المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة السادسة: تفضيل مذهب من المذاهب - التمذهب – دراسة نظرية نقدية - جـ ٢

[خالد الرويتع]

فهرس الكتاب

- ‌الفرع الرابع عشر: الضعيف

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للضعيف:

- ‌الفرع الخامس عشر: المنكر

- ‌الفرع السادس عشر: الشاذ

- ‌الفرع السابع عشر: الطرق

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للطرق:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للطرق:

- ‌الفرع الثامن عشر: الإجراء

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للإجراء:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للإجراء:

- ‌الفرع التاسع عشر: التوجيه

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للتوجيه:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للتوجيه:

- ‌المسألة السادسة: تفضيل مذهب من المذاهب

- ‌المبحث الرابع: أقسام التمذهب

- ‌الفصل الثاني: نشأة التمذهب، وتاريخه

- ‌المبحث الأول: نشأة التمذهب

- ‌المطلب الأول: حالة الناس قبل نشوء المذاهب

- ‌المطلب الثاني: نشأة المذاهب الفقهية

- ‌المطلب الثالث: أسباب نشوء المذاهب الفقهية

- ‌المطلب الرابع: أسباب بقاء المذاهب الفقهية الأربعة

- ‌المبحث الثاني: تاريخ التمذهب

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: التمذهب من نشأته إلى نهاية القرن الثالث الهجري

- ‌المطلب الثاني: التمذهب من القرن الرابع الهجري إلى نهاية القرن السابع الهجري

- ‌المطلب الثالث: التمذهب من القرن الثامن الهجري إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري

- ‌المطلب الرابع: التمذهب من منتصف القرن الرابع عشر الهجري إلى العصر الحاضر

- ‌الفصل الثالث: حكم التمذهب

- ‌تمهيد: في تقليد الميت

- ‌المبحث الأول: التمذهب بمذهب الصحابي(1)، والتابعي

- ‌المبحث الثاني: التمذهب بأحد المذاهب الأربعة الفقهية المشهورة

- ‌المبحث الثالث: التمذهب بغير المذاهب الأربعة

- ‌الفصل الرابع الأحكام المترتبة على التمذهب

- ‌المبحث الأول: طبقات المتمذهبين

- ‌المطلب الأول أبرز مناهج المتقدمين في تقسيم طبقات المتمذهبين

- ‌تمهيد

- ‌توطئة

- ‌المسألة الأولى: تقسيم ابن الصلاح

- ‌المسألة الثانية: تقسيم ابن حمدان

- ‌المسألة الثالثة: تقسيم ابن القيم

- ‌المسألة الرابعة: تقسيم ابنه كمال باشا

- ‌المطلب الثاني: أبرز مناهج المتأخرين في تقسيم طبقات المتمذهبين

- ‌توطئة

- ‌المسألة الأولى: تقسيم شاه ولي الله الدهلوي

- ‌المسألة الثانية: تقسيم محمد أبو زهرة

- ‌المسألة الثالثة: تقديم الدكتور محمد الفرفور

- ‌القسم الأول: المجتهدون اجتهادًا مطلقًا في الشرع

- ‌القسم الثاني: المجتهدون المقيَّدون بالمذهبِ

- ‌المطلب الثالث: الموازنة بين التقسيمات

- ‌المبحث الثاني: الانتقال عن المذهب

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول: الانتقال عن المذهب إلى الاجتهاد

- ‌توطئة

- ‌المسألة الأولى: الانتقال عن التمذهب إلى الاجتهاد المستقل

- ‌المسألة الثانية: الانتقال عن التمذهب إلى الاجتهاد المنتسب

- ‌المطلب الثاني: الانتقال عن التمذهب بمذهب معين إلى التمذهب بمذهب آخر

- ‌المطلب الثالث: الخروج عن المذهب في بعض المسائل

- ‌المبحث الثالث: تتبع الرخص

- ‌توطئة

- ‌المطلب الأول: تعريف التتبع

- ‌المطلب الثاني: تعريف الرخصة في: اللغة، والاصطلاح

- ‌أولًا: تعريف الرخصة في اللغة:

- ‌ثانيًا: تعريف الرخصة في الاصطلاح:

- ‌المطلب الثالث: تعريف تتبع الرخص

- ‌المطلب الرابع: الفرق بين الرخصة من العالم، وزلة العالم

- ‌المطلب الخامس: حكم تتبع الرخص

- ‌المبحث الرابع: التلفيق بين المذاهب

- ‌المطلب الأول: تعريف التلفيق في اللغة، والاصطلاح

- ‌توطئة

- ‌المسألة الأولى: تعريف التلفيق في اللغة

- ‌المسألة الثانية: تعريف التلفيق في الاصطلاح

- ‌المطلب الثاني: صور التلفيق

- ‌توطئة

- ‌المسألة الأولى: التلفيق بين قولين في مسألة وفروعها

- ‌المسألة الثانية: التلفيق بين أثر القول وقول آخر في مسألة وفروعها

- ‌المطلب الثالث: أقسام التلفيق، وحكم كل قسم

- ‌تمهيد

- ‌المسألة الأولى: التلفيق في الاجتهاد

- ‌المسألة الثانية: التلفيق في التقليد

- ‌المسألة الثالثة: التلفيق في التقنين

- ‌المطلب الرابع: الفرق بين التلفيق وتتبع الرخص

- ‌الفصل الخامس: أحكام المتمذهب

- ‌المبحث الأول: عمل المتمذهب إذا خالف مذهبه الدليل

الفصل: ‌المسألة السادسة: تفضيل مذهب من المذاهب

‌المسألة السادسة: تفضيل مذهب من المذاهب

سأطرُق مسألةَ: (تفضيل مذهبٍ مِن المذاهبِ) في ضوءِ الفقرتين الآتيتينِ:

الفقرة الأولى: هل يجوزُ تفضيلُ مذهبٍ على غيرِه؟

الفقرة الثانية: نماذجُ مِنْ أقوالِ بعضِ العلماءِ في تفضيلِ مذهبِهم على غيرِه.

الفقرة الأولى: هلْ يجوزُ تفضيلُ مذهبٍ على غيرِه؟

لا شكَّ في أنَّ الاختلافَ الأصولي والفقهي واقعٌ بين المذاهبِ المتبوعةِ، ويبعدُ اتفاقُ أقوالِ مذهبٍ مع مذهب آخر في جميعِ المسائل أو غالبِها، ولذا فالمذاهبُ تختلفُ بحسب قربِهَا أو بُعدِها مِن الصوابِ في المسائلِ، لكنْ هلْ يجوزُ تفضيلُ مذهبٍ عَلى غيرِه؟

تعددتْ أقوالُ العلماءِ في الحديث عن تفضيلِ مذهبِهم على مذهب غيرِهم، ويظهرُ لي أن الأَوْلى عدمُ الخوضِ في تفضيلِ مذهبٍ بعينِه؛ لأنَّ الحديثَ عن تفضيلِ المذهب قد يكونُ طريقًا إلى الحطِّ مِنْ قدر أئمةِ المذاهب وعلمائها، وطريقًا إلى التعصَّبِ لها، والتمسكِ بها، وإنْ خالفت الصوابَ.

وسأبيّنُ حكمَ تفضيل مذهبٍ على مذهبٍ في ضوءِ الآتي:

أولًا: إنْ كانَ الباعثُ على الحديثِ عن فضلِ المذهبِ ومزيتِه، التعصّبَ له، وإيجابَ التزامِه في جميعِ المسائلِ وتحريم الخروجِ عنه، حتى ولو خالفَ الدليلَ: فإنَّه لا يجوز.

ثانيًا: إنْ كانَ للحديثِ عن تفضيل مذهبٍ على غيرِه مدخلٌ في التعصبِ والتفرقِ والاختلافِ: فهو مذمومٌ

(1)

.

(1)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 293).

ص: 595

يقولُ ابنُ أبي العزِّ الحنفي: "ومِنْ مِثْلِ هذا الاستدلالِ - أي: الاستدلال على تفضيل المذهب - نَشَأَ الافتراقُ في الأُمّةِ"

(1)

.

ويقولُ - أيضًا -: "أمَّا تفضيلُ شخصٍ على شخصٍ مِن العلماءِ، فليس منصوصًا عليه، ولا مجمعًا عليه، وغالبُ الخائضين فيه إنَّما يتكلمون بهوىً وتعصّبٍ"

(2)

.

ثالثًا: إنْ تضمّنَ الحديثُ عن تفضيلِ المذهبِ الحطَّ مِنْ قدرِ أئمةِ المذاهبِ الأخرى، أو ذكر مثالبِهم والطعن فيهم: فإنَّه لا يجوزُ

(3)

.

مع أنَّنا نجدُ أن مَنْ يَحُطَّ مِنْ قدرِ علماءِ المذاهب التي تخالفُه، يثبتُ أقوالَهم في المسائلِ الخلافيةِ، وينظرُ في أدلتِهم.

والعجبُ أنْ يقعَ في هذا المزلقِ الخطيرِ بعض العلماءِ الذين لهم قدمٌ راسخةٌ في العلمِ.

يقولُ أبو إسحاقَ الشاطبي: "إن الترجيحَ بين أمرين إنَّما يقعُ في الحقيقةِ بعدَ الاشتراكِ في الوصفِ الذي تفاوتا فيه

وإنْ كانَ كذلك، فالخروجُ في ترجيحِ بعضِ المذاهبِ على بعضٍ إلى القدحِ في أصلِ الوصفِ بالنسبةِ إلى أحدِ المتصفين خروجٌ عن نَمَطٍ إلى نَمَطٍ آخر مخالفٍ له، وهذا ليس مِنْ شَأْنِ العلماءِ، وإنَّما الذي يليقُ بذلك الطعن والقدح في حصولِ ذلك الوصف لمَنْ تعاطاه، وليس مِنْ أهلِه، والأئمةُ المذكورون بُرَءاءُ مِنْ ذلك"

(4)

.

وقد أفاضَ الشاطبيُّ - بما لا مزيدَ عليه - في ذكرِ السلبياتِ المترتبةِ على ترجيحِ مذهبٍ بالطعنِ في المذاهبِ الأخرى

(5)

.

رابعًا: إنْ كانَ الحديثُ عن تفضيلِ المذهبِ بذكرِ خصائصِ المذهبِ

(1)

الاتباع (ص/28).

(2)

المصدر السابق.

(3)

انظر: الموافقات (5/ 286).

(4)

المصدر السابق.

(5)

انظر: المصدر السابق (5/ 286 - 291).

ص: 596

ومزاياه في أصولِه، وموافقتِه للدليلِ، وذكرِ مناقب إمامِه ومناقبِ أصحابِه، ونحو هذا، مع الخلو مِنْ شائبةِ التعصبِ: فلا يظهَرُ لي مانعٌ منه؛ لأنه أشبه بالتعريفِ بالمذهبِ، بشرطِ: أنْ لا يتضمّنَ حديثُه سلبَ مزايا غيرِه مِن المذاهبِ

(1)

.

يقولُ أبو إسحاقَ الشاطبيُّ: "إذا وَقَعَ الترجيحُ بذكرِ الفضائلِ والخواصِّ والمزايا الظاهرةِ التي يشهدُ بها الكافّةُ: فلا حَرَجَ فيه، بلْ هو ممَّا لا بُدَّ منه في هذه المواطن، أعني: عند الحاجةِ إليه"

(2)

.

ثمَّ ساقَ الشاطبيُّ عددًا مِن الأدلةِ الدالةِ بعمومِها على التفضيلِ بذكرِ المزايا والخواص

(3)

، كما في قولِه تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}

(4)

.

خامسًا: لا يتأتَّى الحديثُ عنْ تفضيلِ مذهبٍ ما إلا مِنْ عالم ضليعٍ في علومِ الشريعةِ الإسلامية؛ لأنَّه هو القادر على معرفةِ خصائصِ المَذاهبِ ومزاياها على الوجهِ الأمثلِ.

يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية: "ولا يَعْرِفُ هذا التفاضل إلا مَنْ خاضَ في تفاصيلِ العلمِ"

(5)

.

سادسًا: لو قيل: إنَّ الأفضلَ لمَنْ يريدُ التفقه بدراسةِ مذهب إمامٍ معيَّنٍ أنْ يتمذهبَ بالمذهبِ المنتشرِ في قُطْرِه وإقليمِه؛ لأنَّه أدْعى إلىَ ضبطِ العلم؛ لوجودِ العلماءِ الذين نخلوا مذهبَهم، فيقصرُ بهم الطريقُ على المتفقَّه: لما كان بعيدًا

(6)

.

(1)

انظر: المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 137).

(2)

الموافقات (5/ 291).

(3)

انظر: المصدر السابق (5/ 291 - 298).

(4)

من الآية (55) من سورة الإسراء.

(5)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 293).

(6)

انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 91 - 92). وجاء في: المسودة (2/ 959): "أن فقيهًا قصد القاضي أبا يعلى؛ ليقرأ عليه مذهب أحمد، فسأله عن بلده؟ فأخبره، فقال له: إن أهل بلدك =

ص: 597

سابعًا: لا يُوجدُ مذهبٌ مِن المذاهبِ الفقهيةِ المتبوعةِ متمحِّضٌ في الصوابِ ولا في الخطأ، بلْ أيّ مذهبٍ يصيبُ في بعضِ المسائلِ، ويخطئُ في بعضِها الآخر

(1)

، وبناءً عليه: فترجيحُ مذهبٍ برُمّتِه على مذهبٍ آخر لا يخلوُ مِنْ كثيرٍ مِن الحيفِ.

الفقرة الثانية: نماذجُ مِنْ أقوالِ بعضِ العلماءِ في تفضيل مذهبهم على غيره.

سأذكرُ نماذج لبعضِ العلماءِ الذين تحدثوا عنْ تفصيلِ مذهبِهم:

يقولُ القاضي عبدُ الوهاب المالكي: "وأمَّا ترجيحنا إيَّاه - أيْ: مذهب الإمام مالك - على غيرِه من المذاهبِ؛ فلقولِه: (يوشكُ أنْ يضربَ الناسُ أكبادَ الإبلِ في طلبِ العلمِ، فلا يجدون عالمًا أعلم مِنْ عالمِ المدينةِ)

(2)

، فالدلالةُ في هذا مِنْ موضعين:

= كلهم يقرؤون مذهب الشافعي، فلماذا عدلت أنت عنه إلى مذهبنا؟ فقال له: إنما عدلت عن المذاهب رغبةً فيك أنت. فقال له: إن هذا لا يصلح؛ فإنك إذا كنت في بلدك على مذهب أحمد، وباقي أهل البلدة على مذهب الشافعي، لم تجد أحدًا يعيد معك ولا يدارسك، وكنت خليقًا أن تثير خصومة وتوقع نزاعًا! بل كونك على مذهب الشافعي حيث أهل بلدك على مذهبه أولى، ودلَّه على الشيخ أبي إسحاق، وذهب إليه".

(1)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 684)، والتحبير (8/ 4148)، وشرح الكوكب المنير (4/ 624).

(2)

جاء الحديث من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه: الترمذي في: جامعه، كتاب: العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في عالم المدينة (ص/ 604)، برقم (2680)، وقال:"هذا حديث حسن". والنسائي في: السنن الكبرى، كتاب: المناسك، باب: فضل عالم أهل المدينة (4/ 263)، برقم (4277)؛ والحميدي في: مسنده (2/ 283)، برقم (1181)؛ وأحمد في: المسند - وجاء فيه عن أبي هريرة إن شاء الله عن النبي صلى الله عليه وسلم (13/ 358)، برقم (7980)؛ والطحاوي في: شرح مشكل الآثار، باب: بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (يوشك أن يضرب الناس .. )(10/ 186 - 188)، بالأرقام (4016 - 4018)؛ وابن أبي حاتم في: الجرح والتعديل (1/ 11 - 12)؛ وابن حبان في: صحيحه، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة (9/ 53)، برقم (3736)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: العلم (1/ 120)، برقم (307)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما يستدل به على ترجيح قول أهل الحجاز وعلمهم (1/ 386)؛ وفي: معرفة السنن والآثار، باب: من توقى رواية أهل =

ص: 598

أحدهما: إخبارُه بأنَّ مَنْ ينطبقُ عليه هذا الاسم أعلمُ أهلِ وقتِه، ولم هذا في غيرِه، ولا موصوفًا به سواه

والثاني: تأويل الأئمةِ ذلك منهم: ابن جريجٍ

(1)

وابنُ عيينةَ

(2)

مِنْ غيرِ خلافٍ عليهم في

= العراق (1/ 154)، برقم (215)؛ والخطيب البغدادي في: تاريخ مدينة السلام (3/ 241)، و (7/ 405)؛ والذهبي في: سير أعلام النبلاء (8/ 55)، وقال:"هذا حديث نظيف الإسناد، غريب المتن".

وقد أشار الإمام أحمد - كما في: المنتخب من العلل لابن قدامة (ص/ 136) - إلى إعلال الحديث بالوقف على أبي هريرة رضي الله عنه.

وضعف الحديثَ ابنُ حزم في: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 135) بتدليس أبي الزبير، والألبانيُّ في: سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ ق 1/ 383)، وأعله بعنعنة ابن جريج، وأبي الزبير، فإنهما مدلسان.

ويشهد للحديث ما جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الناسُ من المشرق إلى المغرب في طلب العلم، يضرب إليه بأكباد الإبل، فلا يجدون أعلم من عالم المدينة)، وأخرجه: ابن عدي في: الكامل في الضعفاء (1/ 89). وفي سنده انقطاع، انظر: تحقيق مؤسسة الرسالة لمسند الإمام أحمد (13/ 360)

(1)

هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيجٍ الأموي مولاهم، أبو خالد وأبو الوليد المكي، ولد سنة 80 هـ أصله روميُّ، كان إمامًا حافظًا علامةً، من أوعية العلم، صاحب تعبد وتهجد، وما زال يطلب العلم حتى كبر وشاخ، وهو أول من دون العلم بمكة، وكان شيخ الحرم المكي، وقيل عنه: سيد شباب أهل الحجاز، سمع من عطاء بن أبي رباح، ونافع، توفي سنة 149 هـ وقيل: سنة 150 هـ وقيل: سنة 151 هـ. انظر ترجمته في: الجرح والتعديل للرازي (5/ 356)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 66)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 163)، وتهذيب الكمال للمزي (18/ 338)، وسير أعلام النبلاء (6/ 325)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 169)، وميزان الاعتدال له (2/ 659)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 358).

(2)

هو: سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، أبو محمد الكوفي، مولى محمد بن مزاحم، ولد سنة 107 هـ كان إمامًا كبيرًا، حافظ عصره، ومحدِّث الحرم، وقد طلب الحديث وهو حَدَث، ولقي الكبار، وحمل عنهم علمًا جمًا، وأتقن وجود، وجمع وصنَّف، وانتهى إليه علو الإسناد، ورُحل إليه من البلاد، قال الإمام الشافعي:"لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز"، وقال عبد الله بن وهب:"لا أعلم أحدًا أعلم بتفسير القرآن من ابن عيينة"، روى عن أبي إسحاق السبيعي، والأسود بن قيس، والزهري، من مؤلفاته: جوابات القرآن، توفي سنة 198 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 497)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 391)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 262)، وسير أعلام النبلاء (8/ 454)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (4/ 104)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 196)، وشذرات الذهب لابن العماد (2/ 466).

ص: 599

ذلك"

(1)

.

ويقولُ إمامُ الحرمين الجويني: "فإذا نَظَرَ الناظرُ إلى منصبِ الإمامِ الشافعي عَرَفَ أنَّه أعلمُ الأئمةِ بكتابِ الله تعالى، فإنَّه عربيٌّ مبينٌ، والشافعيُّ تفقأتْ عنه بيضة قريش، ولا يخفى تميّزه عنْ غيرِه"

(2)

، ثمَّ يقول: "فمَنْ نَظَرَ إلى الأصولِ، ثم نَظَرَ نَظَرًا كليًّا إلى الفروعِ، لم يخفَ عليه مَنْ يكون أولى بالاتِّباعِ.

وإنْ قَصُرَ نَظَرُ بعضِ المستفتين عن فهمِ ما ذكرناه، فلا عليه لو احتذى بقولِ النبي عليه السلام:(الأئمةُ مِنْ قريشٍ) "

(3)

.

(1)

المعونة على مذهب عالم المدينة، مطبوع ما يتعلق بأصول الفقه مع المقدمة لابن القصار (ص/ 249 - 250). وانظر تعليق ابن حزم على استدلال المالكية بحديث:(يوشك أن يضرب .. ) في: الأحكام في أصول الأحكام (6/ 133 - 136). وانظر في تفضيل مذهب الإِمام مالك: الذخيرة للقرافي (1/ 34)، والقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص/ 2)، والموافقات (5/ 333)، والديباج المذهب لابن فرحون (1/ 57 - 81)، وانتصار الفقير السالك للراعي (ص/ 123 وما بعدها، و 199 وما بعدها)، ومناهج التحصيل للرجراجي (1/ 71 - 76)، ونشر البنود (2/ 343 - 344)، ومراقي السعود إلى مراقي السعود (ص/ 53، 456)، ونشر الورود للشنقيطي (2/ 675 - 676)، وتطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي لمحمد شرحبيلي (ص/ 115 - 155)، والمذهب المالكي مذهب المغاربة المفضل للأستاذ محمد الناصري (1/ 67 وما بعدها)، مطبوع ضمن ندوة الإمام مالك، والانتصار لمذهب مالك للدكتور عبد الكبير المدغري (2/ 191 وما بعدها)، مطبوع ضمن ندوة الإمام مالك، وأصول الفتوى والقضاء للدكتور محمد رياض (ص/ 104 - 108)، وسيأتي بعد قليل كلام القاضي عياض في تفضيل مذهب الإمام مالك.

(2)

البرهان (2/ 745 - 746).

(3)

البرهان (2/ 747)، أما عن حديث:(الأئمة من قريش)، فقد جاء عن عدد كبير من الصحابة رضي الله عنه، يبلغون الأربعين كما قاله ابنُ حجر في: التلخيص الحبير (6/ 2698)، ومن أبرز من ورد عنهم:

أولًا: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرج حديثه: البخاري في: التاريخ الكبير (2/ 112، 113)، و (4/ 99)، ولفظه:(الأمراء من قريش)؛ والنسائي في: السنن الكبرى، كتاب: القضاء، باب:(دون ترجمة)(5/ 450)، برقم (5909)؛ والطيالسي في: المسند (3/ 595)، برقم (2247)؛ وابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الفضائل، باب: ما ذكر في فضل قريش (17/ 284)، برقم (33055)؛ وأحمد في: المسند (19/ 318)، برقم =

ص: 600

ثُمَّ يقولُ عن الإِمامِ أبي حنيفةَ بعدما وصفه بأنَّه مِن الموالي! : "أمَّا أبو حنيفةَ: فلا نُنْكِرُ اتِّقادَ فطنتِه، وجودةَ قريحتِه في دَرَكِ عرفِ المعاملاتِ

= (12307)؛ وابن أبي عاصم في: السنَّة (ص / 517)، برقم (1120)؛ والبزار في: مسنده (12/ 321)، برقم (6181)، وقال:"لا نعلم أسند سعد عن أنس إِلَّا هذا الحديث"، وقال وابن الملقن في: البدر المنير (8/ 532) عن إِسناد البزار: "رجاله رجال الصحيح". وأبو يعلى في: المسند (6/ 321)، برقم (3644)؛ والطَّبراني في: المعجم الكبير (1/ 252)، برقم (725)؛ وفي: المعجم الأوسط (6/ 357)، برقم (6610)، وقال:"لم يرو هذا الحديث عن فضيل بن عياض إِلَّا أحمدُ بن يونس". وفي: الدعاء (3/ 1649 - 1650)، بالأرقام (2120 - 2122)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: الفتن والملاحم (4/ 501)، وقال:(صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". وأبو نعيم في: حلية الأولياء (3/ 171)، وقال:"هذا حديث مشهور ثابت من حديث أنس". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: قتال أهل البغي، باب: الأئمة من قريش (8/ 143 - 144).

وصحح الألبانيُّ الحديثَ في: إِرواء الغليل (2/ 298).

ثانيًا: حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وأخرج حديثه: الطيالسي في: المسند (2/ 240)، برقم (968)؛ وأحمد في: المسند (33/ 21)، برقم (19777)، وقال الهيثمي في: مجمع الزوائد (5/ 163): "رجال أحمد رجال الصحيح، خلا سكين، وهو ثقة". وابن أبي عاصم في: السنة (ص / 518)، برقم (1125)؛ والبزار في: المسند (9/ 358)، برقم (3857)، ولفظه:(الأمراء من قريش)، وقال:"هذا الحديث لا نعلمه يروى إِلَّا عن أبي برزة بهذا الإِسناد، وسكين رجل مشهور من أهل البصرة". وأبو يعلى في: المسند (6/ 323)، برقم (3645)، ولفظه:(الأمراء من قريش)؛ والروياني في: المسند (2/ 25 - 27)، بالرقمين (764، 768).

وحسَّن ابنُ حجر في: التلخيص الحبير (6/ 2698) إِسنادَ رواية ابن أبي عاصم، وحسَّن الألبانيّ الحديثَ في: تعليقه على السنة لابن أبي عاصم (ص/ 519).

وللاستزادة في روايات الحديث وطرقه، انظر: البدر المنير لابن الملقن (8/ 542 - 530)، والتلخيص الحبير لابن حجر (6/ 2697 - 2699)، وإرواء الغليل للألباني (2/ 298 - 301).

يقول ابن الملقن في: البدر المنير (8/ 535): "ويعضد هذه الطرق أحاديث في الصحيح دالة على أنَّ الأئمة من قريش".

ومن الأحاديث الَّتي تشهد لحديث: (الأئمة من قريش) حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)، وأخرجه: البخاريُّ في: صحيحه، كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش (ص/ 673)، برقم (3501)؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش (2/ 882)، برقم (1820).

وانظر تعليق أبي العبَّاس القرطبي على استدلال الشافعية بالحديث على تفضيل مذهب الإمام الشَّافعي في: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 7).

ص: 601

ومراتب الحكوماتِ

لكنَّه غيرُ خبيرٍ بأصولِ الشريعةِ، وهي في حقِّه منقسمةٌ إِلى أصلِ جهلِه! أو أَغْفَلَه وذَهَلَ عنه، وإِلى آخر تمسك به وما راعاه!

وأَمَّا الإِمامُ مالكٌ، فلا يُشَقُّ غبارُه في ضبطِ ما يصحُّ مِن الأخبارِ والآثارِ والأقضيةِ ووقائع الصحابةِ

لكنَّه يَنْحَلُّ بعض الانحلالِ في الأمورِ الكليةِ!

وأمَّا الشَّافعي، فإِنَّه أعرفُ خلقِ الله بأصولِ الشريعةِ، وأضبطُهم لها، وأشدُّهم كيسًا واتِّقادًا في مآخذِها وتنزيلها منازلِها

"

(1)

.

وأنتَ ترى كيفَ أنَّ إِمامَ الحرمين الجويني على سعةِ علمِه وجلالةِ فضلِه، لم يسلمْ مِن الحطِّ مِن شأنِ أئمةِ المذاهبِ المخالفةِ لمذهبِه.

ويقولُ أبو بكرِ السرخسي: "أمَّا الشَّافعي رحمه الله حينَ لم يجوِّز العملَ بالمراسيلِ، فقد تَرَكَ كثيرًا مِن السننِ، وحين لم يقبلْ روايةَ المجهولِ، فقد عطَّل بعضَ السُنّة أيضًا

ثمَّ جوَّزَ العملَ بقياسِ الشبهِ

وتبيَّن أنَّ أصحابَنا هم القدوةُ في أحكامِ الشرعِ: أصولها وفروعها، وأنَّ بفتواهم اتَّضحَ الطريقُ للناسِ

"

(2)

.

(1)

المصدر السابق (2/ 747 - 749). وانظر في تفضيل مذهب الإِمام الشَّافعي: معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/ 213)، وقواطع الأدلة (5/ 174 وما بعدها)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (5/ 393 وما بعدها)، وإِرشاد الطالبين إِلى المنهج القويم له (ص / 419 وما بعدها)، وأدب المفتي والمستفتي (ص/ 163 - 164)، ومنع الموانع لابن السبكي (ص/ 443)، والإِبهاج في شرح المنهاج (7/ 2715 وما بعدها)، وفرائد الفوائد للسلمي (ص/ 120)، والعقد الفريد للسمهودي (ص/ 141)، والدر النضيد في أدب المفيد للغزي (ص/ 217)، ومقدمة تحقيق الرسالة لأحمد شاكر (ص/ 5).

وقد أكْثَرَ أبو حامد الغزالي في: المنخول (ص/ 495 وما بعدها) من الحط من قدر الإِمام أبي حنيفة رحمه الله واتهمه بكثرة الخبط والتخليط والوقوع في المناقضات، وقلب ظهر الشريعة!

وهذه زلة من أبي حامد رحمه الله والظاهر لي أن أبا حامد قد رجع عن قوله في الإِمام أبي حنيفة؛ لأنَّه أثنى عليه في علمه ودينه في كتابه: إِحياء علوم الدين (1/ 47 - 48).

(2)

أصول السرخسي (2/ 113). وانظر في تفضيل مذهب الإِمام أبي حنيفة: أصول البزدوي (1/ 15 - 18) مع شرحه كشف الأسرار، وكشف الأسرار للبخاري (1/ 15 - 18)، والطبقات السنية للغزي (1/ 115 وما بعدها)، وفواتح الرحموت (2/ 154)، ورد المحتار على الدر المختار (1/ 176 وما بعدها)، والرفع والتكميل للكنوي (ص/ 69)، وفقه أهل العراق =

ص: 602

وقد عَقَدَ القاضي عياضٌ المالكي

(1)

بابًا في ترجيحِ مذهبِ الإِمام مالكٍ، والحجةِ في وجوبِ تقليدِه وتقديمِه على غيرِه مِن الأئمةِ، وقالَ فيه:"وها نحنُ نُبيِّنُ أنَّ مالكًا - رحمه الله تعالى - هو ذاكَ أي: أولى الأئمة بالاتباعِ والتقليدِ - لجمعِه أدواتِ الإِمامةِ، وتحصيلِه درجةَ الاجتهادِ، وكونه أعلم القومِ، بلْ أهل زمانِه"

(2)

.

واستمعْ إِليه وهو يتحدثُ عن أئمةِ المذاهبِ الأخرى، فيقول: "أمَّا أبو حنيفةَ والشافعي، فيُسَلَّم لهما حسن الاعتبارِ، وقدقيق النظرِ والقياسِ، وجودة الفقهِ والإِمامة فيه، لكن ليس لهما إِمامةٌ في الحديثِ، ولا معرفة به، ولا استقلال بعلمِه

وقد ضعفهما فيه أهلُ الصنعةِ! "

(3)

. ويقولُ أيضًا: "أمَّا أحمد وداود، فإِنَّهما سلكا اتباعَ الآثارِ، ونَكَّبَا عنْ طريقِ الاعتبارِ، لكنَّ داودَ غلا في ذلك، فترك القياسَ جُملةً

"

(4)

، ثُمَّ ساقَ أدلةً مِن النقلِ، ومِن الاعتبارِ والنظرِ تؤيدُ تقديمَ التمذهبِ بمذهبِ الإِمامِ مالكٍ على غيره من المذاهبِ

(5)

.

= للكوثري (ص/ 66 وما بعدها)، وتأنيب الخطيب له (ص/ 14 وما بعدها)، ومقدمة إِعلاء السنن - أبو حنيفة وأصحابه - للتهانوي (1/ 11 وما بعدها).

(1)

هو: عياض بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي، أبو الفضل، ولد بسبتة سنة 476 هـ من أعيان مذهب المالكية، كان عالم أهل المغرب، فقيهًا أصوليًا علامةً فاضلًا، وأحد أئمة التفسير والحديث في وقته، زاهدًا ورعًا، عارفًا باللغة وكلام العرب وأنسابهم، شاعرًا مجيدًا، وقد ولي القضاء مدةً، من مؤلفاته: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، وإكمال المعلم في شرح صحيح مسلم، وترتيب المدارك وتقريب المسالك، توفي بمراكش سنة 544 هـ. انظر ترجمته في: الصلة لابن بشكوال (2/ 429)، وإنباه الرواة للقفطي (2/ 363)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 483)، وسير أعلام النُّبَلاء (20/ 212)، والديباح المذهب لابن فرحون (2/ 46)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 140)، والفكر السامي للحجوي (4/ 223).

(2)

ترتيب المدارك (1/ 59 - 67).

(3)

المصدر السابق (1/ 85).

(4)

المصدر السابق (1/ 91).

(5)

انظر: المصدر السابق (1/ 68 - 154). وانظر تعليق الذهبي على كلام القاضي عياض في: سير أعلام النُّبَلاء (8/ 90 وما بعدها).

ص: 603

ويقولُ ابنُ حمدان: "لمَّا كان مِن اللازمِ الالتزامُ بأهلِ الدينِ وعلماءِ الشريعةِ المبرزين، وأكابرِ الأئمةِ المتبوعين

وكان الإِمامُ العالمُ السالكُ الناسكُ الكاملُ أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه قد تأخّر عنْ أئمةِ المذاهبِ المشهورةِ، ونَظَرَ في مذاهبِهم ومذاهبِ مَنْ قبلهم، وأقاويلهم وسَبَرَها وخَبَرَها وانْتَقَدَها، واختار أرجحَها وأصحَّها، ووَجَدَ مَنْ قبله قد كفاه مؤنة التصويرِ والتأصيلِ والتفصيلِ، فتفرَّغَ للاختيارِ والترجيحِ، والتنقيحِ والتكميلِ

ثُمَّ لم يُوجدْ بَعْدَه مَنْ بَلَغَ محلَّه في ذلك، كان مذهبُه أولى مِنْ غيرِه بالاتباعِ والتقليدِ، وهذا طريقُ الإِنصافِ والسلامةِ مِن القدحِ في بعضِ الأئمةِ

"

(1)

.

وقد جاءَ عن بعضِ العلماءِ المحققين كلامٌ رصينٌ في بيانِ حالِ مَنْ يُسْرِفُ في الحديثِ عن تفضيلِ مذهبِه، يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية: "أمَّا ترجيحُ بعضِ الأئمةِ والمشايخِ على بعضٍ، مثل: مَنْ يرجّحُ إِمامَه الَّذي تفقّه على مذهبِه، أو يُرجّحُ شيخَه الَّذي اقتدى به على غيرِه

فهذا أكثرُ الناسِ يتكلمون فيه بالظنِّ، وما تهوى الأنفسُ؛ فإِنَّهم لا يعلمون حقيقةَ مراتبِ الأئمةِ والمشايخِ، ولا يقصدون اتباعَ الحقِّ المطلقِ! بلْ كلُّ إِنسانٍ تهوى نفسُه أنْ يرجِّحَ متبوعَه، فيرجّحه بظنٍّ ظنّه، وإِنْ لم يكنْ معه برهانٌ على ذلك، وقد يفضي إِلى تحاجِّهم وقتالِهم وتفرقهم، وهذا ممَّا حرّمَ اللهُ ورسولُه

وأمَّا مَنْ ترجح عنده فضلُ إِمامٍ على إِمامٍ، أو شيخٍ على شيخٍ بحسبِ اجتهادِه، كما تنازع المسلمون أيّهما أفضل الترجيعُ في الأذان، أو تركه؟ .. فمَنْ ترجّحَ عنده تقليدُ الشَّافعي لم ينكرْ على مَنْ ترجّح عنده تقليدُ مالكٍ

ولا أحدَ في الإِسلامِ يجيبُ المسلمين كلَّهم بجوابٍ عامٍّ: إِنَّ فلانًا أفضل مِنْ فلانٍ، فيقبل منه هذا الجواب؛ لأنَّه مِن المعلَومِ أنَّ كلَّ

(1)

صفة الفتوى (ص/ 74). وانظر في تفضيل مذهب الإمام أحمد: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 9 وما بعدها)، ومناقب الإِمام أحمد لابن الجوزي (ص / 660 - 668)، ومجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 29)، والرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب (ص/ 39 - 49)، والتحبير (8/ 4150)، والمدخل إِلى مذهب الإِمام أحمد لابن بدران (ص/ 103 - 111).

ص: 604

طائفةٍ تُرَجِّحُ متبوعَها، فلا تقبلُ جوابَ مَنْ يجيبُ بما يخالفها فيه

وما مِنْ إِمامٍ إِلَّا له مسائل يترجح فيها قولُه على قولِ غيرِه

"

(1)

.

ويصفُ ابنُ القيّمِ الحالةَ النفسيةَ لمنْ يفضِّلُ مذهبَه على غيرِه مِن المذاهب، فيقول: "إِنَّ كثيرًا ممَّنْ يتكلمُ في التفضيلِ يَستشعرُ نِسبتَه وتَعَلُّقَه بمَنْ يُفضَّلُه، ولو على بُعْدٍ، ثمَّ يأخذُ في تقريظِه وتفضيلِه، وتكون تلك النسبةُ والتعلّق مُهَيِّجةً له على التفضيلِ والمبالغةِ فيه، واستقصاءِ محاسنِ المفضَّلِ

ويكون نظرُه في المفضَّلِ عليه بالعكس، ومَنْ تأمَّل كلامَ أكثرِ الناسِ في هذا الباب رأى غالبَه غيرَ سالمٍ مِنْ هذا، وهذا منافٍ لطريقةِ العلمِ والعدلِ الَّتي لا يقبل اللهُ سواها، ولَا يرضي غيرَها، ومِنْ هذا تفضيلُ كثيرٍ مِنْ أصحابِ المذاهبِ والطرائقِ والشيوخ، كلٌّ منهم لمذهبِه أو طريقتِه أو شيخِه

فإِنْ كان الرجلُ ممَّنْ لا يُشك في علمِه وورعِه، خيفَ عليه مِنْ جهةٍ أخرى، وهو أنَّه يَشْهَد حَظَّه ونفعَه المتعلق بتلك الجهةِ، ويغيب عن نفعِ غيرِه بسواها؛ لأنَّ نفعَه مشَاهدٌ له أقربُ مِنْ علمِه بنفعِ غيرِه، فيُفضّلُ ما كان نفعُه وحظُّه مِنْ جهتِه، باعتبارِ شهودِه ذلك"

(2)

.

ويقولُ أبو إِسحاقَ الشاطبي: "ورُبَّما انتهت الغفلةُ - أو التغافل - بقومٍ ممَّنْ يُشارُ إِليهم في العلمِ أنْ صيَّروا الترجيحَ بالتنقيصِ - تصريحًا أو تعريضًا - دَأَبَهم، وعَمَرُوا بذلك دواوينهم، وسوّدوا به قراطيسَهم، حتى صار هذا النوعُ ترجمةً مِنْ تراجم الكتبِ المصنّفةِ في أصولِ الفقهِ

"

(3)

.

ويقولُ في موضع آخر عن الأئمة الأربعةِ: "وعَيْنُ الإِنصافِ تَرَى أنَّ الجميعَ أئمةٌ فضلاء"

(4)

.

* * *

(1)

مجموع الفتاوى (20/ 291 - 292).

(2)

بدائع الفوائد (3/ 1105).

(3)

الموافقات (5/ 298).

(4)

الاعتصام (3/ 320).

ص: 605