الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله
سئل قدس الله روحه
عن رجل رأى الهلال وحده، وتحقّق الرؤية: فهل له أن يفطر وحده؟ أو يصوم وحده؟ أو مع جمهور الناس؟
فأجاب: الحمد لله. إذا رأى هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه؟ أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس؟ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد:
أحدها: أن عليه أن يصوم، وأن يفطر سرًا، وهو مذهب الشافعي.
والثاني: يصوم ولا يفطر إلا مع الناس، وهو المشهور من مذهب أحمد، ومالك، وأبي حنيفة.
والثالث: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون" رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، وراه أبو داود، وابن ماجه، وذكر الفطر والأضحى فقط، ورواه الترمذي من حديث عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون"، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، قال: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة، وعظم الناس. ورواه أبو داود بإسناد آخر، فقال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد من حديث أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف".
ولأنه لو رأى هلال النحر لما اشتهر، والهلال اسم لما استهلّ به، فإن الله جعل الهلال مواقيت للناس والحج، وهذا إنما يكون إذا أستهل به الناس، والشهر بين، وإن لم يكن هلالا ولا شهرًا.
وأصل هذا المسألة أن الله سبحانه وتعالى علّق أحكامًا شرعية بمسمى الهلال، والشهر: كالصوم والفطر والنحر، فقال تعالى:(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) . فبين سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس والحج.
قال تعالى: (كتب عليكم الصيام) إلى قوله (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) أنه أوجب صوم -شهر رمضان، وهذا متفق- عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء؟ وإن لم يعلم به الناس؟ وبه يدخل الشهر، أو الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم؟ على قولين:
فمن قال بالأول يقول: من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم، ودخل شهر رمضان في حقه، وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان، وإن لم يعلم غيره، ويقول من لم يره إذا تبيّن له أنه كان طالعًا قضى الصوم وهذا هو القياس في شهر الفطر، وفي شهر النحر، لكن شهر النحر ما علمت أن أحدًا قال من رآه يقف وحده، دون سائر الحاج، وأنه ينحر في اليوم الثاني، ويرمي جمرة العقبة، ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر، فالأكثرون الحقوه بالنحر، وقالوا: لا يفطر إلا مع المسلمين وآخرون قالوا: بل الفطر كالصوم، ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يومًا، وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة.
وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرًا شهرته بين الناس، واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد، لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين، - فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين، وهذا معنى قوله: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم
تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون". ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم، قال أحمد: يد الله على الجماعة.
وعلى هذا تفترق أحكام الشهر، هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم؟
أو ليس شهرًا في حقهم كلهم؟ يبين ذلك قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فإنما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس، حتى يتصور شهوده، والغيبة عنه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وصوموا من الوضح إلى الوضح" ونحو ذلك خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إذا رآه صامه، فإنه ليس هناك غيره. وعلى هذا فلو أفطر ثم تبين أنه رؤي في مكان آخر، أو ثبت نص النهار، لم يجب عليه القضاء.
وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. فإنه إنما صار شهرًا في حقهم من حين ظهر، واشتهر، ومن حينئذٍ وجب الإمساك كأهل عاشوراء، الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم، ولم يُؤمروا بالقضاء على الصحيح، وحديث القضاء ضعيف، والله أعلم.
سُئل قدَّسَ الله رُوُحَهُ
عن المسافر في رمضان، ومن يصوم، ينكر عليه، وينسب إلى الجهل.
ويقال له الفطر أفضل، وما هو مسافة القصر؟ وهل إذا أنشأ السفر من يومه يفطر؟ وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر؟
وما الفرق بين سفر الطاعة، وسفر المعصية؟
فأجاب: الحمد لله، الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، سواء كان سفر حج، أو جهاد، أو تجارة، أو نحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله.
وتنازعوا في سفر المعصية كالذي يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك، على قولين مشهورين كما تنازعوا في قصر الصلاة.
فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة فإنه يجوز فيه الفطر مع القضاء باتفاق الأئمة، ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرًا على الصيام، أو عاجزًا وسواء شق عليه الصوم، أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرًا في الظل والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر.
ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وكذلك من أنكر على المفطر، فإنه يستتاب من ذلك.
ومن قال: إن المفطر عليه إثم، فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف إجماع الأمة.
وهكذا السنة للمسافر أنه يصلي الرباعية ركعتين، والقصر أفضل له من التربيع، عند الأئمة الأربعة: كمذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والشافعي، في أصح قوليه.
ولم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر؟ بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر، فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه بل عليه أن يقضي، ويروى هذا عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهما من السلف وهو مذهب أهل الظاهر، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس من البر الصوم في السفر" لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم، وأن يفطر، كلما في الصحيحين عن أنس قال:" كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" وقد قال الله تعالى: 0فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته"، وفي الصحيح أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال:"إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس" وفي حديث آخر: "خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون".
وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه، ويفطر، فمذهب مالك والشافعي، وأحمد أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخًا، كما بين مكة وعسفان، ومكة وجدة. وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام، وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين. وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعرفة، ومزدلفة، ومنى، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته، لم يأمر أحدًا منهم بإتمام الصلاة.
وإذا سافر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر؟ على قولين مشهورين العلماء، هما روايتان عن أحمد.
أظهرهما: أنه يجوز ذلك، كما ثبت في السنن أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه.
وأما اليوم الثاني: فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة.
وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم، ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء؛ لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك.
ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوى إليه. كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكري دوابه من الجلاب وغيرهم. وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين. ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه.
فأما من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافراً فهذا لا يقصر، ولا يفطر.
وأهل البادية: كأعراب العرب، والأكراد، والترك، وغيرهم والذين يشتون في مكان، ويصيفون في مكان، إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى
المصيف، ومن المصيف إلى المشتى، فإنهم يقصرون، وأما إذا نزلوا بمشتاهم، ومصيفهم، لم يفطروا، ولم يقصروا، وإن كانوا يتتبعون المراعي، والله أعلم.
وسُئل رحمه الله
عمن يكون مسافرًا في رمضان، ولم يصبه جوع، ولا عطش، ولا تعب: فما الأفضل له: الصيام؟ أم الإفطار؟
فأجاب: أما المسافر فيفطر باتفاق المسلمين، وإن لم يكن عليه مشقة، والفطر له أفضل، وإن صام جاز عند أكثر العلماء.
ومنهم من يقول: لا يجزئه.
وسئل
عن غروب الشمس، هل يجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟
فأجاب: إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق.
وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم".
وسئل
عما إذا أكل بعد أذان الصبح في رمضان، ماذا يكون؟
فأجاب: الحمد لله. أما إذا كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر، كما كان بلال يؤذّن قبل طلوع الفجر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما يؤذن المؤذنون في دمشق وغيرها قبل طلوع الفجر، فلا بأس بالأكل والشرب بعد ذلك بزمن يسير.
وإن شك: هل طلع الفجر؟ أو لم يطلع؟ فله أن يأكل ويشرب حتى
يتبيّن الطلوع، ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر، ففي وجوب القضاء نزاع. والأظهر أنه لا قضاء عليه، وهو الثابت عن عمر، وقال به طائفة من السلف والخلف، والقضاء هو المشهور في مذهب الفقهاء الأربعة، والله أعلم.
وسئل
عن رجل كلما أراد أن يصوم أُغمي عليه، ويزبد ويخبط، فيبقى أيامًا لا يفيق، حتى يُتهم أنه مجنون، ولم يتحقّق ذلك منه؟
فأجاب: الحمد لله. إن كان الصوم يوجب له مثل هذا المرض، فإنه يفطر ويقضي، فإن كان هذا يصيبه في أي وقت صام، كان عاجزاً عن الصيام، فيطعم عن كل يوم مسكيناً، والله أعلم.
وسُئل رحمه الله
عن امرأة حامل رأت شيئًا شبه الحيض، والدم مواظبها، وذكر القوابل أن المرأة تفطر لأجل منفعة الجنين، ولم يكن بالمرأة ألم، فهل يجوز لها الفطر؟ أم لا؟
فأجاب: إن كانت الحامل تخاف على جنينها، فإنها تفطر، وتقضي عن كل يوم يوماً، وتطعم عن كل يوم مسكيناً، رطلاً من خبز بأدمه، والله أعلم.
***