الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
للتلفيقِ عدّةُ أقسام، ولكلِّ قسم حكمُه الذي يخصّه، ومِنْ خلالِ تتبع ما قرره المتأخرون والمعاصرون في مسألةِ:(التلفيق)، ظَهَرَ لي أنَّ أقسامَه ثلاثةٌ:
القسم الأول: التلفيق في الاجتهاد.
القسم الثاني: التلفيق في التقليد.
القسم الثالث: التلفيق في التقنين.
وسيكون الحديثُ عن كلِّ قسمٍ مِن هذه الأقسامِ في المسائل الثلاثِ الآتية:
المسألة الأولى: التلفيق في الاجتهاد
تقدَّم لنا في صدرِ المبحثِ تعريفُ التلفيقِ، وأنَّ نتيجتَه إتيانٌ بكيفيةٍ جديدةٍ لا يقولُ بها أحدٌ مِن المجتهدين السابقين.
والمقصودُ بالتلفيقِ في الاجتهادِ أنْ يجتهدَ مجتهدٌ في مسألةٍ ما اختلفَ فيها المجتهدون قبله على قولين أو أكثر، ثمَّ يؤديه اجتهادُه إلى الأخذِ مِنْ كلِّ قولٍ ببعضِه، فتكون نتيجةُ اجتهادِه أنْ يقولَ بكيفيةٍ جديدةٍ للمسألةِ، سواءٌ أكانَ قولُه ابتداءً، أو إفتاءً لأحدٍ من الناسِ، فما حكمُ التلفيقِ الواقعِ مِن المجتهدِ في هذه الحالةِ؟
(1)
.
(1)
انظر: مناهج الاجتهاد في الإسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 441)، وأصول الفقه له =
بتصويرِ مسألةِ: (التلفيق في الاجتهاد)، يمكنُ القول بأنَّ خلافَ العلماءِ في مسألةِ:(إحداث قول ثالث) منزّلٌ عليها؛ إذ حقيقةُ فعلِ المجتهدِ في هذا القسم هي إحداث قولٍ ثالثٍ.
وقد جَعَلَ الشيخُ محمد بخيت المطيعي مسألةَ التلفيق كمسألةِ: (إحداث قول ثالث)
(1)
.
ويظهرُ أثرُ التلفيقِ في الاجتهادِ عند المانعين مِنْ إحداثِ قولٍ ثالثٍ مطلقًا، وعند المفصِّلين في المسألةِ
(2)
، كما سيأتي في الأقوال بعدَ قليلٍ.
وقد نصَّ بعضُ العلماءِ
(3)
على أنَّ التلفيقَ في الاجتهادِ له حكمُ المسألتين الأصوليتين الآتيتين:
المسألة الأولى: إذا اختلف المجتهدون في مسألةٍ ما على قولين، فهلْ للمجتهدِ بعدهم أنْ يأتي بقولٍ آخر غير القولين السابقين؟
المسألة الثانية: إذا اختلفَ المجتهدون في مسألتين على قولين، فَذَهَبَ بعضُهم إلى الجوازِ فيهما، وذَهَبَ الباقون إلى التحريمِ فيهما، فهلْ
= (ص/ 351)، والاجتهاد ومدى حاجتنا إليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 548)، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1144)، والتلفيق في الاجتهاد والتقليد للدكتور ناصر الميمان، مجلة وزارة العدل، العدد: الحادي عشر (ص/ 26).
(1)
انظر: سلم الوصول (4/ 629).
(2)
انظر: التلفيق وموقف الأصوليين منه للدكتور محمد الدويش (ص/ 50).
(3)
انظر: التلفيق بين أحكام المذاهب للسنهوري، مجلة البحوث الإسلامية بالأزهر (1/ 71)، وأصول الفقه للدكتور محمد مدكور (ص/ 351)، ومناهج الاجتهاد له (ص/ 441)، والاجتهاد ومدى حاجتنا إليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 548 - 549)، والأخذ بالرخصة وحكمه للدكتور عبد الله محمد، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد: الثامن (1/ 117)، والأخذ بالرخصة وحكمه لمصطفى التازي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد: الثامن (1/ 461)، وتبصير النجباء للدكتور محمد الحفناوي (ص/ 270)، والتقليد في الشريعة الإسلامية لعبد الله الشنقيطي (ص/ 156)، والتلفيق وموقف الأصوليين منه للدكتور محمد الدويش (ص/ 50، 184)، والتلفيق في الاجتهاد والتقليد للدكتور ناصر الميمان، مجلة وزارة العدل، العدد: الحادي عشر (ص/ 26).
للمجتهدِ بعدهم أنْ يقولَ في إحدى المسألتين بالجوازِ، وفي الأخرى بالتحريمِ؟
وإطلاقُ القولِ بأنَّ التلفيقَ في الاجتهادِ يأخذُ حكم إحداثِ قولٍ ثالثٍ، محلُّ نظرٍ؛ فليس إحداثُ كلِّ قولٍ ثالثٍ يُعَدّ تلفيقًا، فلا بُدَّ مِنْ أنْ يكونَ القولُ الثالثُ آخذًا مِنْ كل قولٍ ببعضِه، كما في مسألةٍ:(فسخ النكاحِ بالعيوبِ الخمسة)
(1)
: قال بعضُ العلماءِ يفسخِ النكاحِ بالعيوب الخمسةِ، وقال آخرون: بعدمِ فسخ النكاحِ بها، فإحداثُ قولٍ ثالثٍ بالفسخِ بالبعضِ دونَ البعضِ من التلفيقِ
(2)
.
وقد جَعَلَ بعضُ الأصوليين المسألتين السابقتين في مسألةٍ واحدةٍ
(3)
، وبحثها آخرون فجعلوهما مسألتين
(4)
.
وسوفَ أعرضُ المسألتين في ضوءِ مَنْ جعلهما مسألةً واحدةً؛ لأنَّي مسبوقٌ بهذا الأمر، وأيضًا فقد نصَّ جمالُ الدين الإسنوي على أنَّ المسألةَ الثانية قريبةٌ في المعنى مِن المسألةِ الأُولى
(5)
.
وقبلَ ذكرِ الأقوالِ في مسألةٍ: (إحداث قول ثالث) أنبه إلى أمرين:
الأمر الأول: لا يقتصرُ الخلافُ في المسألةِ على إحداثِ قولٍ ثالثٍ،
(1)
العيوب الخمسة في الزوج: الجنون، والجذام، والبرص، والجب، والعنة؛ وفي الزوجة: الجنون، والجذام، والبرص، والقرن، والرتق. انظر: رفع الحاجب (2/ 228 - 229).
(2)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 268)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (1/ 485)، ورفع الحاجب (2/ 228 - 229).
(3)
انظر على سبيل المثال: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 268)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (1/ 482)، والتوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة (2/ 42)، وتيسير التحرير (3/ 250)، وفواتح الرحموت (2/ 235).
(4)
انظر على سبيل المثال: الفصول في الأصول للجصاص (3/ 349)، والمعتمد (2/ 508)، والعدة (4/ 1116)، وإحكام الفصول (ص/ 499)، وشرح اللمع (2/ 740)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 314)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 130)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 327)، والبحر المحيط (4/ 544).
(5)
انظر: نهاية السول (3/ 275).
بل الخلافُ يشملُ ما لو اختلفَ المجتهدون على ثلاثةِ أقوالٍ أو أربعةٍ، فهل لمجتهدِ العصرِ اللاحقِ أنْ يحدثَ قولًا رابعًا، أو خامسًا؟ فالتعبير بالقولينِ مِنْ بابِ التمثيلِ
(1)
.
الأمر الثاني: أنَّ المسألةَ مقيّدةٌ باستقرارِ الخلافِ على قولين أو أكثر، أمّا إذا كان الخلافُ على القولين غيرَ مستقرٍّ، فالقياسُ جوازُ إحداثِ قولٍ ثالثٍ
(2)
.
يقولُ الشوكانيُّ: "ثمَّ لا بُدَّ مِنْ تقييدِ هذه المسألةِ بأنْ يكونَ الخلافُ فيها على قولين أو أكثر قد استقر، أمَّا إذا لم يستقرْ فلا وجهَ للمنعِ مِنْ إحداثِ قولٍ آخر"
(3)
.
• الأقوال في المسألة:
اختلفَ العلماءُ في مسألةِ: (حكمِ إحداثِ أهلِ العصرِ اللاحق قولًا ثالثًا) على أقوال، أشهرها:
القول الأول: لا يجوزُ إحداث قولٍ ثالثٍ في المسألةِ مطلقًا.
وهذا مذهبُ أكثرِ الحنفيةِ
(4)
، ومذهبُ المالكيةِ
(5)
، والشافعيةِ
(6)
، والحنابلةِ
(7)
.
ونَسَبَه إمامُ الحرمين الجويني إلى معظمِ المحققين
(8)
. ونَسَبَه أبو حامد الغزالي إلى الجماهيرِ
(9)
. ونَسَبَه أبو الخطابِ
(10)
، وابنُ بَرْهان
(11)
إلى أكثرِ
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 543).
(2)
انظر: المصدر السابق (4/ 544). وحين عرضت بعض المصادر الأصولية مسألة: (إحداث قولٍ ثالث) أشارت إلى اعتبار قيد استقرار الخلاف شرطًا للخلاف في المسألة. انظر مثلًا: إحكام الفصول (ص / 499)، والتبصرة (ص/ 387)، وشرح اللمع (2/ 738)، وقواطع الأدلة (3/ 265)، والواضح في أصول الفقه (5/ 165).
(3)
إرشاد الفحول (1/ 410).
(4)
انظر: أصول السرخسي (1/ 310).
(5)
انظر: إحكام الفصول (ص/ 497).
(6)
انظر: شرح اللمع (2/ 738)، وقواطع الأدلة (3/ 264)، والبحر المحيط (4/ 540).
(7)
انظر: العدة (4/ 1113)، وأصول الفقه لابن مفلح (2/ 437).
(8)
انظر: البرهان (1/ 425).
(9)
انظر: المستصفى (1/ 366).
(10)
انظر: التمهيد في أصول الفقه (3/ 311).
(11)
انظر: الوصول إلى الأصول (2/ 108).
العلماءِ، ونَسَبَه الفخرُ الرازي
(1)
، وابنُ الحاجبِ
(2)
، وابنُ الهمامِ الحنفي
(3)
إلى الأكثرين. ونَسَبَه الآمديُّ
(4)
، والطوفيُّ
(5)
، وتاجُ الدين بن السبكي
(6)
إلى الجمهورِ.
القول الثاني: يجوزُ إحداثُ قولٍ ثالثٍ مطلقًا.
نَسَبَ أبو الوليد الباجي هذا القولَ إلى المعتزلةِ
(7)
.
وهذه النسبةُ محلُّ نَظَرٍ عندي؛ إذ قرر أبو الحسين البصري المنعَ مِنْ إحداثِ قولٍ ثالثٍ، ونَسَبَه إلى شيوخِه، ولم يذكرْ نسبته إلى المعتزلةِ
(8)
.
ومِنْ جهةٍ أخرى: لم يتابعْ أبا الوليد الباجيَّ أحدٌ في هذه النسبةِ - فيما رجعتُ إليه من مصادر - ومِن المحتملِ أنَّ مقصدَ الباجي بالمعتزلةِ أهل الكلامِ.
ونَسَبَ أبو الحسين البصري هذا القول إلى عامّةِ الفقهاءِ
(9)
. ونَسَبَه أبو إسحاقَ الشيرازي
(10)
، وأبو المظفرِ السمعاني
(11)
إلى بعضِ المتكلمين، وبعضِ أصحابِ الإمامِ أبي حنيفةَ.
ونَسَبَه أبو الحسين البصري
(12)
، وابنُ بَرْهان
(13)
إلى بعضِ المتكلمين.
(1)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه (4/ 127).
(2)
انظر: مختصر منتهى السول (1/ 482).
(3)
انظر: التحرير (3/ 250) مع تيسير التحرير.
(4)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/ 268).
(5)
انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 88).
(6)
انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (5/ 2075).
(7)
انظر: إحكام الفصول (ص/ 497).
(8)
انظر: المعتمد (2/ 505)، وشرح العمد (1/ 213).
(9)
انظر: المصدرين السابقين.
(10)
انظر: التبصرة (ص/ 387)، وشرح اللمع (2/ 738).
(11)
انظر: قواطع الأدلة (3/ 265).
(12)
انظر: المعتمد (2/ 505)، وشرح العمد (1/ 212).
(13)
انظر: الوصول إلى الأصول (2/ 108).
ونَسَبَه أبو الحسين البصري
(1)
، وأبو المظفرِ السمعاني
(2)
، والآمديُّ
(3)
، والطوفيُّ
(4)
إلى بعضِ أهلِ الظاهرِ. ونَسَبَه أبو حامد الغزالي إلى شذوذِ مِن الظاهريةِ
(5)
، ونَسَبَه أبو الوليد الباجي
(6)
، وأبو الخطابِ
(7)
، والفخر الرازي
(8)
، وأمير باد شاه
(9)
إلى أهلِ الظاهرِ.
وقالَ أبو الخطابِ: "وهو قياسُ قولِ أحمدَ، رحمه الله
(10)
.
القول الثالث: التفصيلُ في المسألةِ:
فإنْ كانَ القولُ الثالثُ رافعًا لما اتفق عليه القولانِ السابقانِ لم يجزْ إحداثُه.
وإنْ لم يرفع القولُ الثالثُ ما اتفق عليه القولانِ السابقانِ جازَ إحداثُه.
نَسَبَ تاجُ الدين بن السبكي
(11)
، وبدرُ الدين الزركشي
(12)
هذا القولَ إلى المتأخرين. ونَسَبَه صفيُّ الدين الهندي إلى المحققين
(13)
.
واختاره جمعٌ مِن المحققين، منهم: الفخرُ الرازي
(14)
، والآمديُّ
(15)
، وابنُ الحاجبِ
(16)
، وشهابُ الدين القرافي
(17)
، والقاضي
(1)
انظر: المعتمد (2/ 505)، وشرح العمد (1/ 212).
(2)
انظر: قواطع الأدلة (3/ 265).
(3)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/ 268).
(4)
انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 88).
(5)
انظر: المستصفى (1/ 366).
(6)
انظر: إحكام الفصول (ص/ 497).
(7)
انظر: التمهيد في أصول الفقه (3/ 311).
(8)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه (4/ 127).
(9)
انظر: تيسير التحرير (3/ 251).
(10)
التمهيد في أصول الفقه (3/ 311).
(11)
انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (5/ 2076).
(12)
انظر: البحر المحيط (4/ 542).
(13)
انظر: نهاية الوصول (6/ 2527).
(14)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه (4/ 128).
(15)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/ 269).
(16)
انظر: مختصر منتهى السول (1/ 486).
(17)
انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 326)، والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص/ 136).
البيضاوي
(1)
، والطوفيُّ
(2)
، وصفيُّ الدين الهندي
(3)
.
وقد ذَكَرَ أربابُ هذا القول أمثلةً توضح قولهم، وسأقتصر على مثالٍ واحدٍ لكلتا الحالتين:
مثال للقول الثالث الذي يرفع ما اتفق عليه القولان السابقان:
مسألة: ميراث الجدِّ والإخوة:
اختلفَ العلماءُ في ميراثِ الجدِّ والإخوةِ عند اجتماعِهما على قولين:
القول الأول: أنَّ المالَ كلَّه للجدِّ
(4)
.
القول الثاني: أنّ المال يُقسمُ بين الجدِّ والإخوةِ
(5)
.
فهنا اتفاقٌ بين القولين على إعطاءِ الجدِّ نصيبًا مِن الإرثِ، فلو أَحَدَثَ مجتهدٌ في وقتِ لاحقِ قولًا بأن المالَ كلَّه للإخوةِ، كان قولُه رافعًا لما اتفق عليه القولانِ السابقانِ، فيكون مردودًا.
مثال القول الثالث الذي لا يرفع ما اتفق عليه القولان السابقان:
مسألة: الأكل من الذبيحة التي ترك ذكر اسم الله عليها:
اختلفَ العلماءُ في الأكلِ مِن الذبيحةِ التي تُرِكَ ذكرُ اسم الله عليها على قولين:
القول الأول: أنَّ متروكَ التسميةِ يحلُّ أكلُه مطلقًا
(6)
.
(1)
انظر: منهاج الوصول (2/ 813) مع شرحه السراج الوهاج.
(2)
انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 93).
(3)
انظر: نهاية الوصول (6/ 2527).
(4)
وهذا قول أبي بكر، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة رضي الله عنه، وهو مذهب أبي حنيفة. انظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي (2/ 798)، ومغني المحتاج للشربيني (3/ 21).
(5)
وهذا قول عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة. انظر: بداية المجتهد (4/ 1568)، والمغني لابن قدامة (9/ 66)، والعذب الفائض لإبراهيم الفرضي (1/ 105).
(6)
وهذا مذهب الشافعي، وأحمد في رواية عنه. انظر: المهذب للشيرازي (2/ 885)، والمغني لابن قدامة (13/ 290).
القول الثاني: أنَّ متروكَ التسميةِ لا يحلُّ أكلُه مطلقًا
(1)
.
فإحداثُ قولٍ ثالثٍ بالتفريق بين تاركِ التسميةِ عمدًا، فلا تُؤكلُ ذبيحتُه، وتاركِ التسميةِ سهوًا، فتؤكلُ ذبيحتُه
(2)
: لا يعتبرُ رافعًا لما اتفق عليه القولانِ السابقانِ، فيجوزُ إحداثُه.
• أدلةُ الأقوال:
أدلةُ أصحابِ القولِ الأولِ (القائلين بالمنع مطلقًا):
استدلَّ أصحابُ القولِ الأولِ بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: أنَّ اختلافَ المجتهدين على قولين إجماعٌ منهم في المعنى على إبطالِ كلِّ قولٍ حادثٍ بعدهم
(3)
؛ لأنَّ كلَّ طائفةٍ تُوجبُ الأخذَ بقولِها، أو بقولِ مخالفِها، فيحرمُ الأخذُ بغيرِ أقوالِهم
(4)
.
مناقشة الدليل الأول: إنَّ إجماعَ القولين في المعنى على الأخذِ بأحدِهما مشروطٌ بـ: عدمِ القولِ الثالثِ، فإذا أُحْدِثَ القولُ الثالثُ، فقد زالَ الإجماعُ بزوالِ شرطِه
(5)
.
(1)
وهذا قول الظاهرية. انظر: المحلى (8/ 108).
(2)
وهذا قول الحنفية، والمالكية، والحنابلة في المشهور عنهم. انظر: الفقه النافع للسمرقندي (3/ 960)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 867)، والمغني لابن قدامة (13/ 290).
(3)
انظر: المعتمد (2/ 507)، والعدة (4/ 1113)، وإحكام الفصول (ص/ 497)، والتبصرة (ص/ 387)، وشرح اللمع (2/ 738)، وقواطع الأدلة (3/ 266)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 311)، والواضح في أصول الفقه (5/ 164)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (1/ 487)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 326)، ونهاية الوصول للهندي (6/ 2531)، والإبهاج في شرح المنهاج (5/ 2079)، ونهاية السول (2/ 296).
(4)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 129)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 268).
(5)
انظر: المعتمد (2/ 507)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 130)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 269)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 326)، ونهاية الوصول للهندي (6/ 2532)، والإبهاج في شرح المنهاج (5/ 2080)، والإجماع للدكتور يعقوب الباحسين (ص/189).
الدليل الثاني: أنَّ القولَ بجوازِ إحداثِ قولٍ ثالثٍ يفضي إلى نسبةِ الأُمّةِ في العصرِ السابقِ إلى تفويتِ الحقِّ وتضييعِه والغفلةِ عنه، وهذا محالٌ غيرُ جائزٍ، وما أفضى إلى محالٍ فإنَّه لا يجوزُ الذهابُ إليه
(1)
.
وقد عبَّر بعضُ الأصوليين عن الدليلِ الثاني بالآتي: لو جازَ إحداثُ قولٍ ثالثٍ، فإنَّه لا يخلو: إمَّا أنْ لا يكون عن دليلٍ، وإمَّا أنْ يكونَ عن دليلٍ: فإن كانَ عن غيرِ دليلٍ، فالقولُ به ممتنعٌ؛ وإن كانَ عن دليلٍ، فهو ممتنعٌ؛ لإفضائِه إلى نسبةِ الأمةِ إلى تضييعِ الحقِّ
(2)
.
أدلةُ أصحابِ القولِ الثاني (القائلين بالجواز مطلقًا):
استدلَّ أصحابُ القولِ الثاني بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: أنَّ اختلافَ المجتهدين في المسألةِ على قولين أو أكثر، دليلٌ على أنَّها اجتهادية، وأنَّه يسوغ الاجتهادُ فيها، والقولُ الذي قاله المجتهدُ في العصرِ اللاحق نَشَأَ عنْ اجتهادٍ، فكانَ جائزًا
(3)
.
مناقشة الدليل الأول: إنَّ ما ذكرتموه في دليلِكم لا يدلُّ على مطلوبكم - وهو جواز إحداث قول ثالث - وإنَّما يدلُّ على أحدِ أمرين:
الأمر الأول: أنَّ مجتهدي أهل العصرِ الأول سوغوا الاجتهادَ في
(1)
انظر: شرح اللمع (2/ 738)، والتبصرة (ص/ 378)، وقواطع الأدلة (3/ 266)، والمستصفى (1/ 367)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 129)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 326)، وشرح مختصر الروضة (3/ 89).
(2)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 268)، ونهاية الوصول للهندي (6/ 2530)، وتيسير التحرير (3/ 252).
(3)
انظر: المعتمد (2/ 506)، وشرح العمد (1/ 213)، والعدة (4/ 1113)، وإحكام الفصول (ص/ 87)، والتبصرة (ص/ 388)، وشرح اللمع (2/ 738)، وقواطع الأدلة (3/ 265)، والمستصفى (1/ 367)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 312)، والواضح في أصول الفقه (5/ 165)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 271)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (1/ 488)، ونهاية الوصول للهندي (6/ 2533)، وشرح مختصر الروضة (3/ 89)، وتيسير التحرير (3/ 253)، وفواتح الرحموت (2/ 237).
المسألةِ، وطلبَ الحقِّ فيها مِنْ أقوالِهم فقط
(1)
.
الأمر الثاني: أنَّ مجتهدي أهلِ العصر الأول سوّغوا الاجتهادَ منهم، لا مِن غيرِهم
(2)
.
الدليل الثاني: إذا استدلَّ مجتهدو العصرِ السابقِ على مسألةٍ ما بدليلين، فإنَّه يجوزُ للمجتهدِ في العصرِ اللاحق أنْ يستدلَّ بدليلٍ ثالثٍ على المسألةِ نفسِها، وإذا جازَ هذا، جازَ له أنْ يُحدثَ قولًا ثالثًا
(3)
.
مناقشة الدليل الثاني: ثمّةَ فروقٌ بين استدلالِ مجتهدٍ في العصرِ اللاحقِ بدليلٍ لم يذكرْه مجتهدو العصرِ الأول، وإحداثِه قولًا جديدًا، وبيانها:
الفرق الأول: لو استدلَّ مجتهدو العصرِ السابق على مسألةٍ ما بدليلٍ واحدٍ فقط، جازَ لمَنْ بعدهم مِن المجتهدين أنْ يستدلوا بدليلٍ آخر على المسألةِ نفسِها، بخلافِ ما لو اتفق مجتهدو العصرِ الأول على قولٍ واحدٍ، لم يجزْ لأحدٍ مِن المجتهدين اللاحقين أنْ يخالفَ قولَهم
(4)
.
الفرق الثاني: أنَّ استدلالَ المجتهدِ في العصرِ اللاحق بدليل ثالثٍ يؤكدُ ما ذَهَبَ إليه المجتهدون قبله، بخلافِ إحداثِ قولٍ ثالثٍ، فإنَّه يرفعُ اتفاقَ القولين
(5)
.
(1)
انظر: إحكام الفصول (ص / 498)، والتبصرة (ص/ 388)، وشرح اللمع (2/ 738)، وقواطع الأدلة (3/ 266)، والواضح في أصول الفقه (5/ 166).
(2)
انظر: التبصرة (ص/ 387)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 271)،
(3)
انظر: العدة (4/ 1114)، والتبصرة (ص/ 388)، وشرح اللمع (2/ 739)، والمستصفى (1/ 367)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 314)، والواضح في أصول الفقه (5/ 165)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 271).
(4)
انظر: العدة (4/ 1113)، وشرح اللمع (2/ 739)، والتبصرة (ص/ 388)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 314)، والواضح في أصول الفقه (5/ 167)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 271).
(5)
انظر: شرح اللمع (2/ 739)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (40/ 313)، والواضح في أصول الفقه (5/ 167).
الفرق الثالث: ليس مِن الأمورِ المفروضةِ على المجتهدين الاستدلالُ على قولِهم بجميعِ الأدلةِ، بلْ يكفيهم الاستدلالُ بدليلٍ واحدٍ؛ إذ ليس فيه تضييعٌ للحقِّ، بخلافِ إحداثِ قولٍ ثالثٍ، ففيه نسبةُ الأُمّة إلى تضييعِ الحقِّ
(1)
.
الدليل الثالث: أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم اختلفوا في بعضِ المسائلِ على قولين، وأحدثَ بعضُ التابعين فيها قولًا ثالثًا، ولم ينكرْ هذا أحدٌ، ومِنْ عادةِ السلفِ عدمُ السكوتِ عن المنكرِ، فدل سكوتُهم على جوازِه
(2)
.
ويشهد لهذا الأمر: اختلافُ الصحابةِ رضي الله عنهم في قسمةِ إرثِ مَنْ ماتَ عن زوجةٍ وأبوين، ومَنْ ماتتْ عن زوجٍ وأبوين، على قولين:
القول الأول: أن للأمِّ ثلثَ التركةِ، سواءٌ أكان الميتُ زوجًا، أو زوجةً. وهذا قولُ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
(3)
.
القول الثاني: أنَّ للأمِّ ثلثَ الباقي بعدَ فرضِ الزوجين. وهذا قول بعض الصحابة رضي الله عنهم
(4)
.
(1)
انظر: المستصفى (1/ 367)، وشرح مختصر الروضة (3/ 91).
(2)
انظر: المعتمد (2/ 506)، والعدة (4/ 1114)، وشرح اللمع (2/ 739)، والتبصرة (ص/ 388)، وقواطع الأدلة (3/ 265)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 313)، والواضح في أصول الفقه (5/ 165)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 271)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (1/ 488)، وتيسير التحرير (3/ 253).
(3)
أخرج قول ابن عباس رضي الله عنهما: عبد الرزاق في: المصنف، كتاب: الفرائض (10/ 254)، برقم (19020)؛ وابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الفرائض، باب: في امرأة وأبوين، من كم هي؟ (16/ 219)، برقم (31705)، وفي باب: في امرأة وأبوين، من كم هي؟ (16/ 220)، برقم (31710)؛ والدارمي في: سننه، كتاب: الفرائض، بابٌ: في زوج وأبوين، وامرأةٍ وأبوين (4/ 1897)، برقم (2918، 2920)؛ والفسوي في: المعرفة والتاريخ (3/ 109)؛ وابن حزم في: المحلى (10/ 326)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الفرائض، باب: فرض الأم (6/ 228).
وانظر: شرح السنة للبغوي (8/ 342).
وقد صحح ابنُ حجر في: موافقة الخُبْر الخَبَر (1/ 162) أثر ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
جاءت آثارٌ عن بعض الصحابة رضي الله عنهم تدل على أن للأم ثلث الباقي سواءٌ أكان الوارث زوجًا، =
وقد أحدثَ محمد بنُ سيرين
(1)
قولًا ثالثًا، فذَهَبَ إلى أن للأم ثلثَ التركةِ إنْ كانَ الميتُ زوجًا، ولها ثلث الباقي إنْ كانَ الميت زوجةً
(2)
.
مناقشة الدليل الثالث: نوقش الدليل مِنْ أربعة أوجه:
الوجه الأول: أنَّنا لا نقبلُ إحداثَ قولٍ ثالثٍ مِنْ أحدٍ من التابعين إذا كانَ خلافُ الصحابةِ رضي الله عنهم على القولين مستقرًا؛ وذلك لمخالفةِ التابعين إجماع الصحابةِ رضي الله عنهم على انحصارِ الحقِّ في أقوالهم
(3)
، وإذا ثَبَتَ في الشاهد المؤيّد لدليلِكم إجماعُ الصحابةِ رضي الله عنهم لم نقبلْ قولَ التابعي.
الوجه الثاني: يحتمل أنْ يكونَ إحداثُ القولِ الثالثِ مِن القسمِ الجائز، فقد يكون إحداثُه قبلَ استقرارِ خلافِ الصحابةِ رضي الله عنهم على قولين؛
= أم زوجةً، وقد أخرج عددًا منها: عبد الرزاق في: المصنف، كتاب: الفرائض (10/ 252 - 253)، بالأرقام (19014 - 19018)؛ وابنُ أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الفرائض، باب: في امرأة وأبوين، من كم هي؟ (16/ 217 - 220)، بالأرقام (31697 - 31709)، وفي باب: في زوج وأبوين، من كم هي؟ (16/ 220 - 221)، بالأرقام (31710 - 31714)؛ والدارمي في: سننه، كتاب: الفرائض، بابٌ: في زوجٍ وأبوين، وامرأةٍ وأبوين (4/ 1892 - 1897) بالأرقام (2907 - 2919).
وأخرج الفسوي في: المعرفة والتاريخ (3/ 109) عن إبراهيم النخعي قوله: "خالف ابنٌ عباس جميعَ أهل الصلاة في: زوج، وأبوين".
وانظر: المحلى لابن حزم (10/ 326).
(1)
هو: محمد بن سيرين البصري، أبو بكر الأنصاري مولى أنس بن مالك، ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، سنة 33 هـ من علماء التابعين الأعلام، كان ثقةً حسن العلم بالفرائض والقضاء والحساب، قال عنه عبد الله بن عون:"كان محمد يحدث بالحديث على حروفه"، وكانت وفاته سنة 110 هـ. انظر ترجمته في: التاريخ الكبير للبخاري (1/ 90)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (2/ 263)، وتاريخ مدينة السلام للخطيب (3/ 283)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 82)، وتهذيب الكمال للمزي (25/ 344)، وسير أعلام النبلاء (4/ 606).
(2)
أخرج قول محمد بن سيرين: ابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الفرائض، باب: في امرأة وأبوين، من كم هي؟ (16/ 219)، برقم (31706)؛ وابن حزم في: المحلى (10/ 326)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الفرائض، باب: فرض الأم (6/ 228).
وانظر: شرح السنة للبغوي (8/ 342).
(3)
انظر: التبصرة (ص/ 388)، وشرح اللمع (2/ 740)، والواضح في أصول الفقه (5/ 166).
ولهذا لم ينكروا على التابعي قولَه
(1)
.
الوجه الثالث: أنَّ ابنَ سيرين لم يخالفْ ما أجمعَ عليه الصحابةُ رضي الله عنه، بلْ أَخَذَ بكلِّ واحدٍ من القولين في إحدى المسألتين، فصار القولُ الثالثُ غيرَ رافعٍ لاتفاقِ الصحابةِ رضي الله عنهم
(2)
.
الوجه الرابع: مِن المحتملِ أنَّ بعضَ السلفِ أَنْكَرَ على المخالفِ، ولم ينقلْ إنكارُه، ومَن المحتملِ أنَّ إنكارَه نُقِلَ، لكنَه لم يشتهرْ؛ لأنَّه ممَّا لا تتوافر الدواعي على حكايةِ إنكارِه
(3)
.
الجواب عن الوجه الرابع: يقولُ أمير باد شاه عن الوجه الرابع: "وفيه تأمّل"
(4)
.
ولعل وجه التأمّلِ هو أنَّ إنكارَ بعضِ السلفِ للفعلِ، وعدم نقل إنكارِهم، أو عدم اشتهاره احتمالٌ لا يعضده ما يدل عليه، فيبقى الدليلُ سالمًا منه.
دليل أصحاب القول الثالث: أنَّه لا محذور في إحداثِ قولٍ ثالثٍ إنْ لم يرفعْ ما اتفق عليه القولانِ السابقانِ؛ لانتفاءِ خرقِ الإجماعِ، وأمَّا إنْ رَفَعَ القولُ الثالثُ ما اتفق عليه القولانِ السابقانِ، فإنَّنا نمنعُ منه؛ لمخالفتِه للإجماعِ الضمني
(5)
.
(1)
انظر: العدة (4/ 1116)، وإحكام الفصول (ص/ 499)، والمستصفى (1/ 367)، والأحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 271)، وتيسير التحرير (3/ 253).
(2)
انظر: شرح العمد (1/ 219)، وقواطع الأدلة (3/ 266)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (1/ 489).
(3)
انظر: تيسير التحرير (3/ 253).
(4)
انظر: المصدر السابق.
(5)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/ 269)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (1/ 487)، وشرح مختصر ابن الحاجب للعضد (2/ 40)، والإجماع للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 192).
• الموازنة والترجيح:
مِنْ خلالِ النظرِ في الأقوالِ وما استدلوا به، يظهر لي رجحان القولِ الثالثِ القائل: إنْ كانَ القولُ الثالث رافعًا لما اتفق عليه القولانِ السابقانِ، لم يجزْ إحداثُه، وإنْ لم يرفع القولُ الثالثُ ما اتفق القولانِ السابقانِ، جازَ إحداثُه؛ وذلك للآتي:
أولًا: مراعاة هذا القول للإجماعِ الضمني الظنِّي الذي دلَّ عليه اختلافُ أهلِ العصرِ الأولِ.
ثانيًا: أنَّ أدلةَ المانعين لا تقوى على القولِ بمنعِ إحداثِ القولِ الثالثِ، ولا سيما القول الذي لا يرفع ما اتفق عليه أصحاب العصرِ الأولِ.
ثالثًا: أنَّ عملَ بعضِ السلفِ - كابنِ سيرين - مؤيّدٌ للقولِ الثالثِ المفصِّلِ في المسألةِ، إضافةً إلى اختيارِ جمعٍ مِنْ محققي الأصولِ له.
وأنبّه إلى ضرورةِ التثبّت في ادِّعاءِ أنَّ مجتهدي العصرِ الأول قد اختلفوا في المسألةِ على قولين - أو ثلاثة أقوال - فقط، لأنَّ هذه الدعوى تتضمّن منعَ أهلِ العصرِ اللاحقِ مِنْ مخالفةِ القدرِ المشتركِ بين القولين.
• سبب الخلاف:
بالنّظرِ إلى المسألةِ بأقوالِها وأدلتِها، يظهرُ لي أنَّ الخلافَ في مسألةِ:(حكم إحداثِ أهلِ العصرِ اللاحق قولًا ثالث) عائدٌ إلى جعلِ اختلافِ مجتهدي العصرِ على قولين إجماعًا منهم على انحصارِ الصواب في أقوالِهم:
فمَنْ قال: إنَّ اختلافَ مجتهدي العصرِ على قولين إجماعٌ منهم على انحصارِ الصوابِ في أقوالِهم، مَنَعَ إحداثَ قولٍ ثالثٍ، وهذا ما ذَهَبَ إليه أصحابُ القولِ الأولِ.
ومَنْ قال: ليس في اختلافِ مجتهدي العصرِ على قولين إجماعٌ على انحصارِ الصوابِ في أقوالِهم، جوَّزَ إحداثَ قولٍ ثالثٍ، وهذا ما ذَهَبَ إليه أصحابُ القولِ الثاني.