الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: التمذهب بغير المذاهب الأربعة
تقدَّم لنا في المبحثِ السابقِ الحديثُ عن التمذهب بأحدِ المذاهبِ الفقهيةِ الأربعة، وقد ذكرتُ أنَّها التي كُتِبَ لها البقاءُ مِن الَمذاهبِ السنيةِ.
وقد وُجِدَت على مرِّ العصورِ مذاهبُ فقهية لم يُكْتَبْ لها البقاءُ، بل اندثرتْ
(1)
، ولم يبقَ مِنْ ذكرِها إلا ما دوّنه فقهاءُ المذاهب من أقوالِ أئمتها، وما نقلتُه بعض المصنفاتِ التي تُعْنَى بذكرِ أقوال السلفِ، وقد وُجِدَ لبعضِ أئمةِ هذه المذاهبِ مدوّناتٌ أسهمتْ في حفظِ أقوالِهم.
وقد وُجِدَ أيضًا مذاهبُ فقهية أخرى باقية إلى يومِنا هذا، لكنَّها تنتسبُ إلى بعض الفرقِ التي شاب اعتقادَها كثيرٌ مِن البدعِ
(2)
، وهم بينَ مقلٍّ ومستكثرٍ.
(1)
انظر: التشريع الإسلامي للدكتور عمر الجيدي (ص/ 75).
(2)
تطلق البدعة في اللغة على معنين:
المعنى الأول: ابتداء الشيء وصنعه، لا عن مثال، ومنه قولهم: أَبْدَعْتُ الشيءَ فعلًا، أو قولًا، إذا ابتدأته لا عن سابق مثال.
المعنى الثاني: الانقطاع والكَلال، ومنه قولهم: أُبْدِعَت الراحلةُ، إذا كلَّت وعطبت. انظر: مقاييس اللغة، مادة:(بدع)، (1/ 209 - 210)، والقاموس المحيط، مادة:(بدع)، (ص/ 906).
أما البدعة في الاصطلاح: فقد عُرِّفت بعدة تعريفات، منها:
1 -
تعريف أبي إسحاق الشاطبي في: الاعتصام (1/ 47)، ذكر تعريفين للبدعة: التعريف الأول (على رأي من يرى أن البدعة تدخل العبادات والعادات): طريقةٌ في الدين مخترعةٌ، تضاهي الشريعة، يُقْصَد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.
التعريف الثاني (على رأي من يرى اختصاص البدعة بالعبادات): طريقةٌ في الدين مخترعةٌ، تضاهي الشريعة، يُقْصَد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد. =
في ضوءِ ما سَبَقَ، يمكنُ تقسيمُ التمذهبِ بالمذاهبِ الفقهيةِ - عدا المذاهب الأربعة المشهورة - إلى ثلاثةِ أقسام:
القسم الأول: التمذهب بمذهب مندثر.
القسم الثاني: التمذهب بالمذهب الظاهري.
القسم الثالث: التمذهب بمذهب فقهي لإحدى الفرق المبتدعة
(1)
.
القسم الأول: التمذهبُ بمذهبِ مندثرٍ.
أشرتُ قبلَ قليلٍ إلى وجودِ مذاهب فقهية كانتْ قائمةً في عصرٍ مِن العصورِ، وكان لها أتباعٌ، إلا أنَّها اندثرتْ مع مرورِ الزمنِ، ولم يبقَ مِنْ ذكرِها إلا ما يُنقلُ مِن أقوال عن أئمتِها.
وقبلَ حديثي عن حكمِ التمذهبِ بمذهبِ مندثرٍ أُنبّه إلى أمرين:
الأمر الأول: حديثي هنا عن التمذهبِ بمذهبِ فقهي مندثرٍ، وليس عن تقليدِ إمامِ مذهبِ مندثرٍ في مسألةٍ مِن المسَائلِ.
الأمر الثاني: لا يدخل في حديثي هنا: المجتهدُ؛ فقد أفردتُ لتمذهبِه مسألةً مستقلةً، وقد تقدمَ الحديثُ عنها.
ويحسنُ قبلَ الحديثِ عن حكمِ التمذهب بمذهب مندثرٍ ذكرُ أمثلةٍ لبعض المذاهبِ المندثرةِ، فمنها:
أولًا: مذهب الإمام الأوزاعي.
كان المذهبُ الأوزاعيُّ منتشرًا في الشامِ، وفي الأندلسِ، ولمَّا ظَهَرَ
= 2 - تعريف ابن رجب في: جامع العلوم والحكم (2/ 118): ما أُحْدِث ممَّا لا أصل له في الشريعة يدل عليه.
وللتوسع في تعريف البدعة في الاصطلاح، انظر: حقيقة البدعة وأحكامها لسعيد الزهراني (1/ 239 - 282، 352 - 377)، وموقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء للدكتور إبراهيم الرحيلي (1/ 89 - 93)، والمبتدعة وموقف أهل السنة منهم للدكتور محمد يسري (ص / 16 - 20).
(1)
انظر: المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 190 - 191).
المذهبُ الشافعيُّ في الشامِ، انتقل أهلُه إليه، ولمَّا ظَهَرَ المذهبُ المالكي في الأندلسِ، انتقلَ أهلُه إليه
(1)
.
ولم يدوِّن الإمامُ الأوزاعيُّ مذهبَه، ولم يدوّن تلاميذُه آراءَه، ولم يهتموا بنشرِ مذهبِه
(2)
، ولذا لم يُكتبْ لمذهبِه البقاءُ
(3)
.
يقولُ القاضي عياض: "غَلَبَ مذهبُ الأوزاعي على الشامِ، وعلى جزيرةِ الأندلس أولًا، إلى أنْ غَلَبَ عليها مذهبُ مالكٍ بعد المائتين، فانقطعَ منها"
(4)
.
ويقولُ تقيُّ الدين بن تيمية: "ما زالوا - أيْ: أهل الشام - على مذهبِه - أي: مذهب الأوزاعي - إلى المائةِ الرابعة، بلْ أهلُ المغربِ كانوا على مذهبِه قبلَ أنْ يدخلَ إليهم مذهبُ مالكٍ"
(5)
.
ويقولُ شمسُ الدّينِ الذهبي: "كان أهلُ الشامِ، ثمَّ أهلُ الأندلسِ على مذهب الأوزاعي مدةً مِن الدهرِ، ثمَّ فَنِيَ العارفون به، وبقي منه ما يُوجدُ في كتَبِ الخلافِ"
(6)
.
(1)
انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 64)، والديباج المذهب لابن فرحون (1/ 62)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (1/ 366)، وتاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 266)، وفلسفة التشريع لمحمصاني (ص/ 66)، والتشريع الإسلامي للدكتور عمر الجيدي (ص/ 75)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور محمد مدكور (ص/ 164)، والمدخل في الفقه الإسلامي للدكتور محمد شلبي (ص/ 205)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 170)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور محمد موسى (ص/ 178)، والمذاهب الفقهية للدكتور محمد فوزي (ص/ 193)، والمدخل إلى التشريع الإسلامي للدكتور كامل موسى (ص/ 164)، والمدخل إلى دراسة الفقه للدكتور عبد الله الصالح (ص/ 188).
(2)
انظر: المدرسة الظاهرية للدكتور توفيق الإدريسي (ص/ 97).
(3)
انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 92)، والمدخل الفقهي للدكتور خليفة با بكر وزملائه (ص/ 295).
(4)
ترتيب المدارك (1/ 66).
(5)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 583).
(6)
تذكرة الحفاظ (1/ 182). وانظر: سير أعلام النبلاء (8/ 92)، والشريعة الإسلامية - تاريخها للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 234)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور محمد موسى (ص/ 178).
ثانيًا: مذهب الإمام سفيان الثوري.
يقولُ ابنُ العمادِ
(1)
عن سفيان الثوري: "كانَ صاحبَ مذهبٍ"
(2)
.
ويقولُ القاضي عياضٌ عن مذهبِ الثوري: "لم يكثرْ أتباعُ مذهبِه، ولم يَطُلْ تقليدُه، وانقطعَ عن قريبٍ"
(3)
.
ولعل القاضي يقصدُ إقليمًا مِن الأقاليمِ، أو بحسبِ ما انتهى إليه علمُه، إذ يقولُ تقيُّ الدّينِ بنُ تيميةَ (ت: 728 هـ) عن مذهبِ الثوري: "له مذهبٌ باقٍ اليومَ بأرضِ خراسانَ"
(4)
.
ويقولُ ابنُ رجبٍ: "وُجِدَ في آخر القرنِ الرابعِ سفيانيون"
(5)
.
وكان مذهبُه في الكوفة
(6)
.
وقد نُقِلَت بعضُ أقوال الثوري في كتبِ الخلافِ وفي الكتبِ التي
(1)
هو: عبد الحي بن أحمد بن محمد العكري الدمشقي الصالحي، أبو الفلاح، المعروف بابن العماد، ولد في دمشق سنة 1032 هـ أخذ العلم عن أعيان عصره من أهل دمشق والقاهرة وغيرهما، ورحل في سبيل الاستزادة منه، كان فقيهًا حنبليًا، أديبًا مؤرخًا منصفًا متفننًا، مائلًا إلى نظم الشعر، اشتغل بالتدريس، وانتفع به كثيرٌ من أهل عصره، من مؤلفاته: بغية أولي النهى في شرح غاية المنتهى، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب، ومعطية الأمان من حنث الأيمان، توفي في مكة سنة 1089 هـ. انظر ترجمته في: خلاصة الأثر للمحبي (2/ 331)، والنعت الأكمل للغزي (ص/ 240)، والسحب الوابلة لابن حميد (2/ 460)، والأعلام للزركلي (3/ 290)، وتراجم لمتأخري الحنابلة لابن حمدان (ص/ 144)، ومعجم المؤلفين لكحالة (2/ 67)، وتسهيل السايلة لابن عثيمين (3/ 1571).
(2)
شذرات الذهب (2/ 275).
(3)
ترتيب المدارك (1/ 66). وانظر: الديباج المذهب لابن فرحون (1/ 62)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 171)، والتشريع الإسلامي للدكتور عمر الجيدي (ص/ 76)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور محمد موسى (ص/ 179).
(4)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 583).
(5)
نقل ابنُ العماد قولَ ابن رجب في: شذرات الذهب (2/ 275). وانظر: إتحاف السادة المتقين للزبيدي (1/ 191).
(6)
انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 64)، والديباج المذهب لابن فرحون (1/ 60).
تُعنى بذكرِ أقوالِ الأئمةِ
(1)
.
ثالثًا: مذهب الإمام الليث بن سعد.
عاصرَ مذهبُ الإمامِ الليث بن سعد مذهبَ الإمامِ الشافعي في مصر
(2)
، لكنْ لم يُكتب البقاءُ لمذهبِ الليثِ؛ وذلك لقلِّةِ أتباعِه، وعدمِ اهتمامِهم بنشرِ آراء إمامِهم
(3)
.
يقولُ الإمامُ الشافعي: "الليثُ بن سعد أفقه مِنْ مالكٍ! إلا أن أصحابَه لم يقوموا به"
(4)
.
رابعًا: مذهب الإمام محمد بن جرير الطبري.
تلقَّى الإمامُ محمد بن جرير الطبري في بدءِ أمرِه مذهبَ الإمامِ الشافعي، وأَخَذَ أيضًا عن مذهبِ الإمامِ مالكٍ، ثمَّ انتحى لنفسِه مذهبًا
(5)
.
(1)
انظر: الفكر السامي لمحمد الحجوي (1/ 368)، والتشريع الإسلامي للدكتور عمر الجيدي (ص/ 77)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور محمد مدكور (ص/ 165)، والمدخل في الفقه الإسلامي للدكتور محمد شلبي (ص/ 206)، والشريعة الإسلامية - تاريخها للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 234)، والمذاهب الفقهية للدكتور محمد فوزي (ص/ 201)، والمدخل إلى دراسة الفقه للدكتور عبد الله الصالح (ص/ 188)، وتاريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ 283)، والمدخل إلى الفقه للدكتور محمود الطنطاوي (ص/ 236).
(2)
انظر: المدخل لدراسة الفقه للدكتور محمد موسى (ص/ 179).
(3)
انظر: الفكر السامي لمحمد الحجوي (1/ 369)، وتاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 272)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور محمد مدكور (ص/ 165)، والمدخل في الفقه الإسلامي للدكتور محمد شلبي (ص/ 205)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 173)، والشريعة الإسلامية - تاريخها له (ص/ 237 - 239)، والمذاهب الفقهية للدكتور محمد فوزي (ص/ 199)، والمدخل إلى الفقه للدكتور محمود الطنطاوي (ص/ 236).
(4)
نقل قولَ الإمام الشافعي الذهبيُّ في: سير أعلام النبلاء (8/ 156)، وتقيُّ الدين ين تيمية في: مجموع الفتاوى (4/ 178).
(5)
انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 64)، وسير أعلام النبلاء (14/ 275)، وتذكرة الحفاظ (2/ 712). وانظر الخلاف في الإمام الطبري أهو مجتهد مستقل، أم مجتهد منتسب إلى المذهب الشافعي؟ في كتاب: الإمام الطبري شيخ المفسرين للدكتور محمد الزحيلي (ص/ 156 - 168).
وقد انتشرَ مذهبُه في بغدادَ
(1)
، وكان له أتباعٌ، لكنَّهم لم يكثروا، ولم تَطُلْ مدةُ مذهبِه
(2)
، واستمرَّ إلى منتصفِ القرنِ الخامسِ الهجري تقريبًا
(3)
.
يقولُ القاضي عياضٌ عن المذهبِ الطبري: "انقطعَ أتباعُ الطبري بعدَ أربعمائة"
(4)
.
وممَّا ميّزَ مذهبَ الإمامِ الطبري بقاءُ عددٍ مِن مؤلفاتِ إمامِه.
وهناك مذاهبُ أخرى لم يُكتبْ لها البقاءُ، كمذهبِ الإمام النخعي، ومذهبِ الإمامِ عبد الله بن شبرمة
(5)
، ومذهبِ الإمامِ إسحاقَ بنِ راهويه
(6)
.
حكم التمذهب بمذهب مندثر:
سأُبيّنُ حكمَ التمذهبِ بمذهبٍ مندثرٍ في ضوءِ الآتي:
(1)
انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 64).
(2)
انظر: المصدر السابق (1/ 66)، والديباج المذهب لابن فرحون (1/ 61).
(3)
انظر: الديباج المذهب لابن فرحون (1/ 62)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (1/ 368)، وتاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 271)، والتشريع الإسلامي للدكتور عمر الجيدي (ص/ 76)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 172)، والشريعة الإسلامية - تاريخها له (ص/ 234)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور محمد موسى (ص/ 182)، والمذاهب الفقهية للدكتور محمد فوزي (ص/ 147)، والمدخل الفقهي للدكتور خليفة بابكر وزملائه (ص/ 296)، والمدخل إلى التشريع الإسلامي للدكتور كامل موسى (ص/ 165)، والمدخل إلى الفقه للدكتور محمود الطنطاوي (ص/ 238).
(4)
ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 66). وانظر: الديباج المذهب لابن فرحون (1/ 62).
(5)
هو: عبد الله بن شُبرمة بن الطفيل بن حسان بن المنذر الضبي الكوفي، أبو شبرمة، كان تابعيًا إمامًا في الفقه علامةً عالمًا ثقةً، عفيفًا شاعرًا كريمًا صارمًا، فقيه أهل العراق، وقاضي الكوفة، لم يكن مكثرًا من الحديث، توفي سنة 144 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 337)، والتاريخ الكبير للبخاري (5/ 117)، وتهذيب الكمال للمزي (15/ 76)، وسير أعلام النبلاء (6/ 347)، وميزان الاعتدال للذهبي (1/ 252).
(6)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 402)، وسير أعلام النبلاء (8/ 92)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (1/ 368)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور محمد مدكور (ص/ 165)، والمذاهب الفقهية للدكتور محمد فوزي (ص/ 144 وما بعدها)، وتاريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ 283)، والمدخل إلى أصول الفقه لموسى إبراهيم (ص/ 162)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور شوقي الساهي (ص/ 207 وما بعدها).
أولًا: مَنْ مَنَعَ التمذهبَ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ، فإنَّه يمنعُ التمذهبَ بمذهب مندثرٍ؛ لعدمِ الفرقِ بين المذهبِ القائمِ، والمذهبِ المندثرِ، هذا مِنْ جهةٍ.
ومِنْ جهةٍ أخرى: فإنَّ الأدلةَ التي استدلوا بها تعمُّ التمذهبَ بأيّ مذهبٍ دونَ استثناءٍ.
ثانيًا: لم أقفْ - فيما رجعتُ إليه مِن مصادر - على قولٍ نصَّ على جوازِ التمذهبِ بأحدِ المذاهبِ المندثرةِ.
ثالثًا: لم أقفْ لهذه المذاهبِ المندثرةِ على أصول فقهيةٍ مدوَّنةٍ في عصورٍ مبكرةٍ
(1)
.
رابعًا: لا يختلفُ تقريرُ الحكمِ هنا عمّا قررتُه في مسألةِ: (التمذهب بمذهبِ الصحابي والتابعي)؛ لأنَّه إذا جوزنا التمذهبَ بمذهب مجتهدٍ ما، فإنَّه يجوزُ التمذهبُ بمذهبِ مجتهدٍ آخر؛ لعديم الفرقِ بينهما، فَهما مشتركانِ في وصفِ الاجتهادِ، فإذا جازَ التمذهبُ بمذهبِ الإمامِ مالكٍ مثلًا، فإنَّه يجوزُ التمذهبُ بمذهبِ الإمامِ الليثِ بنِ سعدٍ
(2)
.
يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية: "ليس في الكتابِ والسنةِ فرقٌ في الأئمةِ
(1)
هناك بعض المحاولات الحديثة لإبراز أصول بعض الأئمة المندثرة مذاهبهم، منها:
1 -
أصول مذهب الإمام الأوزاعي من واقع فقهه وآثاره للدكتور علي الضويحي. والكتاب في أصله رسالة علميّة تقدم بها المؤلف إلى قسم أصول الفقه بكلية الشريعة بالرياض، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لنيل درجة الماجستير، بإشراف فضيلة الدكتور صبري معارك. وقد طبع الكتاب عام 1425 هـ عن مؤسسة الرسالة، في مجلد واحد يقع في (496) صفحة.
2 -
فقه الحسن البصري ومنهجه الأصولي للدكتور حوري ياسين الهيتي. والكتاب في أصله رسالة علمّة تقدم بها المؤلف إلى كلية الفقه وأصوله، بالجامعة الإسلامية ببغداد، لنيل درجة الدكتوراه، بإشراف فضيلة الأستاذ الدكتور خالد الجميلي. وقد طبع الكتاب عام 1429 هـ عن دار الكتب العلمة، في مجلد واحد، يقم في (480) صفحة.
(2)
انظر: عمدة التحقيق للباني (ص/ 86).
المجتهدين بين شخصٍ وشخصٍ، فمالكٌ والليثُ بن سعد والأوزاعيُّ والثوريُّ، هؤلاءِ أئمةٌ في زمانِهم، وتقليدُ كلِّ منهم كتقليدِ الآخر"
(1)
.
خامسًا: لو أرادَ شخصٌ أن يتمذهبَ بمذهبٍ مندثرٍ، فإنَّه سيواجه صعوبةً كبيرةً؛ وذلك لعدمِ تدوينِ أصولِ هذه المذاهب، ولعدمِ وجودِ ثروةٍ فقهيةٍ مدوّنةٍ فيها، بحيثُ تنتظمُ منظومةً مذهبيةً متكاملةً.
يقولُ شمسُ الدّينِ الذهبي عن المذاهب المندثرةِ: "لم يبقَ اليومَ إلا هذه المذاهبُ الأربعةُ، وقلَّ مَنْ ينهضُ بمعرفتِها كما ينبغي، فضلًا عن أنْ يكونَ مجتهدًا"
(2)
.
سادسًا: أغلبُ أقوالِ أئمةِ المذاهبِ المندثرةِ، أو كثيرٌ منها، موافقةٌ لأقوالِ المذاهبِ الأربعةِ؛ ولعلَّ مردّ هذا إلى تخرّجِ أئمةِ المذاهبِ - الباقية والمندثرة - مِنْ مدارس فقهيةٍ متقاربةٍ.
وقد نَقَلَ تقيُّ الدّينِ بن تيميةَ عن أبي الحسنِ الكَرَجِي
(3)
- أحد أئمةِ الشافعيةِ مِن كتابِه: (الفصول في الأصول)، ولم يتعقبه - قولَه: "ثمَّ اندرجتْ مذاهبُهم الآخرة - أي: المذاهب المندثرة - تحتَ مذاهبِ الأئمةِ المعتبرةِ، وذلك أن ابنَ عيينة كان قدوةً، ولكنْ لم يُصنّفْ في الذي كان يختارُه مِن الأحكامِ، وإنَّما صنّف أصحابُه: وهم الشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، فاندرج مذهبُه تحتَ مذاهبِهم.
(1)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (20/ 584)، و (23/ 398) فقد ورد نص كلامه في الموضعين.
(2)
سير أعلام النبلاء (8/ 92).
(3)
هو: محمد بن أبي طالب عبد الملك بن محمد الكرجي، أبو الحسن، ولد سنة 458 هـ كان من فضلاء وقته، فقيهًا محدثًا مفتيًا، أديبًا شاعرًا، ثقةً زاهدًا ورعًا، أفنى عمره في جمع العلم ونشره، صنف تصانيف في التفسير وفي مذهب الشافعية، منها: الذرائع في علم الشرائع، والفصول في اعتقاد الأئمة الفحول، توفي سنة 532 هـ. انظر ترجمته في: طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح (1/ 215)، والعبر في خبر من غبر للذهبي (2/ 443)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (6/ 137)، وطبقات الشافعية للإسنوي (2/ 348)، وطبقات الشافعية لابن كثير (2/ 571)، وشذرات الذهب لابن العماد (6/ 165).
وأمَّا الليث بن سعد، فلم يقمْ أصحابُه بمذهبِه
…
إلا أن قولَه يوافق قولَ مالكٍ، أو قول الثوري لا يخطئهما، فاندرجَ مذهبُه تحتَ مذاهبِهم.
وأمَّا الأوزاعي، فلا نَرى له في أعمِّ المسائلِ قولًا إلا ويوافقُ قولَ مالكٍ، أو قول الثوري، أو قول الشافعي، فاندرجَ اختيارُه أيضًا تحتَ اختيارِ هؤلاءِ، وكذلك اختيارُ إسحاق يندرجُ تحتَ مذهبِ أحمدَ؛ لتوافقِهما.
فإنْ قيل: فمِنْ أينَ وقعتَ على هذا التفصيلِ والبيانِ في اندراجِ مذاهبِ هؤلاءِ تحتَ مذاهبِ الأئمةِ؟
قلتُ: مِن التعليقةِ للشيخِ أبي حامدٍ الإسفراييني
(1)
، التي هي ديوانُ الشرائعِ وأُمُّ البدائعِ في بيانِ الأحكامِ ومذاهب العلماءِ الأعلامٍ، وأصول الحجج العظام، في المختلف والمؤتلف
…
وسمعتُ محمدَ بنَ طاهرٍ الحافظ
(2)
يقولُ: استنبط البخاريُّ في الاختيارات مسائلَ موافقةً لمذهبِ
(1)
هو: أحمد بن ابي طاهر محمد بن أحمد الإسفراييني، ويعرف بابن أبي طاهر، ولد بإسفرايين بخراسان سنة 344 هـ كان إمامًا في العلم، وبحرًا من بحوره، وأحد أعلام المذهب الشافعي وحفاظه، وشيخ مذهبه في زمانه، وإمام طريقة الشافعية العراقيين، فقيهًا أصوليًا، حسن النظر، جيد الفقه، عظيم الجاه عند الملوك والعوام، انتهت إليه الرئاسة ببغداد، وأربى على المتقدمين، من مؤلفاته: تعليقة في الفقه، وشرح مختصر المزني، وكتاب في الأصول، توفي سنة 406 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (6/ 20)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 117)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 208)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 72)، وسير أعلام النبلاء (17/ 193)، والوافي بالوفيات للصفدي (7/ 357)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (4/ 61)، وطبقات الشافعية للإسنوي (1/ 57)، والبداية والنهاية (15/ 564)، وطبقات الشافية لابن هداية الله (ص/ 42).
(2)
هو: محمد بن طاهر بن علي بن أحمد الشيباني أبو الفضل القيسراني المقدسي، ولد ببيت المقدس سنة 408 هـ كان إمامًا حافظًا صدوقًا عالمًا محدثًا عارفًا بالصحيح والسقيم، حسن المعرفة برجال الحديث، رحالةً ظاهري المذهب، متصوفًا، ذا تصانيف، كَتَبَ ما لا يوصف كثرةً بخطه السريع، وصنف وجمع، وله أوهام في تصانيفه، من مؤلفاته: صفة التصوف، والمؤتلف والمختلف، وأطراف أحاديث مالك، والحجة على تارك المحجة، وتصحيح العلل، توفي سنة 507 هـ. انظر ترجمته في: وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 287)، وسير أعلام النبلاء (19/ 361)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 1242) وميزان الاعتدال له (3/ 587)، والوافي بالوفيات للصفدي (3/ 166)، ولسان الميزان لابن حجر (7/ 211)، وشذرات الذهب لابن العماد (6/ 35).
أحمدَ وإسحاقَ"
(1)
.
وإنْ كان يعتري هذا الاستقراء ما يعتري أيّ استقراءٍ ناقصٍ، إلا أنَّه يُعطي معلومةً مهمةً.
سابعًا: لم يأتِ مَنْ يقومُ على خدمةِ المذاهبِ المندثرةِ بتحريرِ أقوالِها، وتمييزِ ما ثَبَتَ عنِ إمامها، وما لم يثبتْ عنه، وما قاله ورَجَعَ عنه، ولم تجمع المسائل المنقولة عنه في أبواب، ولم تنقحْ ولم تهذبْ
(2)
.
وقد تقدمَ كلامُ شمسِ الدين الذهبي قبلَ قليلٍ.
ويقولُ ابنُ الصلاحِ: "ليس له التمذهبُ بمذهبِ أحدٍ مِنْ أئمةِ الصحابةِ، وغيرِهم مِن الأولين، وإنْ كانوا أعلم وأعلى درجة ممَّنْ بعدهم؛ لأنَّهم لم يتفرغوا لتدوينِ العلمِ، وضبطِ أصولِه وفروعِه، وليس لأحدٍ منهم مذهبٌ مهذبٌ محرّرٌ مقرّرٌ"
(3)
.
وما علّل به إمامُ الحرمين الجويني حينَ مَنَعَ التمذهبَ بمذهبِ الصحابي صادقٌ على المذاهبِ المندثرةِ
(4)
.
ويدلُّ التعليلُ بعدمِ تحريرِ وتهذيبِ المذاهبِ المندثرة على أن منعَ التمذهبِ بها؛ لأمرٍ عرضي، وليس لأمرٍ ذاتي
(5)
.
(1)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 177 - 178).
(2)
انظر: عمدة التحقيق للباني (ص/ 85).
(3)
أدب المفتي والمستفتي (ص / 162 - 163). وانظر الحديث عن عدم تحرير المذاهب المندثرة في: المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 55)، وصفة الفتوى (ص/ 72 - 73)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 584)، والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي (ص/ 527)، والرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب (ص/ 34)، ونهاية المراد لعبد الغني النابلسي (ص/ 15)، وشرح عماد الرضا ببيان آداب القضا للمناوي (1/ 293)، ونشر البنود (2/ 352)، ومراقي السعود إلى مراقي السعود (ص/ 463)، ومختصر الفوائد المكية للسقاف (ص/ 38)، ونثر الورود للشنقيطي (2/ 687).
(4)
انظر: البرهان (2/ 744)، والغياثي للجويني (ص/ 410 - 411)، والمنخول (ص/ 495).
(5)
انظر: عمدة التحقيق للباني (ص/ 85).
وأنبّه إلى أن بعضَ العلماءِ علّلَ عدمَ أخذِ أقوالِ المذاهب المندثرةِ بأنَّها نُقِلَت إلينا بطريقِ الآحادِ، ولا تحصلُ الطمأنينةُ بهذا النقلِ
(1)
.
وهذا التعليلُ بمفردِه فيه نظرٌ؛ إذ أقوالُ النبي صلى الله عليه وسلم تثبتْ بنقلِ الواحدِ، فكيفَ يُقالُ بثبوتِ قولِ النبي صلى الله عليه وسلم بطريقِ الآحادِ - وهو أعظم شأنًا - وبعدمِ ثبوتِ قولِ العالمِ إذا نُقِلَ بطريقِ الآحادِ؟ !
ثامنًا: نصَّ غيرُ واحدٍ من الأصوليين على انحصارِ الحقِّ في أقوالِ المذاهب الأربعةِ - وليس حديثي هنا عن مسألةِ انحصارِ الحقّ فيها - ويرتبطُ القولُ بانحصارِ الحقّ في المذاهب الأربعةِ بمسألةِ: (حكم التمذهبِ بمذهبِ مندثرٍ)؛ لأنَّ القائلَ بانحصارِ الحَقِّ فيها لا يَرَى حاجةً إلى الأخذِ بقولِ إمامِ مذهبِ مندثرٍ، فضلًا عن التمذهبِ بمذهبِه والتزامه.
يقولُ بدرُ الدّينِ الزركشي: "وقد وَقَعَ الاتفاقُ بين المسلمين على أن الحقَّ منحصرٌ في هذه المذاهب - أي: المذاهب الأربعة - وحينئذٍ، فلا يجوزُ العملُ بغيرِها"
(2)
.
(1)
انظر: نهاية المراد لعبد الغني النابلسي (ص/ 15).
(2)
البحر المحيط (6/ 209). وانظر: الإفصاح لابن هبيرة (2/ 343)، ورسالة الاجتهاد والتقليد لحمد بن معمر (ص/82).
وحكاية الاتفاق على انحصار الحق في المذاهب الأربعة محلَّ نظر؛ لوجود مَنْ قال بعدم انحصار الحق فيها، يقول تقي الدين بن تيمية في: منهاج السنة النبوية (3/ 412): "إنَّ أهل السنة لم يقلْ أحدٌ منهم: إنَّ إجماعَ الأئمة الأربعة حجةٌ معصومةٌ، ولا قال: إنَّ الحق منحصر فيها، وإنَّ ما خرج عنها باطل، بلْ إذا قال مَنْ ليس مِنْ أتباع الأئمة - كسفيان والأوزاعي والليث بن سعد ومَنْ قبلهم ومَنْ بعدهم من المجتهدين - قولًا يخالف قول الأئمة الأربعة: رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله".
وأنبه إلى أن أحمد الصاوي قال في: حاشيته على تفسير الجلالين (3/ 9) قولًا شنيعًا، وحاصله أنَّه لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قولَ الصحابي والحديثَ الصحيح والآيةَ! فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل! وربما أداه إلى الكفر؛ لأنَّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر!
وقد ردّ على الصاوي قوله الشنيع ودعواه الباطلة الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي في: أضواء البيان (7/ 467 - 476)، والشيخ أحمدُ آل بوطامي في: تنزيه السنة والقرآن (ص/ 171 - 183).
ويقولُ الحافظ ابنُ رجبٍ مستدلًا على لزومِ حصرِ الناسِ في المذاهبِ الأربعةِ: "فإنَّ قالَ أحمق متكلِّفٌ: كيفَ يُحصرُ الناسُ في أقوال علماء مُعَينِين
(1)
، ويُمْنَعُ مِن الاجتهادِ أو مِنْ تقليدِ غيرِ أولئك مِنْ أئمةِ الدَّينِ؟
قيلَ له: كما جَمَعَ الصحابةُ رضي الله عنهم الناسَ على حرفٍ واحدٍ مِنْ حروفِ القرآنِ، ومنعوا الناسَ مِن القراءةِ بغيرِه في سائرِ البلدانِ؛ لمَّا رأوا أن المصلحةَ لا تتمُّ إلا بذلك، وأنَّ الناسَ إذا تُرِكوا يقرؤون على حروفٍ شتّى وقعوا في أعظمِ المهالكِ"
(2)
.
وقد بيّن شمسُ الدّينِ الذهبي شأنَ اتفاقِ أئمةِ المذاهبِ الأربعةِ على حُكمٍ، فقالَ:"لا يكادُ يُوجدُ الحقُّ فيما اتفق أئمةُ الاجتهادِ الأربعةِ على خلافِه، مع اعترافنا بأنَّ اتفاقَهم على مسألةٍ لا يكون إجماعَ الأمةِ، ونهابُ أنْ نجزمَ في مسألةٍ اتفقوا عليها بأنَّ الحقَّ في خلافِها"
(3)
.
تاسعًا: يُفهمُ مِنْ كلامِ العلماءِ آنف الذِّكرِ أنَّ تركَ التمذهبِ بمذهبٍ مندثرٍ؛ لأمرين:
الأمر الأول: أن المذهبَ المندثرَ لم يُحَرّرْ ولم يُهَذبْ ولم يُنَقحْ.
الأمر الثاني: أن القولَ الراجحَ في الغالبِ لا يَعْدو المذاهبَ الأربعةَ.
في ضوءِ ما سَبَقَ، فالأَوْلى عدمُ التمذهب بمذهبٍ مندثرٍ؛ وأنَّ المرءَ إذا أرادَ أنْ يتمذهبَ بمذهبٍ فقهي، فالأَولىَ له أنْ يختارَ أحدَ المذاهب الأربعةِ؛ لتوافر العلماءِ على خدمتِها، بحيثُ يصبحُ المتمذهبُ بأحدِها على بصيرةٍ مِنْ أمرِ مذهبِه في الأصولِ والفروعِ.
(1)
في المطبوع من: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (ص/ 30): "متعينين"، وأثبت ما في نسخة أخرى كما في حاشية الكتاب.
(2)
المصدر السابق.
(3)
سير أعلام النبلاء (7/ 117).
القسم الثاني: التمذهب بالمذهب الظاهري.
يعدُّ بعضُ الباحثين المذهبَ الظاهري مِن المذاهبِ المندثرةِ
(1)
، فقدْ كانَ موجودًا في القرنين: الثالثِ والرابع الهجريين، بلْ كان رابعَ المذاهب الأربعة في المشرقِ حتى حلَّ محلَّه المذهبُ الحنبلي
(2)
، وقد استمرَّ المذهبُ الظاهري في المشرقِ إلى منتصفِ القرنِ الخامسِ الهجري تقريبًا
(3)
.
وازدهرَ آخر القرنِ السادسِ الهجري، وأول القرنِ السابع الهجري في شمالِ إفريقيا
(4)
، ثمَّ بَدَأَ بالاضمحلالِ
(5)
، وانقرضَ في القرنِ الثامنِ الهجري تقريبًا
(6)
.
(1)
انظر: تاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 267)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 167)، والشريعة الإسلامية له (ص/ 221)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور محمد مدكور (ص/ 163)، والمذاهب الفقهية للدكتور محمد فوزي (ص/ 190)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور محمد موسى (ص/ 181)، والمدخل لدراسة الشريعة للدكتور عبد الكريم زيدان (ص/ 149)، والمدخل لدراسة الفقه لمحمد محجوبي (ص/ 213)، والمدخل للشريعة الإسلامية للدكتور أحمد الشافعي (ص/ 154)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور إبراهيم إبراهيم (ص/ 123)، والمدخل إلى الفقه للدكتور محمود الطنطاوي (ص/ 237).
(2)
انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ 535)، وابن حزم - حياته وعصره له (ص/ 231)، ومناهج الاجتهاد للدكتور محمد مدكور (ص/ 702)، والمدخل للفقه الإسلامي له (ص/ 161)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور حسن الشاذلي (ص/ 422)، والمدخل لدراسة الفقه لمحمد محجوبي (ص/ 216).
(3)
انظر: تاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 268)، والتشريع الإسلامي للدكتور عمر الجيدي (ص/ 76)، والمدرسة الظاهرية للدكتور أحمد بكير (ص/ 66)، والمدخل إلى التشريع الإسلامي للدكتور كامل موسى (ص/ 164).
(4)
انظر: ابن حزم - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 446).
(5)
انظر: تاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 268)، والمدرسة الظاهرية للدكتور أحمد بكير (ص/ 66)، والمدخل إلى التشريع الإسلامي للدكتور كامل موسى (ص/ 164).
(6)
انظر: التشريع الإسلامي للدكتور عمر الجيدي (ص/ 76)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 167)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور محمد شلبي (ص/ 206)، والمدخل إلى الفقه للدكتور محمود الطنطاوي (ص/ 238).
ويقولُ أبو محمدٍ القرشي الحنفي (ت: 775 هـ)
(1)
عن داودَ الظاهري: "له أصحابٌ ينتحلونَ مذهبَه خَلَفًا عن سلفٍ إلى يومِنا هذا"
(2)
.
ويقولُ ابنُ خَلدون (ت: 808 هـ): "دَرَسَ مذهبُ أهلِ الظاهرِ اليومَ بدروسِ أئمتِه وإنكارِ الجمهورِ على منتحلِه، ولم يبقَ إلا في الكتبِ المجلّدةِ، ورُبَّما يعكفُ كثيرٌ مِن الطالبين - ممَّنْ تكلّفُ بانتحالِ مذهبِهم - على تلك الكتب، يَرُومُ أخذَ فِقْهِهم منها ومذهبهم، فلا يحلو بطائلٍ! ويصيرُ إلى مخالفةِ الجَمهورِ، وإنكارِهم عليه"
(3)
.
وقد أثنى شمسُ الدّينِ الذهبي على مذهب داود الظاهري، فقالَ:"لا بأسَ بمذهب داود، وفيه أقوالٌ حسنةٌ، ومتابعةٌ للنصوصِ، مع أن جماعةً مِن العلماءِ لَا يعْتَدّون بخلافِه"
(4)
.
(1)
هو: عبد القادر بن محمد بن محمد بن نصر الله بن سالم بن أبي الوفاء، أبو محمد محيي الدين القرشي، ولد سنة 696 هـ سمع وهو كبير، كان عالما حنفيًا فاضلًا جامعًا للعلوم، لازم الاشتغال بالفقه، فبرع فيه، تولى التدريس والإفتاء، من مؤلفاته: العناية في تخريج أحاديث الهداية، وشرح معاني الآثار، والجواهر المضية في طبقات الحنفية، والبستان في فضائل النعمان، وترتيب تهذيب الأسماء واللغات للنووي، توفي سنة 775 هـ. انظر ترجمته في: إنباء الغمر لابن حجر (1/ 86)، والدرر الكامنة له (2/ 392)، وتاج التراجم لقطلوبغا (ص/ 196)، والطبقات السنية للغزي (4/ 366)، وشذرات الذهب لابن العماد (8/ 409)، والفوائد البهية للكنوي (ص/ 128).
(2)
الجواهر المضية (4/ 547).
(3)
مقدمة ابن خلدون (3/ 1047 - 1048).
(4)
سير أعلام النبلاء (8/ 92).
ونقل ابن حجر في: الدرر الكامنة (4/ 304) عن أبي حيان الأندلسي قوله: "محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه".
وقد علق الشوكاني (ت: 1250 هـ) على كلام أبي حيان في: البدر الطالع (ص/ 808)، فقال: "ولقد صدق في مقاله؛ فمذهب الظاهر أول الفكر آخر العمل عند من مُنح الإنصاف، ولم يرد على فطرته ما يغيرها عن أصلها، وليس هو مذهب داود الظاهري وأتباعه فقط، بل هو مذهب أكابر العلماء المتقيدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن، وداود واحد منهم، وإنما اشتهر عنه الجمود في مسائل وقف فيها على الظاهر، حيث لا ينبغي الوقوف، وأهمل من أنواع القياس ما لا ينبغي لمنصفٍ إهماله. وبالجملة فمذهب الظاهر هو العمل بظاهر الكتاب والسنة بجميع الدلالات، وطرح التعويل على محض الرأي الذي لا يرجع =
ومع كلِّ ما سَبَقَ، فإنّي لم أجعل المذهبَ الظاهري ضَمنَ القسمِ الأول؛ وذلك للأسبابِ الآتية:
السبب الأول: انفرادُ المذهبِ الظاهري بتدوينِ فروعِه، وتدوينِ أصولِه على وجه الخصوصِ في وقتِ مبكرٍ، الأمر الذي ميّزَ المذهبَ الظاهري عن سائرِ المذاهب المندثرةِ بأصولِه وفروعِه المدونةِ.
وقد كان هذا التدوين على يدِ الإمامِ ابنِ حزمٍ، إذ ألَّفَ عددًا مِن الكتب الأصوليةِ
(1)
: كـ (الإحكامِ في أصولِ الأحكامِ)، و (النبذِ في أصولِ فقهِ الظاهرية)، و (الصاح في الردِّ على مَنْ قال بالقياسِ)
(2)
، وكذلك ألَّفَ في فروعِ الظاهريةِ، كـ (المحلى)، وقد كان تطبيقُ أصولِ المذهبِ على فروعِه ظاهرًا
(3)
.
ولا يخفى ما لتدوينِ أصولِ المذهبِ وفروعِه مِنْ أثرٍ في بقاءِ أقوالِه على مرِّ العصورِ
(4)
.
السبب الثاني: انفرادُ المذهبِ الظاهري عن سائرِ المذاهبِ بآراء
= إليهما بوجه من الوجوه، وأنت إذا أمعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة، وجدتها من مذهب الظاهر بعينه، بل إذا رزقت الإنصاف وعرفت العلوم الاجتهادية كما ينبغي، ونظرت في علوم الكتاب والسنة حق النظر: كنت ظاهريًا! أي: عاملًا بظاهر الشرع منسوبًا إليه لا إلى داود الظاهري، فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقة، وهذه النسبة هي مساوية للنسبة إلى الإيمان والإسلام وإلى خاتم الرسل عليه أفضل الصلوات والتسليم
…
". وأنبه إلى أمرين: أولهما: في النص السابق أخطاء وزيادات فيه أصلحتها من فروقات النسخ الواردة في طبعة دار ابن كثير.
ثانيهما: فيما قاله الشوكاني في كلامه السابق ما يحتاج إلى دراسة مستقلة عن المذهب الظاهري، لينظر فيما ادعاه أيطابق واقع أكابر العلماء من عهد الصحابة إلى وقته؛ وإن كان يغلب على ظني بُعدما قاله.
(1)
انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ 578).
(2)
وكلها مطبوعة.
(3)
انظر: المدخل لدراسة الفقه لمحمد محجوبي (ص/ 214)
(4)
انظر: المدخل للفقه الإسلامي للدكتور محمد مدكور (ص/ 161).
أصوليةٍ، كقولِهم: بالأخذِ بظواهرِ النصوصِ، وعدمِ مشروعيةِ القياسِ
(1)
.
السبب الثالث: وجود أفرادٍ قليلين في العصر الحديثِ ينتحلون المذهبَ الظاهري
(2)
.
ويمكن بيان حكم التهذهب بالمذهب الظاهري في ضوء الآتي:
أولًا: للتمذهبِ بالمذهبِ الظاهري صورتانِ:
الصورة الأولى: التزامُ أقوالِ الظاهريةِ: الأصولية والفروعية، وعدمُ الخروجِ عنها في الجملةِ، وقد يصحبُ الالتزامَ معرفة الدليلِ في بعضِ المسائلِ.
وهذه الصورة مِن الالتزامِ لا تُقرّها أصولُ المذهبِ الظاهري، ولا يجوّزها أئمتُه، ويكون الملتزمُ بالمذهبِ الظاهري في هذه الحالةِ مرتكبًا لما نهاه عنه أئمةُ مذهبِه، ومناقضًا لأصلٍ مِنْ أصولِه، وهو منعُ التزامِ أقوال مذهبٍ بعينِه.
يقولُ ابنُ حزمٍ: "أمَّا أصحابُ الظاهر، فهم أبعدُ الناسِ مِن التقليدِ، فمَنْ قلّدَ أحدًا ممنْ يدّعي أنَّه منهم، فليسَ منهم! ولم يُعْصمْ أحدٌ مِن الخطأِ"
(3)
.
(1)
انظر: المدرسة الظاهرية للدكتور أحمد بكير (ص/ 22 وما بعدها).
(2)
انظر: تاريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ 285). ومن الظاهرية المعاصرين: أبو تراب الظاهري، وأبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، ومحمد شويل، ومحمد المنتصر الكتاني، وسعيد الأفغاني. انظر: ابن حزم خلال ألف عام لابن عقيل الظاهري (1/ 153)، وتحرير بعض المسائل على مذهب الأصحاب له (ص/ 104)، والمدرسة الظاهرية للدكتور توفيق الإدريسي (ص/ 913 وما بعدها).
(3)
الإحكام في أصول الأحكام (2/ 120). ويقول أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في كتابه: ظاهري بالفطرة (ص/ 9) حاشية (2): "الانتساب إلى الظاهرية - أو أهل الظاهر - تقليد؛ لأنه انتساب إلى إمام بعينه
…
والانتساب إلى الظاهر العقلي واللغوي المأخوذ من خطاب الشرع انتساب إلى أصول معيارية يُقِرُّها العقل الإنساني المشترك، فيوزن بها كل مذهب". وانظر: تاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 345).
وإنْ كانَ ظاهرُ حالِ من يلتزمُ المذهبَ الظاهري، أنَّه ظاهري؛ إلا أن أصولَ المذهبِ تردُّ نسبته إليهم.
الصورة الثانية: التزامُ أصولِ المذهب الظاهري - وأهمّها القولُ بالظاهرِ، وعدم تعليلِ نصوصِ الكتاب والسنةِ، ونفي القياسِ - مَعَ القناعةِ برجحانها عن حُجَّةٍ وبرهانٍ، ثمّ تطبيقَ هذه الأصول على الفروعِ الفقهيةِ، سواءٌ أوافقَ علماء المذهبِ الظاهري، أم خالفَهم.
وهذه الصورة هي التي يُسمّى صاحبُها ظاهريًا، وما سأذكرُه في النقاطِ الآتيةِ منصبٌ على الصورةِ الثانيةِ.
ثانيًا: إنْ كانَ سببُ الأخذِ بالمذهب الظاهري هو النظرُ والاجتهادُ والقناعةُ به، فلا ملامةَ في هذه الحالِ؛ لأنَّ الواجبَ أنْ يتبعَ العالمُ ما ترجّحَ عنده.
ثالثًا: جاءَ عن بعضِ الظاهريةِ أقوالٌ شنيعة في بعضِ المسائلِ الفقهيةِ نفرَّت العلماءَ عن مذهبِهم
(1)
، بلْ نقل القاضي عياضٌ عن بعضِ العلماءِ أن مذهبَ داود بدعةٌ ظَهَرَتْ بعدَ المائتين!
(2)
.
وأيًّا كان الدافعُ لهذا القولِ، إلا أنَّ فيه محاربةً قويةً للمذهبِ الظاهري.
وقد نَقَلَ ابنُ حجر
(3)
(1)
انظر: العواصم من القواصم لابن العربي (ص/ 257 وما بعدها)، وتاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة (ص/ 530، 532).
(2)
انظر: المعيار المعرب للونشريسي (2/ 491). وقد يكون سبب وصف داوود الظاهري بالبدعة ما جاء عنه مِنْ قولِه: "إن لفظي بالقرآن مخلوق". انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 410)، وميزان الاعتدال للذهبي (2/ 14)، وسير أعلام النبلاء (13/ 100)، ولسان الميزان لابن حجر (3/ 406).
(3)
هو: أحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين، المعروف بابن حجر، ولد بمصر سنة 773 هـ كان علامةً إمامًا في علم الحديث، وأحد كبار =
عن ابنِ أبي حاتمٍ الرازي
(1)
قولَه عن داودَ إمامِ الظاهريةِ: "نَفَى القياسَ، وألَّف في الفقهِ على ذلك كتبًا شَذَّ فيها عن السلفِ، وابتدعَ طريقةً هَجَرَه أكثرُ أهلِ العلمِ عليها
…
رأيُه أضعفُ الآراءِ، وأبعدُها عن طريقِ الفقهِ، وأكثرها شذوذًا"
(2)
.
ويقولُ تقيُّ الدّينِ بنُ تيمية عن ابنِ حزمِ: "وأبو محمد مع كثرةِ علمِه وتبحّرِه، وما يأتي به من الفوائدِ العظيمةِ، له مِن الأقوالِ المنكرةِ الشاذّةِ ما يعجبُ منه، كما يعجب ممَّا يأتي به من الأقوالِ الحسنةِ الفائقةِ"
(3)
.
رابعًا: كل مَنْ لا يرى جوازَ الخروجِ عن المذاهبِ الأربعةِ، وأنَّ الحق منحصرٌ فيها، فإنَّه لا يجوّزُ التمذهبَ بالمذهبِ الظاهري.
خامسًا: جاءَ عن بعضِ العلماءِ النصُّ على عدمِ الاعتدادِ بخلافِ
= حفاظ زمانه، عالمًا بالرجال، بارعًا في الجرح والتعديل، وحامل لواء السنة النبوية، شافعي المذهب، وقد تولى القضاء والتدريس، وانتفع به الناس، وله مصنفات كثيرة مشهورة، من مؤلفاته: فتح الباري شرح صحيح البخاري، والتلخيص الحبير، وتهذيب التهذيب، ولسان الميزان، والإصابة في تمييز الصحابة، توفي سنة 852 هـ. انظر ترجمته في: الضوء اللامع للسخاوي (2/ 36)، ووجيز الكلام له (2/ 622)، والذيل على رفع الأصر له (ص/ 75)، ودرة الحجال لابن القاضي (1/ 64)، وشذرات الذهب لابن العماد (9/ 395)، والبدر الطالع للشوكاني (ص/ 103).
(1)
هو: عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الغطفاني التميمي، أبو محمد، ولد سنة 240 هـ وقيل: 241 هـ كان علامةً حافظًا ثقةً بحرًا لا تكدره الدلاء، بلغ الغاية في معرفة علل الحديث ورجاله، كساه الله نورًا وبهاءً، يَسُرُّ من نظر إليه، رحل في طلب الحديث إلى البلدان مع والده، من مؤلفاته: الجرح والتعديل، والرد على الجهمية، والتفسير، والعلل، والسنة، وآداب الشافعي ومناقبه، توفي بالري سنة 327 هـ.
انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (3/ 103)، وسير أعلام النبلاء (13/ 263)، وتذكر الحفاظ للذهبي (3/ 829)، وفوات الوفيات لابن شاكر (2/ 287)، والوافي بالوفيات للصفدي (18/ 228)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (3/ 324)، وطبقات الشافعية للإسنوي (1/ 416)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 105).
(2)
لسان الميزان (3/ 407). ولم أقف على كلام ابن أبي حاتمٍ في ترجمته لداود في: الجرح والتعديل (3/ 410).
(3)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (4/ 396).
المذهبِ الظاهري
(1)
، وفي هذا إشارةٌ إمَّا إلى عدمِ جوازِ التمذهبِ به، وإمَّا إلى أن الأَوْلى عدم التمذهبِ به.
سادسًا: لا أستطيعُ القول بمنعِ التمذهب بالمذهب الظاهري، ولا سيما لمَنْ كان على مذهب ما، ثمَّ انتقلَ إليه؛ لأنِّي لم أطَلع على مَنْ مَنَعَ صراحةً التمذهبَ به
(2)
، ولأنَّ الآخذَ بأصولِ الظاهريةِ أَخَذَها مع قناعتِه برجحانِها، ومَنْ أرادَ أنْ يحذرَ مِنْ أقوالِ المذهبِ الظاهري، فعليه البيانُ بالحجّةِ والبرهانِ.
ويؤكّدُ ما سَبَقَ: أنَّه على الرُّغم مِنْ أن المذهبَ الظاهري كان موجودًا عقودًا مِن الزمنِ، فإنَّه لم ينصَّ أحدٌ في عصرٍ متقدمٍ على مَنعِ التمذهبِ به.
يقولُ شمسُ الدّينِ الذهبي معلّقًا على قولِ إمامِ الحرمين الجويني لما قررَ عدمَ الاعتدادِ بالظاهريةِ، وألحقهم بالعوام:"وندري بالضرورةِ أنَّ داود كان يُقْرِئ مذهبَه، ويناظرُ عليه، ويفتي به في مثلِ بغدادَ، وكَثُرَ الأئمةُ بها وبغيرِها، فلم نَرَهم قاموا عليه، ولا أنكروا فتاويه، ولا تدريسه، ولا سَعَوْا في منعِه مِنْ بثِّه"
(3)
.
سابعًا: الأَوْلى بالشخصِ أنْ لا يتمذهبَ بالمذهبِ الظاهري؛ وذلك للأمرينِ الآتيينِ:
الأمر الأول: أنَّ مِنْ أصول الظاهريةِ القولَ بعدمِ مشروعيةِ القياسِ، وترك تعليلِ نصوصِ الكتابِ والسنةِ، وعدمِ الاحتجاجِ بالمصالحِ
(1)
انظر: الفصول في الأصول للجصاص (4/ 297)، وشرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 352)، والعواصم من القواصم لابن العربي (ص/ 257)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (1/ 543)، والتعيين في شرح الأربعين للطوفي (ص/ 44)، وطبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين بن السبكي (2/ 289)، والبحر المحيط (4/ 427).
(2)
الذي وقفت عليه منع أبي إسحاق الإسفراييني تولية الظاهرية القضاءَ بين الناس. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 104).
(3)
المصدر السابق (13/ 105).
والاستحسانِ وسدِّ الذرائعِ، وعدم الالتفاتِ إلى مقاصدِ الشارعِ، وترك العملِ بقواعدِ الشريعةِ العامةِ، ومنعِ جميعِ الشروط الجعلية في العقودِ إلا ما نصَّ الشارعُ على جوازِه
(1)
، الأمر الذي يوقعُ الظاهريَّ إذا أرادَ معالجة نازلةٍ مِن النوازل في حرجٍ وضيقٍ شديدين.
إضافةً إلى أن عدمَ اعتمادِ المذهب الظاهري على الأدلةِ الاجتهاديةِ سَلَبَ فقهَه المرونةَ والقابليةَ للتطورِ
(2)
.
يقول شمسُ الدينِ بن القيّم عن ابنِ حزمٍ وأصحابِه: "لكنْ أبو محمدٍ وأصحابُه سدوا على نفوسِهم بابَ اعتبارِ المعاني والحِكَمِ التي علَّقَ بها الشارعُ الحُكمَ، ففاتهم بذلك حظٌّ عظيمٌ مِن العلمِ
…
"
(3)
.
الأمر الثاني: أن الظاهريةَ مخطئون فيما انفردوا به عنْ سائر علماء الأمةِ مِن أقوال.
يقولُ تقيُّ الدين بن تيمية: "كذلك أهل الظاهر، كلُّ قولٍ انفردوا به عن سائر الأمة، فهو خَطأٌ"
(4)
وما قاله تقيُّ الدّين بن تيمية وإنْ كان صادقًا على كل المذاهبِ - بلْ إنَّه نصَّ قبلَ كلامِه السابق على أنَّ ما انفرد به أيُّ مذهب عن سائر علماء الأمة، فهو خطأٌ
(5)
- إلا أنَّ انفرادَ الظاهريةِ عن سائرِ العلماءِ الأمةِ أكثرُ مِنْ غيرِهم مِن المذاهبِ، وفي مسائل ليستْ بالقليلةِ.
القسم الثالث: التمذهب بمذهب فقهي لإحدى الفرق المبتدعة.
وُجِدَ في بعضِ الفرقِ المخالفةِ لأهلِ السنةِ والجماعةِ اهتمامٌ بالفقهِ وأصولِه، فكان لها إضافةً إلى آرائِها العقدية آراء فقهيةٌ وأصوليةٌ.
(1)
انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ 567 - 569، 575)، والعلم لمحمد العثيمين (ص/ 191)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور محمد موسى (ص/ 181).
(2)
انظر: المدخل لدراسة الفقه للدكتور إبراهيم إبراهيم (ص/ 123).
(3)
الطرق الحكمية (1/ 323).
(4)
منهاج السنة النبوية (5/ 178).
(5)
انظر: المصدر السابق.
فهناك مذهبُ الإمامية
(1)
، ومذهبُ الزيدية، ومذهبُ الإباضية
(2)
، وغيرها من المذاهبِ المخالفةِ لأهل السنة والجماعةِ.
تختلفُ هذه المذاهب في مدى توغلِ البدعةِ في معتقداتِها، فقد تصلُ البدعةُ في بعضِ الفرقِ إلى الكفرِ والخروجِ مِن الملةِ.
وأيضًا: تختلفُ هذه المذاهب في مدى قربِها مِن المذاهبِ السنيةِ أصولًا وفروعًا.
وسأبيّنُ الحكمَ في النقاطِ الآتيةِ، دونَ تعرضٍ إلى مذهبٍ بعينِه إلا في
(1)
الإمامية: إحدى فرق الشيعة، ومن رجالها: عبد الله بن عمرو بن حرب، وبيان بن سمعان، ويقولون بإمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنص المعيِّن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نصَّ على استخلاف علي باسمه، وأظهره وأعلنه، وقد وقعوا في كبار الصحابة إما بالطعن والتكفير، وإما بالظلم والعدوان، واتفقوا على سَوْقِ الإمامة إلى جعفر بن محمد الصادق، واختلفوا في المنصوص عليه بعده؛ إذ كان له خمسة أولاد، يقول عنهم أبو الفتح الشهرستاني:"وكانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لما اختلفت الرواية عن أئمتهم، وتمادى الزمان، اختارت كل فرقةٍ منهم طريقة، فصارت الإمامية بعضها معتزلة، إما وعيدية: وإما تفضيلية، وبعضها إخبارية: إما مشبهة، وإما سلفية"، والإمامية فرق متعددة، منها: القطعية، والكيسانية، والحربية. انظر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (1/ 88)، والفردق بين الفرق للبغدادي (ص/ 60)، والفصل في الملل والأهواء لابن حزم (4/ 181)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 324)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 85)، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب (1/ 51).
(2)
الإباضية: إحدى فرق الخوارج، وتنسب إلى مؤسسها عبد الله بن إباض التميمي، الذي خرج في أيام مروان بن محمد، ومن رجال الإباضية: أبو عبيدة مسلمة بن أبي كريمة، والربيع بن حبيب الفراهيدي، والحارث بن تليد، وسلمة بن سعد، ومن آراء الإباضية: إنكار رؤية الله في الآخرة، وتعطيل الله تعالى عن صفاته، والقول بخلق القرآن، وأن مخالفهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناحكتهم جائزة، وموارثتهم حلال، وقالوا: إن دار مخالفينا من الأهل الإسلام دار توحيد، إلا معسكر السلطان، فإنه دار بغي، ومرتكب الكبيرة موحد لا مؤمن، وأفعال العباد مخلوقة لله إحداثًا ابداعًا، ومكتسبة للعبد حقيقة لا مجازًا، وقالوا: إنَّ المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا موحدين، إلا أنهم ارتكبوا كبائر، فكفروا بالكبيرة، لا بالشرك، وللإباضية فرق، منها: الحفصية، والحارثية. انظر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (1/ 183)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 244)، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب (1/ 58).
القليل؛ لأنَّ تعيينَ مذهبٍ بعينِه تستلزمُ دراسةَ أقوالِه العقدية، وأصولِه الفقهية، وهذا خارجٌ عن بحثي:
أولًا: مَنْ مَنَعَ التمذهبَ بأحدِ المذاهب الفقهيةِ الأربعة، فإنَّه يمنعُ التمذهبَ بمذهبٍ فقهي للفرق المبتدعة؛ لأنَّ الأدلةَ التي استدلوا بها تعمُّ التمذهبَ بأيِّ مذهب دون استثناءٍ
(1)
.
ثانيًا: كلُّ مَنْ لا يجوّز التمذهبَ بغيرِ المذاهبِ الفقهيةِ الأربعة - إمَّا لأنَّ الحق لا يعدوها، وإمَّا لأن أئمة المذاهب الأربعة هم الذين حفظوا فقه الصحابة، دون غيرِهم
(2)
- فإنَّه لا يجوّزُ التمذهبَ بالمذاهبِ الفقهيةِ لفرقِ المبتدعةِ.
ثالثًا: يمكنُ تقسيمُ المذاهبِ في القسم الثالث قسمين:
القسم الأول: مذاهب واقعة في بدعة مكفرة.
القسم الثاني: مذاهب واقعة في بدعة مفسقة غير مكفرة.
القسم الأول: مذاهب واقعة في بدعة مكفرة.
لا يجوزُ التمذهبُ بمذهبٍ يقرّرُ بدعة مكفرة، والقولُ بعدمِ الجوازِ أمرٌ بدهي؛ لخروجِها عن دائرةِ الإسلامِ، ولانتفاءِ وصفِ الأمةِ المسلمةِ عنها
(3)
.
(1)
لا أدري ما إذا كان الأمير الصنعاني ومحمد الشوكاني سيجوزان التمذهب بالمذهب الزيدي على وجه الخصوص - دون موافقتهما لممارسة متمذهبي الزيدية - لأن من أصول المذهب الدعوة إلى الاجتهاد، والتنفير من التقليد.
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص / 162 - 163)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 55)، وصفة الفتوى (ص/72 - 73)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (20/ 584)، والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي (ص/ 527)، والرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب (ص/ 34)، ونهاية المراد لعبد الغني النابلسي (ص/ 15)، ونشر البنود (2/ 352)، ومراقي السعود إلى مراقي السعود (ص/ 463)، ومختصر الفوائد المكية للسقاف (ص/ 38)، ونثر الورود للشنفيطي (2/ 687).
(3)
انظر: البحر "المحيط (4/ 467)، فقد قرر الزركشيُّ أن المجتهد المبتاع إذا كُفِّر ببدعته، فإنه لا يعتد بقوله في الإجماع بلا خلاف.
القسم الثاني: مذاهب واقعة في بدعة مفسقة غير مكفرة.
أصحابُ هذا القسمِ متفاوتون، وهم على مراتب عدة، وذلك بالنظرِ إلى درجةِ البدعِ التي يعتقدونها، ويمكنُ جعل أربابِ هذا القسم على نوعين:
النوع الأول: مذاهب تدعو إلى البقاءِ على أقوالِها، وتحرّمُ الأخذَ بمذاهبِ أهلِ السنةِ، بل تكفرهم! وتعطي أئمتها حقَّ التحليلِ والتحريمِ، وتصفُهم بالعصمةِ
(1)
.
هذا النوعُ من المذاهب يحرمُ التمذهبُ به؛ لأنَّه مذهبٌ صادٌّ عن الحقِّ، موغلٌ في الباطلِ، وعلَى المتمذهبِ به ترك مذهبه جملةً وتفصيلًا.
النوع الثاني: مذاهبُ لا تدعو إلى البقاءِ على أقوالِها، ولا تحرِّمُ الأخذَ بمذاهبِ أهلِ السنةِ.
وما سيأتي مِن كلام في بيانِ حكمِ التمذهبِ منصبٌّ على النوع الثاني.
رابعًا: إذا كانَ الشخصُ ناشئًا في بيئةٍ يغلبُ عليها مذهبٌ مِن المذاهبِ المنحرفةِ، وكان مِن أصولِها الدعوةُ إلى الاجتهادِ، ونبذُ الجمودِ المذهبي
(2)
- وبدعةُ المذهبِ في مجال الاعتقادِ ليستْ بالشديدةِ -: فإن كانَ بمقدور المتمذهب معرفةُ الراجحِ بالنظرِ في الأقوالِ وأدلتِها، فله في هذه الحالةِ البقاءُ على انتسابِه إلى مذهبِه الفقهي، إنْ رأى مصلحةً في هذا - ولا بُدَّ مِن تركِ مذهبِه العقدي، وما يُبنى عليه - لكنَّه يتبعُ الراجحَ والصوابَ في الفقه والأصول، ويسعى في الردِّ على ما في مذهبِه مِن أقوال مرجوحةٍ
(3)
.
(1)
انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية (1/ 57)، و (6/ 430)، ومسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة للدكتور ناصر القفاري (1/ 254)، وأصول مذهب الشيعة له (2/ 587، 905)، والفكر التكفيري عند الشيعة لعبد الملك الشافعي (ص/ 19 - 45).
(2)
انظر: الزيدية لإسماعيل الأكوع (ص/ 45).
(3)
انظر: العلم الشامخ للمقبلي (ص/ 12)، واختلاف المفتين للدكتور حاتم العوني (ص/ 221).
أمَّا إنْ كان المتمذهبُ غيرَ متأهلٍ لمعرفةِ الراجح، فعليه ترك مذهبه بالكليةِ.
خامسًا: لو أرادَ شخصٌ أنْ يتمذهبَ بمذهب فقهي لإحدى الفرقِ المبتدعةِ، فلتمذهبِه صورتان:
الصورة الأولى: أنْ يأخذَ بالمذهبِ، بحيثُ يعتقدُ ما يعتده أربابُ المذاهبِ من البدعة.
فهذا لا ريبَ في منعِه وتحريمِه.
الصورة الثاني: أنْ يأخذَ بالمذهب، وهو تاركٌ لاعتقاداتِهم، ويكتفي بالفقهِ وأصولِه.
وسأبيّن حكم هذه الصورة بعد قليلٍ.
سادسًا: لم أقفْ - فيما رجعتُ إليه من مصادر - على من نصَّ على حكمِ التمذهب بالمذاهب الفقهيةِ لفرق المبتدعةِ؛ ولعل السبب في عدم اهتمامِ العلماءَ ببيانِ حكمَ التمذهبِ بها هو أن اهتمامَهم منصب على الردِّ على عقائدِهم المنحرفةِ، وفي هذا غُنْيَةٌ عن الحديثِ عن حكمِ التمذهب بمذاهبِهم الفقهيةِ؛ لأنَّه إذا بَطَلَتْ آراءُ المذهبِ العقديةِ، فبطلانُ الفقَهِ وأصولِه تبعٌ.
سابعًا: أنبّه إلى أمير مهمٍ، وهو أنَّه قد يُفْهَم مِنْ صنيعِ بعضِ المتأخرين الذي دعو إلى التقريبِ بين أهلِ السنةِ والشيعةِ، إقرارهم جوازَ التمذهبِ بمذاهبِهم
(1)
.
ثامنًا: الذي يترجح عندي في الصورة الثانية هو المنعُ وعدمُ الجوازِ؛ وذلك للآتي:
(1)
لمعرفة بعض الداعين إلى التقريب بين أهل السنة والشيعة، انظر: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة للدكتور ناصر القفاري (2/ 135 - 199)، والتقريب بين أهل السنة والشيعة للدكتور أحمد علي (ص / 101 - 113)
الأول: أنَّ في الأخذِ بالمذهب الفقهي لفرق المبتدعةِ - حتى لو فُرِضَ أنَّ الشخصَ يدّعي اتباعَ الراجحِ وترَكَ المرجوحِ، ومخالفتهم في الاعتقادِ - تكثيرًا لسوادِ المذهبِ البدعي؛ وفي هذا مِنْ المفسدةِ ما لا يخفى على ذي لُبّ.
الثاني: أن هناك مسائلَ أصولية مبنية على مسائل عقدية، قد يغفلُ عنها المتمذهبُ، فيقعُ في مأخذٍ عقدي مِنْ حيثُ لا يشعرُ.
إضافةً إلى كثرةِ وجودِ البدعِ العمليةِ لدى هذه المذاهبِ.
الثالث: قررَ جمعٌ من الأصوليين عدمَ الاعتدادِ بخلافِ المجتهدِ المبتدعِ
(1)
، وفي عدمِ الاعتدادِ بقولِه إشارةٌ إلى ضعفِ أقوالِه.
الرابع: أن محققي المذاهب الأربعة المشهورة لا يكادون يذكرونَ الأقوالَ الفقهيةَ والأصوليةَ لمذاهب أهلِ الأهواءِ، وإنْ ذُكِرَتْ، فعلى سبيلِ التنبيه، أو للردِّ عليها، فأقوالهم وَخلافُهم من بابِ الخلافِ الذي لا يُلتفتُ إليه.
يقولُ الخطيبُ البغدادي: "أمَّا الرافضةُ الذين يشتمونَ الصحابةَ، ويسبون السلفَ الصالحَ، فإنَّ فتاويهم مرذولةٌ، وأقاويلهم غيرُ مقبولةٍ"
(2)
.
ويقولُ شمسُ الدين الذهبي: "كالشيعةِ في الفروع، لا نَلْتَفِتُ إلى أقوالِهم، ولا ننصبُ معهم الخلافَ، ولا يُعتنى بتحصيلِ كتبِهم، ولا ندُلُّ مستفتيًا مِن العامةِ عليهم، وإذا تظاهروا بمسألةٍ معلومةٍ البطلانِ، كمسحِ الرجلين، أدَّبْنَاهم وعزرناهم، وألزمناهم بالغَسلِ جزمًا"
(3)
.
(1)
انظر: الفصول في الأصول للجصاص (3/ 293)، والعدة (4/ 1139 وما بعدها)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 252 وما بعدها)، والبحر المحيط (4/ 468)، والتحبير (4/ 1558 وما بعدها)، وتيسير التحرير (3/ 293).
(2)
الفقيه والمتفقه (2/ 333).
(3)
سير أعلام النبلاء (13/ 104 - 105).
ويقولُ أبو إسحاقَ الشاطبي: "إنَّ كلَّ خلافٍ واقعٍ لا يستمر أنْ يُعَدّ في الخلافِ؛ لما تقدم من أن الفرقَ الخارجة عن السنةِ حين لم تجمعْ بين أطرافِ الأدلةِ، تشابهتْ عليها المآخذُ، فضلّتْ، وما ضلّتْ إلا وهي غيرُ معتبرةِ القولِ فيما ضلّتْ فيه، فخلافُها لا يُعَدُّ خلافًا، وهكذا ما جَرَى مجراها في الخروجِ عن الجادّةِ"
(1)
.
الخامس: دعوى اتصالِ فقهِ هذه المذاهبِ بالسلفِ، واتباعهم لإمامٍ من أئمةِ السلفِ، دعوى مردودة.
فمثلًا: يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية عن المذهبِ الرافضي: "مبنى مذهبِ القومِ على الجهلِ والكذبِ والهوى، وهم وإنْ كانوا يدّعون اتِّباع الأئمةِ الاثنى عشر في الشرائعِ"
(2)
.
ويقولُ أيضًا عنهم: "وقد اتفقَ عقلاءُ المسلمين على أنَّه ليس في طائفةٍ مِنْ طوائف أهلِ القِبلةِ أكثرُ جهلًا وضلالًا وكذبًا وبِدَعًا، وأقربُ إلى كلِّ شرٍّ، وأبعد عن كلِّ خيرٍ مِن طائفتِه"
(3)
، يعني: طائفةَ ابن مطهر الحلي
(4)
، وهي: الرافضة.
(1)
الموافقات (3/ 320).
(2)
منهاج السنة النبوية (2/ 243). وقد نبه محقق الكتاب في الحاشية رقم (6) على أن تقي الدين لم يذكر جواب الشرط في كلامه، وبيّن معناه بناء على سياق الكلام بـ:"أن القوم مع دعواهم اتباع أئمة أهل البيت قد اختلفوا عليهم وافتروا ما لم يقولوا به".
(3)
المصدر السابق (2/ 607)، وانظر منه:(7/ 415 - 416).
(4)
هو: حسن - وقيل: حسين - بن يوسف بن مطهر الحلي العراقي، أبو منصور جمال الدين، ولد سنة 648 هـ كان شيخ الروافض في العراق، لزم نصير الدين الطوسي، واشتغل في العلوم العقلية، فبرع فيها، له مصنفات كثيرة، منها: نظم البراهين في أصول الدين، وتلخيص المرام في معرفة الأحكام، ومنهاج الهداية في علم الكلام، والاستقامة في إثبات الإمامة - وقد رد عليه تقي الدين بن تيمية في كتابه: منهاج السنة النبوية - وشرح مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه - وقال عنه ابن كثير: "وليس بذاك الفائق" - توفي سنة 726 هـ. انظر ترجمته في: البداية والنهاية (18/ 271)، والدرر الكامنة لابن حجر (2/ 71)، والدليل الشافي لابن تغري بردي (1/ 277)، والأعلام للزركلي (2/ 244)، والفتح المبين للمراغي (2/ 132).
ويقولُ الشيخُ علوي السقاف عن المذهب الزيدي: "إنَّما ارتفعت الثقةُ بمذهبِه - أي: مذهب الإمام زيد بن علي
(1)
- لعدمِ اعتناءِ أصحابِه بالأسانيد، فلم يُؤْمَنْ على مذهبِه التحريفُ والتبديلُ ونسبةُ ما لم يقلْه إليه"
(2)
.
ففي القائمين على خدمةِ المذهب مَنْ رُمِي بالكذب والوضعِ
(3)
فكيفَ تحصلُ الثقةُ بمذاهبِهم؟ !
ويقولُ الشيخ محمد أبو زهرة: "لا نستطيعُ أنْ نقول: إنَّ كلَّ ما نُسِبَ إلى الإمامِ جعفر الصادق
(4)
(1)
هو: زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أبو الحسين الهاشمي العلوي المدني، روى عن أبيه زين العابدين، وأخيه الباقر، وأبان بن عثمان، رأى جماعةً من الصحابة رضي الله عنهم، كان ذا علم وجلالة وصلاح، يقول شمس الدين الذهبي:"هَفَا، وخَرَجَ، فاستُشهد"، إلى أن قال:"خرج متأولًا، وقُتل شهيدًا، وليته لم يخرج! "، جاءت إليه الرافضة، فقالوا: تبرأْ من أبي بكر وعمر؛ حتى ننصرك، فقال: بلْ أتولاهما، قالوا: إذن نرفضك، فمن ثم قيل لهم الرافضة، عاش اثنتين وأربعين سنة، وقتل بالكوفة سنة 122 هـ وقيل: 120 هـ.
انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 325)، والتاريخ الكبير للبخاري (3/ 403)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (5/ 122)، وتهذيب الكمال للمزي (10/ 95)، وسير أعلام النبلاء (5/ 389)، وشذرات الذهب لابن العماد (2/ 92).
(2)
مختصر الفوائد المكية (ص/ 38). وانظر: الدرر السنية لابن قاسم (1/ 227).
وقد قدح جمع من المحققين في نسبة مسند الإمام زيد إليه؛ لأنَّ في سنده أبا خالد عمرو بن خالد الواسطي، وهو معروف بالكذب. انظر: تهذيب الكمال للمزي (21/ 605 - 606)، وكتب حذّر منها العلماء لمشهور آل سلمان (2/ 272 وما بعدها)، ورافضة اليمن لمحمد الإمام (ص / 118)، ومقدمة في دراسة الفقه للدكتور محمد الدسوقي (ص 182/ - 183).
ومثالٌ آخر: وهو مسند الربيع بن حبيب الإباضي - الذي يقول عنه عبد العزيز العوضي في رسالته: الفقه الإباضي (ص/ 150): "هو أصح كتاب بعد كتاب الله"! - لا يُعْرَفُ مؤلفه، يقول الشيخُ الألباني - كما نقله مشهورٌ آل سلمان في كتابه: كتب حذّر منها العلماء (ص/ 295 - 296) -: "الربيع هذا ليس إمامًا من أئمتنا، وإنَّما هو إمام لبعضِ الفرقِ الإسلامية من الخوارج، وهو نكرة، لا يُعْرَفُ هو، ولا مسنده عند علمائنا".
(3)
انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية (1/ 57).
(4)
هو: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الإمام الصادق، أبو عبد الله القرشي العلوي المدني، ولد سنة 80 هـ رأى بعض الصحابة، وكان ثقةً مأمونًا، =
مِنْ آراء في هذا صحيحُ النسبةِ إليه"
(1)
.
السادس: أن أصولَ المذاهب الفقهيةِ تختلفُ اختلافًا جذريًا عن أصولِ مذاهبِ أهلِ السنةِ في مصادرِ التشريعِ، وطرقِ الاستنباطِ
(2)
.
السابع: أن أكثرَ هذه المذاهب مقطوعةُ الصلةِ عن المصدرين الرئيسين: الكتاب والسنةِ، وخاصةً السنة النبوية، فلا يكادون يرجعون إلى المصنفاتِ فيها التي عُنِيَ العلماءُ بها
(3)
.
يقولُ تقيُّ الدّينِ بنُ تيميةَ: "أمَّا الحديثُ، فهم - أيْ: الرافضة - أبعدُ الناسِ عن معرفتِه: لا إسناده ولا متنه، ولا يعرفون الرسولَ وأحوالَه، ولهذا إذا نقلوا شيئًا مِن الحديثِ كانوا مِنْ أجهلِ الناسِ به"
(4)
.
ويقول أيضًا: " يتبينُ أن الرافضة أمةٌ ليس لها عقلٌ صريحٌ، ولا نقلٌ صحيحٌ، ولا دينٌ مقبولٌ، ولا دنيا منصورةٌ"
(5)
وينقلُ القاضي إسماعيل الأكوع عن بعضِ علماءِ فرقةِ الزيديةِ قولَه: "ولهم - أي: أهل السنة - كتابانِ يسمونهما بالصحيحينِ: (صحيح البخاري
= ويغضب من الرافضة ويمقتهم إذ علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد حدّث عن أبيه وعروة بن الزبير والزهري، قال عنه ابن معين:"ثقة مأمون"، ولما سئل جعفر عن أبي بكر وعمر؟ قال:"إنك لتسألني عن رجلين قد أكلا من ثمار الجنة"، ومن أقواله:"لا يتم المعروف إلا بثلاثة: بتعجيله، وتصغيره، وستره"، توفي سنة 148 هـ. انظر ترجمته في: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 487)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (3/ 192)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 327)، وتهذيب الكمال للمزي (5/ 74)، وسير أعلام النبلاء (6/ 255)، وتاريخ الإسلام للذهبي (3/ 828)، والوافي بالوفيات للصفدي (11/ 126).
(1)
الإمام الصادق - حياته وعصره (ص/ 11).
(2)
لمعرفة اختلاف أصول المذهب الإمامي مثلًا، انظر: أصول مذهب الشيعة للدكتور ناصر القفاري (1/ 153 - 503)، ومع الاثني عشرية في الأصول والفروع للدكتور علي السالوس (4/ 13 - 31)، ومصادر التلقي وأصول الاستدلال العقدية لإيمان العلواني.
(3)
انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية (1/ 57)، والعواصم والقواصم لابن الوزير (8/ 281).
(4)
منهاج السنة النبوية (6/ 379 - 380).
(5)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (4/ 471).
وصحيح مسلم) ولعمري إنَّهما عن الصحةِ خاليان! "
(1)
.
ويقولُ الدكتور عمرو خليفة: "لم يعتمد الفقهُ الإباضي - خلال تاريخِه الطويلِ - إلا على مواد إباضية مرويةٍ من قِبَل علماء إباضيين، أمَّا مجموعات الأحاديث السنية الأخرى، فلم تستخدمْ في أيّةِ مرحلةٍ
…
وكان الإباضيون لا يزالون يُثَبِّطُون استخدامَ مجموعات الأحاديثِ السنية
…
فإن النظامَ الفقهيَّ الإباضي كان قائمًا على مواد ترويها المصادرُ الإباضيةُ فقط، وتطور خلال تاريخِه في إطارِ هذه المواد"
(2)
.
الثامن: إذا كان اعتقادُ المرءِ على الوجهِ الصحيحِ، فإنَّ في تمذهبِه بمذهبٍ فقهي لأحدى الفرقِ المبتدعة تناقضًا بيّنًا
(3)
، فكيفَ يكونُ المرءُ سنيًا في اعتقادِه في حين أنَّه في الفقهِ وأصولِه على مذهبٍ غيرِ سني؟ !
فجوازُ التمذهبِ بالمذهبِ الفقهي مفرَّعٌ على جوازِ الأخذِ بأقوالِهم في الاعتقادِ.
التاسع: أنَّ في المذاهبِ الفقهيةِ لفرقِ المبتدعةِ قلّةَ فقهٍ، وضعفَ نَظَرٍ.
يقولُ تقي الدين بنُ تيمية عن الرافضة: "أمَّا الفقه، فهم مِنْ أبعدِ الناسِ عن الفقهِ"
(4)
.
العاشر: تضمنت بعضُ المذاهبِ أقوالًا خطيرةً وشنيعةً، مثلُ: القولِ بالتَّقِيَّة
(5)
،
(1)
الزيدية (ص/ 35).
(2)
دراسات عن الإباضية (ص/ 131).
(3)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 177).
(4)
منهاج السنة النبوية (6/ 379 - 380).
(5)
انظر: المصدر السابق (1/ 69). والتَّقِيَّة عند الرافضة: الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب؛ للخوف على النفس، إذا كان ما يبطنه هو الحق. انظر: التبيان في تفسير القرآن للطوسي (2/ 434)، بواسطة: التقريب بين أهل السن والشيعة للدكتور أحمد علي (ص/ 313).
والتعريف المذكور لا ينطبق على حالات التقية عندهم، فهم يقولون بالتقية في غير مجال الضرورة والحاجة، ويطبقوها بعضهم بإظهار موافقته لأهل السنة - الذي يراه باطلًا وكتمان مذهبهم، الذي يرونه الحق، والتُقْيَة تعد ركيزة في بنية المذهب الرافضي. انظر: مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة للدكتور ناصر القفاري (1/ 330 وما بعدها)، وأصول مذهب =
والجمع بين الصلاتين دونَ عذرٍ
(1)
، والقولِ ببدعيةِ صلاةِ الضحى
(2)
، وغير هذه الأقوال، الأمر الذي يجعلُ المتمذهبَ بها مُتَلَبِّسًا بالمخالفاتِ والبدعِ العملية لا يكادُ ينفكُّ عنها.
الحادي عشر: تعتبرُ هذه المذاهب مذاهب أهلِ الأهواءِ، وقد حذَّر العلماءُ مِنْ مجالسةِ أهلِ الأهواءِ ومخالطتهم ومناكحتهم
(3)
، فكيف بالتمذهبِ بمذاهبِهم؟ !
لهذه الأمور رجحتُ ما سبق، وهو منعُ التمذهبِ بالمذاهب الفقهية للفرقِ المبتدعةِ.
* * *
= الشيعة له (2/ 977 - 995)، ومع الاثني عشرية في الأصول والفروع للدكتور علي السالوس (1/ 320)، وموقف الأئمة الأربعة وأعلام مذهبهم من الرافضة للدكتور عبد الرزاق عبد المجيد (1/ 107 وما بعدها).
(1)
انظر: الخلاف لمحمد الطوسي (1/ 588) - بواسطة: التقريب بين أهل السنة والشيعة للدكتور أحمد علي (ص/ 533) - ومنهاج السنة النبوية (1/ 37).
(2)
انظر: الصراط المستقيم للبياضي (3/ 185)، بواسطة: موقف الأئمة الأربعة وأعلام مذهبهم من الرافضة للدكتور عبد الرزاق عبد المجيد (2/ 731).
(3)
للاطلاع على نصوص السلف في التحذير من مخالطة أهل الأهواء، انظر: الشريعة للآجري (5/ 2540 وما بعدها)، والإبانة لابن بطة (كتاب الإيمان)، (2/ 473 وما بعدها)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/ 128 وما بعدها)، وموقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء للدكتور إبراهيم الرحيلي (1/ 373 - 386)، و (2/ 529 - 563)، وموقف الأئمة الأربعة وأعلام مذهبهم من الرافضة للدكتور عبد الرزاق عبد المجيد (1/ 398 - 438).