الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: حالة الناس قبل نشوء المذاهب
لا تخلو حالةُ الناسِ قبلِ نشوءِ المذاهبِ الفقهيةِ المتبوعةِ مِنْ أحدِ ثلاثةِ: إِمَّا عالمٌ، وإِمَّا متعلمٌ، وإِمَّا عامي
(1)
.
ولمَنْ أرادَ الحديثَ عنْ حالِ الناسِ قبلَ وجودِ المذاهب المتبوعةِ، ومعرفةَ ذلك أنْ ينظرَ فيهم زمنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزمنَ الصحابةِ رضي الله عنهم، وزمنَ التابعين؛ إِذ إِنَّها الأزمنةُ الرئيسةُ لمَنْ أرادَ أنْ يُلمَّ بأحوالِ الناسِ قبلَ المذاهبِ.
والحديثُ في هذا المطلبِ حديثٌ قابلٌ للبسطِ وللإِيجازِ، وسأحاول أنْ يكونَ حديثي موجزًا، مع وفائه بالمقصدِ والغَرَضِ.
لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حالَ حياتِه مرجعَ الناسِ في جميعِ أمورِهم الدينيةِ
(2)
، فقد كان صلى الله عليه وسلم يجيبُ الناسَ عن أسئلتهم ويفتيهم، ويبيُّن الأحكامَ عن طريقِ الوحي
(3)
، وقد تحدّثَ الأصوليون عنْ مسألةٍ متصلةٍ بهذا المقام،
(1)
انظر: حجة الله البالغة للدهلوي (1/ 468)، والإِنصاف في بيان سبب الخلاف له (ص/ 28).
(2)
انظر: مقدمة ابن خَلدون (3/ 1061)، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 165)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي للدكتور رمضان الشرنباصي (ص/ 51)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور ناصر الطريفي (ص/ 47).
(3)
انظر: إِعلام الموقعين (1/ 17)، والإِنصاف في بيان سبب الخلاف للدهلوي (ص/ 4)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (1/ 169)، وتاريخ المذاهب الإِسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ 239)، وتمهيد لتاريخ الفلسفة لمصطفى عبد الرازق (ص/ 151)، والرأي وأثره في مدرسة المدينة للدكتور إِسماعيل ميقا (ص/ 52)، والرأي وأثره في الفقه للدكتور إِدريس بشير (ص/ 88)، وتاريخ الفقه الإِسلامي لإِلياس دردور (1/ 96 وما بعدها).
وهي: (هل كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ يجتهدَ في الشريعةِ؟ )، وأفاضوا في الحديثِ عنها
(1)
.
وسواءٌ أقلنا: كانَ له صلى الله عليه وسلم أنْ يجتهدَ، أم لم نقلْ ذلك، فإِنَّه صلى الله عليه وسلم هو المرجعُ للناسِ.
وقد كان بعضُ الصحابةِ رضي الله عنهم يُفتي مَنْ سأله مِن الناسِ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يُرْسِلُ بعضَ أصحابِه إِلى بعضِ الأقطارِ؛ لتعليمِ الناس وإِرشادِهم
(2)
.
(1)
انظر مسألة: (اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الشريعة) في: المعتمد (2/ 761)، وشرح العمد (2/ 348)، والعدة (5/ 1586) والتبصرة (ص / 521)، والبرهان (2/ 887)، وأصول السرخسي (2/ 91)، والمنخول (ص/ 468)، والمستصفى (4/ 22)، والواضح في أصول الفقه (5/ 397)، وروضة الناظر (3/ 969)، ومختصر ابن الحاجب (2/ 291) بشرح العضد، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 436)، وتقريب الوصول لابن جزي (ص/ 423)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1470)، ورفع الحاجب (4/ 533)، ونهاية السول (4/ 529)، والبحر المحيط (6/ 214)، والتحبير (8/ 3889)، وشرح الكوكب المنير (4/ 474)، وتيسير التحرير (4/ 183)، وفواتح الرحموت (2/ 366)، والرأي وأثره في الفقه للدكتور إِدريس بشير (ص/ 49 وما بعدها)، واجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لأمل جار (ص/ 145 وما بعدها)، واجتهادات الصحابة لمحمد الخن (ص/ 34 وما بعدها).
(2)
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 334)، وخطبة الكتاب المؤمل للرد إِلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 67)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (1/ 170)، ومناهج الاجتهاد في الإِسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 42)، والاجتهاد ومدى حاجتنا إِليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 29)، والرأي وأثره في مدرسة المدينة للدكتور إِسماعيل ميقا (ص/ 58)، والرأي وأثره في الفقه للدكتور إِدريس بشير (ص/ 113 وما بعدها)، والاجتهاد ومقتضيات العصر لمحمد الأيوبي (ص/ 73)، والاجتهاد في الفقه الإِسلامي لعبد السلام السليماني (ص/ 103)، واجتهادات الصحابة لمحمد الخن (ص/ 59 وما بعدها)، والمذاهب الفقهية للدكتور محمد فيض الله (ص/ 14)، والفقه الإِسلامي للدكتور سليمان العطوي (1/ 65)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور أحمد حسين (ص/ 51)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي للدكتور رمضان الشرنباصي (ص/ 56).
ويقول القاسم بن محمد: أكان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي يفتون الناس على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج قوله: ابن سعد في: الطبقات الكبرى (2/ 335)؛ وابن عساكر في: تاريخ دمشق (39/ 180). وفي الإسناد: محمد بن عمر الواقدي، وهو متروك الحديث، انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (ص/ 581).
يقولُ ابنُ القيم: "وقد اجتهدَ الصحابةُ في زمنِ النبي صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ مِن الأحكامِ، ولم يُعنِّفْهم"
(1)
.
ولما انتقل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى جوارِ ربِّه، تولّى علماءُ الصحابة رضي الله عنهم تعليمَ الناس وإِفتاءَهم في جميعِ شؤونِهم
(2)
، وبرزتْ أسماءُ بعضِ الصحابةِ رضي الله عنهم في هذا المقامِ
(3)
.
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ علماءَ الصحابةِ رضي الله عنهم سلكوا في أقوالِهم وإِفتائِهم في النوازلِ والحوادثِ طريقَ الاجتهادِ وفقَ أصولٍ مركوزةٍ في نفوسِهم
(4)
(1)
إِعلام الموقعين (2/ 355). وانظر: تاريخ الفقه الإِسلامي لإِلياس دردور (1/ 98).
(2)
انظر: الإِنصاف في بيان سبب الخلاف للدهلوي (ص/ 5)، وتاريخ الفقه الإِسلامي لإِلياس دردور (1/ 106).
(3)
ساق ابنُ حزم في: الإِحكام في أصول الأحكام (5/ 92 - 94)، وابنُ القيم في: إِعلام الموقعين (2/ 18 - 22) طائفةً من أسماء المفتين من الصحابة رضي الله عنهم.
(4)
انظر: شفاء الغليل للغزالي (ص/ 190)، وإِعلام الموقعين (2/ 354)، وتاريخ المذاهب الإِسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ 244)، وتاريخ التشريع الإِسلامي لمحمد الخضري (ص/ 114)، وأصول الفقه لعبد الوهاب خلاف (ص/ 15)، وتعليل الأحكام لمحمد شلبي (ص/ 35)، والاجتهاد ومدى حاجتنا إِليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 31)، والاجتهاد في الشريعة الإِسلامية لعلي الخفيف (ص/ 221) ضمن بحوث الاجتهاد في الشريعة، والمناهج الأصولية للدكتور فتحي الدريني (ص/ 9)، وأسباب اختلاف الفقهاء للدكتور مصطفى الزلمي (ص/ 366، 387 - 376)، والفكر الأصولي للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان (ص / 20)، والشريعة الإِسلامية - تاريخها للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 152)، وتاريخ الفقه الإِسلامي له (ص/ 52)، وتمهيد لتاريخ الفلسة لمصطفى عبد الرازق (ص/ 158 وما بعدها)، والمدخل إِلى علم أصول الفقه لمحمد الدواليبي (ص/ 14)، وفقه إِمام الحرمين للدكتور عبد العظيم الديب (ص/ 27)، والإِمام محمد بن الحسن للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 24)، والاجتهاد والتقليد له (ص/ 146)، والاجتهاد الجماعي للدكتور شعبان إِسماعيل (ص/ 83 وما بعدها)، ودراسة تحليلية مؤصلة لتخريج الفروع على الأصول لجبريل ميغا (ص/ 313 وما بعدها)، والمذاهب الفقهية للدكتور محمد فيض الله (ص/ 16)، والفقه الإِسلامي للدكتور سليمان العطوي (1/ 70)، ومفهوم الفقه الإِسلامي لنظام الدين عبد الحميد (ص/ 67)، وابن عابدين وأثره في الفقه للدكتور محمد الفرفور (1/ 112)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور عبد الودود السريتي (ص/ 56)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور أحمد حسين (ص/ 85)، وتأريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ 95)، والمدخل للتشريع الإِسلامي للدكتور محمد النبهان (ص/ 112 - 113)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي للدكتور رمضان الشرنباصي =
- ولم تكن الأصولُ مدونةً آنذاك، كما هو معلوم
(1)
- وقد كان اجتهادُهم لمعرفةِ أحكامِ النوازلِ هو الطابع العامّ لهم
(2)
.
وقد تلقّى عامّةُ الناسِ عن الصحابةِ رضي الله عنهم ما توصلوا إِليه من اجتهاداتٍ
(3)
.
يقولُ ابنُ القيّم مُبَيِّنًا طريقةَ الصحابةِ رضي الله عنهم في دراسةِ المسائلِ: "فالصحابةُ رضي الله عنهم مثَّلوا الوقاع بنظائرِها، وشبّهوها بأمثالِها، وردُّوا بعضَها إِلى بعضٍ في أحكامِها، وفتحوا للعلماءِ بابَ الاجتهادِ، ونهجوا طريقَه، وبيَّنوا لهم سبيلَه"
(4)
.
وكان مِن اجتهادِهم ما يصحُّ جعله النواةَ الأُولى للاجتهادِ الجماعي الَّذي وُجِد في عصرنا الحاضر
(5)
.
يقولُ ابنُ حزمٍ: "لمَّا ماتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ووَليَ أبو بكرِ رضي الله عنه، فمِنْ حينئذٍ تفرَّق الصحابةُ للجهادِ
…
وإِلى الشامِ والعراق، وبقي بعضُهم بالمدينةِ مع
= (ص/ 59)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي لمحمد المحبوبي (ص/ 79)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي للدكتور إِبراهيم إِبراهيم (ص/ 66)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور ناصر الطريفي (ص/ 59)، وتاريخ الفقه الإِسلامي لإِلياس دردور (1/ 127).
(1)
انظر: مناهج الاجتهاد في الإِسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 76)، والاجتهاد ومدى حاجتنا إِليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 37)، والاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/152).
(2)
انظر: مقدمة ابن خَلدون (3/ 1046)، والرأي وأثره في مدرسة المدينة للدكتور إِسماعيل ميقا
(ص/ 69 وما بعدها)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي للدكتور شوقي ضيف (ص/ 44).
(3)
انظر: الروض الباسم لابن الوزير (1/ 222)، وابن عابدين وأثره في الفقه للدكتور محمد الفرفور (1/ 112).
(4)
إِعلام الموقعين (1/ 383). وانظر: مقدمة ابن خَلدون (3/ 1062)، وأسباب اختلاف الفقهاء لعلي الخفيف (ص/ 248)، وأصول التشريع الإِسلامي للشيخ عليّ حسب الله (ص/ 177).
(5)
انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ 252)، والاجتهاد الجماعي للدكتور عبد المجيد السوسوة (ص/ 48 وما بعدها)، وأسباب اختلاف الفقهاء للدكتور مصطفى الزلمي (ص/ 366)، والاجتهاد في الفقه الإِسلامي لعبد السلام السليماني (ص/ 120 وما بعدها)، والاجتهاد الجماعي للدكتور شعبان إِسماعيل (ص/ 83 وما بعدها)، والاجتهاد الجماعي للدكتور قطب سانو (ص/ 87 وما بعدها)، وتاريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص 95، 101).
أبي بكرٍ رضي الله عنه، فكان إِذا جَاءَت القضيةُ ليس عنده فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ، سأل مَنْ بحضرتِه مِن الصحابةِ عن ذلك؟ فإِنْ وَجَدَ عندهم رَجَعَ إِليه، وإِلَّا اجتهدَ في الحُكمِ، ليس عليه غيرُ ذلك.
فلمَّا ولي عمرُ رضي الله عنه، فُتِحَت الأمصارُ، وزاد تَفَرُّقُ الصحابةِ في الأقطارِ، فكانت الحكومةُ تَنْزِلُ في المدينةِ أو في غيرِها مِن البلادِ، فإِنْ كان عندَ الصحابةٍ الحاضرين لها في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أثرٌ، حَكَمَ به، وإِلَّا اجتهدَ أميرُ تلك المدينةِ في ذلك، وقد يكونُ في تلك القضيةِ حُكمٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم موجودٌ عند صاحب آخر، في بلدٍ آخر، وقد حَضَرَ المدينيُّ ما لم يحْضُر المصريُّ، وحَضَرَ المصريُّ ما لم يحضُر الشاميُّ، وحَضَرَ الشاميُّ ما لم يحضر البصريُّ
…
"
(1)
.
واستمرَّ الأمرُ على حالٍ قريبةٍ مِنْ هذه زَمَنَ التابعين، فقدْ تفقّه التابعون على الصحابةِ رضي الله عنهم
(2)
، كلٌّ في قُطْرِه وبلدِه، وكان التابعون لا يتعدّون في كثيرٍ مِنْ أحوالِهم فتاوى الصحابةِ رضي الله عنهم
(3)
، فأَخَذَ أتباعُ المدينةِ كثيرًا مَنْ
(1)
الإِحكام في أصول الأحكام (2/ 126 - 127). وانظر: صحة أصول مذهب أهل المدينة لابن تيمية (20/ 311 - 313) ضمن مجموع فتاوى شيخ الإِسلام، والصواعق المرسلة لابن القيم (2/ 528 - 530)، وحجة الله البالغة للدهلوي (1/ 408 - 409)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (2/ 311)، والتشريع الإِسلامي للدكتور محفوظ فرج (ص/ 87).
(2)
انظر: إِعلام الموقعين (2/ 9)، وحجة الله البالغة للدهلوي (1/ 443)، والإِنصاف في بيان سبب الخلاف له (ص/ 8)، وتاريخ المذاهب الإِسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ 257)، وتعليل الأحكام لمحمد شلبي (ص/ 72)، والفكر الأصولي للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان (ص/ 45)، والرأي وأثره في مدرسة المدينة للدكتور إِسماعيل ميقا (ص/ 88)، والرأي وأثره في الفقه للدكتور إِدريس بشير (ص/ 483)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور محمد موسى (1/ 98)، والاجتهاد في الشريعة الإِسلامية لعلي الخفيف (ص/ 222) ضمن بحوث الاجتهاد في الشريعة، والاجتهاد ومدى حاجتنا إِليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 41)، وتخريج الفروع على الأصول لعثمان شوشان (1/ 129)، والفقه الإِسلامي للدكتور سليمان العطوي (1/ 82)، والمدخل للتشريع الإِسلامي للدكتور محمد النبهان (ص/ 134)، ومقدمة في دراسة الفقه للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 140).
(3)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/ 127).
فتاوى عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما وأَخَذَ أتباعُ أهلِ الكوفة كثيرًا مِنْ فتاوى عبدِ الله بنِ مسعود رضي الله عنه، وأَخَذَ أتباعُ أهل مكةَ كثيرًا مِنْ فتاوى عبدِ الله بن عبَّاس رضي الله عنهما
(1)
.
وحكى ابنُ حزمٍ حالَ السلفِ في هذه العصورِ، فقالَ:"كانَ أهلُ هذه القرونِ الفاضلةِ المحمودةِ يطلبون حديثَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، والفقهَ في القرآنِ، وَيَرْحَلُونَ في ذلك إِلى البلادِ، فإِنْ وجدوا حديثًا عنه صلى الله عليه وسلم، عَمِلُوا به واعتقدوه، ولا يقلّدُ أحدٌ منهم أحدًا البتة"
(2)
.
وإنْ كان ابنُ حزمٍ يقصدُ بكلامِه علماءَ السلف ومجتهديهم، فمسلّمٌ، وإلَّا فقد وُجِدَ التقليدُ مِن العامةِ لعلماءِ الصحابةِ رضي الله عنهم.
وقد نفى ابنُ حزم عن التابعين أنَّهم أخذوا فتاوى الصحابةِ رضي الله عنهم على سبيلِ التقليدِ
(3)
.
وتبع ابنَ حزم ابنُ القيّمِ؛ إِذ نَقَلَ كلامَه بحذافيره في كتابه: (الصواعق المرسلة)
(4)
مَعْزُوًّا إِليه.
وما ذكره ابنُ حزم يحتاجُ إِلى ما يعضده، بلْ يمكنُ القولُ: إِنَّ أَخْذَ التابعين عن الصحابةِ رضي الله عنهم يُعدُّ اللبنةَ الأُولى في طريقِ بناءِ المدارسِ الفقهيةِ - الَّتي استقرتْ إِلى المذاهب الفقهيةِ المتبوعةِ - واللبنةَ الأولى أيضًا في وجودِ شيءٍ مِن التمذهبِ لبعضَ أعيانِ الصحابةِ رضي الله عنهم.
ويشهد لما قلتُه آنفًا: ما قاله أبو الحسن عليّ بنُ المديني
(5)
: "لم يكنْ
(1)
انظر: المصدر السابق (2/ 128)، والصواعق الموسلة لابن القيم (2/ 534)، ونظرة تاريخية في حدوث المذاهب لأحمد تيمور (ص/ 48).
(2)
الإِحكام في أصول الأحكام (6/ 142). وانظر: نهاية الوصول للهندي (7/ 2825)، وإعلام الموقعين (3/ 484 - 485)، وحجة الله البالغة للدهلوي (1/ 460 - 462).
(3)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام (2/ 127).
(4)
انظر: (2/ 534)، والاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 155).
(5)
هو: عليّ بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم، أبو الحسن، المعروف بابن =
في أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منْ له صُحَيبَةٌ، يذهبون مذهبَه، ويُفْتُون بفتواه، ويسلكون طَريقتَه إِلَّا ثلاثةٌ: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت
(1)
، وعبد الله بن عبَّاس.
فأصحابُ عبدِ الله بنِ مسعود الذين يُفْتُون بفتواه، ويقرأون بقراءتِه: علقمةُ بنُ قيسٍ
(2)
، والأسودُ بنُ يزيدَ
(3)
"
(4)
. إِلى أنْ قالَ: "وأصحابُ ابنِ
= المديني، ولد بالبصرة سنة 161 هـ كان إِمامًا حجةً في الحديث وعلله، يلقب بأمير المؤمنين في الحديث، أخذ العلمَ عن جماعةٍ، منهم: سفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وتتلمذ له جمعٌ منهم: البخاري، وأبو حاتم الرَّازي، قال عنه الإِمام أحمد:"أعلمُنا بالعلل عليّ بن المديني"، وقال عنه أبو حاتم الرَّازي:"كان عليّ بن المديني عَلَمًا في الناس في معرفة الحديث والعلل"، من مؤلفاته: كتاب علل الحديث ومعرفة الرجال والتاريخ، والأسماء والكنى، والثقات، توفي بسامراء سنة 234 هـ. انظر ترجمته في: التاريخ الكيير للبخاري (6/ 284)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 491)، والمعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 210)، وتهذيب الكمال للمزي (21/ 5)، وسير أعلام النُّبَلاء (11/ 41)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (2/ 145).
(1)
هو: زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، أبو سعيد، وقيل: أبو خارجة، استصغر يوم بدر، واختلف في شهوده أحدًا، وشهد ما بعد غزوة أحد، وقد تعلم لغة اليهود بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أحد كتبة الوحي، ومن علماء الصحابة رضي الله عنهم وفقهائهم، يقول مسروق عنه:"قدمتُ المدينة، فوجدتُ زيد بن ثابت من الراسخين في العلم"، وهو أحد الذين جمعوا القرآن الكريم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقد استخلف عمر بن الخطاب زيدًا على المدينة ثلاث مرات، توفي سنة 45 هـ وقيل: 42 هـ عن ست وخمسين سنة، وقيل: عمره خمس وخمسون سنة. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 273)، والتاريخ الكبير للبخاري (3/ 380)، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (4/ 85)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 245)، وسير أعلام النُّبَلاء (2/ 426)، والإِصابة لابن حجر (2/ 592).
(2)
هو: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الكوفي، أبو شبل، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معدود من المخضرمين، هاجر في طلب العلم والجهاد، ولزم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كان علقمة فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، إِمامًا حافظًا مجودًا مجتهدًا كبيرًا، توفي سنة 61 هـ وقيل: 62 هـ وعمره تسعون سنة. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 86)، والتاريخ الكبير للبخاري (7/ 41)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 76)، وسير أعلام النُّبَلاء (4/ 53)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 45).
(3)
العلل (ص/107 - 108).
(4)
هو: الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، أبو عمرو، أدرك الجاهلية والإِسلام، كان من كبار التابعين ثقة من أهل الخير، إِمامًا قدوةً، قال عنه الشعبي:"كان صوامًا قوامًا حجاجًا"، =
عبَّاس الذين يذهبون مذهبَه، ويسلكون طريقَه: عطاءُ
(1)
، وطاووسٌ
(2)
، ومجاهدٌ
(3)
…
وأصحابُ زيدِ بنِ ثابتٍ الذين كانوا يأخذون عنه، ويُفْتُون بفتواه
…
: سعيد بن المسيب
(4)
،
= وقال عنه شمس الدين الذَّهبي: "هو نظير مسروق في الجلالة والعلم والثقة والسن، يضرب المثل بعبادتهما"، توفي بالكوفة سنة 75 هـ وقيل: سنة 74 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 70)، والتاريخ الكبير للبخاري (1/ 449)، والمعرفة والتاريخ للفسوي (2/ 559)، وتهذيب الكمال للمزي (3/ 233)، وسير أعلام النُّبَلاء (4/ 50)، والبداية والنهاية (12/ 255)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (1/ 173).
(1)
هو: عطاء بن أبي رباح أسلم - وقيل: سالم - بن صفوان القرشي مولاهم، أبو محمد، ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونشأ بمكة، كان أحد أئمة المسلمين الاعلام، فقهيًا عالمًا كثير الحديث، من أعلم الناس بالمناسك، انتهت إِليه الفتوى في مكة، أدرك مائتين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة 115 هـ وقيل: 114 هـ وعمره ثمان وثمانون سنة. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 28)، وحلية الأولياء لأبي نُعيم (3/ 310)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 261)، وتهذيب الكمال للمزي (20/ 69)، وسير أعلام النُّبَلاء (5/ 78)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 98).
(2)
هو: طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني بالولاء، أبو عبد الرَّحمن الفارسي، كان ثقةً فقيهًا قدوةً، إِمامًا حافظًا، جليل القدر، نبيل الذكر، عالمَ أهل اليمن، وأحد علماء التابعين، أدرك خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولزم عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما، وكان من كبراء أصحابه، قال عنه ابن عبَّاس:"أني لأظن طاووسًا من أهل الجنة"، توفي بمكة سنة 106 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 97)، وحلية الأولياء لأبي نُعيم (4/ 3)، ووفيات الاعيان لابن خلكان (2/ 509)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 251)، وتهذيب الكمال للمزي (13/ 357)، وسير أعلام النُّبَلاء (5/ 38)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 90).
(3)
هو: مجاهد بن جبر المكي، أبو الحجاج، ولد سنة 21 هـ كان شيخ القراء والمفسرين، واسع العلم، محدثًا فقهيًا، ثقةً كثير الحديث، روى عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، وأكثر عنه، وقال:"عرضتُ القرآنَ على ابنِ عبَّاس ثلاثين مرة"، وقال سفيان الثوري: "خذوا التفسير عن أربعة: مجاهد
…
"، كان كثير الأسفار، وقد سكن الكوفة بآخرة، توفي سنة 102 هـ وقيل: سنة 104 هـ وهو ساجد. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 19)، وحلية الأولياء لأبي نُعيم (3/ 279)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 64)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 83)، وتهذيب الكمال للمزي (27/ 228)، وسير أعلام النُّبَلاء (4/ 449)، وطبقات المفسرين للداودي (2/ 305).
(4)
هو: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ، أبو محمد القرشي المخزومي، ولد بالمدينة لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، كان عالم المدينة، إِمامًا عَلَمًا، =
وعروةُ بن الزُّبَيْر
(1)
"
(2)
.
وكلامُ عليِّ بنِ المديني محمولٌ فيما ظَهَرَ لي على أولِ أحوالِ هؤلاءِ التابعين في العِلمِ، وعلى معرفتِهم الدقيقةِ بأقوالِ الصحابي، ثمَّ بعدَ أنْ حصّلوا درجةَ الاجتهادِ، اجتهدوا في المسائلِ
(3)
، فما أفتوا فيه بقولِ الصحابي فمِنْ بابِ: موافقةِ العالمِ للعالمِ، لا مِنْ بابِ: التقليدِ.
يقولُ شاه وليُّ الله الدهلوي عن التابعين: "صارَ لكلِّ عالمٍ مِنْ علماءِ التابعينَ مذهبٌ على حيالِه، فانتصبَ في كلِّ بلدٍ إِمامٌ
…
"
(4)
.
ويقولُ الإِمامُ ابنُ جريرٍ الطبري: "وقد قِيلَ: إِنَّ ابنَ عمر وجماعةً ممَّنْ
= سيد التابعين في وقته، وأحد الفقهاء السبعة، من العلماء العاملين، سمع من عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت رضي الله عنه، قال عنه قتادة:"ما رأيتُ أعلم من سعيد بن المسيب"، وقال عنه ابنُ المديني:"هو عندي أجل التابعين"، توفي سنة 93 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 119)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 51)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 375)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 219)، وسير أعلام النُّبَلاء (4/ 217)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 51).
(1)
هو: عروة بن الزُّبَيْر بن العوام بن خويلد، أبو عبد الله القرشي الأسدي المدني، ولد سنة: 23 هـ وقيل: 29 هـ أحد الفقهاء السبعة، وعالم المدينة، كان فقيهًا عالمًا مأمونًا، ثقةً كثير الحديث، قال عنه عمر بن عبد العزيز:"ما أحدٌ أعلم من عروة بن الزُّبَيْر"، توفي سنة 93 هـ وقيل: 94 هـ وقيل: سنة 99 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 178)، والتاريخ الكبير للبخاري (7/ 31)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 52)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 255)، وتهذيب الكمال للمزي (11/ 25)، وسير أعلام النُّبَلاء (4/ 421)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 58)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (3/ 92).
(2)
العلل (ص / 120 - 123). وانظر في الموضوع ذاته: المصدر السابق (ص/ 130 - 135)، والمعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 353)، والمدخل إِلى السنن الكبرى للبيهقي (1/ 149 - 152)، وخطبة الكتاب المؤمل للرد إِلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 64 - 67)، وإِعلام الموقعين (1/ 38)، وحجة الله البالغة للدهلوي (1/ 409).
(3)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل للرد إِلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 99)، وحجة الله البالغة للدهلوي (1/ 453).
(4)
حجة الله البالغة (1/ 443)، والإِنصاف في بيان سبب الخلاف (ص/ 9). وانظر: مناهج الاجتهاد في الإِسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 575)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور أحمد الحصري (ص/ 119).
عاشَ بعده بالمدينةِ مِنْ أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إِنَّما كانوا يُفْتُون بمذاهبِ زيدِ بن ثابت، وما كانوا أخذَوا عنه ممَّا لم يكونوا حفظوا فيه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قولًا"
(1)
.
وما قاله ابنُ جريرٍ محمولٌ مِنْ وجهةِ نظري على ما ظَهَرَ لي مِنْ كلامِ عليّ بنِ المديني.
ثمَّ جاءَ بعدَ التابعين أتباعُهم، وجَرَوْا على الطريقِ الَّتي سار عليها التابعون، فأَخَذَ كلُّ واحدٍ منهم ما عندَ التابعينَ الذين في بلدِه مِنْ علمٍ
(2)
، وقد وُجِدَ في أتباعِ التابعين عددٌ مِن المجتهدين الذين تكوّنتْ لهم فيما بعدُ مذاهب فقهيةٌ قائمةً
(3)
.
يقولُ أبو شامةَ المقدسيُّ: "ثمَّ كَثُرَت الوقائعُ والنوازلُ، وأفتى فيها مجتهدو الصحابةِ والتابعين وأتباعِهم، وحُفِظَتْ فتاويهم، وسُطِّرَتْ ودُوِّنتْ، ووصلتْ إِلى مَنْ بعدهم مِن الفقهاءِ الأئمةِ"
(4)
.
ولم تكنْ أصولُ الفقه في هذه الحقبةِ مدوّنةً تدوينًا كاملًا، وإنْ كان العلماءُ يسيرون على أصولٍ مركوزةٍ في طرائقِهم الاجتهاديةِ.
ويحكي شاه وليُّ الله الدهلوي حالَ أتباعِ التابعين مع التابعين، فيقول: "فأظمأَ اللهُ أكبادًا إِلى علومِهم - أي: علوم التابعين - فَرَغِبُوا فيها،
(1)
نقل كلامَ ابن جرير ابنُ القيم في: إِعلام الموقعين (1/ 38). وانظر تعليق الشَّيخ محمد أبو زهرة على كلام ابن جرير في: الإِمام الصادق - حياته وعصره (ص/ 126).
(2)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/ 128)، وإعلام الموقعين (2/ 9)، والصواعق المرسلة لابن القيم (2/ 534 - 537)، والإِنصاف في بيان سبب الخلاف للدهلوي (ص/ 10)، والاجتهاد ومدى حاجتنا إِليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 44 - 45)، والاجتهاد في الشريعة الإِسلامية لعلي الخفيف (ص/ 222) ضمن بحوث الاجتهاد في الشريعة، والجدل عند الأصوليين للدكتور مسعود فلوسي (ص/ 65)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور ناصر الطريفي (ص/ 67).
(3)
انظر: الحياة العلمية في إِفريقية للدكتور يوسف حواله (1/ 263).
(4)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إِلى الأمر الأول (ص/ 99).
وأَخَذُوا عنهم الحديثَ وفتاوى الصحابةِ وأقاويلهم، ومذاهب هؤلاءِ العلماءِ وتحقيقاتهم مِنْ عندِ أنفسِهم
…
ودارتْ بينهم المسائلُ، ورُفِعتْ إِليهم الأقضيةُ
…
"
(1)
.
وقد بيّنَ الدهلويُّ صنيعَ أتباعِ التابعين إِذا اختلفتْ عليهم مذاهبُ الصحابةِ والتابعين في مسألةٍ ما، فالمختارُ عند كلِّ عالمٍ منهم مذهبَ أهلِ بلدِه وشيوخِه؛ لأنَّه أعرفُ بصحيحِ أقوالِهم مِنْ سقيمِها، وأدرى بأصولِها، ثم إِنَّ قلبَه أميلُ إِلى أقوالِهم؛ لفضلِهم وتبحرِهم
(2)
.
ولقد كان مِنْ أهمِّ أحوالِ السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - أنَّهم كانوا "متفقينَ على الأخذِ بحديثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم إِذا بَلَغَهم، وصحَّ طريقُه"
(3)
، ويفتي الواحدُ منهم بما ظَهَرَ له أنَّه الصوابُ في مسائلِ الأحكامِ والفروعِ
(4)
.
وجُملةُ القولِ: إِنَّه لم يُوْجَد قبلَ نشأةِ المذاهب الفقهيةِ تمذهبٌ بمعناه المعهود
(5)
، ولا نسبةٌ مذهبيةٌ إِلى أحدٍ مِن المجتهدَين بعينِه، وقُصَارى ما وقفتُ عليه أمورٌ يصحُّ وصفُها بأنَّها مِن اللبناتِ الأُوْلى في طريقِ قسمٍ مِنْ أقسامِ التمذهبِ، وهو التمذهبُ مَعَ معرفةِ الدليلِ.
وقد وُجِدَتْ بداياتُ المدارسِ الفقهيةِ في هذه الأزمنةِ، وكان منبعُها أقوالَ الصحابة رضي الله عنهم، وأقوالَ التابعين
(6)
،
(1)
حجة الله البالغة (1/ 443)، والإِنصاف في بيان سبب الخلاف (ص/ 9). وانظر: حجة الله البالغة (1/ 445 - 446).
(2)
انظر: المصدر السابق (1/ 447)، والإنصاف في بيان سبب الخلاف (ص/ 11)، وأصول الإِفتاء لمحمد العثماني (ص/ 184) مع شرحه: المصباح في رسم المفتي.
(3)
الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/ 117). وانظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية (ص/4).
(4)
انظر: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب (ص/ 26).
(5)
انظر: حجة الله البالغة للدهلوي (1/ 468)، والإِنصاف في بيان سبب الخلاف له (ص/ 28).
(6)
انظر: مناهج الاجتهاد في الإِسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 46).
فَظَهَرَتْ مدرستانِ مشهورتانِ
(1)
:
المدرسة الأُوْلى: تُعنى بالأثر.
المدرسة الثانية: تُعنى بالرأي.
وكان هناك مدارسُ أُخر، جمعتْ بين الأثرِ، والرأي
(2)
.
(1)
لا يُقصد بالمدرسة البناء الَّذي يتدارس فيه العلم، وإِنَّما يُقْصَدُ بها: الطرقُ أو الاتجاهاتُ الَّتي سلكها الفقهاءُ في استنباط الأحكام مِن الاعتماد على السُنَّةِ أو الرأي - قلةً وكثرةً - والتي أَخَذَتْ تتضح رويدًا رويدًا لدى فقهاء الأمصار. انظر: المدخل للفقه الإِسلامي للدكتور محمد مدكور (ص/ 116)، والرأي وأثره في الفقه للدكتور إِدريس بشير (ص/ 481)، ومدرسة الإِمام الحافظ أبي عمر بن عبد البر لمحمد بن يعيش (1/ 135)، والمدخل للتشريع الإِسلامي للدكتور محمد النبهان (ص/ 140)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي للدكتور رمضان الشرنباصي (ص/ 72)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي للدكتور شوقي الساهي (ص/ 66)، والمدخل إِلى دراسة المذاهب للدكتور عمر الأشقر (ص/ 11)، والجديد في تاريخ الفقه للدكتور محمد إِمبابي (ص/ 70).
(2)
انظر: المصفى في أصول الفقه لأحمد الوزير (ص/ 22)، وتاريخ التشريع الإِسلامي لمحمد الخضري (ص/ 141 - 146)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (2/ 315)، ومناهج الاجتهاد في الإِسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 100 وما بعدها)، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 178، 186، 193 وما بعدها)، والاجتهاد ومدى حاجتنا إِليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 42 - 43)، وفقه إِمام الحرمين للدكتور عبد العظيم الديب (ص/ 32)، والاجتهاد ومقتضيات العصر لمحمد الأيوبي (ص/ 89)، وأمالي الدلالات لابن بيه (ص/ 312)، والرأي وأثره في الفقه للدكتور إِدريس بشير (ص/ 505)، وابن عابدين وأثره في الفقه للدكتور محمد الفرفور (1/ 125 وما بعدها)، والفقه الإِسلامي بين الأصالة والتجديد للدكتور عبد الله الجبوري (ص/ 41 - 42)، والمذاهب الفقهية للدكتور محمد فيض الله (ص/ 25)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور أحمد الحصري (ص/ 125 - 126)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ 84)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور عبد الودود السريتي (ص/ 92 وما بعدها)، والجديد في تاريخ الفقه للدكتور محمد إِمبابي (ص/ 75 وما بعدها)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور أحمد حسين (ص/ 120 وما بعدها)، والفقه الإِسلامي للدكتور سليمان العطوي (1/ 83)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور محمد يوسف (ص/ 52)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي للدكتور رمضان الشرنباصي (ص/ 72 وما بعدها)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي للدكتور شوقي ضيف (ص/ 66 وما بعدها)، والمدخل لدراسة الفقه الإِسلامي لمحمد محجوبي (ص/ 83)، وضحى الإِسلام لأحمد أمين (3/ 131)، والمدخل إِلى دراسة الفقه لعبد المجيد الديباني (ص/ 118)، والمنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة للدكتور عبد الملك بن دهيش (ص/17).
وسيأتي حديثٌ موجزٌ في المطلبِ القادمِ عن المدرستين الأُوْليين، وإشارةٌ إلى أن الأئمةَ المجتهدين قد تخرجوا فيها.
يقولُ شاه ولي الله الدهلوي: "وبعد المائتينِ ظَهَرَ فيهم - أي: في العلماء - التمذهبُ للمجتهدينَ بأعيانِهم، وقلَّ مَنْ كان لا يَعْتَمِدُ على مذهبِ مجتهدٍ بعينِه، وكانَ هذا هو الواجب في ذلك الزمانِ"
(1)
.
هذه لمحةٌ موجزةٌ لما كان عليه الناسُ قبلَ نشأةِ المذاهبِ الفقهيةِ المتبوعةِ.
* * *
(1)
الإنصاف في بيان سبب الخلاف (ص/ 29). وانظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 146).