلاق هذه البَهائِم وهو البَغْيُ والعُدْوانُ»
(2)
.
بل إنَّ ما يحلُّ من هذه الحيوانات والطيور اعتنى الإسلام عنايةً كبيرةً بكيفيَّة ذَبْحِها وتَذْكِيَتها؛ حتَّى تكون حلالًا؛ فاشترط لذلك شروطاً، وسنَّ لها سُنَناً وآداباً؛ ومن ذلك: اشتراطه أَهْليَّة المذكِّي؛ بأن يكون مسلماً أو كتابيًّا؛ قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. ومنها: اشتراطه التسمية على الذبيحة؛ فقال جلَّ ثناؤه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118]. ومنها: اشتراطه إنهار الدم؛ وذلك بقطع الحلقوم، والمريء، والودجين، بالآلة القاطعة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:(مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا لَيْسَ السِّنَّ، وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ: فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ: فَمُدَى الحَبَشَةِ)
(3)
. ومنها: الإحسان إلى الذبيحة وإراحتها عند الذبح؛ فعن شدَّاد بن أَوْسٍ
(1)
جامع العلوم والحكم (ص 100).
(2)
مجموع الفتاوى (17/ 179).
(3)
رواه البخاري (ح 2507)، ومسلم (ح 1968).