الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمَّ إِنَّ الغالبَ انفرادُ المجتهدِ بالقولِ الَّذي زلَّ فيه.
أمَّا الرخصةُ، فقد ينفردُ المجتهدُ بالقولِ بها، وقد يوافقه غيرُه مِن المجتهدين.
ولذا فإِنَّ القولَ الَّذي يوصفُ بأنَّه زلةٌ أخطرُ مِن القولِ الَّذي يُوصف بانَّه رخصةٌ؛ إِذ الزّلةُ أشدّ، يقولُ ابنُ عبدِ البرِ:"شبّه العلماءُ زلةَ العالمِ بانكسارِ السفينةِ؛ لأنَّها إِذا غَرِقَتْ غرقَ معها خلقٌ كثيرٌ"
(1)
.
ويمكنُ القولُ: إِنَّ النسبةَ بين الرخصةِ مِن العالمِ، والزَّلةِ منه: هي العمومُ والخصوصُ الوجهي، فيجتمعانِ في القولِ الَّذي زلَّ العالمُ فيه، وفيه رخصةٌ وسهولةٌ.
وتنفردُ الرخصة بالقولِ السهلِ الَّذي لا يُقْطَعُ فيه بخطأِ المجتهدِ.
وتنفردُ الزّلةُ بالقولِ الَّذي أخطأَ فيه المجتهدُ، وليس فيه تسهيلٌ على الناسِ.
وبناءً على ما سَبَقَ، يمكنُ القولُ أيضًا: إِن الرّخصَ درجاتٌ، فمنها ما يكونُ قولًا غريبًا شاذًّا لا يلتفتُ إِليه، ومنها ما تكونُ قولًا غير شاذٍّ
(2)
.
المطلب الخامس: حكم تتبع الرخص
اختلفتْ أنظارُ العلماءِ في مسألةِ: (حكم تتبع الرخص)، ومن اللازمِ قبلِ عرضِ أقوالهم في المسألةِ أنْ أُحرر محلَّ النزاعِ.
• تحرير محل النزاع:
أولًا: لا يَبعدُ القولُ: إِنَّ العلماءَ متفقون على منعِ تتبعِ الرخصِ إِذا
(1)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 982). وانظر: الموافقات (4/ 90).
(2)
انظر: عمدة التحقيق للباني (ص/ 120).
كان أَخْذُها على سبيلِ التلهي، كلعبِ الحنفي بالشِّطرنجِ
(1)
على رأي الشافعيةِ؛ قصدًا إِلى اللهوِ.
يقولُ عبدُ العلي الأنصاري عن الحالةِ السابقةِ: "ولعل هذا حرامٌ بالإِجماعِ؛ لأنَّ التلهيَّ حرامٌ بالنصوصِ القاطعةِ"
(2)
.
ويؤكِّدُ المنعَ السابق: أنَّه لا حاجةَ - فضلًا عن الضرووةِ - إِلى التلهي؛ ليترخصَ المكلّفُ بأقوالِ العلماءِ.
والظاهرُ مِنْ حكايةِ الاتفاقِ شموله لتتبعِ الرخصِ للتلهي، وللأخذِ برخصةٍ واحدةٍ؛ للتلهي.
ثانيًا: اتفقَ العلماءُ على أنَّه ليسَ لأحدٍ أنْ يعتقدَ الشيءَ واجبًا أو حرامًا، ثمَّ يعتقدَ أنَّه غيرُ واجبٍ أو غير حرامٍ؛ كل ذلك بمجرّدِ الهوى والتشهي
(3)
.
يقولُ ابنُ حزمٍ: "اتفقوا على أنَّه لا يحلُّ لمفتٍ ولا لقاضٍ أنْ يحكمَ بما يشتهي
…
في قصةٍ
(4)
، وبما اشتهى ممَّا يخالفُ ذلك الحكم في أخرى مثلِها، وإِنْ كانَ كلا القولينِ ممَّا قالَ به جماعةٌ مِن العلماءِ، ما لم يكنْ ذلك لرجوعٍ عن خطأٍ لاحَ له إِلى صوابٍ بانَ له"
(5)
.
ويقولُ أيضًا: "اتفقوا على أنَّ طلبَ رُخَصِ كلِّ تأويلٍ بلا كتابٍ ولا سنةٍ فسقٌ، لا يحلُّ"
(6)
.
(1)
الشِّطْرَنْج - بكسر الشين، وبفتحها، وكسرها أجود، والسيق لغة فيه -: لعبة معروفة، مأخوذة من الشِّطارة، أو من التشطير، أو هي لفظ فارسي معرَّب. انظر: لسان العرب، مادة:(شطر)، (2/ 308)، والمصباح المنير للفيومي، مادة:(شطر)، (ص/ 257)، والقاموس المحيط، مادة:(شطر)، (ص/ 250)، وتاج العروس، مادة:(شطر)، (6/ 63).
(2)
فواتح الرحموت (2/ 406). وانظر: سلم الوصول لمحمد المطيعي (4/ 619).
(3)
انظر: الموافقات (5/ 91)، ومعيد النعم ومبيد النقم لابن السبكي (ص/ 102)، والتحفة في شرح البهجة للتسولي (1/ 21 - 22).
(4)
لعل الصواب: "قضية".
(5)
مراتب الإِجماع (ص/ 87).
(6)
المصدر السابق (ص/ 271). وانظر: الموافقات (5/ 81).
ويقولُ المرداويُّ: "أمَّا الحكمُ بالتشهي، فلا نعلمُ أحدًا مِنْ أصحابِ الإِمامِ أحمدَ، بلْ ولا مِنْ غيرِهم قالَ به؛ فإِنَّ ذلك يفضي إِلى الإِباحةِ والتحريمِ بالتشهي، وهذا ممَّا لا يسوغُ في دينِ الإِسلامِ"
(1)
.
ويقولُ تقيُّ الدين بن تيمية: "وقد نصَّ أحمدُ على أنَّه ليس لأحدٍ أنْ يعتقدَ الشيءَ واجبًا أو حرامًا، ثمَّ يعتقده غير واجبٍ ولا حرامٍ؛ بمجرّدِ هواه، مثل: أنْ يكونَ طالبًا لشفعةِ الجوارِ، فيعتقدها أنَّها حقّ له، ثم إِذا طُلِبَتْ منه شفعةُ الجوارِ اعتقدها أنَّها ليست ثابتًا، أو مثل مَنْ يعتقد إِذا كان أخًا مع جدٍّ أنَّ الإِخوةَ تقاسمُ الجدَّ، فإِذا صارَ جدًّا مع أخٍ، اعتقدَ أنَّ الجدَّ لا يُقاسمُ الإِخوة"
(2)
.
ثالثًا: إِذا ألجأت الضرورةُ إِلى الأخذِ بالرخصِ، فالظاهرُ الجوازُ؛ لحالِ الاضطرارِ
(3)
.
رابعًا: اتفقَ العلماءُ على أنَّ الواجبَ على المجتهدِ أنْ يأخذَ بما أدّاه إِليه اجتهادُه
(4)
، وبناءً عليه، لا يجوزُ له تتبعُ الرخصِ في عملِه ولا في إِفتائِه، لغيرِ مسوّغٍ.
لكنْ لو أدَّى اجتهادُ المجتهدِ إِلى الأخذِ بالرخصةِ، فله ذلك
(5)
؛ لأنَّ أخذَه بالرخصةِ في هذه الحالة بناءً على اجتهادِه، وليس منْ بابِ تتبعِ الرخصِ، ويظهر لي أنَّه لا خلافَ في هذا الأمرِ.
(1)
نقل كلام المرداوي محمدٌ السفاريني في: غذاء الألباب (1/ 225).
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 220).
(3)
انظر: فتاوى تقي الدين السبكي (1/ 147)، والموافقات (5/ 99). وقيَّد تقيُّ الدين السبكي الجواز بأن لا يعتقد الآخذ بالرخصة رجحانَ مذهب إِمامه، فإن اعتقد رجحانه فليس له أخذها.
(4)
انظر: قواطع الأدلة (5/ 168)، والمستصفى (2/ 457)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 83).
(5)
انظر: غذاء الألباب للسفاريني (1/ 225).
خامسًا: يظهرُ لي أنَّه لا يدخلُ في النزاعِ ما إِذا ترجّحتْ للمتمذهب إِذا كانتْ لديه أهليةُ النظرِ في الأدلةِ رخصةٌ مِن الرخصِ، وله الأخذُ بها، كالمجتهدِ.
سادسًا: يظهرُ لي أيضًا أنَّه لا يدخلُ في النزاعِ ما إِذا أَخَذَ المتمذهبُ بِرُخَصِ إِمامِه؛ لأنَّ أخذه بها في هذه الحالةِ مِنْ بابِ التمذهبِ، لا مِنْ باب تَتَبّع الرخصِ
(1)
.
سابعًا: يُفْهَم مِنْ كلامِ بعضِ الأصوليين أنَّ محلَّ النزاع فيمَنْ كان شأنُه الأخذ برخصِ المذاهبِ، لا مَنْ أَخَذَ برخصةٍ مِنْ غيرِ تتبعٍ
(2)
.
ثامنًا: حكى أبو عبد الله الفاسي
(3)
، والدكتورُ محمد مدكور
(4)
، والدكتور إِبراهيم إِبراهيم
(5)
، والباحثُ صالح سندي
(6)
اتفاقَ العلماءِ على المنعِ مِنْ تَتَبّع الرخصِ إِذا كان مفضيًا إِلى ما ينقضُ به حكم الحاكم من مخالفةِ نصٍّ أوَ قياسٍ جليٍّ.
ومَعَ وجاهةِ ما ذكروه، إِلَّا أنِّي لم أقفْ - فيما رجعتُ إِليه من مصادر - على ما يدلُّ على الاتفاقِ المحكي.
فيما عدا ما سبق، ما حكم تتبع الرخص؟
• الأقوال في المسألة:
اختلفَ العلماءُ في حكمِ تتبعِ الرخصِ على أقوال، أشهرها:
(1)
انظر: المسودة (2/ 931)، وبيان الدليل لابن تيمية (ص/ 152)، ورفع العتاب والملام للفاسي (ص/ 77).
(2)
انظر: منار أصول الفتوى للقاني (ص / 213)، والنوازل الصغرى للوزاني (1/ 384)، وأصول الفقه للدكتور عياض السلمي (ص/ 492).
(3)
انظر: رفع العتاب والملام (ص/ 75).
(4)
انظر: مناهج الاجتهاد في الإِسلام (ص/447).
(5)
انظر: المدخل لدراسة الفقه الإِسلامي (ص/ 224).
(6)
انظر: مراعاة الخلاف (ص/ 211).
القول الأول: أنَّ تتبعَ الرخصِ محرَّمٌ.
وهذا القولُ هو الصحيحُ عند الحنفيةِ
(1)
، والأصحُّ عند المالكيةِ
(2)
، وهو مذهبُ الشافعيةِ
(3)
، ومذهبُ الحنابلةِ
(4)
.
يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية: "الَّذي يدلُّ عليه كلامُ أصحابِنا وغيرِهم أنَّه لا يجوزُ له - أيْ: للعامي - يَتَتَبَّع
(5)
الرخص مطلقًا"
(6)
.
ونَسَبَ الأميرُ الصنعانيُّ هذا القولَ إِلى جمهورِ العلماءِ
(7)
.
واختاره جمعٌ مِن العلماءِ، منهم: أبو المظفرِ السمعاني
(8)
، وأبو حامدٍ الغزالي
(9)
، وابنُ الصلاحِ
(10)
، ومحيي الدين النووي
(11)
، وابنُ حمدان
(12)
، ويحيى الزناتي
(13)
، وتقيُّ الدين بنُ تيمية
(14)
، وابنُ جزي المالكي
(15)
، وشمسُ الدين الذَّهبي
(16)
، وابنُ القيم
(17)
، وتقيُّ الدين السبكي
(18)
، وابنُ مفلحٍ
(19)
، وتاج الدين السبكي
(20)
، وأبو إِسحاقَ
(1)
انظر: رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (2/ 528).
(2)
انظر: فتح العلي المالك (1/ 60).
(3)
انظر: فتاوى الرملي (4/ 378).
(4)
انظر: أصول الفقه لابن مفلح (4/ 1563)، وكشاف القناع للبهوتي (15/ 60).
(5)
لعل الصواب: "تتبع".
(6)
المسودة (2/ 929).
(7)
انظر: إِجابة السائل (ص/ 413).
(8)
انظر: قواطع الأدلة (5/ 134).
(9)
انظر: المستصفى (2/ 469)، والمعيار المعرب (11/ 163 - 164).
(10)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 111).
(11)
انظر: فتاوى الإِمام النووي (ص/ 258).
(12)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 32).
(13)
انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 432).
(14)
انظر: المسودة (2/ 929).
(15)
انظر: تقريب الوصول (ص/ 449).
(16)
انظر: سير أعلام النُّبَلاء (8/ 90).
(17)
انظر: إِعلام الموقعين (6/ 142، 205)، ومدارج السالكين (2/ 78).
(18)
انظر: فتاوى تقي الدين السبكي (1/ 147)، وقضاء الأرب في أسئلة حلب (ص/268).
(19)
انظر: أصول الفقه (4/ 1563).
(20)
انظر جمع الجوامع (4/ 620) مع شرحه تشنيف المسامع، ومعيد النعم ومبيد النقم (ص/ 102).
الشاطبي
(1)
، وبدرُ الدين الزركشي
(2)
، والمرداوي
(3)
، وأبو علي الشوشاوي
(4)
، وابنُ المبرد
(5)
، وجلال الدين السيوطي
(6)
، وابنُ النجار
(7)
، وابنُ حجر الهيتمي
(8)
، وبدرُ الدين الغزي
(9)
، وعبد الرؤوف المناوي - وقيّدَ المنعَ بأنْ يُؤدي تتبعُ الرخصِ إِلى انحلالِ رِبْقَة التكليفِ مِنْ عنقِه
(10)
- ومرعيُّ الحنبلي
(11)
، وإِبراهيمُ اللقاني
(12)
ومحمد بنُ عثمان الحكيم
(13)
، ومحمدٌ السفاريني
(14)
، والبناني
(15)
، وأبو عبد الله الفاسي
(16)
.
ونَقَلَ علوي السقاف القولَ بمنعِ تتبع الرخصِ، دونَ تعقبٍ
(17)
.
وذَهَبَ إِلى القولِ الأولِ جمعٌ مِن المعاصرين، منهم: عبدُ العزيز
(1)
انظر: الموافقات (5/ 82، 97).
(2)
انظر: تشنيف المسامع (4/ 621).
(3)
انظر: التحبير (8/ 4090).
(4)
انظر: رفع النقاب (6/ 54).
(5)
انظر: شرح غاية السول (ص/ 444).
(6)
انظر: شرح الكوكب الساطع (4/ 176).
(7)
انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 577).
(8)
انظر: الفتاوى الكبرى الفقهية (4/ 305).
(9)
انظر: الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد (ص/ 219).
(10)
انظر: فيض القدير (1/ 210)، وشرح عماد الرضا ببيان آداب القضا (1/ 294).
(11)
انظر: فتيا لمرعي الحنبلي (ص/ 169) مطبوعة مع التحقيق في بطلان التلفيق للسفاريني.
ومرعي الحنبلي هو: مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر الكرمي المقدسي، ثم المصري، أحد أكابر علماء المذهب الحنبلي بمصر، كان فقيهًا محدثًا ذا اطلاع واسع على نقول الفقه، ودقائق الحديث، منهمكًا على تحصيل العلم انهماكًا كليًا، اشتغل بالتدريس والتصنيف وتحقيق المسائل، من مؤلفاته: غاية المنتهى في الجمع بين الإِقناع والمنتهى، ودليل الطالب لنيل المطالب، ومقدمة الخائض في علم الفرائض، والقول البديع في علم البديع، توفي بمصر سنة 1033 هـ. انظر ترجمته في: خلاصة الأثر للمحبي (4/ 358)، والنعت الأكمل للغزي (ص/ 189)، والسحب الوابلة لابن حميد (3/ 1118)، وعنوان المجد لابن بشر (2/ 308)، والأعلام للزركلي (8/ 88)، وتسهيل السابلة لابن عثيمن (3/ 1548).
(12)
انظر: منار أصول الفتوى (ص/ 213).
(13)
انظر: فتاوى علماء الأحساء (1/ 377).
(14)
انظر: التحقيق في بطلان التلفيق (ص/ 171)، ولوامع الأنوار البهية (2/ 466).
(15)
انظر: حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 400).
(16)
انظر: رفع العتاب والملام (ص/ 76).
(17)
انظر: الفوائد المكية (ص/ 85)، ومختصرها (ص/ 40).
الراجحي
(1)
، والدكتورُ محمد الدسوقي
(2)
، والدكتورُ عياض السلمي
(3)
، والدكتورُ سعد الشثري
(4)
، والدكتورُ حسين الملاح
(5)
.
وذَهَبَ محمدٌ حياة السندي إِلى أنَّ الأحسنَ عدمُ أخذِ الرخصِ لغيرِ المضطرِ
(6)
.
وقد جاءَ عن بعضِ السلفِ التحذيرُ مِن الأخذِ بالرخصِ، وأنَّ مَنْ فعلَ ذلك فقد اجتمعَ فيه الشرُّ، مِنْ هؤلاءِ: يحيى القطان
(7)
، وسليمانُ التيمي
(8)
،
(1)
انظر: التقليد والإِفتاء (ص / 167)
(2)
انظر: الاجتهاد والتقليد (ص/ 236).
(3)
انظر: أصول الفقه (ص/ 492).
(4)
انظر: التقليد وأحكامه (ص/ 157).
(5)
انظر: الفتوى (ص/ 628).
(6)
نقل قولَ محمد السندي صالحٌ الفلانيُّ في: إيقاظ همم أولي الأبصار (ص/ 192) ط / دار الفتح.
(7)
انظر: المسودة (2/ 929). وبحيى القطان هو: يحيى بن سعيد بن فروخ القطان البصري التميمي بالولاء، أبو سعيد، ولد سنة 120 هـ إِمام في الجرح والتعديل، وأحد كبار المحدِّثين، كان حافظًا ثقة حجةً مأمونًا زاهدًا عابدًا ورعًا دينًا، وهو الَّذي مفد لأهل العراق الحديث، وقد عُني بعلم الحديث وعلله أتم عناية، ورحل فيه وساد الأقران، وانتهى إِليه الحفظ، وتخرج به الحفاظ، قال عنه علي بن المديني:"ما رأيتُ أحدًا أعلم بالرجال من يحيى بن سعيد"، له كتاب في الضعفاء، توفي سنة 198 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 293)، والتاريخ الكبير للبخاري (1/ 276)، وحلية الأولياء لأبي نُعيم (8/ 380)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 154)، وتهذيب الكمال للمزي (31/ 329)، وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (1/ 431)، وسير أعلام النُّبَلاء (9/ 175).
(8)
أخرج قولَ سليمان التيمي: أبو القاسم البغوي في: الجعديات (1/ 378)، برقم (1326)؛ وأبو نُعيم في: حلية الأولياء (3/ 32)؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 927)، برقم (1766، 1767)؛ وابن حزم في: الإِحكام في أصول الأحكام (6/ 179).
وانظر: المسودة (2/ 930).
وسليمان التيمي هو: سليمان بن طرخان التيمي، أبو المعتمر البصري، نزل عند نبي تيم، فنسب إِليهم، كان من خيار أهل البصرة، إِمامًا حافظًا ثقةً، عابدًا زاهدًا، مكثرًا من الحديث، مع ضبطه له، قال عنه شعبة:"ما رأيتُ أحدًا أصدق من سليمان التيمي؛ كان إِذا حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم تغير لونه"، توفي بالبصرة سنة 143 هـ عن سبعة وتسعين عامًا. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 188)، والتاريخ الكبير للبخاري (4/ 20)، وتهذيب الكمال =
والإِمامُ الأوزاعي
(1)
.
القول الثاني: أنَّ تتبعَ الرخصِ جائزٌ.
نَسَبَ تاجُ الدين بن السبكي
(2)
، والأميرُ الصنعاني
(3)
، وعبدُ الله العلوي
(4)
هذا القولَ إِلى أبي إِسحاقَ المروزي
(5)
.
وتعقبَ نسبةَ تاجِ الدّينِ السبكي: بدرُ الدين الزركشيُّ
(6)
، ووليُّ الدين العراقيُّ
(7)
، وجلالُ الدين المحلي
(8)
، وجلالُ الدين السيوطي
(9)
؛ وذلك لاطلاعِهم على نسبةِ القولِ بتفسيقِ متتبعِ الرخصِ إِلى أبي إِسحاقِ، وإِذا ذَهَبَ أبو إِسحاقَ إِلى تفسيقِ متتبعِ الرخصِ، فكيفَ يُنسبُ إِليه القولُ بجواز تتبعها؟ !
= للمزي (12/ 5)، وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (1/ 235)، وسير أعلام النُّبَلاء (6/ 195)، وميزان الاعتدال للذهبي (2/ 212).
(1)
أخرج قول الأوزاعي: البيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الشهادات، باب: ما تجوز به شهادة أهل الأهواء (10/ 211). وانظر: سير أعلام النُّبَلاء (7/ 125).
(2)
انظر: جمع الجوامع (4/ 620) مع تشنيف المسامع.
(3)
انظر: إِجابة السائل (ص/ 413).
(4)
انظر: نشر البنود (2/ 350).
(5)
هو: إِبراهيم بن أحمد بن إِسحاق المروزي، أبو إِسحاق، كان إِمامًا جليلًا بارعًا في الفقه وأصوله، زاهدًا ورعًا، من أعيان المذهب الشَّافعي، انتهت إِليه رئاسة المذهب بالعراق بعد ابن سريج، تولى الإِفتاء والتدريس ببغداد دهرًا طويلًا، ثم ارتحل إِلى مصر، من مؤلفاته: شرح مختصر المزني، والسنة، والتوسط بين الشَّافعي والمزني، والخصوص والعموم، توفي بمصر سنة 340 هـ وقد قارب السبعين سنة. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السَّلام للخطيب (6/ 498)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 26)، وسير أعلام النُّبَلاء (15/ 429)، وطبقات الشافعية لسنوي (2/ 375)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 77)، وشذرات الذهب لابن العماد (4/ 217)، وطبقات الشافعية لابن هداية الله (ص/ 66).
(6)
انظر: تشنيف المسامع (4/ 621). وراجع: العزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 427)، والبحر المحيط (6/ 325).
(7)
انظر: الغيث الهامع (3/ 906).
(8)
انظر: شرح جمع الجوامع (2/ 441) مع حاشية العطار.
(9)
انظر: شرح الكوكب الساطع (4/ 178).
وتوسّطَ المرداويُّ هنا، فقال: "ويحمل
(1)
أنْ يكون للمروزي قولانِ"
(2)
.
والقولُ بجوازِ تتبعِ الرخصِ هو ظاهرُ قولِ العزِّ بن عبد السَّلام
(3)
.
ونازعَ ابنُ حجرٍ الهيتمي
(4)
، وإِبراهيمُ اللقاني
(5)
في نسبةِ القولِ إِلى العز بن عبد السَّلام؛ لأنَّه لم يُعَبّرْ بالتتبعِ، وإنَّما عَبّرَ بالعملِ برخصِ المذاهبِ، وليسَ العملُ برخصِ المذاهبِ مقتضيًا جوازَ تتبع الرخصِ؛ لصدقِ الأخذِ بها مع الأخذِ بالعزائمِ.
وما قالاه وجيهٌ.
واختارَ القولَ الثاني: ابنُ الهمام الحنفي
(6)
، وابنُ أمير الحاج
(7)
- واشترط في موضعٍ آخر: عدمَ اعتقادِ المتتبع للرخصِ كونه متلاعبًا بالدّينِ متساهلًا فيه
(8)
- وأحمدُ الحموي
(9)
، ومحبُ الله بن عبد الشكور
(10)
، وعبدُ العلي الأنصاري
(11)
، وهو ظاهرُ قولِ الأمير الصنعاني
(12)
، وهو قولُ الدكتورِ زكي الدين شعبان
(13)
.
ونَسَبَ الدكتور وهبة الزحيلي هذا القول إِلى أكثرِ أصحاب الشَّافعي!
(14)
.
(1)
لعل الصواب: "يحتمل".
(2)
التحبير (8/ 4093).
(3)
انظر: فتاوى العز بن عبد السلام (ص/ 288)، وجامع مسائل الأحكام للبرزلي (1/ 118)، والفتاوى الكبرى الفقهية للهيتمي (4/ 305)، وفيض القدير للمناوي (1/ 210)، والدر الفريد لأحمد الحموي (ص/ 112)، وإِجابة السائل للصنعاني (ص/ 413)، ورفع العتاب والملام للفاسي (ص / 76).
(4)
انظر: تحفة المحتاج في شرح المنهاج (10/ 112).
(5)
انظر: منار أصول الفتوى (ص/ 213).
(6)
انظر: التحرير (4/ 254) مع تيسير التحرير.
(7)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 351).
(8)
انظر: المصدر السابق (3/ 352).
(9)
انظر: الدر الفريد (ص/ 107).
(10)
انظر: مسلم الثبوت (2/ 406) مع فواتح الرحموت.
(11)
انظر: فواتح الرحموت (2/ 406).
(12)
انظر: إِجابة السائل (ص/ 413).
(13)
انظر: أصول الفقه (ص/ 340).
(14)
انظر: أصول الفقه (2/ 1154).
ويقولُ الأميرُ الصنعاني: "وهو - أيْ: جواز تتبع الرخص - الظاهرُ ممَّنْ لم يُوجب الالتزامَ"
(1)
. وهذا محلُّ نظرٍ؛ فإِنَّ ممَّنْ لم يُوجب الالتزام مَنْ قال بمنعِ تتبعِ الرخصِ.
وجوّزَ محمدٌ الأمين الجكني، وبعضُ المتأخرين تتبعَ الرخصِ للموسوسِ
(2)
.
واختارَ بعضُ المالكيةِ القولَ بجوازِ تتبعِ الرخصِ، إِلَّا أنَّه ينبغي أنْ لا يتتبعَ الرخصَ في أبوابِ النكاحِ
(3)
.
القول الثالث: يجوزُ تتبعُ الرخصِ بضوابط معينةٍ، وقد اختلفَ أصحابُ هذا القولِ في تحديدِ الضوابط على اتجاهاتٍ متعددةٍ:
الاتجاه الأول: ضابطُ جوازِ تتبعِ الرخصِ أنْ لا يترتبَ على تتبّعِها ما ينقضُ فيه قضاء القاضي، والذي ينقض فيه قضاء القاضي: ما خالفَ الإِجماعَ، أو القواعدَ، أو النصَّ الَّذي لا يحتملُ التأويل، أو القياسَ الجليَّ.
وهذا قولُ شهابِ الدين القرافي
(4)
، وبعضِ المالكيةِ
(5)
.
الاتجاه الثاني: يجوزُ تتبع الرخصِ بشرط: أنْ لا يخالفَ المتتبعُ أمرًا مجمعًا عليه.
وهذا قول ابنُ نور الدين
(6)
.
(1)
إِجابة السائل (ص/ 413).
(2)
انظر: مراقي السعود (ص/ 460)، وشرح عماد الرضا ببيان آداب القضا للمناوي (1/ 295).
(3)
انظر: بلغة السالك لأقرب المسالك لأحمد الصاوي (1/ 22).
(4)
انظر: نفائس الأصول (9/ 4194).
(5)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 20).
(6)
انظر: الاستعداد لرتبة الاجتهاد (2/ 1172).
الاتجاه الثالث: يجوزُ تتبعِ الرخصِ بشرطِ عدمِ اعتقادِ كونِ المتتبعِ لها متلاعبًا بالدينِ متساهلًا فيه.
وهذا قولُ ابنِ أمير الحاج
(1)
، وأحمدَ الوزير
(2)
.
الاتجاه الرابع: يجوزُ تتبعُ الرخصِ وفق الضوابط الآتيةِ:
الأول: أنْ يراعي ما اعتبره المجتهدُ في المسألةِ الَّتي وَقَعَ فيها التقليدُ ممَّا يتوقفُ عليه صحتُها.
الثاني: أنْ يكونَ تتبعُ الرخصِ في المسائلِ المدوّنةِ للمذاهبِ الأربعةِ، دونَ مَنْ عداهم.
الثالث: أنْ لا يتركَ المتتبعُ للرخصِ العزائمَ رأسًا.
وهذا قولُ العطارِ
(3)
.
الاتجاه الخامس: ضابطُ جوازِ تتبعِ الرخصِ: أنْ لا يترتب على تتبعها تلفيقُ حقيقةٍ لا يقولُ بها كلٌّ مِن المذهبين.
وهذا قولُ علويّ السقاف
(4)
، ومحمد مخلوف
(5)
، والدكتور بدران أبو
(1)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 352).
(2)
انظر: المصفى في أصول الفقه (ص/ 836).
(3)
انظر: حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 442). والعطار هو: حسن بن محمد بن محمود العطار، أبو السعادات، ولد بالقاهرة سنة 1190 هـ وقيل: 1180 هـ عالم مصري من أصل مغربي، أخذ العلم عن كبار علماء الأزهر، وأصبح من كبار علماء الشافعية في وقته، وولي مشيخة الأزهر سنة 1246 هـ له مشاركة في عدد من العلوم، كان شاعرًا وأديبًا، وممن يحسن عمل المزاول الليلية والنهارية، أقام زمنًا في دمشق، ثم عاد إِلى مصر، وكان محمد علي الخديوي يكرمه ويجله، من مؤلفاته: حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع، وحاشية على شرح المقولات، وكيفية العمل بالاسطرلاب، توفي بالقاهرة سنة 1250 هـ وقيل: في حدود 1235 هـ. انظر ترجمته في: حلية البشر للبيطار (1/ 489)، والأعلام للزركلي (2/ 220)، ومعجم المؤلفين لكحالة (1/ 587).
(4)
انظر: الفوائد المكية (ص/ 85)، ومختصرها (ص/ 39).
(5)
انظر: بلوغ السول (ص/ 105).
العينين
(1)
.
الاتجاه السادس: يجوز الأخذُ بالرخصِ وفق الضوابط الآتيةِ:
الأول: أنْ تكونَ أقوالُ الفقهاءِ الَّتي يُترخصُ بها معتبرةً شرعًا، ولم توصفْ بأنَّها مِنْ شواذِّ الأقوالِ.
الثاني: أنْ تقومَ الحاجةُ إِلى الأخذِ بالرخصةِ؛ دفعًا للمشقةِ سواءٌ أكانت حاجة عامة للمجتمعِ، أم خاصة، أم فردية.
الثالث: أنْ يكونَ الآخذُ بالرخصِ ذا قدرةٍ على الاختيارِ، أو أنْ يعتمدَ على مَنْ هو أهل لذلك.
الرابع: أنْ لا يترتبَ على الأخذِ بالرخصِ الوقوعُ في التلفيقِ الممنوعِ.
الخامس: أنْ لا يكون الأخذُ بذلك القولِ ذريعةً للوصولِ إِلى غرضٍ غيرِ مشروعٍ.
السادس: أنْ تطمئنَ نفس المترخصِ للأخذِ بالرخصةِ.
وهذا ما صدر به قرارُ مجمعِ الفقه الإِسلامي التابع لمنظمةِ المؤتمرِ الإِسلامي
(2)
.
الاتجاه السابع: يجوزُ تتبع الرخص بشرطِ أنْ لا يُفْضِي ذلك إِلى إِضرارٍ بالغيرِ أو وقوعٍ في محظورٍ متفق عليه أو يؤدّي إِلى عملٍ بضعيفٍ مرجوحٍ.
وهذا قول عبد الله بن عمر الشنقيطي
(3)
.
• أدلة الأقوال:
أدلةُ أصحابِ القولِ الأولِ (القائلين بتحريمِ تتبعِ الرخصِ):
(1)
انظر: أصول الفقه (ص/ 491).
(2)
انظر: مجلة مجمع الفقه الإِسلامي، العدد: الثامن (1/ 639 - 640).
(3)
انظر: التقليد في الشريعة الإِسلامية (ص / 150 - 151).
استدلَّ أصحابُ القولِ الأولِ بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: إِجماعُ أهلِ العلمِ على تحريمِ تتبعِ الرخصِ، حكاه ابنُ عبد البر، فقالَ:"هذا - أيْ: المنع مِنْ تتبعِ الرخصِ - إِجماعٌ، لا أعلمُ فيه خلافًا"
(1)
.
وقد نَقَلَ حكايةَ ابنِ عبد البر كلٌّ مِنْ: تقي الدّينِ بن تيميةَ
(2)
وابنِ القيّمِ
(3)
، وابنِ مفلح
(4)
، والمرداوي
(5)
، وأبي علي الشوشاوي
(6)
وابنِ النجارِ
(7)
.
وقد حَكَى ابنُ حزمٍ الإِجماعَ على أن تتبّعَ الرخصِ فسقٌ، لا يحلُّ، كما سَبَقَ نقلُه في تحريرِ محل النزاعِ.
وقد نَقَلَ حكايةَ ابنِ حزمٍ كل مِنْ: أبي إِسحاق الشاطبي
(8)
، وابنِ حجر الهيتمي
(9)
، وإبراهيمَ اللقاني
(10)
، ومحمد عليش المالكي
(11)
، وأبي عبد الله الفاسي
(12)
.
ويتأيّد هذا الإِجماع بما وَرَدَ عن بعضِ السلفِ في وقتٍ مبكرٍ مِن التحذيرِ مِن تتبعِ الرُّخصِ.
مناقشة الدليل الأول: نوقشت حكاية ابن عبد البر للإِجماع من ثلاثة أوجه:
(1)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 927).
(2)
انظر: بيان الدليل (ص / 155).
(3)
انظر: إِعلام الموقعين (5/ 237).
(4)
انظر: أصول الفقه (4/ 1563).
(5)
انظر: التحبير (8/ 4091).
(6)
انظر: رفع النقاب (6/ 54).
(7)
انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 578).
(8)
انظر: الموافقات (5/ 82)، وجامع مسائل الأحكام للبرزلي (1/ 117).
(9)
انظر: تحفة المحتاج في شرح المنهاج (10/ 112).
(10)
انظر: منار أصول الفتوى (ص / 213)، والنوازل الصغرى للوزاني (1/ 384).
(11)
انظر: فتح العلي المالك (1/ 74، 77).
(12)
انظر: رفع العتاب والملام (ص/ 76).
الوجه الأول: لا نُسَلِّمُ صحةَ ما نُسِبَ إِلى ابنِ عبد البرِ مِنْ حكايته للإجماعِ
(1)
.
ويمكن الجواب عن الوجه الأول: بأنَّ ما ذكرتموه مِن التشكيكِ في نسبةِ حكايةِ الإِجماعِ إِلى ابنِ عبدِ البر مردودٌ؛ وحكايةُ الإِجماعِ ثابتةٌ عنه، فقد ذَكَرَها في كتابِه:(جامع بيان العلم وفضله)
(2)
.
الوجه الثاني: لا نُسلِّمُ صحةَ الإِجماعِ المحكي في دليلِكم؛ إِذ هناك مَنْ خالفَ في المسألةِ، ففي تفسيقِ متتبعِ الرخصِ عن الإِمامِ أحمدَ روايتانِ
(3)
، وذَهَبَ ابنُ أبي هريرةَ
(4)
إِلى عدمِ تفسيقِه
(5)
، وجاءَ عن العزِّ بنِ عبدِ السلام ما يدلُّ على جوازِ تتبعِ الرخصِ
(6)
.
(1)
انظر: تيسير التحرير (4/ 254)، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1155).
(2)
انظر: (2/ 927). والعجب أن يَرِد هذا الاعتراض من الدكتور وهبة الزحيلي، وكتاب (جامع بيان العلم وفضله) يسهل الوصول إِليه.
(3)
انظر: المسودة (2/ 930)، وأصول ابن مفلح (4/ 1564)، والتحبير (8/ 4093). يقول ابن مفلح في كتابه: أصول الفقه (4/ 1564): "ذكر بعضُ أصحابنا في فسق من أخذ بالرخص روايتين، وإنْ قوي الدليل أو كان عاميًا، فلا، كذا قال".
(4)
هو: الحسن بن الحسين بن أبي هريرة، أبو علي البغدادي، كان إِمامًا جليلًا، وأحد شيوخ المذهب الشَّافعي، انتهت إِليه رئاسة مذهبه، تفقه بابن سريج ثم بأبي إِسحاق الشيرازي، كان معظمًا عند السلاطين والرعايا، تولى منصب القضاء، قال عنه أبو القاسم الرافعي:"إِن ابن أبي هريرة زعيم عظيم للفقهاء"، من مؤلفاته: شرح مختصر المزني، والمسائل في الفقه، توفي سنة 345 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السَّلام للخطيب (8/ 253)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 75)، وسير أعلام النُّبَلاء (15/ 430)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (3/ 256)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 126)، وشذرات الذهب لابن العماد (4/ 240).
(5)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 351)، وتيسير التحرير (4/ 254)، وفواتح الرحموت (2/ 406)، وإرشاد المقلدين للشنقيطي (ص/ 259)، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1155)، والأخذ بالرخص الشرعية له، مجلة مجمع الفقه الإِسلامي، العدد: الثامن (1/ 63).
وانظر قول ابن أبي هريرة في: العزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 427)، وتشنيف المسامع (4/ 621)، والبحر المحيط (6/ 325).
(6)
انظر: جامع مسائل الأحكام للبرزلي (1/ 118)، والفتاوى الكبرى الفقهية للهيتمي (4/ 305)، والدر الفريد لأحمد الحموي (ص/ 112)، وإجابة السائل للصنعاني (ص/ 413).
الجواب عن الوجه الثاني: أجيب عنه من وجهين:
الأول: أنَّ للإِجماعِ المذكورِ مستندًا مِنْ أقوالِ السلفِ، أمَّا ما جاءَ عن العز بنِ عبد السلام - على فرضِ ثبوتِ القولِ بالجوازِ عنه - فإِنَّه لم يبيّنْ مستندًا لقولِه
(1)
.
وأيضًا: هو محجوجٌ بالإِجماعِ المنعقدِ قبلَ قولِه
(2)
.
الثاني: لا يستلزمُ عدمُ تفسيقِ متتبع الرخصِ القول بجوازِ تتبّعِ الرخصِ؛ ويكون حالُه كحالِ مرتكبِ الصغيرةِ
(3)
.
الوجه الثالث: يُحْمَلُ الإِجماعُ المحكي على منعِ تتبعِ الرخصِ مِنْ غيرِ تقليدٍ لمَنْ قالَ بها، أو على الرّخصِ المركبه في الفعلِ الواحدِ الَّذي لا يقولُ بمجموعِه مجتهدٌ
(4)
.
ويمكن الجواب عن الوجه الثالث: بانَّ ما ذكروه في مناقشتِهم صَرْفٌ للإِجماعِ عن ظاهرِه بلا قرينةٍ، وهذا مردودٌ.
الدليل الثاني: أن للهَ تعالى أَمَرَ بالردِّ إِليه وإِلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
(5)
، وتتبعُ الإِنسانِ للرخصِ مضادٌّ للرجوع إِلى الله تعالى وإِلى رسولِه صلى الله عليه وسلم
(6)
.
(1)
انظر: المعيار المعرب للونشريسي (12/ 31)، وفتح العلي المالك لعليش (1/ 79).
(2)
انظر: فتح العلي المالك لعليش (1/ 79).
(3)
انظر: حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج للرملي (1/ 74)، وحاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 400).
(4)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 351)، وفواتح الرحموت (2/ 406)، وحاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 442).
(5)
من الآية (59) من سورة النساء.
(6)
انظر: الموافقات (5/ 82)، والتقليد والإِفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص / 167)، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1154)، والأخذ بالرخص الشرعية له، مجلة مجمع الفقه الإِسلامي، العدد: الثامن (1/ 61).
الدليل الثالث: أن تتبعَ الرُّخَصِ مؤدٍ إِلى إِسقاطِ التكليفِ في كل مسألةٍ مختَلَفٍ فيها؛ لأنَّ المتتبّعَ للرخصِ سيفعلُ ما يشاءُ، ويختارُ ما يشاءُ، ممَّا تشتهيه نفسُه، وهذا عينُ إِسقاطِ التكليفِ
(1)
، وفي هذا مناقضةٌ لمقصدِ الشارعِ مِنْ إِنزالِ التكاليفِ.
الدليل الرابع: أنَّ حقيقةَ تتبعِ الرخصِ هي ميلٌ مع أهواءِ النفسِ، وجاءَ الشرعُ بالنهي عن اتّباعِ الهوى؛ قال الله تعالى:{فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى}
(2)
، وتتبّع الرخصِ مضادٌّ لهذا الأَصلِ
(3)
.
الدليل الخامس؛ يترتّبُ على تتبعِ الرخصِ جملةٌ عظيمةٌ مِن المفاسدِ، منها:
المفسدة الأولى: الانسلاخُ مِن الدّينِ بتركِ اتباعِ الدليلِ إِلى اتباعِ الخلافِ.
المفسدة الثانية: الاستهانةُ بالدِّينِ، وذهابُ هيبتِه، وعدم الاكتراثِ به، والتهربُ مِن التكاليفِ، والتساهلُ فيها، إِذ يصيرُ الدينُ سيّالًا مَعَ كلِّ رخصةٍ.
(1)
انظر: الموافقات (5/ 83)، والمعيار المعرب للونشريسي (12/ 29، 31)، والفتاوى الحديثية للهيتمي (ص/ 200)، وفيض القدير للمناوي (1/ 210)، ومنار أصول الفتوى للقاني (ص / 213)، وفتاوى علماء الأحساء (1/ 377)، وحاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 400)، والاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 236)، وأصول الفقه للدكتور عياض السلمي (ص/ 492)، ومقاصد المكلفين للدكتور فيصل الحليبي (ص/ 893).
(2)
من الآية (135) من سورة النساء.
(3)
انظر: فتاوى تقي الدين السبكي (1/ 147)، والموافقات (5/ 99)، ومناهج الاجتهاد في الإِسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 447)، والتقليد والإِفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص/ 167)، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1154)، والأخذ بالرخص الشرعية له، مجلة مجمع الفقه الإِسلامي، العدد: الثامن (1/ 61)، وأصول الفقه للدكتور عياض السلمي (ص/492).
المفسدة الثالثة: انخرامُ قانون السياسةِ الشرعيةِ
(1)
بتركِ الانضباطِ إِلى أمرٍ معروفٍ.
المفسدة الرابعة: إِفضاءُ تتبّعِ الرخصِ إِلى القولِ بتلفيقِ المذاهبِ على وجهٍ يخرقُ إِجماعَها
(2)
.
الدليل السادس: أنَّه لا يقولُ أحدٌ مِنْ علماءِ المسلمين بإباحةِ جميعِ الرخص، فإِنَّ القائلَ بالرخصةِ في مسألةٍ لا يقولُ بالرخصةِ في مسألةٍ أخرى
(3)
.
أدلةُ أصحابِ القولِ الثاني (القائلين بجواز تتبع الرخص):
استدلَّ أصحابُ القولِ الثاني بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول الآياتُ والأحاديثُ الدالةُ على التيسيرِ: كقولِ الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(4)
، وكقولِ النبي صلى الله عليه وسلم:(يسروا ولا تعسروا)
(5)
.
وإِذا أخذنا بأهونِ الأقوالِ في المسألةِ كنَّا قد أخذنا بالأيسرِ
(6)
.
(1)
يقول الشَّيخ دراز في: تعليقه على الموافقات (5/ 103) موضحًا المراد بقانون السياسة الشرعية: (هي الطرق العادلة الَّتي تخرج الحق من الظلم، وتدفع كثيرًا من المظالم، وإهمالها يضيع الحقوق، ويعطل الحدود، ويجرئ أهل الفساد
…
".
(2)
انظر: الموافقات (5/ 102 - 103)، ورفع النقاب للشوشاوي (6/ 54)، والتحقيق في بطلان التلفيق للسفاريني (ص/ 171)، والنوازل الصغرى للوزاني (1/ 384)، ومناهج الاجتهاد في الإِسلام للدكتور محمد مدكور (ص / 447، 451)، والتقليد والإِفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص / 166)، والاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 236)، والتقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 154).
(3)
انظر: التقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 154).
(4)
من الآية (185) من سورة البقرة.
(5)
أخرج الحديث من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه: البخاري في: صحيحه، كتاب: العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم (ص/ 39)، برقم (69)؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير (2/ 830)، برقم (1734).
(6)
انظر: فتح العلي المالك لعليش (1/ 63)، وزجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء للدوسري =
مناقشة الدليل الأول: نُسَلِّمُ لكم أنَّ التيسيرَ مِنْ مقاصدِ الشريعةِ الإِسلاميةِ، والنصوصُ مِن الكتابِ والسنةِ متضافرةٌ على هذا الأمرِ، لكنَّ المرادَ به هو أنَّ حوائجَ البشرِ تسيرُ مع تعاليمِ الشرعِ، دونَ مشقةٍ عليهم، وليس المرادُ تركَ تعاليم الشرعِ؛ لرخصِ المذاهبِ، وبناءً عليه لا نُسلّمُ لكم أنَّ مِنْ مقتضى التيسير تتبّعَ الرخصِ
(1)
.
الدليل الثاني: عن جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بُعِثتُ بالحنيفيةِ السمحةِ، أو السهلة)
(2)
.
= (ص/ 23)، والدرر البهية في الرخص الشرعية للصلابي (ص/ 87)، والتقليد في الشريعة الإِسلامية لعبد الله الشنقيطي (ص/ 151)، وتبصير النجباء للدكتور محمد الحفناوي (ص/ 288)، والتقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 156)، والأخذ بالرخص الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي، مجلة مجمع الفقه الإِسلامي، العدد: الثامن (1/ 62)، والتلفيق في الفتوى للدكتور سعد العنزي، مجلة الشريعة والدراسات الإِسلامية، العدد: الثامن والثلاثون (ص / 295)، ومقاصد المكلفين للدكتور فيصل الحليبي (ص / 888).
(1)
انظر: الاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 236)، والتقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 157).
(2)
أخرج الحديث بهذا اللفظ: الخطيب البغدادي في: تاريخ مدينة السَّلام (8/ 117)؛ وابن النجار في: ذيل تاريخ بغداد (3/ 605).
وفي سنده: مسلم بن عبد ربه، قال عنه الذَّهبي في: ميزان الاعتدال (4/ 105): "ضعفه الازدي، ولا أدري مَنْ ذا". ويقول ابن حجر في: لسان الميزان (8/ 52): "هو الطالقاني".
ويقول المناوي في: فيض القدير (3/ 203) عن حديث جابر رضي الله عنه: "له طرق ثلاث ليس يبعد أنْ لا ينزل بسببها عن درجة الحسن".
وللحديث شواهد يرتقي بها إِلى درجة الحسن، منها:
أولًا: حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا، ولفظه:(إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة)، وأخرجه: أحمد في: المسند (36/ 623)، برقم (22291)، وقال ابن رجب في: فتح الباري (1/ 149) عن إِسناد رواية أحمد: "إِسناد ضعيف". والطَّبراني في: المعجم الكبير (8/ 216)، برقم (7868)؛ والخطيب البغدادي في: الفقيه والمتفقه (2/ 430)، برقم (1218).
ثانيًا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: (أحب الدين إِلى الله الحنيفية السمحة): ذكر الحديثَ البخاريُّ مجردًا عن راويه في: صحيحه معلّقًا، كتاب: الإِيمان، باب: الدين يسر (ص/ 31). ويقول ابن حجر في: فتح الباري (1/ 94): "هذا الحديث المعلق لم يسنده المؤلف في هذا الكتاب؛ لأنَّه ليس على شرطه، نعم وصله في كتاب: الأدب المفرد"، وانظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 148). =
وجه الدلالة: أنَّ قولَه صلى الله عليه وسلم: (بُعثتُ بالحنيفيةِ السمحة) يقتضي جوازَ تتبعِ الرخصِ؛ إِذ في الرخصةِ سهولةٌ، والأَخْذ بالرخصِ فيه سماحةٌ، وقد
= وفي لفظ: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إِلى الله عز وجل؟ قال: (الحنيفية السمحة)، وأخرجه: البخاريُّ في: الأدب المفرد، باب: حسن الخلق إِذا فقهوا (ص/ 108)، برقم (287)؛ وعبد بن حميد في: المنتخب (1/ 445)، برقم (567)؛ وأحمد في: المسند (4/ 16 - 17)، برقم (2107)؛ والطَّبراني في: المعجم الأوسط (1/ 300)، برقم (1006).
وضعف ابنُ رجب في كتابه: فتح الباري (1/ 148) الحديثَ، وحسَّنه إِسناده ابن حجر في: فتح الباري (1/ 94).
ولم يرتض الألبانيُّ في: سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 541) تحسين ابن حجر للحديث؛ لأنَّ في إِسناده ابن إِسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه، لكن للحديث شواهد، ولذا رأى الألباني في: المصدر السابق (2/ 541)، و (6/ ق 2/ 1024)، وفي: صحيح الأدب المفرد (ص/ 122) أن حديث ابن عبَّاس حسن لغيره.
وقد أُعلَّ حديث ابن عبَّاس بأن رواية داود بن الحصين عن عكرمة ضعيفة. انظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 148)، وتقريب التهذيب لابن حجر (ص/ 238)، وزوائد تاريخ بغداد للدكتور خلدون الأحدب (5/ 528).
ويشهد لحديث ابن عبَّاس: مرسل عمر بن عبد العزيز قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الدين أفضل؟ فقال: (الحنيفية السمحة)، وأخرجه: عبد الرزاق في: المصنِّف، باب: الرخص في الأعمال والقصد (11/ 292)، برقم (20574).
وقال ابن حجر في: تغليق التعليق (2/ 42) عن مرسل عمر بن عبد العزيز: "مرسلٌ صحيحٌ".
ثالثًا: حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا، وفيه:(إني أرسلت بحنيفية سمحة)، وأخرجه: أحمد في: المسند (41/ 349)، برقم (24855)؛ والحميدي بنحوه في: المسند (1286)، برقم (256).
وحسَّن إِسنادَه ابنُ حجر في: تغليق التعليق (2/ 43)، والسخاويُّ في: المقاصد الحسنة (ص/ 159)، والألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ ق 2/ 1024). وانظر: تعليق محققي المسند (41/ 349) حاشية رقم (1).
رابعًا: مرسل أبي قلابة، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وأخرجه: ابن سعد في: الطبقات الكبرى (1/ 192)، و (3/ 395).
وصحح ابن حجر في: تغليق التعليق (2/ 42) إِسناده، وقال في: المصدر السابق (2/ 44): "وفي الباب: عن أبي بن كعب، وجابر، وابن عمر، وأبي أمامه، وأبي هريرة، وأسعد بن عبد الله الخزاعي، وغيرهم".
وبعض هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم خرجتُ حديثه، وللاستزادة انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ ق 2/ 1022 - 1027).
بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بها
(1)
.
مناقشة الدليل الثاني: لا نُسَلّمُ لكم أن تتبعَ الرخصِ داخلٌ في مدلولِ الحنيفيةِ السمحةِ؛ لأنَّ السماحةَ المرادة في الحديثِ ما كانتْ مقيدةً بما هو جارٍ على أصولِ الشريعةِ، وليسَ تتبعُ الرخصِ بجارٍ على أصولِها
(2)
.
الدليل الثالث: عن عائشةَ رضي الله عنه قالتْ: (ما خُيِّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إِلَّا أَخَذَ أيسرَهما)
(3)
، وهذا يدلُّ على تجويزِ اتباعِ القولِ الأخفِّ
(4)
.
مناقشة الدليل الثالث: إِنَّ للحديثِ تتمةً تردُّ استدلالكم، وهي قولها:(ما لم يكنْ إِثمًا)
(5)
، ونحنُ نَرَى أنَّ في تتبعِ الرخصِ إِثمًا.
الدليل الرابع: ليس مِنْ مقاصدِ الشريعةِ إِلزامُ الناسِ بالمشاقِّ، ولم تَرِد الشريعةُ به، بلْ وَرَدَتْ بتحصيلِ مصالِحهم الخاصة والعامة
(6)
، وإِذا لم تكن المشاقُّ مقصودةً، فليسَ في تركِها إِلى الرخصِ حرجٌ.
الدليل الخامس: أنَّ اختلافَ المذاهبِ الفقهيةِ رحمةٌ، ويجوزُ أخذُ
(1)
انظر: نفائس الأصول (9/ 4194)، ونشر البنود (2/ 350)، وفتح العلي المالك لعليش (1/ 63)، والتقليد في الشريعة الإِسلامية لعبد الله الشنقيطي (ص/ 151)، والتقليد والإِفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص/ 166)، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1154)، والأخذ بالرخص الشرعية له، مجلة مجمع الفقه الإِسلامي، العدد: الثامن (1/ 61).
(2)
انظر: الموافقات (5/ 99)، ومقاصد المكلفين للدكتور فيصل الحليبي (ص/ 889).
(3)
أخرج الحديث: البخاري في: صحيحه، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم (ص/ 682)، برقم (3560)؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: الفضائل، باب: في مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله (2/ 1097)، برقم (2327).
(4)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 351)، وتيسير التحرير (4/ 254)، وفواتح الرحموت (2/ 406)، والتقليد في الشريعة الإِسلامية لعبد الله الشنقيطي (ص/ 151)، وتبصير النجباء للدكتور محمد الحفناوي (ص/ 288)، والتقليد والإِفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص / 166)، وأصول الفقه للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 491)، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1154).
(5)
انظر: التقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 157).
(6)
انظر: نفائس الأصول (9/ 4194)، والتقليد والإِفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص/ 166)، والانتصار لمذهب مالك للدكتور عبد الكبير المدغري، ندوة الإِمام مالك (2/ 194).
الرحمةِ وتتَبّعها، والرخصُ مِن الرحمةِ، فيجوزُ تتبّعُها
(1)
.
مناقشة الدليل الخامس: المرادُ بأنَّ الخلافَ رحمةٌ هو: أنَّه فَتَحَ للمجتهدين بابَ النظرِ والاجتهادِ، ولا يُراد به أنْ يختارَ الناسُ رُخصَ المذاهبِ، لأنَّها رحمةٌ
(2)
.
الدليل السادس: أنَّ المذاهبَ طرقٌ إِلى الجنةِ، فمَنْ سَلَكَ طريقًا أوْصَله إِليها، ولا فرقَ بين أنْ يكونَ الطريقُ شديدًا، أو خفيفًا
(3)
.
الدليل السابع: لا يُوجدُ دليلٌ شرعي، ولا عقلي يمنعُ الإِنسانَ مِنْ أخذِ ما هو أخفُّ على نفسِه مِنْ أقوالِ المجتهدين الذين يسوغُ لهم الاجتهادُ
(4)
.
مناقشة الدليل السابع: لا يُسلَّمُ لكم انتفاءُ الدليلِ الشرعي الدالِّ على تحريمِ تتبعِ الرخصِ، بلْ دلَّ دليلُ الإِجماعِ على منعِ تتبّعِها، كما حكاه ابنُ عبد البر، وابنُ حزمٍ
(5)
.
الدليل الثامن: أنَّ متتبعَ الرخصِ متبعٌ لمجتهدٍ، فجازَ فعلُه؛ لاتباعِه مجتهدًا
(6)
.
مناقشة الدليل الثامن: أنَّ تخييرَ العامي يكون عند اختلافِ المفتين عليه، وليس له ابتداءً تتبع رخصِ المذاهبِ
(7)
.
(1)
انظر: قضاء الأرب لتقي الدين السبكي (ص/268).
(2)
انظر: الاجتهاد والتقليد عند الشاطبي لوليد الودعان (1/ 475).
(3)
انظر: الاستعداد لرتبة الاجتهاد لابن نور الدين (2/ 1172).
(4)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 351)، وتيسير التحرير (4/ 254)، وفواتح الرحموت (2/ 406)، ومناهج الاجتهاد في الإِسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 449)، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1154).
(5)
انظر: منار أصول الفتوى للقاني (ص/ 213)، وفواتح الرحموت (2/ 406).
(6)
انظر: التقليد في الشريعة الإِسلامية لعبد الله الشنقيطي (ص/ 152)، والتقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 156)، ومقاصد المكلفين للدكتور فيصل الحليبي (ص/ 889).
(7)
انظر: التقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 157).
الدليل التاسم يلزمُ مِن القولِ بمنعِ تتبعِ الرخصِ لزوم سؤالٍ مفتٍ بعينِه، وهذا مودودٌ
(1)
.
واستدلَّ مَنْ أخرجَ أبوابَ النكاحِ مِنْ جوازِ تتبع الرخصِ فيها: بأنَّه يحتاطُ في الفروجِ ما لا يُحتاطُ في غيرِها
(2)
.
أدلةُ أصحابِ القولِ الثالثِ:
الظاهرُ أنَّ أصحابَ القولِ الثالثِ - على اختلافِ اتجاهاتهم - يستدلون بأدلةِ أصحابِ القولِ الثاني، لكنَّهم يرونَ ضبطَ تتبعِ الرخصِ، إِمَّا دفعًا للتلفيقِ الممنوعِ، وإمَّا دفعًا لانحلالِ ربقةِ التكاليفِ الشرعيةِ، وقد نصَّ بعضُهم على دليلِ قولِه:
دليلُ الاتجاه الرابع: (قول العطار): إِنَّ اشتراطَ أنْ يراعي الإِنسان ما اعتبره المجتهدُ في المسألةِ الَّتي وَقَعَ فيها التقليد ممَّا يتوقف عليه صحتها؛ كي لا يقعَ في حُكْمٍ مركّبٍ من اجتهادينِ، فيقع في التلفيقِ الممنوعِ.
ويُشترطُ أنْ يكونَ التتبعُ في المسائلِ المدوّنةِ للمذاهبِ الأربعةِ؛ لأنَّ ما عداها مِن المذاهبِ انقرضتْ بموتِ أئمتِها وأصحابِها.
واشتراط أنْ لا يتركَ العزائمَ؛ لئلا يخرجَ المكلّفُ عن ربقةِ التكاليفِ الشرعيةِ
(3)
.
• الموازنة والترجيح:
لا بُدَّ مِن التفريقِ بين حالةِ مَنْ يتتبعُ الرخصَ دائمًا، دونَ مسوّغٍ ولا حاجةٍ، وحالةِ مَنْ يأخذُ بالرخصةِ عند وجودِ ما يدعو إِلى الأخذِ بها، فلا تستوي الحالتان.
(1)
انظر: فواتح الرحموت (2/ 407).
(2)
انظر: بلغة السالك لأقرب المسالك لأحمد الصاوي (1/ 22).
(3)
انظر: حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 442).
وجُملة القولِ: إِنَّ الراجحَ في تتبعِ الرخصِ هو التحريمُ، وكذلك الأخذ بالرخصةِ المذهبيةِ لغيرِ مسوّغٍ لا يجوز، أمَّا الأخذُ بالرخصةِ؛ لمسوِّغٍ، فإِنَّه جائزٌ، وقد ذَكَرَ هذا التفصيلَ تقيُّ الدين السبكي
(1)
.
ولمزيدِ البيان أقولُ: إِنَّ العاميَّ ليس له تتبع الرخصِ، بل الواجبُ عليه سؤالُ أهلِ العلمِ، وليس مِنْ قدرتِه إِدراكُ رخصِ المذاهب؛ لأنَّ معرفتَها إِنَّما تكون لمن لديه نوعُ استدلالٍ ونظرٍ، وفهمٍ لمسائل الفَقهِ
(2)
، لكنْ لو وَقَعَ في الرخصِ من غيرِ قصدٍ - كما لو سألَ عالمًا فأفتاه برخصةٍ، وسألَ عن مسألةٍ أخرى فأفتاه برخصةٍ - فلا حَرَجَ عليه؛ لانتفاءِ قصدِ تتبعِ الرخصِ، ولصعوبةِ تحرزِ العامي عن مثلِ هذا.
أمَّا المجتهدُ، فالأصلُ أنَّه يتبعُ الأدلة، فليسَ له تتبع الرخصِ، ولا الأخذ بالرخصةِ دونَ مسوَّغٍ، لكنْ إِن احتاجَ إِلى الأخذِ بها، أو احتاجَ مَنْ استفتاه إِليها، فله العملُ والإِفتاءُ بها في ضوءِ الضوابطِ الَّتي قررها مجمعُ الفقه الإِسلامي.
أمَّا المتمذهبُ، فليسَ له تتبعُ الرخصِ، ولا الأخذ بالرخصةِ دونَ مسوِّغٍ، لكنْ له الأخذُ بها إِن احتاجَ إِليها في ضوءِ الضوابطِ الَّتي قررها مجمعُ الفقهِ الإِسلامي.
وقد رجّحت ما سَبَقَ، للآتي:
أولًا: قيامُ الإِجماعِ على مَنعِ تتبعِ الرخصِ، ومهما قيلَ في الجوابِ عنه، إِلَّا أنَّه يبقى معوَّلًا عليه في المنعِ من تتبعِ الرخصِ.
ثانيًا: مآلُ مَنْ يتتبعُ الرخص إِلى انحلالِ التكاليفِ الشرعيةِ عنه، إِذ ما مِنْ مسألةٍ إِلَّا وفيها مَنْ قال بالرخصةِ، فإِنْ أَخَذَ المتتبعُ بها، وبغيرِها انحلتْ عنه أغلبُ التكاليفِ.
(1)
انظر: فتاوى تقي الدين السبكي (1/ 147)، وقضاء الأرب له (ص / 268)، وفتح العلي المالك لعليش (1/ 60).
(2)
انظر: مناهج الاجتهاد في الإِسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 450 - 451).
ثالثًا: أنَّ الأدلةَ التي استدلَّ بها المجوزون لتتبعِ الرخصِ لا تقوى على القولِ بجوازِها، وقصارى أمرِها أنَّها تدلُّ على مشروعيةِ التيسيرِ والتخفيفِ، ورفعِ المشاق، ولا يدخلُ جوازُ تتبع الرخصِ فيما ذكروه.
رابعًا: وجاهةُ الضوابطِ التي ذكرها مجمعُ الفقهِ الإسلامي.
• أثر الخلاف:
الخلافُ بين الأقوال خلافٌ معنوي، ويظهرُ أثرُه في المسائل الآتية:
المسألة الأولى: هلْ يفسقُ متتبعُ الرخص؟
مَنْ قال بجوازِ تتبعِ الرخصِ قال: إنَّه لا يفسقُ، وهذا ما ذَهَبَ إليه أصحابُ القولِ الثاني.
مَنْ قال بمنع تتبع الرخص، اختلفوا في تفسيقه على قولين:
القول الأول: أنَّ متتبعَ الرخصِ فاسقٌ. وهذا القولُ هو أحد الوجهين عند الشافعية
(1)
، وروايةٌ عن الإمامِ أحمدَ
(2)
. واختاره أبو إسحاق المروزي
(3)
، وابنُ القيّم
(4)
.
القول الثاني: أنّ متتبعَ الرخصِ غيرُ فاسقٍ. وهذا القولُ هو الأوجه عند الشافعيةِ
(5)
، وهو روايةٌ عن الإمامِ أحمدَ
(6)
. وذَهَبَ إليه ابنُ أبي هريرة
(7)
.
وذَهَبَ بعضُ الشافعيةِ إلى أنَّ مَنْ تتبع رخصِ غيرُ المذاهب الأربعة فسقٌ، أمَّا مَنْ تتبع رخص المذاهبِ الأربعةِ، فلا يفسقُ
(8)
.
(1)
انظر: البحر المحيط (6/ 325)، والفتاوى الفقهية الكبرى للهيتمي (4/ 305).
(2)
انظر: المسودة (2/ 930)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1563)، والتحبير (8/ 4093)، وكشاف القناع للبهوتي (15/ 60).
(3)
انظر: البحر المحيط (6/ 325).
(4)
انظر: إعلام الموقعين (6/ 142).
(5)
انظر: نهاية المحتاج للرملي (1/ 47).
(6)
انظر: أصول الفقه لابن مفلح (4/ 1564)، والتحبير (8/ 4093).
(7)
سبق توثيق قول ابن أبي هريرة.
(8)
انظر: نهاية المحتاج للرملي (1/ 47).
المسألة الثانية: هلْ يجوزُ للشافعي أنْ يشهدَ على الخطِّ عند المالكي الذي يَرَى العملَ به؟
صرَّحَ بدرُ الدين الزركشي بأنَّ المسألةَ متفرعةٌ عن مسألةٍ: (تتبع الرخص)
(1)
.
فعلى القولِ الأولِ المانعِ مَنْ تتبعِ الرخصِ، ليسَ له أنْ يشهدَ.
وعلى القولِ الثاني المجوّز لتتبعِ الرخصِ، له أنْ يشهدَ.
المسألة الثالثة: إذا حَكَمَ الحنفيُّ لشافعي بشفعةِ الجوارِ، هلْ يجوزُ له أخذها؟
صرّحَ بدر الدين الزركشي بأنَّ المسألةَ متفرعةٌ عن مسألةِ: (تتبع الرخص)
(2)
.
فعلى القولِ الأولِ المانعِ مِنْ تتبعِ الرخصِ، ليس له أخذُها.
وعلى القولِ الثاني المجوّز لتتبعِ الرخصِ، له أخذُها.
* * *
(1)
انظر: البحر المحيط (6/ 327).
(2)
انظر: المصدر السابق.