الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: التمذهب بأحد المذاهب الأربعة الفقهية المشهورة
انتهت المدارسُ الفقهيةُ إِلى أربعةِ مذاهب فقهية مشهورة، وهي: المذهبُ الحنفي، والمذهبُ المالكي، والمذهبُ الشَّافعي، والمذهبُ الحنبلي
(1)
، وبقيتْ هذه المذاهبُ عبرَ قرون طويلةٍ، وتعلقَ الناسُ بها إِلى زمانِنا الحاضرِ.
وتُعدُّ مسألة: (حكم التمذهبِ بأحدِ المذاهب الأربعة الفقهية المشهورة) كبرى مسائلِ التمذهبِ الَّتي دار فيها جَدلٌ بين العَلماءِ قديمًا وحديثًا.
وقبلَ الحديثِ عن تحريرِ محلِّ النزاعِ في المسألةِ، أُمهدُ لها بالنقاطِ الآتيةِ:
الأولى: لا خلافَ بنين العلماءِ في قَبولِ وجودِ المذاهبِ الفقهيةِ الأربعةِ.
هذا ما ظَهَرَ لي أَثْنَاءَ بحثِ المسألةِ؛ إِذ لم أقفْ على مَنْ دعا إِلى إِلغاءِ المذاهبِ الفقهيةِ، أو إِلى تركِ كتبِ الفقهاءِ، والاكتفاءِ بالرجوعِ إِلى الأدلةِ الشرعية مباشرةً.
وأيضًا: فالتمذهبُ لا يتعارضُ مع اتباعِ الأدلةِ، والنظرِ فيها.
ولذا فأيُّ دعوةٍ إِلى إِلغاءِ المذاهب الفقهية، فهي دعوةٌ مردودةٌ
(2)
.
(1)
انظر: الجواهر المضية للقرشي (4/ 544).
(2)
لذا فقول زايد محمد طالب في كتابه: خطيئة المذاهب (ص/ 12) - بواسطة رسالة: الانسلاخ من المذاهب الفقهية لمليكة صوالح (ص/ 24) -: "فالعلاجُ الحاسم والشفاءُ الدائم =
الثانية: اتفقَ العلماءُ المجيزون للتمذهبِ على أنَّ المتمذهبَ المتأهلَ إِذا خالفَ مذهبَه وخَرَجَ عنه؛ لرجحانِ غيرِه مِن المذاهبِ، فقد أحسن.
يقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "إِذا كانَ الرجلُ متبعًا لأبي حنيفةَ أو مالك أو الشَّافعي أو أحمد، ورأى في بعضِ المسائلِ أنَّ مذهبَ غيرِه أقوى، فاتَّبعه، كانَ قد أحسن في ذلك، ولم يقدحْ ذلك في دينِه ولا عدالتِه، بلا نزاعٍ"
(1)
.
ولم تزل المذاهب الفقهية حافلةً بالعلماءِ المحققين الذين يرجِّحون ما خالفَ مذهبَهم؛ لموافقةِ الدليلِ.
الثالثة؛ أنَّ التمذهب يشملُ الفقهَ وأصولَه - كما تقدّمَ تقريرُه - ومع هذا، فإِنَ جُل كلامِ العلماء في مسألةِ:(التمذهب بالمذاهب الفقهية الأربعة) منصبٌّ على الفقهِ، دونَ أصولِه.
ولعلَّ السبب في هذا عائدٌ إِلى أنَّ صورة التمذهبِ الَّتي حذّرَ منها المانعون أكثر ما تُوجدُ في الفروعِ؛ ولأنَّ الفتوى تقع في الفروعِ، لا في الأصولِ، ومِنْ أسبابِ قيامِ الاختلافِ بين المتمذهبين وغيرهم هو ما يصدر عنهم من فتاوي.
ثُمَّ ارتباط الفروعِ بالعملِ يجعلُ أثرَ التمذهب في الفقهِ ظاهرًا، بخلافِ أصولِ الفقهِ.
الرابعة: محلُّ الكلامِ هنا عن تمذهبِ غيرِ المجتهدِ، أمَّا تمذهبُ
= للمسلمين من الضلال والخيال لا يكون إِلَّا باقتلاع جميعِ المذاهب! والأحزاب، والاعتصام بالكتاب والسنة"، وقوله أيضًا في (ص/ 240): "ولا يحسبن قليل العلم قاصر الفهم أن مصيبة المذاصب قاصرة على تلك المذاهب الأربعة": قولٌ مردودٌ لا يسمع.
وانظر: التجديد في الفقه الإِسلامي للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 171).
(1)
مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (22/ 248). وانظر: الفروع لابن مفلح (11/ 346)، والإِنصاف (11/ 195)، وتحفة الأنام للسندي (ص/ 46)، وهداية السلطان إِلى مسلمي بلاد اليابان للمعصومي (ص/ 73)، واللامذهبية للدكتور محمد البوطي (ص/ 34).
المجتهدِ، فقد أفردتُ له مسألةً مستقلةً، وقد تقدمَ الحديثُ عنها.
الخامسة: لا يدخلُ في حديثي في هذه المسألةِ العاميُّ الصِرْفُ؛ لأنَّ العاميَّ لا مذهبَ - كما تقدّمَ تقريرُه - وقد يُعَبِّر بعضُ العلماءِ بالعامي، ومرادهم به: مَنْ عدا المجتهد المطلق
(1)
، فيدخل فيه: المتمذهبون الذين لم يبلغوا رتبةَ الاجتهادِ المطلقِ، ممَّن ارتفعوا عن العوامِّ، وهم درجاتٌ متفاوتة.
• تحرير محل النزاع:
لا بُدَّ مِنْ تحريرِ محلِّ النزاع؛ لتحديد النقطةِ الَّتي وَقَعَ الخلافُ فيها، ولتحريرِ محلِّ النزاعِ في هذه المسَألةِ أهميةٌ بالغةٌ؛ لئلا يستغلَ بعضُ الناسِ ما قد يُوجدُ عند بعضِ العلماءِ مِن التحذيرِ مِنْ عملِ بعضِ المتمذهبين، فيجعل المرادَ به محاربة المذاهبِ على وجهِ العمومِ.
أولًا: قد يكونُ التمذهبُ عبارةً عن ملازمةِ مدرسةٍ فقهيةٍ أصوليةٍ يتخرَّجُ فيها المتمذهبُ، مترقيًا في العلمِ، مع عنايتِه بالدليلِ، وطلبِ القولِ الراجحِ، والتفقه في مذهبِه في ضوءِ الكتابِ والسنةِ.
ويظهرُ لي أنَّ هذه الحالة لا خلافَ في جوازِها، ويشهدُ لهذا: ما وَقَعَ في زمنِ صدرِ الصحابةِ رضي الله عنه مِنْ نشرِ العلمِ عن طريقِ التلاميذ الملازمين للصحابة رضي الله عنهم، الذين كانوا كالمدرسةِ الفقهيةِ، يقول ابنُ القيم: "الدِّينُ والفقهُ والعلمُ انتشر في الأمةِ عن أصحاب ابنِ مسعود، وأصحابِ زبد بن ثابت، وأصحابِ عبد الله بن عمر، وأصَحاب عبد الله بن عبَّاس، فعِلْمُ الناسِ عامّته عن أصحابِ هؤلاء الأربعة
…
أَمَّا عائشة فكانتْ مقدَّمةً في العلمِ بالفرائضِ والأحكامِ، والحلالِ والحرامِ، وكان مِن الآخذين عنها الذين لا
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 162)، وصفة الفتوى (ص/ 72)، وسلاسل الذهب (ص/ 455)، وغاية الوصول للأنصاري (ص/ 152)، والشرح الكبير على الورقات للعبادي (2/ 552)، ونثر الورود للشنقيطي (2/ 576).
يكادون يتجاوزون قولَها المتفقهين: القاسمُ بن محمد
(1)
"
(2)
.
وسيأتي في الموازنةِ الترجيحِ أقوالُ بعضِ معارضي التمذهب في إِقرارهم التلقي عن طريقِ المذاهبِ، لكنْ مع معرفةِ الدليلِ.
ثانيًا: إِذا أَخَذَ المتمذهبُ قولَ إِمامِه مع قناعتِه برجحانِه - بعد نظرِه في أدلتِه وأدلةِ مَنْ خالفه - لكنَّه ينسب القولَ إِلى مذهبِه، لا إِلى اختيارِه: فيظهرُ لي أنَّه لا خلافَ في جوازِ فعلِه حينئذٍ؛ لأمرين:
الأمر الأول: إِذا كان المتمذهبُ متأهلًا للنظرِ في الأدلةِ، فقد أدَّى ما عليه في هذه الحالةِ.
الأمر الثاني: لم أقفْ على مَنْ مَنَعَ مِنْ فعلِ المتمذهب، بل المانعون يحثّون المتمذهبين على النظرِ في الأدلةِ؛ إِذ هم مَنَعُوا التَقليدَ المذهبي، وسيأتي بيانُ مرادِهم في المسألةِ بعد قليلٍ.
ثالثًا: يسوغُ للشخصِ أنْ يتمذهبَ بمذهب أحدِ الأئمةِ الأربعةِ إِذا عَجَزَ عن معرفةِ الشرعِ مِنْ غيرِ جهةِ المذهبِ؛ لأنَّ حالتَه حالةُ ضرورةٍ
(3)
.
رابعًا: إِذا كانَ التمذهبُ على سبيلِ الالتزامِ أو الانتساب، وتَبِعَه موالاةٌ المتمذهب لمنْ هم على مذهبِه، ومعاداته لمَنْ لم يكنْ مِنْ أربابِ
(1)
هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد أو أبو عبد الرَّحمن القرشي المدني، ولد في خلافة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، كان أحد الفقهاء السبعة، إِمامًا حافظًا حجةً محدثًا، من أعلم أهل زمانه، ومن خيار التابعين، ومن أعلم الناس بحديث عائشة رضي الله عنها، قال عنه يحيى بن سعيد:"ما أدركنا بالمدينة أحدًا نفضله على القاسم"، توفي سنة 101 هـ وقيل: 102 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 187)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/ 118)، وحلية الأولياء لأبي نُعيم (2/ 183)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 55)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 59)، وتهذيب الكمال للمزي (23/ 427)، وسير أعلام النُّبَلاء (5/ 52)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (3/ 419).
(2)
إِعلام الموقعين (2/ 38).
(3)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 209، 225)، و (11/ 514)، والإِنصاف في بيان سبب الاختلاف للدهلوي (ص/ 34)، وأضواء البيان (7/ 578 - 588).
مذهبِه، فهذا الفعلُ مذمومٌ؛ لأنَّه تعصبٌ
(1)
.
يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية: "الأسماءُ الَّتي قد يسوغُ التسمي بها، مثل: انتسابِ الناس إِلى إِمامٍ، كالحنفي والمالبهي والحنبلي
…
لا يجوز لأحدٍ أنْ يمتحنَ الناسَ بها، ولَا يوالي بهذه الأسماءِ، ولا يعادي عليها"
(2)
.
خامسًا: محلُّ الخلاف في التمذهبِ بالمذاهبِ الفقهيةِ الأربعة في صورٍ ثلاث:
الصورة الأولى: التزامُ المتمذهبِ بمذهبِ إِمامِه، واكتفاؤه به، بحيثُ لا يخرج عنه، أو التزامُه بمذهبِه، مع عدمِ معرفتِه بدليلِه.
الصورة الثانية: إِعراضُ المتمذهبِ المتأهلِ عن النظرِ في الأدلةِ.
الصورة الثالثة: التزامُ المتمذهبِ بالمذهبِ مع مخالفتِه للدليلِ.
وسيكون الحديثُ هنا عن الصورةِ الأولى فقط؛ لأنَّها ألصقُ ما تكون بحقيقةِ التمذهبِ، أمَّا الصورة الثالثة، فسيأتي الحديثُ عنها في مسألةِ مستقلةٍ، وأمَّا الصورةُ الثانيةُ، فهي أثرٌ مِنْ آثارِ التمذهب، هذا مِنْ جهةٍ، ومِنْ جهةٍ أخرى: فسيأتي الحديثُ عنها في مسألةٍ مستقلةٍ.
سادسًا: هناك كلامٌ لبعضِ العلماءِ الذين اشتُهِرَ عنهم محاربة التقليدِ المذهبي - كابنِ حزمٍ، وابنِ عبدِ البر، وابنِ تيمية، وابنِ القيِّم - يُحَدّد في ضوئِه محل الخلافِ والنزاعِ، وسأسوقُ عددًا مِن النقولِ عن العالمِ الواحدِ؛ ليكونَ الناظرُ في المسألةِ على بصيرةٍ بالصورة الَّتي هي محلُّ الخلافِ، ولنفهمَ كلام هؤلاءِ العلماءِ على وجهِ الخصوصِ على الوجهِ الصحيحِ.
1 -
: ما جاء عن أبي محمد بن حزم:
أولًا: حدَّد ابنُ حزمٍ التقليدَ الَّذي حاربه في عددٍ مِن المواضعِ في
(1)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (11/ 512).
(2)
المصدر السابق (3/ 416).
كتبِه، مِنْ ذلك قولُه:"فإِنَّهم - أيْ: أهل التقليد لإِمامِهم - ما داموا آخذين بالقولِ؛ لانَّ فلانًا قاله، دونَ النبي صلى الله عليه وسلم، فهم عاصون"
(1)
.
ويقولُ أيضًا: "إِمَّا أنْ يكونَ اعتقده - أيْ: اعتقد المرء شيئًا بغيرِ برهان - لأنَّ بعضَ مَنْ دون النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وهذا هو التقليدُ"
(2)
.
ويقولُ أيضًا: "الشيءُ الَّذي يأمرُ به اللهُ ليس تقليدًا
…
والتقليدُ إِنَّما هو اتِّباع مَنْ لم يأمرْنا عز وجل باتباعِه، وإنَّما التقليدُ الَّذي نخالفهم فيه: هو أَخْذُ قولِ رجلٍ ممَّنْ دونَ النبي صلى الله عليه وسلم، لم يأمرْنا ربُنا باتباعِه، بلا دليلٍ يصحّحُ قولَه، لكنْ لأنَّ فلانًا قاله فقط"
(3)
.
وهذا الكلامُ مهمٌّ في تحديدِ التقليدِ الَّذي عابَه ابنُ حزم على المتمذهبين، فما كانَ دون دليلٍ، فهو تقليدٌ، وما كان عن دليلٍ فليس "بتقليدٍ".
ثانيًا: انتقدَ ابنُ حزم بشدّةٍ موقفَ بعضِ المتمذهبين تجاه الأدلةِ النقليةِ، فقال: "أمَّا أهلُ بلادِنا، فليسوا ممَّنْ يتعنّى بطلب دليلٍ على مسائلِهم، وطالبُه منهم في الندرةِ، إِنَّما يطلبُه كما ذكرنا آنفًا
(4)
، فيَعْرِضون كلامَ الله تعالى، وكلامَ الرسول صلى الله عليه وسلم على قول صاحبِهم - وهو مخلوقٌ مذنبٌ، يخطئُ ويصيبُ - فإِنْ وافق قولُ الله وقولُ رسوله صلى الله عليه وسلم قولَ صاحبِهم، أخذوا به، وإِنْ خالفاه تركوا قولَ الله تعالى جانبًا وقوله صلى الله عليه وسلم ظهريًا، وثبتوا على قولِ صاحبِهم"
(5)
.
ويقولُ أيضًا: "مَنْ اتخذ رجلًا إِمامًا، يَعْرِض عليه قولَ ربه تعالى، وقولَ نبيه صلى الله عليه وسلم، فما وافق فيه قولَ ذلك الرجل قَبِلَه، وما خالفه تَرَكَ قولَ ربِّه
(1)
الإِحكام في أصول الأحكام (6/ 60).
(2)
المصدر السابق، وانظر منه:(6/ 116).
(3)
المصدر السابق (6/ 69 - 70).
(4)
الَّذي قاله قبل كلامه: "فإِنَّهم - أي: مقلدي الأئمة - إِنَّما يأخذون من الحِجَاج ما وافق مذهبهمِ - وإِن كان خبرًا موضوعًا، أو شغبًا فاسدًا - ويتركون ما خالفه، وإن كان نص قرآن، أو خبرا مسندًا من نقل الثقات". المصدر السابق (6/ 117).
(5)
المصدر السابق (6/ 117 - 118).
تعالى وقول نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو يُقِرّ أنَّ هذا قول الله عز وجل وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزم قول إِمامه: فقد اتخذ دونَ الله تعالى وليًّا"
(1)
.
ثالثًا: انتقدَ ابنُ حزمٍ بشدّةٍ عَمَلَ بعضَ المتمذهبين تجاه أقوال إِمامٍ مذهبِهم الَّتي لايحيدون عنها، فقالَ:"إِنَّ العجبَ ليطول ممَن اختارَ أخذ أقوالِ إِنسانٍ بعينِه لم يصحبْه مِن الله عز وجل معجزةٌ، ولا ظهرتْ عليه آيةٌ"
(2)
.
ويقولُ - أيضًا -: "فاتَّبع ضعفاءُ أصحابِ أبي حنيفةَ أبا حنيفةَ، وأصحابُ مالكٍ مالكًا، ولم يلتفتوا إِلى حديثٍ يخالفُ قولَهما، ولا تفقهوا في القرآنِ والسننِ، ولا بَالَوا بهما"
(3)
.
ويقولُ - أيضًا -: "فكيفَ بهم - أيْ: بالصحابةِ - لو شاهدوا ما نشاهده مِن المصائب الهادمةِ للإِسلامِ
…
مِن الانتماءِ إِلى مذهبٍ فلان وفلان، والإِقبالِ على أقوالِ مالكٍ وأبي حنيفة والشافعي؟ ! .. "
(4)
.
ويقولُ أيضًا: "المنعُ مِنْ أنْ يقصدَ منهم - أيْ: من الصحابة والتابعين - أحدٌ إِلى قولِ إِنسانٍ منهم، أو ممَّنْ قبلهم، فيأخذه كلّه، فليَعْلَم مَنْ أَخَذَ بجميع قولِ أبي حنيفةَ أو جميعِ قولِ مالكٍ أو جميع قولِ الشافعي أو جميع قولِ أَحمدَ بن حنبل رضي الله عنهم، ممَّنْ يتمكنُ مِن النظرِ، ولم يتركْ مَنْ اتَّبعه منهم إِلى غيره: أنَّه قد خالف إِجماعَ الأُمّةِ"
(5)
.
رابعًا: جاءَ عن ابنِ حزمٍ ثناءٌ على مَنْ تَرَكَ مذهبَ إِمامِه، لمخالفتِه الدليل، فيقول: "أمَّا أفاضل أصحاب أبي حنيفةَ ومالك، فما قلَّدوهما، فإِن خلافَ ابنِ وهبٍ وأشهبَ وابنِ الماجَشون والمغيرةَ
(6)
(1)
المصدر السابق (6/ 124)، وانظر منه:(6/ 103).
(2)
المصدر السابق (6/ 130).
(3)
المصدر السابق (6/ 143).
(4)
المصدر السابق (6/ 175).
(5)
النبذ في أصول الفقه (ص/ 116).
(6)
هو: المغيرة بن عبد الرَّحمن بن الحارث بن عبد الله القرشي المخزومي المدني، أبو هاشم، وقيل: أبو هشام، ولد سنة 124 هـ كان إِمامًا في العلم، روى عن الإِمام مالك بن أنس، وأفتى في حياته، كان أفقه أهل المدينة بعد مالك، عرض علية الخليفة الرشيد قضاء المدينة، =
وابنِ أبي حازم
(1)
لمالكِ، أشهرُ مِنْ أنْ يتكلّف إِيرادُه، وقد خالفه ابنُ القاسمِ، وكذلك خلافُ أبي يوسفَ وزفر ومحمد والحسن بن زياد
(2)
لأبي حنيفةَ أشهر مِنْ أنْ يُتكلّفَ إِيرادُه. وكذلك خلافُ أبي ثور والمزني للشافعي، رحمه الله. وكذلك خالف أصبغ وسحنون ابنَ القاسم، وكذلك خالف الطحاويُّ أيضًا أبا حنيفةَ وأصحابه"
(3)
.
وامتداحُ ابنِ حزمٍ لبعضِ المتمذهبين حين خالفوا مذهبَهم؛ لا لأنَّهم
= فامتنع، له مؤلفات، لكن لم أقف على من سماها، توفي سنة 186 هـ وقيل: 188 هـ. انظر ترجمته في: التاريخ الكبير للبخاري (7/ 321)، والانتقاء في فضائل الأئمة لابن عبد البر (ص/ 100)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 138)، وترتيب المدارك للقاضي عياض (3/ 2)، وتهذيب الكمال للمزي (28/ 381)، والديباج المذهب لابن فرحون (2/ 343)، والوفيات لابن قنفذ (ص/ 148)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 56)، والفكر السامي للحجوي (1/ 444).
(1)
هو: عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدني، أبو تمام، وقيل: أبو عبد الله الأسلمي مولاهم، يعرف بابن أبي حازم، ولد سنة 107 هـ كان إِماما في العلم، فقيهًا عابدًا ثقة صدوقًا، سمع من الإِمام مالك، وقال عنه:"إِنه لفقيه"، وقال عنه الإِمام أحمد:"لم يكن أحد بالمدينة بعد مالك أفقه من عبد العزيز بن أبي حازم"، توفي وهو ساجد بالمسجد النَّبويّ سنة 184 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 242)، والمعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 429)، وترتيب المدارك للقاضي عياض (3/ 9)، وتهذيب الكمال للمزي (18/ 120)، وسير أعلام النُّبَلاء (8/ 363)، وميزان الاعتدال للذهبي (2/ 626)، والديباج المذهب لابن فرحون (2/ 23).
(2)
هو: الحسن بن زياد الؤلؤي الكوفي، أبو عليّ، فقيه العراق، تتلمذ للإمام أبي حنيفة وصاحبيه، كان علامةً يقظًا حافظًا للروايات عن أبي حنيفة، رأسًا في الفقه، تولى قضاء الكوفة، ولم يخرّج له أصحاب الكتب الستة؛ لضعفه، وكان الحسن يقول:"كتبتُ عن ابن جريج اثني عشر ألف حديث، كلها يحتاج إِليها الفقهاء"، وقد كذَّبه ابنُ معين، وقال عنه يحيى بن آدم:"ما رأيت أفقه من الحسن بن زياد"، من مؤلفاته: المقالات، وأدب القاضي، والخراج، ومعاني الإِيمان، توفي سنة 204 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السَّلام للخطيب (8/ 275)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 129)، وسير أعلام النُّبَلاء (9/ 543)، وميزان الاعتدال للذهبي (1/ 491)، والجواهر المضية للقرشي (2/ 56)، ومختصر الكامل للمقريزي (ص/ 267)، وتاج التراجم لقطلوبغا (ص/ 150)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ 25).
(3)
الإِحكام في أصول الأحكام (6/ 143)، وانظر منه:(6/ 152).
خالفوا مذهبَهم لمجردِ المخالفةِ، بلْ لأنَّ المخالفةَ قرينةٌ دالةٌ على أنَّ المخالفَ اتَّبع الدليلَ لما ظَهَرَ له ضعفُ مذهبِه.
ويمكن أنْ نستخلص ممَّا سبق إِيراده من كلام ابن حزم الآتي:
الأول: أنَّ التقليدَ الَّذي حاربه ابنُ حزمٍ هو ما كان أخذًا لقولِ عالمٍ دونَ معرفةِ دليلِ قولِه، وإِنَّما أَخَذَه؛ لأنَّ فلانًا قاله.
ويترتب على هذا: أنَّ مَنْ أَخَذَ قولَ عالمٍ؛ لظهورِ رجحانِه، أو لمعرفةِ دليلِه، فليس الآخذُ مقلِّدًا عند ابنِ حزمٍ، ولا يسمّي فعله تقليدًا، فلا يتوجه انتقادُ ابنِ حزمٍ إِلى مثلِ هؤلاءِ.
ويدلُّ على ما سَبَقَ: أنَّ ابنَ حزم نصَّ على ذمّ مَنْ أَخَذَ قولَ إِمامٍ بلا دليلٍ يُصححُ قولَه
(1)
، وهو قيدٌ مهمٌّ؛ يخرجُ به مَنْ أَخَذَ قولَ إِمامِه بدليلٍ يصححُ قولَه، فلا يدخلُ فيما ذمّه ابنُ حزمٍ.
الثاني: أنَّ تحذيرَ ابنِ حزمٍ انصبَّ على حالةِ المتمذهب الَّذي يأخذُ أقوالَ إِمامِه في جميعِ المسائلِ، ويقتصر على مذهبِه - ولا يلتَفت إِلى غيرِه البتة، مِنْ مخالفٍ أو دليلٍ - ويلتزمُ مذهبَ إِمامِه، والدليلُ على خلافِه.
الثالث: لم أقفْ على كلامٍ لابنِ حزمٍ دعا فيه إِلى تركِ المذاهبِ الفقهيةِ، وإنَّما ذمَّ صنيعَ بعضِ المتمذهبين في الحالةِ السابقةِ.
الرابع: لم يفصّل ابنُ حزم حين مَنَعَ التقليدَ المذهبي بين المتمذهبِ المتأهلِ للنظرِ في الأدلةِ، والمتمذهبِ الَّذي لم يتأهلْ.
لكنْ في كلام ابن حزمٍ في بعض المواطنِ إِشارةٌ إِلى توجّه كلامِه إِلى المتمكنِ مِن النظرِ
(2)
.
والذي يظهرُ لي أنَّ ابنَ حزمٍ يمنعُ التزام المذهبِ، سواءٌ أكان
(1)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام (6/ 69 - 70).
(2)
انظر: النبذ في أصول الفقه (ص / 116).
المتمذهبُ متمكنًا مِن النظر أم لا، لأنَّ أكثرَ أدلته فيها عموماتٌ تشملُ كلَّ الملتزمين بمذهبِهم
(1)
، ولأنَّه قد يؤدي إِلى تغليب قولِ الإِمام على قولِ الله تعالى وقولِ رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ إِنَه يرى أنَّ التزامَ أقوالِ عالمٍ بعينِه - كما سيأتي في أدلةِ أصحاب القولِ الرابعِ - مِن البدعِ، وهذا يدلُّ على المنعِ مِنْ الالتزامِ مطلقًا.
وأيضًا: لئلا يكونَ عدمُ تأهّلِ المتمذهبِ ذريعةً له في بقائِه على مذهبِه.
2 -
: ما جاء عن أبي عمر ابن عبد البر:
جاءَ عن ابنِ عبد البر عباراتٌ شديدةٌ في التحذيرِ مِن التقليدِ المذهبي، وسأحررُ قولَه في ضوءِ الآتي:
أولًا: تعريف التقليد عند ابنِ عبد البر:
بيَّنَ ابنُ عبد البر التقليدَ بقولِه: "يُقالُ لمَنْ قالَ بالتقليدِ: ما حجتك في تقليدِ بعضِ العلماءِ دونَ بعضٍ، وكلّهم عالمٌ؟ ولعل الَّذي رغبتَ عن قولِه أعلم مِن الَّذي ذهبتَ إِلى مذهبِه. فإنْ قال: قلَّدتُه، لأنِّي علمتُ أنَّه صوابٌ. قيل له: علمتَ ذلك بدليلٍ مِن كتابٍ أو سنةٍ أو إِجماعٍ؟ فإنْ قالَ: نعم، فقد أبطلَ التقليدَ، وطُولب بما ادّعاه مِن الدليلِ"
(2)
.
ويقولُ أيضًا: "التقليد: أنْ تقولَ بقولِه - أيْ: القائل - وأنتَ لا تعرفُ وجهَ القولِ، ولا معناه
(3)
، وتأبى سواه، أو يتبين لك خطؤُه، فتتّبعه؛ مهابةَ خلافِه، وأنتَ قد بان لك فسادُ قولِه"
(4)
.
وكلامُ ابنِ عبد البر مِن الوضوح بمكانٍ في تحديدِ مصطلح التقليدِ، وأنَّه يشمل حالتين:
(1)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام (6/ 86، 124، 125، 164، 175).
(2)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 944).
(3)
لعل المقصود: "بالمعنى": العلة والتوجيه.
(4)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 787).
الحالة الأولى: أخذُ القولِ دونَ معرفةِ دليلِه.
الحالة الثانية: أخذُ القولِ مع ظهورِ خطئِه.
وأنَّ مَنْ أَخَذَ قولَ عالمٍ مع معرفةِ دليلِه، فليس بمقلِّدٍ.
ويقصدُ ابنُ عبد البر بكلامِه الَّذي حذَّر فيه مِن التقليدِ مَنْ عدا العامي؛ لأنَّ فرضَ العامي سؤالُ العالمِ وتقليدُه، وقد حكى الإِجماعَ عليه
(1)
.
إِذًا فابن عبد البرِ يحاربُ أدنى درجاتِ التمذهبِ لمنْ هو أهلٌ للنظرِ في الأدلةِ.
ثانيًا: أن ابنَ عبد البر نفسَه ألَّف كتابًا في الفقهِ المالكي، ولو كان يحاربُ التمذهبَ بكافَّةِ أحوالِه وألوانِه لما ألَّف كتابًا في فقهِ مذهبِه.
يقولُ في مقدمةِ كتابِه: (الكافي في فقه أهل المدينة المالكي)
(2)
: "فإِنَّ بعضَ إِخوانِنا مِنْ أهلِ الطلبِ والعنايةِ والرغبةِ في الزيادةِ مِن التعلّمِ، سألني أنْ أجمعَ له كتابًا مختصرًا في الفقهِ
…
فرأيتُ أنْ أجيبَه إِلى ذلك
…
واعتمدتُ فيه على علمِ أهلِ المدينةِ، وسلكتُ فيه مسلكَ مذهبِ الإِمامِ أبي عبدِ الله مالك بن أنس رحمه الله لما صحَّ له مِنْ جمعِ مذاهبِ أسلَافِه مِنْ أهلِ بلدِه
…
واقتطعتُه مِنْ كتبِ المالكيين، ومذهبِ المدنيين
…
".
ثالثًا: نَسَبَ ابنُ عبد البر نفسَه إِلى المذهب المالكي، وصرَّح بأنَّ المالكيةَ أصحابُه، يقولُ في موضعٍ مِنْ كتبِه:"زَعَمَ بعضُ أصحابِنا"
(3)
.
وكتابُه: (الكافي في فقه أهل المدينة المالكي) خيرُ شاهدٍ على نسبتِه المذهبيةِ.
وكذلك ترجم له مَنْ كَتَبَ في طبقاتِ المالكيةِ: كالقاضي عياض
(4)
،
(1)
انظر: المصدر السابق (2/ 989).
(2)
(1/ 136 - 138).
(3)
التمهيد (9/ 58) مع موسوعة: شروح الموطأ.
(4)
انظر: ترتيب المدارك (8/ 127).
والقاضي ابنِ فرحون
(1)
.
ولما ألَّف كتابَه: (الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي)، بَدَأَ بالإِمامِ مالكٍ؛ ولعلَّ مردّ ذلك إِلى كونه مالكي المذهبِ.
ومِنْ أقوى ما يدلُّ على نسبتِه المذهبية إِلى المالكية ترجيحَه للمتعلمِ أنْ يتفقه على مذهبِ الإِمامِ مالكٍ، يقول في هذا الصددِ:"الاختيارُ له - أيْ: للمتعلم - أنْ يجعلَ إِمامَه في ذلك إِمامَ أهلِ المدينةِ، دار الهجرة، ومعدِن السُنّةِ"
(2)
.
وجاءَ هذا الكلامُ في كتابِه: (جامع بيان العلم وفضله) الَّذي حذَّر فيه مِن التقليدِ.
ويتلخص أمران ممَّا سَبَقَ:
الأمر الأول: أنَّ مرادَ ابنِ عبد البر بالتقليدِ هو أخذُ المتمذهب قولَ عالمٍ، دونَ معرفةِ دليلِه، وأخذُه القول مع ظهورِ خطئِه.
الأمر الثاني: أن ابنَ عبد البر لم يحارب التمذهبَ بكافّةِ صورِه، بلْ حاربَ التقليدَ المذهبيَّ، فلم يحارب المذاهبَ الفقهيةَ، ولم يحارب مجتهدي المذاهبِ.
3 -
: ما جاء عن تقي الدين بن تيمية:
جاءَ عن تقي الدينِ بنِ تيمية كلامٌ في التمذهبِ والتقليدِ، وسأبينُ الأمورَ الأساسية في كلامِه؛ لتتضحَ الصورةُ الَّتي عارضها، وحذّر منها:
أولًا: خبرةُ تقي الدين بنِ تيميةَ الواسعةُ، ومعرفتُه القويّةُ بمذهبِ الحنابلةِ، وهذا أمرٌ لا يحتاجُ إِلى إِقامةِ دليلٍ عليه، وخبرتُه خبرة مَنْ بَلَغَ النهايةَ في معرفةِ المذهبِ الحنبلي.
(1)
انظر: الديباج المذهب (2/ 367).
(2)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 1134).
ولو كان لا يرى التمذهبِ بكافّة أحوالِه؛ لما اشتغلَ بالمذهبِ مدةً ليستْ باليسيرةِ مِنْ عمرِه.
ثانيًا: تعبيرُه عن علماءِ الحنابلة بقوله: "أصحابنا"
(1)
، قرينةٌ قويةٌ على انتسابِه إِلى المذهبِ الحنبلي.
ثالثًا: حدّد تقيُّ الدين التقليدَ المحرّمَ بـ "أنْ يتّبعَ غيرَ الرسولِ فيما خالفَ فيه الرسول"
(2)
.
فمتى ما كان المقلّدُ في تقليدِه يَعْلَم معارضةَ قولِ إِمامِه لقولِ الله تعالى ولقولِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فهذا هو التقليدُ المحرّمُ عند ابنِ تيمية
(3)
.
رابعًا: سُئل تقيُّ الدين عن طريقِ معرفةِ الصحيحِ في مذهب الإِمامِ أحمدَ، مع كثرةِ الرواياتِ والأوجه في مذهبِه؛ فأجابَ بإِحالةِ السَائلِ إِلى كتبِ المذهبِ الَّتي تُعْنَى بذكرِ الراجحِ
(4)
، وخَتَمَ ذلك بقولِه:"مَنْ كان خبيرًا بأصولِ أحمدَ ونصوصِه عَرَفَ الراجحَ في مذهبِه في عامّةِ المسائلِ"
(5)
.
فلم ينه عن كتب الفقهاءِ، ولو كان يَرَى أنَّ كتبَ الفقهاءِ تصدُّ عن معرفةِ الكتابِ والسنةِ وَأقوالِ الصحابةِ، لما أرشدَ إِليها.
خامسًا: ذَكرَ ابنُ القيمِ أنَّ رجلًا حنفيَّ المذهب جاءَ إِلى تقي الدين بنِ تيميةَ، يستشيرُه في الانتقالِ عن مذهبِه؛ لكثرةِ مخالفتِه للأحاديثِ الصحيحةِ، فأجابَه بقولِه: "اجعل المذهبَ ثلاثةَ أقسام:
• قسمٌ: الحق فيه ظاهرٌ بيّنٌ موافقٌ للكتابِ والسنةِ، فاقضِ به، وأنتَ طيبُ النفسِ، منشرح الصدرِ.
(1)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 202)، والصارم المسلول (2/ 23)، و (3/ 565، 826، 1008).
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (19/ 260).
(3)
انظر: المصدر السابق (19/ 262).
(4)
انظر: المصدر السابق (20/ 227 - 230).
(5)
المصدر السابق (20/ 228).
• وقسمٌ: مرجوحٌ، ومخالفُه معه الدليلُ، فلا تُفْتِ به، ولا تحكمْ به، وادفعه عنك.
• وقسم: مِنْ مسائل الاجتهادِ الَّتي الأدلةُ فيها متجاذبةٌ، فإِنْ شئتَ أنْ تُفْتِي به، وإِنْ شئتَ أنْ تدفعَه عنك"
(1)
.
وهذه الإِجابةُ ظاهرةٌ في تقديرِ ابنِ تيمية للمذاهبِ الفقهيةِ ومدوّناتها، فلم يُرْشِد السائلَ إِلى الانتقالِ عن مذهبِه إِلى مذهب آخر، ولم يأمرْه بتركِ المذاهبِ بالكليةِ، وإِنَّما أجابَه بإِجابةٍ صالحةٍ ونافعةٍ لكلِّ متمذهب يريدُ اتباعَ الكتابِ والسنةِ.
سادسًا: جاءَ عن ابنِ تيميةَ ما يدلُّ على أن اتِّباعَ الإِمامِ في كلِّ ما قاله مِنْ أمرٍ أو نهي، وإِيجابَ طاعتِه على كل الناس، والدعوة إِلى ذلك: فعلٌ غيرُ جائزٍ، يقولُ تقيُّ الدّينِ: "مَنْ نَصَب إِمامًا، فأَوْجَبَ طاعتَه مطلقًا - اعتقادًا أو حالًا - فقد ضلَّ في ذلك
…
وكذلك مَنْ دعا إِلى اتِّباع إِمامٍ مِنْ أئمةِ العلمِ في كلِّ ما قاله وأَمَرَ به، ونهي عنه مطلقًا، كالأئمةِ الأربَعةِ"
(2)
.
ويقولُ - أيضًا -: "مَنْ يتعصب لمالك أو الشَّافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، ويرى أنَّ قولَ هذا المعيَّن هو الصواب الَّذي ينبغي اتباعُه، دونَ الإِمامِ الَّذي خالفه، فمَنْ فَعَلَ هذا كان جاهلًا ضالًا، بلْ قد يكون كافرًا! "
(3)
.
وكلامُه آنفُ الذكرِ يدلُّ على أنَّ مِنْ أنزلَ إِمامَ مذهبِه منزلةً فوق الَّتي يستحقها، فإِنَّ فعلَه ضلالٌ مُبِينٌ، لأنَّه غلوٌ في التعصبِ.
سابعًا: جاء عن ابنِ تيميةَ الثناءُ على أصحاب الأئمةِ الذين خالفوا أئمتَهم حين اتضحَ لهم ضعفُ قولِ إِمامِهم، فيقول. "لهذا كانَ الأكابرُ مِنْ
(1)
إِعلام الموقعين (6/ 166).
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (19/ 69 - 70).
(3)
المصدر السابق (22/ 248 - 249).
أتباعِ الأئمةِ الأربعةِ لا يزالون إِذا ظَهَرَ لهم دلالةُ الكتابِ أو السنةِ على ما يخالفُ قولَ متبوعهم، اتَّبَعُوا ذلك"
(1)
.
ويقولُ في موضعٍ آخر: "وهذا أبو يوسفَ ومحمدٌ أَتْبَعُ الناسِ لأبي حنيفةَ، وأعلمهم بقولِه، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكادُ تحصى؛ لما تبيَّنَ لهما مِن السنةِ والحجةِ ما وَجَبَ عليهما اتباعه"
(2)
.
ثامنًا: محلُّ النقدِ عند ابنِ تيميةَ في ضوءِ ما سَبَقَ: أنْ يأخذَ المتمذهبُ أقوالَ إِمامِه كلّها - فلا يحيد عنها - أو أنْ يأخذَ قولًا لإِمامِه مع مخالفتِه للدليلِ.
خلاصة ما سبق:
أنَّ تقيَّ الدينِ بنَ تيمية لم يحذّرْ مِن المذاهبِ الفقهيةِ، ولا مَنْ اتَّبعها إِذا لم يخالف الدليلَ، وإِنَّما حذر مِنْ عملِ بعضِ المتمذهبين في بعضِ صورِ التزامِهم بمذاهبِهم.
4 -
: ما جاء عن أبي عبد الله بن القيم الجوزية:
كانَ لابنِ القيمِ كلماتٌ كثيراتٌ في التحذيرِ مِن التقليدِ المذهبي - قد يفهمُ منها بعضُ الناسِ التحذيرَ مِن التمذهبِ ومن المذاهبِ على وجهِ العمومِ - وبتأمّلِ كلامِه ظَهَرَ لي أنَّ ابنَ القيمِ حارب صورًا مِن التمذهبِ، ولم يحارب التمذهبَ الَّذي لا يتعارضُ مع الأخذِ بالدليلِ، ولم يحارب المذاهبَ الفقهية القائمة في عصرِه، ولا كتبَ الفقهاءِ، يقولُ في هذا الصددِ مبينًا كيدَ الشيطانِ لبعضِ المنتسبين إِلى العلمِ:"وكذلك قصّرَ بقومٍ حتى منعهم قبولَ أقوالِ أهل العلمِ والالتفات إِليها بالكليةِ، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلالَ ما حللوه والحرامَ ما حرموه، وقدَّموا أقوالهم على سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة"
(3)
.
(1)
المصدر السابق (20/ 10 - 11).
(2)
المصدر السابق (22/ 352 - 253).
(3)
إِغاثة اللهفان (1/ 204) ط / عالم الفوائد.
وسأبينُ موقفَ ابنِ القيمِ في ضوءِ الآتي:
أولًا: حدّدَ ابنُ القيمِ التقليدَ الَّذي حذَّر منه في مواضع متعددةٍ مِنْ مؤلفاتِه، بأنَّه: المعرفةُ الحاصلةُ دونَ دليل
(1)
، فقالَ:"العجبُ أنَّ كلَّ طائفةٍ مِن الطوائف، وكلَّ أمةٍ مِن الأممِ تدّعي أنَّها على حقٍّ، حاشا فرقة التقليدِ؛ فإِنَّهم لا يدَّعون ذلك - ولو ادَّعوه لكانوا مبطلين - فإِنَّهم شاهدون على أنفسِهم بأنَّهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليلٍ قادهم إِليه، وبرهانٍ دلّهم عليه، وإِنَّما سبيلُهم محضُ التقليدِ"
(2)
.
ونصَّ في موضعٍ آخر على أنَّ الشخصَ إِذا أقامَ الدليلَ على ما ادَّعاه، فإِنَّه قد انتقلَ مِنْ منصبِ التقليدِ إِلى منصبِ الاستدلالِ
(3)
.
وبناءً على ما سَبَقَ، متى كانَ أخذُ القولِ عن دليلٍ، فإِنَّه ليس بتقليدٍ.
ثانيًا: بيّنَ ابنُ القيمِ الصورةَ المذهبيةَ القاتمة الَّتي كانت في عصرِه، والتي حذَّرَ منها، فقالَ:"ثُمَّ كلٌّ منهم - أيْ: مَنْ يقلِّدُ إِمامَه - يَعْرِفُ مِنْ نفسِه أنَّه مقلِّد لمتبوعِه، لا يفارقُ قولَه، ويترك له كل ما خالفه مِنْ كتابٍ أو سنةٍ أو قولٍ صاحبٍ، نعلم بالضرورةِ أنَّه لم يكنْ في عصرِ الصحابةِ رجلٌ واحدٌ اتخذ رجلًا منهم يقلِّده في جميع أقوالِه، فلم يسقطْ منها شيئًا، وأَسْقَطَ أقوالَ غيرِه، فلم يأخذْ منها شيئًا"
(4)
.
ويقولُ في موطنٍ آخر مبيّنًا حالَ بعضِ المتمذهبين المقلِّدين لأئمتِهم: "على أيِّ شيءٍ كان الناسُ قبلَ أنْ يولدَ فلانٌ وفلانٌ الذين قلّدتموهم، وجعلتُم أقوالَهم بمنزلةِ نصوصِ الشارعِ؟ ! "
(5)
.
ويقولُ في سياقٍ آخر: "هل في هذا - أيْ: في تقليدِ عمر لأبي بكرٍ رضي الله عنهما في مسألةٍ واحدةٍ - دليل على جوازِ اتخاذِ أقوالِ رجلٍ بعينِه بمنزلةِ
(1)
انظر: إِعلام الموقعين (2/ 11)، وانظر منه:(3/ 462).
(2)
المصدر السابق (3/ 484).
(3)
انظر: المصدر السابق (3/ 486، 527).
(4)
المصدر السابق (3/ 484).
(5)
المصدر السابق (3/ 487).
نصوصِ الشارعِ، لا يُلتفتُ إِلى قولٍ مَنْ سواه، بلْ ولا إِلى نصوصِ الشارعِ، إِلَّا إِذا وافقتْ قولَه؟ ! "
(1)
.
ثالثًا: عابَ ابنُ القيمِ على المتمذهبين أمرين:
الأمر الأول: التعصّب لقولِ إِمامِ المذهبِ إِذا خالفَ الدليلَ.
الأمر الثاني: إِعراضُ المتمذهبِ المتأهلِ عن النظرِ في نصوصِ الكتابِ والسنةِ.
يقولُ واصفًا حالَ بعضِ المتمذهبين: "إِذا خالفَ قولُ متبوعِهم نصًّا عن الله ورسولِه، فالواجبُ التمحّل والتكلّفُ في إِخراجِ ذلك النصِّ عن دلالتِه
…
ومِنْ عجيبِ أمرِكم أيّها المقلدون، أنَّكم اعترفتُم وأقررتم على أنفسِكم بالعجزِ عن معرفةِ الحقِّ بدليلِه مِنْ كلامِ الله وكلامِ رسولِه، مع سهولتِه، وقربِ مأخذِه"
(2)
.
ويقولُ في موضع آخرٍ: "مَنْ عَدَلَ عن الكتابِ والسنةِ وأقوالِ الصحابة، وعن معرفةِ الحقِّ بالدليلِ، مع تمكّنه منه، إِلى التقليدِ: فهو كمَنْ عَدَلَ إِلى الميتةِ مع قدرتِه على المذكّى"
(3)
.
ويقولُ أيضًا: "إِنَّ اللهَ سبحانه ذمَّ مَنْ أعرضَ عمّا أنزله إِلى تقليدِ الآباء
…
وأمَّا تقليد مَنْ بَذَلَ جُهْدَه في اتباع ما أنزلَ اللهُ، وخفي عليه بعضُه، فقلَّد فيه مَنْ هو أعلمُ منه، فهذا محمود غيرُ مذمومٍ"
(4)
.
ويقولُ في موضعٍ آخر: "الفرق بين تقليدِ العالمِ في كلِّ ما قال، وبين الاستعانةِ بفهمِه والاستضاءَةِ بنورِ علمِه: فالأول: يأخذُ قولَه مِنْ غيرِ نظرٍ فيه، ولا طلبٍ لدليلِه مِن الكتابِ والسنةِ، بلْ يجعلُ ذلك كالحبلِ الَّذي يلقيه في عنقِه يقلَّد به، ولذلك سُمّيَ تقليدًا، بخلافِ مَن استعانَ بفهمِه واستضاءَ
(1)
المصدر السابق (3/ 532).
(2)
المصدر السابق (3/ 490)، وانظر منه (3/ 491، 591).
(3)
المصدر السابق (3/ 574).
(4)
المصدر السابق (3/ 448).
بنورِ علمِه في الوصولِ إِلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فإِنَّه يجعلهم بمنزلةِ الدليل إِلى الدليلِ
…
"
(1)
.
وفي كلام ابنِ القيّمِ آنف الذكر إِشارةٌ إِلى أنَّ كلامَه موجهٌ إِلى المتمذهبين المتأهلين للنظرِ في الأدلةِ المعرضينَ عن النظرِ فيها إِلى الأخذِ بقولِ إِمامِهم.
ويقررُ ابنُ القيّمِ أنَّ مَنْ اتَّبع إِمامًا؛ لظنه أنَّه لا يقولُ إِلَّا ما هو حقٌّ، وهو عاجزٌ عن معرفةِ الحقِّ بنفسِه - لم يتأهلْ للنظرِ في الأدلةِ - فهو معذورٌ، بخلافِ مَنْ قَدِرَ على الوصولِ إِلى الحكمِ بالدليلِ، وتَرَكَ النظرَ في الأدلةِ إِعراضًا عنها، فهو غيرُ معذورٍ
(2)
.
فمَنْ تأهّلَ مِن المتمذهبين للنظرِ في الأدلةِ، ولم ينظرْ مع قدرتِه، فهو مذمومٌ عند ابنِ القيّمِ، وإِنْ نَظَرَ في الأدلةِ، ثمَّ توصّلَ إِلى حكمٍ - سواء أوافق إِمامه، أم لا - فهو غيرُ مذمومِ عنده؛ لأنَّه اتبعَ الدليلَ.
أمَّا إِذا أَخَذَ المتمذهبُ الَّذي لم يتأهلْ للنظرِ أقوالَ إِمامِه، فلا يلحقُه ذمٌّ عنده.
وإِن كانْ في بعضِ الأدلةِ الَّتي ساقها ابنُ القيم عموماتٌ تشملُ المتمذهبَ المتأهلَ للنظرِ في الأدلةِ، والمتمذهبَ الَّذي لم يتأهلْ
(3)
، ولا سيما أنَّ ابنَ القيم نفسَه يرى أنَّ التزامَ أقوالِ إِمامٍ بعينِه مِن البدعِ المحدِّثةِ
(4)
.
• الأقوال في المسألة:
اختلفَ العلماءُ في حكم التمذهب بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ المشهورةِ على أقوالٍ:
(1)
الروح (2/ 768 - 769).
(2)
انظر: مدارج السالكين (1/ 164 - 165).
(3)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 448 - 449، 453، 522 - 524، 528 - 529).
(4)
انظر: المصدر السابق (3/ 484 - 485).
القول الأول: جوازُ التمذهبِ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ.
وقد يُعبَّرُ عن هذا القولِ بعدمِ لزومِ التمذهبِ.
وهذا القولُ مذهبُ الحنفية
(1)
، وقولُ بعضِ المالكيةِ
(2)
، وهو وجهٌ عند الشافعيةِ
(3)
، ووجهٌ عند الحنابلةِ
(4)
، ونعته ابنُ مفلحٍ
(5)
وتبعه المرداويُّ
(6)
- بأنَّه الوجه الأشهر عند الحنابلةِ، وجَعَلَ ابنُ مفلحٍ هذا القولَ أحدَ الوجهين عند المالكيةِ
(7)
.
ونَسَبَه أبو المحاسنِ عبدُ الحليم بنُ تيميةَ
(8)
، وتقي الدين بن تيمية إلى
(1)
انظر: رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (1/ 246).
(2)
انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 432).
(3)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 161)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 55)، وتشنيف المسامع (4/ 619)، والبحر المحيط (6/ 319)، وسلاسل الذهب (ص/ 454).
(4)
انظر: المسودة (2/ 921)، وصفة الفتوى (ص/ 72)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 222)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1562)، والآداب الشرعية له (1/ 226)، والمختصر في أصول الفقه لابن اللحام (ص/ 168)، والأخبار العلمية له (ص/ 482)، وشرح الكوكب المنير (4/ 574).
(5)
انظر: أصول الفقه (4/ 1562)، والفروع (11/ 345).
(6)
انظر: التحبير (8/ 4087).
(7)
انظر: الفروع (11/ 345)، ونثر البنود (2/ 352).
(8)
انظر: المسودة (2/ 921). وأبو المحاسن بن تيمية هو: عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر بن تيمية الحراني، شهاب الدين أبو المحاسن، ولد بحران سنة 617 هـ قرأ المذهب الحنبلي على والده حتى أتقنه، كان إمامًا محققًا، كثير الفوائد، جيد المشاركة في العلوم، له اليد الطولى في الفرائض والحساب، دينًا متواضعًا حسن الأخلاق جوادًا، تولى التدريس والإفتاء، وصار شيخ بلده بعد أبيه، قال ابن رجب عنه:"له تعاليق وفوائد، وصنف في علوم عديدة"، من مؤلفاته: المسودة - التي جمعها وبيضها أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني - توفي بدمشق سنة 682 هـ. انظر ترجمته في: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (4/ 185)، والوافي بالوفيات للصفدي (17/ 69)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 166)، والمنهج الأحمد للعليمي (4/ 324)، والدر المنضد له (1/ 425)، وشذرات الذهب لابن العماد (7/ 656)، ومقدمة محيي الدين عبد الحميد للمسودة (ص/ 2).
الأكثرِ
(1)
. ونسبه تقي الدين بن تيمية إلى جماهير العلماء
(2)
. ونسبه الأميرُ الصنعاني إلى الجمهورِ
(3)
.
وهذا القولُ - عدم لزوم التمذهب بمذهب محددِ - هو ظاهرُ قولِ الإمامِ مالكٍ - كما ذكره بدرُ الدّينِ الزركشي
(4)
- وظاهرُ قولِ الإمامِ أحمدَ
(5)
.
وذَهَبَ إليه جمعٌ مِنْ أهلِ العلمِ، منهم: أبو الحسين القدوري
(6)
،
(1)
انظر: جامع المسائل، المجموعة الثامنة (ص/ 438).
(2)
انظر: المصدر السابق (ص/ 439).
(3)
انظر: إجابة السائل (ص / 410).
(4)
انظر: البحر المحيط (6/ 319). وقد أَخَذَ الزركشيُّ قولَ الإمام مالك لما رام بعضُ الخلفاء زمن الإمام مالك حملَ الناس في الآفاق على مذهب الإمام مالك، فمنعه الإمامُ مالك؛ لأنَّ الله فرّق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيه.
وقد جاءت قصة الإمام مالك مع أحد الولاة بألفاظ عدة، واختلف العلماءُ في تحديد الوالي الذي عرض عليه هذا الأمر. انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 29)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (6/ 332)، والانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة لابن عبد البر (ص / 80 وما بعدها)، وترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 101 - 102)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (30/ 79)، وسير أعلام النبلاء (8/ 79).
(5)
انظر: العدة (4/ 1226). وذلك أخذًا ممَّا جاء عن الإمام أحمد لما سأله أحدُ أصحابه عن مسألة في الطلاق؟ فقال: إنْ فعل حنث. فقال له: فإن أفتاني إنسان؟ يعني: أن لا أحنث. فقال الإمام أحمد: تعرف حلقة المدنيين؟ فقال: فإن أفتوني أدخل؟ [وفي بعض المصادر كالتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 404)، وروضة الناظر (3/ 1027) "حل"]، قال: نعم. انظر ما جاء عن الإمام أحمد في: العدة (4/ 1226)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 381).
(6)
انظر: المسودة (2/ 921)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1563)، وتيسير التحرير (4/ 255). وأبو الحسين القدوري هو: أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان، أبو الحسين القدوري البغدادي، ولد سنة 362 هـ تفقه على أبي عبد الله محمد الجرجاني، وقد روى الحديث وكان صدوقًا، وانتهت إليه رئاسة المذهب الحنفي بالعراق، وقد عظم قدره عند العراقيين، وارتفع جاهه، وكان حسن العبارة في المناظرة، جريء اللسان، مديمًا لتلاوة كتاب الله، من مؤلفاته: مختصر في الفقه، والتجريد، والتقريب في مسائل الخلاف، توفي ببغداد سنة 428 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (6/ 31)، والأنساب للسمعاني (10/ 76)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 78)، وسير أعلام النبلاء (17/ 574)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (3/ 1086)، والوافي بالوفيات للصفدي (7/ 320)، والجواهر المضية للقرشي (1/ 247)، وتاج التراجم لقطلوبغا (ص/ 98)، والطبقات السنية للغزي (2/ 19).
وهو مقتضى قولِ أبي يعلى
(1)
، وأبي إسحاقَ الشيرازي
(2)
- إذ جوّزا تقليدَ المفضولِ مع وجودِ الفاضلِ - ونسبه بدرُ الدّينِ الزركشي إلى ابنِ بَرْهان
(3)
، وهو قولُ الوزيرِ ابنِ هبيرةَ
(4)
، والآمدي
(5)
، وظاهر قولِ ابنِ الحاجبِ - إذ أوجبَ التقليدَ على من عدا المجتهدِ وإنْ كان عالمًا، ثمَّ جوّز تقليدَ مجتهدٍ آخر في حادثةٍ أخرى
(6)
- وهو قول محيي الدّينِ النووي
(7)
، وظاهرُ قولِ شهابِ الدّينِ القرافي
(8)
، وهو - أيضًا - قولُ أبي البركاتِ النسفي
(9)
، وصفي الدّينِ الهندي
(10)
، وشمس الدّينِ الذهبي
(11)
، ومحمد البابرتي في كتابِه:(النقود والردود)
(12)
، وابنِ جزي المالكي
(13)
، وبدرِ الدين الزركشي
(14)
، وابنِ نور الدّينِ
(15)
،
(1)
انظر: العدة (4/ 1226).
(2)
انظر: شرح اللمع (2/ 1011)، والتبصرة (ص/ 415).
(3)
انظر: البحر المحيط (6/ 319).
(4)
انظر: المسودة (2/ 343).
(5)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 238).
(6)
انظر: مختصر منتهى السول (2/ 1252، 1264).
(7)
انظر: روضة الطالبين (11/ 117).
(8)
انظر: نفائس الأصول (9/ 4147 وما بعدها).
(9)
انظر: كنز الدقائق (6/ 292) مع شرحه: البحر الرائق لابن نجيم.
(10)
انظر: نهاية الوصول (8/ 3919 - 3920).
(11)
انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 90).
(12)
انظر: (2/ 732).
(13)
انظر: تقريب الوصول (ص/ 447).
(14)
انظر: البحر المحيط (6/ 319).
(15)
انظر: الاستعداد لرتبة الاجتهاد (2/ 1172). وابن نور الدين هو: محمد بن علي بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر الخطيب الموزعي، جمال الدين، المعروف بابن نور الدين، ولد في مَوْزع في اليمن، وتلقّى العلم عن علماء بلده، واحتل مكانة رفيعة في العلم، وحظي بقبول الناس، كان فقيهًا أصوليًا، بارزًا في النحو والمعاني واللغة، زاهدًا ورعًا صالحًا، متفرغًا للعلم وتحصيله، وأحد الداعين إلى العمل بالسنة، والمحاربين لكتب ابن عربي الصوفي، وجرت بينه وبين الصوفية أمورٌ بان فيها فضله، وقد وقع ابن نور الدين في التفويض في باب الأسماء والصفات، من مؤلفاته: تيسير البيان لأحكام القرآن، والاستعداد لرتبة الاجتهاد، وجامع الفقه - بلغ فيه إلى باب صدقة الفطر - وكنوز الخبايا في قواعد الوصايا، توفي سنة 825 هـ وقيل: بعد سنة 810 هـ. انظر ترجمته في: الضوء اللامع للسخاوي (8/ 223)، والأعلام للزركلي (6/ 287)، ومعجم المؤلفين لكحالة (3/ 520)، وهجر العلم ومعاقله لإسماعيل الأكوع (4/ 2155)، ومقدمة تحقيق الاستعداد لرتبة الاجتهاد =
وابنِ الهمام الحنفي
(1)
، وابنِ أمير الحاج
(2)
، وابنِ قاوان الكيلاني
(3)
، وابنِ نجيم
(4)
، وابنِ النجار الفتوحي
(5)
، وأمير باد شاه
(6)
، ومحمد الملا فروخ
(7)
، وأحمد الحموي
(8)
، وابن عبد الشكور
(9)
، وعبد العلي الأنصاري
(10)
، وشاه ولي الدهلوي
(11)
، والشيخ محمد سعيد الباني
(12)
، والشيخ محمد بخيت المطيعي
(13)
، والشيخ عبد الله أبا بطين
(14)
، والشيخ
= (1/ 41).
(1)
انظر: التحرير (3/ 350) مع شرحه التقرير والتحبير.
(2)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 350).
(3)
انظر: التحقيقات في شرح الورقات (ص/ 644). وابن قاوان الكيلاني هو: الحسين بن أحمد بن محمد بن أحمد البدر الكيلاني، شهاب الدين، المعروف بابن قاوان، ولد بكيلان بفلسطين سنة 842 هـ طلب العلم في مسقط رأسه، وقرأ عددًا من كتب الشافعية على والده وعلى علماء عصره، ورحل إلى مكة، وأخذ العلم عن عدد من العلماء المحققين، كابن الهمام وإمام الكاملية، وقد تعلم النحو والصرف والحديث والتفسير والكلام والبلاغة، كان مبدعًا في مؤلفاته، مدققًا فيها، منها: التحقيقات في شرح الورقات، وشرح الأربعين النووية، وشرح القواعد الصغرى، توفي بمكة سنة 889 هـ. انظر ترجمته في: الضوء اللامع للسخاوي (3/ 135)، ومعجم المؤلفين لكحالة (1/ 603).
(4)
انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (6/ 292).
(5)
انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 574).
(6)
انظر: تيسير التحرير (4/ 253).
(7)
انظر: القول السديد (ص/ 110).
(8)
انظر: الدر الفريد (ص/ 129).
(9)
انظر: مسلم الثبوت (2/ 406) مع شرحه فواتح الرحموت.
(10)
انظر: فواتح الرحموت (2/ 406).
(11)
انظر: حجة الله البالغة (1/ 473).
(12)
انظر: عمدة التحقيق (ص/ 81).
(13)
انظر: سلم الوصول (4/ 624).
(14)
انظر: الدرر السنية (4/ 65، 68). والشيخ عبد الله أبا بابطين هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبا بُطين العائذي النجدي، ولد بروضة سدير سنة 1194 هـ نشأ في طلب العلم، ودرس الفقه الحنبلي، وارتحل إلى الشام، وقرأ على الشيخ محمد السفاريني، ثم رحل إلى شقراء وقرأ على علمائها، كان قوي الحفظ، يستحضر المسائل استحضارًا عجيبًا، وحمل لواء الدعوة السلفية في الدور الثاني لحكام آل سعود، كان فقيه الديار النجدية في القرن الثالث عشر، ألَّف عدة كتب، منها: حاشية على شرح منتهى الإرادات، وتعليقات على الروض المربع، وتأسيس التقديس في كشف شبهات ابن جرجيس، ومختصر بدائع الفوائد لابن القيم، ومختصر إغاثة اللهفان لابن القيم، توفي بشقراء سنة 1282 هـ قال ابن حميد: "وبموته فُقد التحقيق في مذهب الإمام أحمد، فقد كان فيه آيةً، وإلى تحقيقه النهاية، =
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(1)
، والدكتور محمد مدكور
(2)
، والدكتور بدران أبو العينين
(3)
، ومحمد زكريا البرديسي
(4)
، والدكتور وهبة الزحيلي
(5)
، والدكتور محمد الزحيلي
(6)
، والدكتور محمد حنفي
(7)
، والدكتور محمد الحفناوي
(8)
، والدكتور عبد الكريم زيدان
(9)
، والدكتور زكي الدين شعبان
(10)
، والدكتور عياض السلمي
(11)
.
واختارَ ابنُ دقيق العيد جوازَ التمذهب بشرطين، وتبعه تقيُّ الدّينِ السبكي
(12)
:
الشرط الأول: أنْ لا يكونَ في المسألةِ التي يريدُ أنْ يأخذَ فيها بالمذهبِ حديثٌ صحيحٌ يقتضي خلافَ مذهبِ إمامِه.
الشرط الثاني: أنْ ينشرحَ صدرُه لذلك، ولا يعتقدَ أنَّه متساهلٌ
(13)
.
والظاهرُ مِنْ حالِ المجوزين للتمذهب موافقتهم لابنِ دقيق العيد وتقي الدين السبكي في هذينِ الشرطينِ.
ولتقي الدينِ بنِ تيمية كلامٌ يدلُّ على أنَّه لا يرى لزومَ التمذهبِ
(14)
، لكنَّه صرَّحَ في موضع آخر بالمنعِ، كما سيأتي بعدَ قليلٍ.
= فقد وصل فيه الغاية". انظر ترجمته في: السحب الوابلة لابن حميد (2/ 626)، والأعلام للزركلي (4/ 97)، وتراجم لمتأخري الحنابلة (ص/ 88)، ومشاهير علماء نجد لآل الشيخ (ص/235)، وتسهيل السابلة لابن عثيمين (3/ 1702)، وعلماء نجد لابن بسام (4/ 225).
(1)
انظر: فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (2/ 17).
(2)
انظر: مناهج الاجتهاد في الإسلام (ص/ 438)، وأصول الفقه له (ص/ 350)، والمدخل للفقه الإسلامي له (ص/319).
(3)
انظر: أصول الفقه الإسلامي (ص/ 489).
(4)
انظر: أصول الفقه (ص/ 448).
(5)
انظر: الفقه الإسلامي وأدلته (1/ 90).
(6)
انظر: الوجيز في أصول الفقه (ص/ 370).
(7)
انظر: المدخل لدراسة الفقه (ص/ 300).
(8)
انظر: تبصير النجباء (ص/237).
(9)
انظر: الوجيز في أصول الفقه (ص / 411).
(10)
انظر: أصول الفقه الإسلامي (ص/ 339).
(11)
انظر: أصول الفقه (ص/ 483).
(12)
انظر: السيف المسلول (ص/ 389).
(13)
انظر: المصدر السابق (ص/ 388)، والشرح الكبير على الورقات للعبادي (2/ 556).
(14)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 209).
ويُلحقُ بأربابِ هذا القول فريقان:
الفريق الأول: مَنْ ألَّفَ في فقهِ مذهبِه، وانتسبَ إليه، ولم يَرِدْ عنه قولٌ بوجوبِ التمذهبِ، أو استحبابِه، أو تحريمِه، فظاهرُ صنيعِه يدلُّ على أنَّ أقلَّ ما يراه في حكمِ التمذهبِ هو الجوازُ والإباحةُ.
الفريق الثاني: مَنْ قال: لا يلزمُ الأخذُ بقولِ الفاضلِ، وللمستفتي الأخذُ بقولِ المفضولِ، فإنَّ ممَّا يقضيه قولُهم عدم إيجابِ التمذهبِ.
القول الثاني: وجوبُ التمذهبِ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ.
وقد يُعبّرُ عن هذا القولِ بلزومِ التمذهبِ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ.
وقد ذَهَبَ إلى هذا القولِ بعضُ الحنفيةِ
(1)
، وبعضُ المالكيةِ
(2)
. وهو وجهٌ عند الشافعيةِ
(3)
، ووجهٌ عند الحنابلةِ
(4)
، وجَعَلَ ابنُ مفلحٍ هذا القولَ أحدَ الوجهين عند المالكيةِ
(5)
.
ونَسَبَه محيي الدين النوويُّ إلى أصحابِه الشافعيةِ
(6)
، ونسبه تاجُ الدين بن السبكي إلى محققي الشافعيةِ
(7)
. ونسبه الأميرُ الصنعاني إلى الأقلِّ
(8)
.
(1)
انظر: فوائد في علوم الفقه لحبيب الكيرواني (ص/ 290).
(2)
انظر: جامع مسائل الأحكام للبرزلي (1/ 67)، والمعيار المعرب للونشريسي (12/ 43)، وفتح العلي المالك لعليش (1/ 90)، ونشر البنود (2/ 348).
(3)
انظر: أدب المفتي والمسثفتي (ص/ 162)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 55)، وروضة الطالبين له (11/ 117)، وتشنيف المسامع (2/ 619)، والبحر المحيط (6/ 319)، وسلاسل الذهب (ص/ 454).
(4)
انظر: المسودة (2/ 921)، وصفة الفتوى (ص/ 72)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 222)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1562)، والآداب الشرعية له (1/ 226)، والمختصر في أصول الفقه لابن اللحام (ص/ 168)، والأخبار العلمية له (ص/ 482)، وشرح الكوكب المنير (4/ 574).
(5)
انظر: الفروع (11/ 345).
(6)
انظر: روضة الطالبين (11/ 117)، وفتاوى ابن حجر الهيتمي (4/ 305).
(7)
انظر: رفع الحاجب (4/ 607).
(8)
انظر: إجابة السائل (ص/ 410).
ويقولُ محمد السفاريني: "قَطَعَ الكبارُ بلزومِ التمذهبِ بمذهبٍ"
(1)
.
ويقولُ عبد الله العلوي: "وَقَعَ الإجماعُ اليومَ على وجوبِ تقليدِ المذاهبِ الأربعةِ"
(2)
.
ويقولُ الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي: "متأخرو الأصوليين مِنْ جميعِ المذاهبِ مطبقون كلّهم على وجوبِه"
(3)
، أيْ: على وجوبِ التمذهب.
وذَهَبَ إلى هذا القولِ جمعٌ، منهم: إمامُ الحرمين الجويني
(4)
، وإلكيا الهراسي
(5)
، وأبو المظفرِ السمعاني
(6)
، وأبو حامدٍ الغزالي
(7)
، وهو ظاهرُ قولِ أبي عبدِ الله المازري
(8)
، وهو قولُ ابنِ المنيِّر
(9)
، وتاجِ الدينِ ابنِ
(1)
لوامع الأنوار البهية (2/ 465).
(2)
نشر البنود (2/ 352). وانظر: مراقي السعود إلى مراقي السعود (ص/ 463)، وحكاية عبد الله العلوي الإجماع على وجوب التمذهب محل نظر؛ لأن كثيرًا من العلماء لم يذهب إلى الوجوب.
(3)
الرحلة إلى إفريقيا (ص/ 151).
(4)
انظر: البرهان (2/ 745)، ومنع الموانع لابن السبكي (ص/ 443).
(5)
نسب جمعٌ من الشافعية القول بوجوب التمذهب إلى إلكيا. انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 162)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 55)، وروضة الطالبين له (11/ 117)، وتشنيف المسامع (2/ 619)، والبحر المحيط (6/ 319)، وسلاسل الذهب (ص/ 454).
(6)
انظر: قواطع الأدلة (5/ 176).
(7)
انظر: المنخول (ص/ 494 - 504)، ومنع الموانع لابن السبكي (ص/ 443).
(8)
انظر: الموافقات (5/ 96 وما بعدها)، وفتح العلي المالك لعليش (1/ 74).
(9)
انظر: البحر المحيط (6/ 319). وابن المنيّر هو: أحمد بن محمد بن منصور بن أبي القاسم بن المختار القاضي، أبو العباس ناصر الدين الجذامي الجروي الإسكندري، المعروف بابن المنيِّر، ولد سنة 620 هـ كان عالمًا مالكيًا فاضلًا متفننًا، بارعًا في الفقه وأصوله، راسخًا فيهما، له الباع الطويل في التفسير والقراءات، واليد الطولى في العربية والأدب والبلاغة، ولي قضاء الإسكندرية، وكان خطيبًا مصقعًا مفوهًا فصيحًا، من مؤلفاته: البحر الكبير في نخب التفسير، وتأليف على تراجم صحيح البخاري، والانتصاف من الكشاف، وتفسير حديث الإسراء، توفي سنة 683 هـ. انظر ترجمته في: فوات الوفيات لابن شاكر (1/ 149)، والديباج المذهب لابن فرحون (1/ 243)، والمقفى الكبير للمقريزي (1/ 653)، وحسن المحاضرة للسيوطي (1/ 293)، ودرة الحجال لابن القاضي (1/ 9)، وشذرات الذهب لابن العماد (5/ 381)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 188).
السبكي
(1)
، ومحمدٍ البابرتي - كما نقله عنه ابنُ أبي العز الحنفي
(2)
- وهو ظاهرُ قولِ أبي إسحاقَ الشاطبي
(3)
، وهو قولُ ابنِ رجبٍ
(4)
، وابنِ رسلان الرملي
(5)
، وجلالِ الدين المحلي
(6)
، وزكريا الأنصاري
(7)
، وبدرِ الدين الغزي
(8)
، وعبدِ الرؤوف المناوي
(9)
، ومحمدٍ السفاريني
(10)
، وعبدِ الله العلوي
(11)
، ومحمد الأمين الجكني
(12)
، وعلوي السقاف
(13)
، ومحمد الخضر الشنقيطي
(14)
، ومحمد زاهد الكوثري
(15)
،
(1)
انظر: جمع الجوامع (2/ 400) مع شرح المحلي وحاشية البناني.
(2)
انظر: الاتِّباع (ص/ 24).
(3)
انظر: الموافقات (5/ 96 وما بعدها)،
(4)
انظر: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (ص/ 27 وما بعدها).
(5)
انظر: لمع اللوامع، القسم الثاني (2/ 670 - 671).
(6)
انظر: البدر الطالع في حل جمع الجوامع (2/ 406).
(7)
انظر: غاية الوصول (ص/ 152).
(8)
انظر: الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد (ص/ 219).
(9)
انظر: فيض القدير (1/ 210).
(10)
انظر: لوامع الأنوار البهية (2/ 463).
(11)
انظر: نشر البنود (2/ 348، 352).
(12)
انظر: مراقي السعود على مراقي السعود (ص/ 463).
(13)
انظر: مختصر الفوائد المكية (ص/ 37).
(14)
انظر: قمع أهل الزيغ والإلحاد (ص/ 88). ومحمد الخضر الشنقيطي هو: محمد الخضر بن مايابي الجكني الشنقيطي، ولد بشنقيط بموريتانيا، ونشأ بها، ثم انتقل إلى المدينة النبوية، وأصبح مفتي المالكية بها، كان أصوليًا ومحدثًا ومتكلمًا، من مؤلفاته: مشتهي الخارف الجاني في رد زلفات التيجاني، وقمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في تقليد أئمة الاجتهاد، والدعوة إلى الإصلاح، واستحالة المعية بالذات وما ضاهاها من متشابه الصفات، توفي سنة 1353 هـ. انظر ترجمته في: الأعلام الشرقية لزكي مجاهد (1/ 382)، والأعلام للزركلي (6/ 113)، ومعجم المؤلفين لكحالة (3/ 274).
(15)
انظر: لزوم اتباع مذاهب الأئمة للحامد (ص/ 19). ومحمد زاهد الكوثري هو: محمد زاهد بن الحسن بن علي الرضا الكوثري، جركسي الأصل، ولد بقرية الحاج حسن شرقي الآستانة سنة 1296 هـ من علماء المذهب الحنفي، وله اشتغال بعلم الحديث وعلم الكلام والأدب والسير، ويعرف اللغات: العربية والفارسية والتركية والجركسية، كان ماتريدي المعتقد، وقد تولى رئاسة مجلس التدريس ووكالة المشيخة الإسلامية بدار الخلافة العثمانية، وقد استقر بمصر، وعُرف عنه شدة التعصب لمذهبه، والوقيعة في بعض علماء الأمة، ولا سيما من كان منهم سلفي المعتقد، بل لم يسلم منه بعض الصحابة رضي الله عنهم، ويعد الكوثري من رؤوس المبتدعة =
ومحمد الحامد
(1)
، والدكتور محمد البوطي
(2)
، وهو ما يفهم من كلام محمد تقي العثماني
(3)
، واختاره الدكتور محمد حسن هيتو
(4)
، ومحمد كمال الراشدي
(5)
.
ويقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية: "أمَّا كثيرٌ مِنْ أتباعِ أئمةِ العلمِ ومشايخِ الدِّينِ، فحالُهم وهواهُم أيضًا هي حالُ مَنْ يوجبُ متبوعَه، لكنْ لا يقولُ ذلك بلسانِه، ولا يعتقده علمًا، فحالُه يخالفُ اعتقادَه"
(6)
.
ويشترطُ بعضُ أصحابِ القولِ الثاني: أنْ يعتقدَ المتمذهبُ رجحانَ مذهبِه
(7)
.
ونصَّ بعضُهم على لزومِ تركِ المذهبِ إنْ ظَهَرَت مخالفتُه للدليلِ
(8)
.
ويظهر لي أنَّ أكثرَ أصحابِ هذا القول يرون تركَ المذهبِ إنْ خالفَ الدليلَ.
القول الثالث: استحبابُ التمذهبِ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ.
= المتأخرين، من مؤلفاته: تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب، والاستبصار في التحدث عن الجبر والاختيار، وحسن التقاضي في سيرة أبي يوسف القاضي، وإحقاق الحق بإبطال الباطل في مغيث الخلق، توفي بالقاهرة سنة 1371 هـ. انظر ترجمته في: أعلام وعلماء لمحمد أبو زهرة (ص/ 317)، والأعلام للزركلي (6/ 129)، ومعجم المؤلفين لكحالة (3/ 302)، ومقدمات الإمام الكوثري (ص/ 11)، وتاريخ علماء دمشق لمحمد مطيع وزميله (3/ 231).
(1)
انظر: لزوم اتباع مذاهب الأئمة للحامد (ص/ 19).
(2)
انظر: اللامذهبية (ص/ 70).
(3)
انظر: أصول الإفتاء (ص/ 206 - 207) مع شرحه: المصباح في رسم المفتي.
(4)
انظر: الوجيز في أصول التشريع (ص/ 518).
(5)
انظر: المصباح في رسم المفتي (ص/ 207).
(6)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (19/ 70).
(7)
انظر: جمع الجوامع (2/ 400) مع شرح المحلي وحاشية البناني، ولمع اللوامع لابن رسلان، القسم الثاني (2/ 670 - 671)، والمعيار المعرب للونشريسي (12/ 43)، والبدر الطالع في حل جمع الجوامع للمحلي (2/ 406)، وغاية الوصول للأنصاري (ص/ 152).
(8)
انظر: اللامذهبية للدكتور محمد البوطي (ص/ 70).
وهذا قولُ ابنِ الصلاحِ
(1)
، ونَقَلَ محيي الدين النوويُّ كلامَ ابن الصلاح في كتابِه:(المجموع شرح المهذب)
(2)
، دونَ تعقبٍ، وهو قولُ ابنِ حمدان
(3)
.
وذهبَ إليه بعضُ الزيدية
(4)
.
ويظهرُ لي أنَّ مرادَ أربابِ هذا القولِ أحد أمرين:
الأمر الأول: أنَّهم يجوّزون التمذهبَ، لكنَّهم يرجِّحون ويستحبون التمذهبَ بمذهبِ إمامِهم، فهم متفقون مع أصحابِ القولِ الأولِ.
الثاني: أنَّهم يوجبونَ التمذهبَ، لكنَّهم يرجِّحون ويستحبون التمذهبَ بمذهبِ إمامِهم، فهم متفقون مع أصحابِ القولِ الثاني.
وعلى كلٍّ فأربابُ القولِ الثالثِ متفقون مع القولينِ السابقينِ على تجويزِ التمذهبِ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ.
القول الرابع: منعُ التمذهبِ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ.
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 163 - 164).
(2)
انظر: (1/ 55).
(3)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 75 - 76).
(4)
انظر: ضوء النهار للحسن الجلال (1/ 122 - 123). والزيدية: إحدى فرق الشيعة، وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وسموا بالزيدية نسبة إليه، وقد افترقوا عن الإمامية حينما سُئل زيد بن علي عن أبي بكر وعمر؟ فترضى عنهما، فرفضه قوم فسموا رافضة؛ لرفضهم إياه، وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيدية؛ لانتسابهم إليه، وذلك في سنة 121 هـ ومن رجال الزيدية: نعيم بن اليمان، والحسن بن صالح بن حي، وسليمان بن جرير الزيدي، ومقاتل بن سليمان، ومن آراء الزيدية: الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها، ولا يجوز ثبوت الإمامة في غيرهم، وقد جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد ئسجاع سخي خرج بالإمامة إمامًا واجب الطاعة، سواء من أولاد الحسن، أو من أولاد الحسين، وجوزوا إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وتوافق الزيدية المعتزلة في الاعتقاد، ويقولون بأن أصحاب الكبائر معذبون في النار خالدون فيها، ويرون السيف والخروج على أئمة الجور، ولا يرون الصلاة خلف الفاجر، ويرفضون التصوف، ويفضلون علي بن أبي طالب رضي الله عنه على سائر الصحابة، يقول الذهبي عن الزيدية: "وللزيدية مذهب في الفروع بالحجاز وباليمن، لكنه =
ذَهَبَ إلى هذا القولِ: ابنُ خويز منداد
(1)
، وابنُ حزمٍ
(2)
، وتقيُّ الدين بن تيميةَ
(3)
، وابنُ القيم
(4)
، وابنُ أبي العز الحنفي
(5)
، وصالحٌ المقبلي
(6)
، ومحمد حياة السندي
(7)
، ومحمد الأمير الصنعاني
(8)
، وصالحٌ الفُلاني
(9)
، والشوكاني
(10)
، وصديق حسن القنوجي
(11)
، وعلي بن حسن القنوجي
(12)
،
= معدود في أقوال أهل البدع، كالإمامية"، وقد طَعَن أكثر الزيدية في الصحابة رضي الله عنهم، وفي الزيدية المتأخرين من يترضى عنهم، وللزيدية فرق، منها: الجارودية، والسليمانية، والبترية. انظر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (1/ 136)، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص/ 39)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 302)، وسير أعلام النبلاء (8/ 92)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 85)، والزيدية نشأتها ومعتقداتها لإسماعيل الأكوع (ص/ 11)، ومسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة للدكتور ناصر القفاري (1/ 159)، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب (1/ 76).
(1)
نقل ابنُ عبد البر كلامَ ابن خويز في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 993).
(2)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 65، 75).
(3)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (35/ 121)، والأخبار العلمية للبعلي (ص/ 482).
(4)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 523، 532)، و (6/ 203).
(5)
انظر: الاتباع (ص/ 79 - 80).
(6)
انظر: العلم الشامخ (ص/ 80)، والأبحاث المسددة (ص/ 55، 157).
(7)
انظر: تحفة الأنام للسندي (ص/ 56 - 57)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 57، 70)، وهداية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان للمعصومي (ص/ 86).
ومحمد السندي هو: محمد حياة بن إبراهيم السندي المدني، ولد في السند، كان علامةً محدثًا فهامةً، ورعًا منعزلًا عن الناس، إلا في وقت قراءة الدروس، من العلماء الربانيين، أقام بالمدينة النبوية، وحمل لواء السنة بها، والتقى به الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب، من مؤلفاته: شرح الترغيب والترهيب، ومقدمة في العقائد، وشرح الحكم العطائية، وحاشية على صحيح البخاري، توفي بالمدينة النبوية سنة 1163 هـ وقيل: 1165 هـ. انظر ترجمته في: سلك الدرر للمرادي (4/ 43)، والرسالة المستطرفة للكتاني (ص/ 136)، وعنوان المجد لابن بشر (1/ 35)، وأبجد العلوم للقنوجي (ص/ 665)، والأعلام للزركلي (6/ 111).
(8)
انظر: إرشاد النقاد (ص/ 157)، وإجابة السائل (ص/ 411).
(9)
انظر: إيقاظ همم أولي الأبصار (ص/ 34، 94).
(10)
انظر: القول المفيد (ص/ 101 وما بعدها).
(11)
انظر: الدين الخالص (4/ 106)، ودليل الطالب (ص/ 213).
(12)
انظر: القول السديد (ص/ 16).
ومحمد رشيد رضا
(1)
، ومحمد سلطان المعصومي
(2)
، وأحمد بن الصديق الغماري
(3)
، ومحمد الأمين الشنقيطي
(4)
، ومحمد ناصر الدين الألباني
(5)
، وأحمد بن حجر آل بوطامي
(6)
، ومقبل بن هادي الوادعي
(7)
، ومحمد عيد عباسي
(8)
.
• أدلة الأقوال:
أدلةُ أصحابِ القولِ الأولِ (القائلين بجواز التمذهب)
(9)
:
(1)
انظر: تفسير المنار (2/ 108)، و (8/ 288)، و (9/ 570).
(2)
انظر: هداية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان (ص/ 55).
(3)
انظر: درة الغمام الرقيق لعبد الله التليدي (ص/ 31).
(4)
انظر: أضواء البيان (7/ 519).
(5)
انظر: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص/ 69)، وبدعة التعصب المذهبي العباسي (ص/ 110)، والسلفية لعمرو سليم (ص/ 124).
وسار على خطى الشيخ الألبانيّ بعضُ تلاميذه. انظر: الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة لسليم الهلالي (ص/ 290).
(6)
انظر: حكم التقليد والتمذهب (ص/ 89).
(7)
انظر: تحفة المجيب (ص/ 123، 140). ومقبل الوادعي هو: مقبل بن هادي الهمداني الوادعي، ولد بدماج في اليمن سنة 1352 هـ وقد حبب إليه العلم واشتغل به في اليمن وفي المملكة العربية السعودية، درس في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وتخرج فيها، وحصل على درجة الماجستير، وكان سلفي المعتقد، ومن علماء الحديث المبرزين في العصر الحاضر، وقد أنشأ دارًا للحديث باليمن، وأقبل إليه الطلاب في بلده، وانتفعوا به، من مؤلفاته: المخرج من الفتنة، والصحيح المسند من أسباب النزول، والجامع الصحيح في القدر، ورجال الحاكم في المستدرك، توفي بجدة سنة 1422 هـ لمرض ألم به. انظر ترجمته في: ذيل الأعلام لأحمد العلاونة (2/ 194).
(8)
انظر: بدعة التعصب المذهبي (ص/ 89). وقد أشار محمد عباسي في كتابه: بدعة التعصب المذهبي (ص/ 52)، حاشية (3) إلى أنَّ كلامه موجه إلى الذين يستطيعون البحث والنظر.
وهذا قيد مهم، وكان الأولى بالمؤلف إبرازه في كتابه؛ لتضيق دائرة الخلاف بينه وبين مخالفيه.
(9)
فيما استدل به أصحابُ القول الأول أدلةٌ لا تدلُّ على جواز التمذهب بعينه، لكنَّها تدل على جواز التقليد، وقد ذكرتها لأمرين:
الأمر الأول: أنَّ الصورة التي وقع فيها خلاف - في ضوء ما ظهر لي - هي: التقليد المذهبي، وهذه الصورة يصلح الاستدلال لها بأدلة التقليد. =
استدلَّ أصحابُ القولِ الأول بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: قالَ الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(1)
.
وجه الدلالة: أنَّ الله تعالى أَمَرَ مَنْ لا علمَ له أنْ يسألَ مَنْ هو أعلمُ منه
(2)
، ونحنُ امتثلنا الأمرَ، فأخذنا بقولِ إمامِنا، وإذا جازَ هذا في مسألةٍ واحدةٍ، جازَ فيما سواها من المسائلِ، فإذا جازَ لغيرِ المجتهدِ تقليدُ مَنْ شاءَ مِن العلماءِ جازَ له أنْ يختارَ واحدًا منهم، فيقلِّده دونَ غيرِه؛ لثقتِه في علمِه وعدالتِه
(3)
.
مناقشة الدليل الأول: نوقش الاستدلال بالآية من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنَّ الآيةَ واردةٌ في غيرِ محلِّ النزاعِ؛ فالآيةُ نزلتْ ردًّا على المشركين لمَّا أنكروا كونَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بشرًا
(4)
، فليس فيها ما يدلُّ على سؤالِ العالمِ
(5)
.
= الأمر الثاني: أنَّ مَنْ منع التزام أقوال عالم بعينه في جميع المسائل، ساق أدلة جواز التقليد على ألسنة المخالفين له.
(1)
وردة الآية في موضعين: الأول: من الآية 43 من سورة النحل، والثاني: من الآية 6 من سورة الأنبياء.
(2)
انظر: الإحكام في أصول الإحكام لابن حزم (6/ 119)، وإعلام الموقعين (3/ 470)، والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي (ص/ 526)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 157)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 464)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 301) ط/ دار الفتح، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 99)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 140)، والقول السديد لعلي القنوجي (ص/ 19)، وبلوغ السول لمحمد مخلوف (ص / 16 - 17)، والرحلة إلى إفريقيا للشنقيطي (ص / 151)، وأضواء البيان (7/ 533)، وسبيل الجنة لأحمد آل بوطامي (ص/ 53)، والاجتهاد في الشريعة لعبد الوهاب خلاف (ص/ 64)، واللامذهبيةة للدكتور محمد البوطي (ص/ 71)، وأصول الفقه للدكتور زكي شعبان (ص/ 339).
(3)
انظر: أصول الفقه للدكتور عياض السلمي (ص/ 483).
(4)
انظر: جامع البيان لابن حرير (14/ 226 - 228).
(5)
انظر: إيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص / 40 - 41)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 100)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 141)، والقول السديد لعلي القنوجي (ص/ 19).
ويمكن الجواب عن الوجه الأول بالآتي:
أولًا: أنَّ العبرةَ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السببِ، كما هو قولُ جمهورِ العلماءِ
(1)
، فالآيةُ وإنْ نزلتْ ردًّا على المشركين المنكرين لنبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، إلا أنَّ لفظَها عامٌّ.
ثانيًا: أنَّ القائلين بهذا الوجهِ - وهم الشيخُ صالح الفلاني ومَنْ تبعه - لم يطردْ أصلَه فيما استدلَّ به مِنْ آيات وَرَدَتْ في شأنِ المشركين لمّا احتجوا بتقليدِ آبائِهم
(2)
، فقد أقامَ هذه الآياتِ - وقد نزلتْ في شأنِ المشركين - على الاستدلالِ لنقضِ التقليدِ المذهبي، فاعتبرَ خصوصَ السببِ دونَ عمومِ اللفظِ في آيةِ سؤالِ أهلِ الذكرِ، واعتبرَ عمومَ اللفظِ دونَ خصوصِ السببِ في الآياتِ التي وردتْ في شأنِ المشركين لمَّا احتجوا بتقليدِ آبائِهم
(3)
، وهذا تناقضٌ منهم.
الوجه الثاني: أنَّ اللهَ تعالى أَمَرَنا أنْ نسألَ أهلَ العلم عمَّا حَكَمَ اللهُ تعالى به في المسألةِ، وما رُوِيَ عن رسولِه صلى الله عليه وسلم فيها، ولمَ يأمرْنا أنْ نسألَ عمَّا قاله إمامُ المذهب
(4)
، فالآيةُ آمرةٌ بسؤالِ أهلِ القرآنِ والحديثِ عنهما، ليخبروا بحكمِهما
(5)
.
(1)
انظر: بلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 35)، ومقدمة تحقيق القول المفيد للشوكاني (ص/ 57). وانظر مسألة:(هل العبرة بعموم اللفظ؟ ) في: المعتمد (1/ 303)، والعدة (2/ 556)، وإحكام الفصول (ص/ 269)، والتبصرة (ص / 144)، وأصول السرخسي (1/ 272)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (2/ 161)، وروضة الناظر (2/ 693)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (2/ 238)، ونهاية السول (2/ 159)، والبحر المحيط (3/ 202)، والخبير (5/ 2391).
(2)
انظر: بلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 35)، ومقدمة تحقيق القول المفيد للشوكاني (ص/ 100).
(3)
انظر: بلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 35)، حاشية رقم (1).
(4)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 150 - 151)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 101)، وسبيل الجنة لأحمد آل بوطامي (ص/ 53).
(5)
انظر: إرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 169)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 141)، وأضواء البيان (7/ 544).
يقولُ ابنُ القيّمِ: "ما ذكرتُم بعينِه حجةٌ عليكم! فإنَّ اللهَ سبحانه أَمَرَ بسؤالِ أهلِ الذّكرِ، والذكرُ: هو القرآنُ والحديثُ - الذي أمر اللهُ نساءَ نبيه أنْ يَذْكُرْنَه بقولِه: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}
(1)
- فهذا هو الذكرُ الذي أَمَرَنا اللهُ باتباعِه، وأَمَر مَنْ لا علم عنده أنْ يسألَه أهله، وهذا هو الواجب على كلِّ أحدٍ أنْ يسألَ أهلَ العلمِ بالذكرِ الذي أنزله على رسولِه؛ ليخبروه به، فإذا أخبروه به لم يسعه غيرُ اتباعِه، وهذا كانَ شأنُ أئمةِ أهلِ العلمِ، لم يكنْ لهم مقلَّدٌ معيّنٌ يتبعونه في كلِّ ما قالَ"
(2)
.
الجواب عن الوجه الثاني: مِنْ أينَ لكم أنَّ المرادَ بالآيةِ الكريمةِ ما قلتُم؟ إنْ كان مِنْ منطوقِ الآية، فممنوعٌ، وإنْ كان مِنْ مفهومِها فممنوعٌ أيضًا، ومجرّدُ بيانِ الذّكرِ لا يفيدُ ما قلتُم.
وأيضًا: لم يلتزم الأئمةُ ذكر أدلةٍ على أقوالِهم إذا سُئلوا عن حكمِ مسألةٍ ما
(3)
، ولو كان المرادُ بالآيةِ ما ذكرتم؛ لقالَ: فاسألوا عن الذِّكرِ
(4)
.
وإذا كانَ السائلُ لأهلِ الذكرِ ممَّنْ يجوزُ له التقليدُ - كالمتمذهبِ الذي ليس لديه أهليةُ النظرِ في الأدلةِ، والمتمذهب المتأهل الذي لم يتمكنْ مِن النظرِ - فله أنْ يسألَ عن رأي عالمٍ ما يرى أنَّه إنْ أَخَذَ بقولِه فقد اتَّبعَ الشرعَ، وفي هذه الحالِ لا لومَ عليه لو أَخَذَ أقوالَ إمامِه؛ لقناعتِه بعلمِه وفضلِه.
الوجه الثالث: أنَّ الآيةَ الكريمةَ متوجهٌ إلى العامي الصِرْفِ الذي لا يعرفُ معاني النصوصِ وتأويلاتها، أمَّا العالمُ بمعاني النصوصِ، العارفُ بالأدلةِ، فلا تتوجه الآيةُ إليه
(5)
.
يقولُ الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي: "إنْ كانت الآيةُ تدلُّ على نوعِ
(1)
من الآية (34) من سورة الأحزاب.
(2)
إعلام الموقعين (3/ 529).
(3)
انظر: بلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 36، 41).
(4)
انظر: فوائد في علوم الفقه لحبيب الكيرواني (ص/ 24).
(5)
انظر: إرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 169)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 38).
تقليدٍ في الجملةِ، فهي لا تدلُّ إلا على التقليدِ الذي قدمنا أنّه لا خلافَ فيه بين المسلمين، وهو تقليدُ العامي الذي تنزلُ به نازلةٌ عالمًا مِن العلماءِ، وعمله بما أفتاه به، مِنْ غيرِ التزامٍ منه لجميعِ ما يقولُه ذلك العالمُ، ولا تركه لجميعِ ما يقولُه غيرُه"
(1)
.
الدليل الثاني: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
(2)
.
وجه الدلالة: أنَّ المرادَ بأولي الأمرِ هم العلماءُ، وقد أَمَرَ اللهُ بطاعتِهم، وتكون طاعتُهم بأخذِ أقوالِهم فيما يخبرونَ به عن الشرعِ
(3)
.
مناقشة الدليل الثاني: نوقش الاستدلال بالآية من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنَّ المرادَ بأولي الأمرِ في الآيةِ الأمراءُ والولاةُ، كما سَبَقَ بيانُه في مسألةِ:(تمذهب المجتهد).
الوجه الثاني: أنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ بطاعةِ أولي الأمرِ، وهم العلماءُ، فيما نقلوه إلينا عن الله تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فيطاعون في طاعةِ الله إذا أمروا بأمرِ الله تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فيكون العلماءُ مبلغين لأمرِ الله وأمرِ رسوله صلى الله عليه وسلم، فتجبُ طاعتُهم؛ لطاعةِ الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم
(4)
.
الوجه الثالث: أنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ بطاعةِ جميعِ العلماءِ، لا بعضهم؛ لأنَّ الله لم يقلْ: بعض أولي الأمرِ، وبناءً عليه تكونُ الآيةُ دالةً على أنَّ العلماءَ إذا أجمعوا على أمرٍ ما، فالواجبُ اتباعُهم؛ للآيةِ
(5)
.
(1)
أضواء البيان (7/ 544).
(2)
من الآية (59) من سورة النساء.
(3)
انظر: إعلام الموقين (3/ 474)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 303) ط/ دار الفتح، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 114)، وأضواء البيان (7/ 534).
(4)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 79)، وإعلام الموقعين (3/ 541)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 153)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 114 - 115)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 122)، وأضواء البيان (7/ 551).
(5)
انظر: الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 79 - 80).
ويمكن أن يضاف إلى المناقشةِ وجه رابع: على فرضِ التسليم بأنَّ أولي الأمرِ هم العلماء، فالآيةُ متوجهةٌ إلى العامي، وليستْ متوجهةً إلى المتمذهبِ المتأهلِ للنظرِ في الأدلةِ.
الدليل الثالث: قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}
(1)
.
وجه الدلالة: أنَّ اللهَ تعالى أوجبَ على الناسِ قبولَ نذارةِ المنذرِ إليهم، وهذا أمرٌ بتقليدِ العالمِ
(2)
، ويدخلُ تحتَ الأمرِ كلُّ مَنْ لم يبلغْ درجةَ الاجتهادِ في الشريعةِ.
مناقشة الدليل الثالث: إنَّ الله تعالى لم يأمر الناسَ بقبولِ ما يقولُه المنذرُ مطلقًا، وإنَّما أَمَرَ بقبولِ ما أنذرهم به مِن الوحي الذي ينزلُ في غيبتِهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهادِ، والإنذارُ إنَّما يكونُ بالحجةِ والوحي، والنذيرُ: مَنْ أقامَ الحجةَ.
ويدلُّ على هذا المعنى: ما ذكره الله تعالى عن خزنةِ النارِ: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}
(3)
، وما جاءَ في قوله تعالى:{إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}
(4)
، ومَنْ لم تقمْ عليه حجةٌ لم يكنْ قد أُنذِر، فالآية متوجهةٌ إلى الروايةِ، وليس فيها ما يدلُّ على قَبولِ رأي العالمِ
(5)
، وقوله تعالى:{لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}
(6)
يدلُّ
(1)
من الآية (122) من سورة التوبة.
(2)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 116)، وإعلام الموقعين (3/ 480)، والبحر المحيط (6/ 282)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 179)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 329)، وأضواء البيان (7/ 534)، واللامذهبية للدكتور محمد البوطي (ص/ 71)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 109).
(3)
من الآية (8) من سورة الملك.
(4)
من الآية (45) من سورة الأنبياء.
(5)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 117)، وإعلام الموقعين (3/ 565)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 179)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 329)، وأضواء البيان (7/ 560)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 109).
(6)
من الآية (122) من سورة التوبة.
على أنَّهم ينذرون بما تفقهوا فيه مِن الدِّينِ، وليس التفقه في الدِّينِ إلا علم الكتابِ والسنةِ
(1)
.
الدليل الرابع: أتى رجلٌ مِن الأعراب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ: يا رسولَ الله أنشدك الله إلا قضيتَ لي بكتابِ الله. فقالَ الخصمُ الآخر - وهو أفقه منه -: نعم، فاقضِ بيننا بكتابِ الله، وائذنْ لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قل). قال: إنَّ ابني كان عسيفًا
(2)
عَلى هذا، فزنا بامرأتِه، وإنِّي أُخْبِرتُ أنَّ على ابني الرجم، فافتديت منه بمائةِ شاةٍ ووليدة، فسألتُ أهلَ العلمِ، فأخبروني أنَّما على ابني جلد مائةٍ، وتغريب عام، وأنَّ على امرأةِ هذا الرجمَ. فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتابِ الله
…
) الحديث
(3)
.
وجه الدلالة: دلَّ الحديثُ على أنَّ الناسَ كانوا يفتون في عهدِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولم ينكرْ صلى الله عليه وسلم على السائلِ تقليدَه مَنْ هو أعلمُ منه
(4)
، وإذا ساغَ التقليدُ في واقعةٍ واحدةٍ ساغَ فيما عداها.
مناقشة الدليل الرابع: نوقش الدليل من وجهين:
الوجه الأول: لا يدلُّ الدليلُ على دعواكم؛ لأنَّ السائلَ إنَّما سألَ عن حكمِ الله تعالى، وأَخْبَرَه أهلُ العلمِ بسنةِ الرسول صلى الله عليه وسلم في الزاني البكرِ، ولم
(1)
انظر: أضواء البيان (7/ 560).
(2)
العسيف: الأجير. انظر: القاموس المحيط، مادة:(عسف)، (ص/ 1082).
(3)
أخرج الحديث: البخاري في: صحيحه، كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود (ص/ 514)، برقم (2695)؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا (2/ 811)، برقم (6971 - 1698)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
(4)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 100)، وإعلام الموقعين (3/ 472)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 171)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 121)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 102)، وأضواء البيان (7/ 533)، وسبيل الجنة لأحمد آل بوطامي (ص/ 55).
يسألهم عن رأيهم ومذاهبِهم
(1)
.
يقولُ الشوكانيُّ: "فهو - أيْ: والد العسيف - إنَّما سألَ علماءَ الصحابةِ عن حكم مسألةٍ مِنْ كتابِ الله وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، ولم يسألهم عن رأيهم ومذاهبِهم"
(2)
.
الجواب عن الوجه الأول: الظاهرُ مِن الحالِ أنَّ أهلَ العلمِ أخبروه بالحكمِ الشرعي، ولم يحدثوه حديثًا على جهةِ الروايةِ، ولم ينكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم على والدِ العسيفِ أخذ قولِهم
(3)
.
الوجه الثاني: هذا الدليل يدلُّ على خلافِ قولِكم؛ لأنَّ المفتين لما اختلفوا في عقوبةِ العسيفِ، ووَقَعَ التنازعُ، رُدَّ الأمرُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُرَدَّ إلى رأي فلانٍ وفلانٍ
(4)
.
الدليل الخامس: حديثُ جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرجنا في سفرٍ،
فأصابَ رجلًا منا حجرٌ، فشجّه
(5)
في رأسِه، ثمَّ احتلمَ، فسالَ أصحابَه: هل تجدون لي رخصةً في التيممِ؟ فقالوا: ما نجد لك رخصةً وأنتَ تقدرُ على الماءِ، فاغتسلَ، فماتَ، فلمَّا قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبِر بذلك، فقالَ:(قتلوه قتلهم اللهُ، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنَّما شفاءُ العيّ السوالُ)
(6)
.
(1)
انظر: المصادر السابقة، عدا إعلام الموقعين، فانظره:(3/ 529)، وأضواء البيان (7/ 545).
(2)
القول المفيد (ص/ 103).
(3)
انظر: فوائد في علوم الفقه لحبيب الكيرواني (ص/27).
(4)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 100 - 101).
(5)
الشجة: الجرح في الوجه، والرأس. انظر: المصباح المنير للفيومي، مادة:(شجج)، (ص/ 250)، والدر النقي لابن المبرد (3/ 734)، وأنيس الفقهاء للقونوي (ص/ 289).
(6)
أخرج الحديث من طريق الزبير بن خريق عن عطاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أبو داود في: سننه، كتاب: الطهارة، باب: في الجروح تيمم (ص/ 59)، برقم (336)، وقال ابن حجر في: بلوغ المرام (ص/ 64) عن إسناد رواية أبي داود: "فيه ضعف، وفيه اختلاف على رواته". والدارقطني في: سننه، كتاب: الطهارة، باب: جواز التيمم لصاحب الجرح (1/ 349)، برقم (729)، وذكر عن أبي بكر بن أبي داود قوله: "هذه سنة تفرد بها أهل مكة، وحملها أهل الجزيزة، ولم يروه عن عطاء عن جابر غيرُ الزبير بن خريق، وليس بالقوي، خالفه الأوزاعي، فرواه عن عطاء عن ابن عباس، واختلف فيه على الأوزاعي: فقيل: عنه عن عطاء. وقيل: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عنه بلغني عن عطاء، وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الطهارة، باب: المسح على العصائب والجبائر (1/ 227 - 228)، وقال عنه:"وليس بالقوي". وفي: معرفة السنن والآثار، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الجبائر (2/ 41)، برقم (1661)؛ وفي الخلافيات (2/ 489)، برقم (834)، ونقل عن أبي بكر بن أبي داود (2/ 492) قوله السابق ذكره؛ والبغوي في: شرح السنة، كتاب: الطهارة، باب: كيفية التيمم (2/ 120)، برقم (313).
ونقل الحافظ ابنُ حجر في: التلخيص الحبير (1/ 399) تصحيحَ ابن السكن للحديث، وحسَّن الألبانيُّ الحديثَ في تعليقه على سنن أبي داود في الموضع السابق.
وخالف الأوزاعيُّ الزبيرَ، فرواه عن عطاء عن ابن عاس رضي الله عنهما، ولفظه:(قتلوه قتلهم الله، أو لم يكن شفاء العيّ السؤال)، وأخرجه: البخاريُّ في: التاريخ الكبير (8/ 228) معلقًا؛ وأبو داود في: سننه، كتاب: الطهارة، باب: في الجروح تيمم (ص/ 60)، برقم (337)؛ وابن ماجه في: سننه، كتاب: الطهارة وسننها، باب: في التيمم ضربتين (ص/ 112 - 113)، برقم (572)؛ وعبد الرزاق في: المصنف، كتاب: الطهارة، باب: إذا لم يجد الماء (1/ 223)، برقم (867)؛ وأحمد في: المسند (5/ 173)، برقم (3056)؛ والدارمي في: السنن، كتاب: الطهارة، باب: المجروح تصيبه الجنابة (1/ 585)، برقم (779)؛ وأبو يعلى في: المسند (4/ 309)، برقم (2420)؛ وابن الجارود في: المنتقى، كتاب: الطهارة، باب: التيمم (1/ 131)، برقم (128)؛ وابن خزيمة في: صحيحه، كتاب: الوضوء، باب: الرخصة للتيمم للمجدور والمجروح (1/ 138)، برقم (273)، وقال:"شكّ في ابن عباس، ثم أثبته بعد"، ولعله يقصد عطاء؛ والطبراني في: المعجم الكبير (11/ 155)، برقم (11472)؛ والدارقطني في: السنن، كتاب: الطهارة (1/ 351)، برقم (730)، وصحح إرسال الحديث عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: الطهارة (1/ 220)، برقم (585)، وصححه، ووافقه الذهبي، و (1/ 235)، برقم (620)، وقال:"صحيح على شرط الشيخين". وأبو نعيم في: حلية الأولياء (3/ 317 - 318)، وقال:"هذا حديث غريب، لا تحفظ هذه اللفظة من أحد من الصحابة إلا من حديث ابن عباس، ولا عنه إلا من رواية عطاء، حدَّث به الوليدُ بن مسلم". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الطهارة، باب: الجرح إذا كان في بعض جسده دون بعض (1/ 227)؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (1/ 375)، برقم (526)، وقال:"هكذا رواه عبد الحميد بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس، ورواه عبد الرزاق عن الأوزاعي عن رجل عن عطاء عن ابن عباس مثله، وعبد الرزاق أثبت من عبد الحميد".
وقال ابن المنذر في: الأوسط (2/ 22) عن الحديث: "في إسناده مقال". وقال البيهقي في: السنن الكبرى (1/ 228): عن حديث عطاء: "ليس بالقوي". وحسَّن الألبانيُّ في: تعليقه على صحيح ابن خزيمة (1/ 138) الحديث بمجموع طرقه.
وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرشد مَنْ أرادَ معرفةَ الحكمِ إلى السؤالِ، وهذا هو تقليدُ العالمِ بعينِه
(1)
.
مناقشة الدليل الخامس: دلَّ الحديثُ على أنَّ الإفتاءَ بعلمٍ طريقٌ صحيحٌ لمعرفةِ الحكمِ الشرعي، ويكونُ العلمُ صحيحًا، إنْ كانت الفتيا عن معرفةٍ للحكم بدليلِه، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أرشدَ المفتين لصاحب الشجّة إلى السؤالِ عن حكمِه صلى الله عليه وسلم وسنتِه، لا عن مذاهب الناسِ، وقولُه صلى الله عليه وسلم:(ألا سألوا)، أي: سألوا عن حكمِ الله وحكمِ رسولِه صلى الله عليه وسلم. ويدلُّ على هذا: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا على مَنْ أفتى بغيرِ علمٍ
(2)
.
الدليل السادس: عن ابنِ أبي ليلى
(3)
قال: حدثنا أصحابُنا أنَّهم كانوا إذا صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فدَخَلَ الرجلُ، أشاروا إليه، فقَضَى ما سُبِق به، فكانوا ما بين قائمٍ وراكعٍ وقاعدٍ ومصلٍّ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءَ معاذٌ، فقالَ: لا أراه على حالٍ إلا كنتُ عليها. فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ معاذًا قد سنَّ لكم سنة، فكذلك فافعلوا)
(4)
.
(1)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 470)، والبحر المحيط (6/ 282)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 171)، ومنحة الغفار له (1/ 94)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 121)، وأضواء البيان (7/ 533).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 529)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 171)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 357) ط/ دار الفتح، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 102 - 103)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 186)، وأضواء البيان (7/ 545)، وسبيل الجنة لأحمد آل بوطامي (ص/ 54).
(3)
هو: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عبد الرحمن الأنصاري الأوسي الكوفي، ولد سنة نيّف وسبعين، كان علامةً إمامًا فقيهًا، صاحب سنةٍ، مفتي الكوفة وقاضيها، ونظيرًا للامام أبي حنيفة في الفقه، لكنه كان ضعيفًا عند علماء الجرح والتعديل؛ لسوء حفظه، وفحش خطئه، يقول سفيان الثوري:"فقهاؤنا ابن أبي ليلى، وابن شبرمة"، توفي سنة 148 هـ.
انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 358)، والتاريخ الكبير للبخاري (1/ 162)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/ 322)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 179)، وتهذيب الكمال للمزي (25/ 622)، وسير أعلام النبلاء (6/ 310)، وميزان الاعتدال للذهبي (3/ 613)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (3/ 627).
(4)
هذا اللفظ قطعةٌ من حديث طويل، وأخرجه: أبو داود في: سننه، كتاب: الصلاة، باب: =
وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيّنَ جوازَ تقليدِ الصحابة رضي الله عنهم لمعاذِ رضي الله عنه في فعلِه حينَ أخّرَ قضاءَ الصلاةِ إلى ما بعد سلامِ الإمامِ
(1)
.
مناقشة الدليل السادس: نوقش الدليل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنَّ في الحديث ضعفًا
(2)
.
الوجه الثاني: على فرضِ صحةِ الحديثِ، فليس فيه ما يدلُّ على جوازِ التقليدِ؛ إذ فِعلُ معاذٍ رضي الله عنه لم يصرْ سنةً إلا حينَ أَمَرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وليس فعلُ معاذٍ رضي الله عنه سنةً بمجردِه، ويكون معنى الحديثِ: إنَّ معاذًا فَعَلَ فعلًا جَعَلَه الله لكم سنةً
(3)
.
ويدلُّ على أنَّ مجردَ فعلِ معاذ رضي الله عنه ليس بسنةٍ إلا إذا أقره النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ما جاءَ في تطويلِ معاذٍ لصلاةِ العشاءِ، وغَضَب النبي صلى الله عليه وسلم منه، ونهيه عن التطويلِ
(4)
.
= بدء الأذان (ص/ 85)، برقم (506)؛ وأحمد في: المسند (36/ 436)، برقم (22124)؛ وابن حزم في: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 70 - 71)، وقال عنه في:(6/ 72): "لم يذكر ابن أبي ليلى من حدثه به"، وقال في:(6/ 80): "حديث لا يصح سنده". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: المسبوق ببعض صلاته يصنع ما يصنع الإمام (2/ 296)، وأعل الحديثَ بالانقطاع بين ابن أبي ليلى ومعاذ رضي الله عنه، فقال: "رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن: حدثنا أصحابنا قال: كان الرجل إذا جاء
…
فذكر معناه، وذلك أصح؛ لأنَّ عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذًا". وفي: كتاب: الصلاة، باب: من كره أن يفتتح لنفسه، ثم يدخل مع الإمام (3/ 93 - 94).
وقال ابنُ حجر في: التلخيص الحبير (2/ 566) عن الحديث: "هذا حديث ظاهر الانقطاع".
وانظر: إتحاف المهرة له (13/ 265).
(1)
انظر: إيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 121)، وأضواء البيان (7/ 534).
(2)
راجع تخريج الحديث في الحاشية السابقة.
(3)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 72)، وإعلام الموقعين (3/ 540)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 153)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 194)، وأضواء البيان (7/ 550)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 99).
(4)
أخرج الحديث: البخاري في: صحيحه، كتاب: الأذان، باب: إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج يصلي (ص/ 148)، برقم (701)؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء (1/ 215) برقم (465).
الوجه الثالث: على فرضِ التسليم بصحةِ الاستدلالِ بالحديثِ على جوازِ تقليدِ معاذ رضي الله عنه، فليس فيه ما يدلُّ على جوازِ تقليدِ الأئمةِ الأربعةِ؛ للفرقِ الواضحِ بين مقامِ الصحابي، ومقامِ مَنْ جاءَ بعده
(1)
.
الدليل السابع: أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم جوّزوا التقليدَ، وعملوا به، وهناك عددٌ مِن الوقائعِ تدلُّ على ذلك، منها:
الأولى: أنَّ أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه قال في الكلالة
(2)
(أقضي فيها، فإنْ يكن صوابًا فمِن الله، وإنْ يكن خطأ فمني ومن الشيطانِ، والله منه بريءٌ، هو ما دون الوالد والولد). فقالَ عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه: (إنِّي لأستحيي مِن الله أنْ أخالف أبا بكرٍ)
(3)
.
وجه الدلالة: الأثرُ ظاهرٌ في تقليدِ عمر رضي الله عنه لأبي بكرٍ رضي الله عنه، وإقرار مَنْ حَضَرَ مِن الصحابةِ رضي الله عنه له، وإذا جازَ لعمرَ رضي الله عنه أنْ يقلِّدَ، فيجوز لغيرِه مِن بابٍ أولى.
(1)
انظرة الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 72).
(2)
الكلالة: كل ميت لم يرثه ولد أو أب. وقيل: الكلالة الورثة ما خلا الوالد. وقيل: الذين يرثون الميت مَن عدا ولده ووالده. انظر: جامع البيان لابن جرير (6/ 475 - 481)، والمصباح المير للفيومي، مادة:(كلل)، (ص/ 438)، وأنيس الفقهاء للقونوي (ص/ 299).
(3)
أخرج الأثر: عبد الرزاق في: المصنف، كتاب: الفرائض، باب: الكلالة (10/ 304)، برقم (19191)؛ وسعيد بن منصور في: السنن، في تفسير سورة النساء (3/ 1185)، برقم (591)؛ والدارمي في: السنن، كتاب: الفرائض، باب: الكلالة (4/ 1944)، برقم (3015)؛ وابن جرير في: جامع البيان (6/ 475)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الفرائض، باب: حجب الإخوة والأخوات من كانوا بالأب والابن (6/ 224). وذكر السيوطيُّ في: الدر المنثور (5/ 149) الأثرَ، وعزاه إلى عبدا لرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والدارمي، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي.
والذي أخرجه ابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الفرائض، باب: في الكلالة، من هم؟ (16/ 370)، برقم (32255) هو قول أبي بكر فحسب.
وضعّف ابنُ حزم في: المحلى (10/ 392) الأثرَ؛ لأنَّه منقطع؛ فالشعبي لم يدرك أبا بكر رضي الله عنه. وانظر: تعليق محقق سنن سعيد بن منصور (3/ 1186).
الثانية: أنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه ألزم مَنْ يُطَلِّقُ زوجتَه ثلاثًا بالطلقاتِ الثلاثِ
(1)
، ومَنَعَ بيعَ أمهاتِ الأولادِ
(2)
، وقد وافقه الصحابةُ رضي الله عنهم على هذا.
(1)
أخرجه مسلم في: صحيحه، كتاب: الطلاق، باب: طلاق الثلاث (2/ 677) برقم (1472) عن ابن عباس قال: كان الطلاقُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب:(إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم)، فأمضاه عليهم.
(2)
جاء ما يدل على أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه منع بييع أمهات الأولاد، فمن ذلك:
أولًا: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا، فانتهينا)، وأخرجه: أبو داود في: سننه، كتاب: العتق، باب: في عتق أمهات الأولاد (ص / 593)، برقم (3954)؛ وابن حبان في: صحيحه، كتاب: العتق، باب: ذكر البيان أنَّ عمر بن الخطاب هو الذي نهى عن بيع أمهات الأولاد (10/ 166)، برقم (4324)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: البيوع (2/ 25)، برقم (2189)، وقال:"حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: عتق أمهات الأولاد، باب: الخلاف في أمهات الأولاد (10/ 347).
وصحح الألبانيُّ في: إرواء الغليل (6/ 189) الحديثَ على شرط مسلم.
ثانيًا: ما جاء عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليًا يقول: [اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أنَّ لا يبعن). قال: (ثم رأيت بعدُ بيعهن). قال: عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة. فضحك علي، وأخرجه: عبد الرزاق في: المصنف، باب: بيع أمهات الأولاد (7/ 291)، برقم (13224)، وقال ابنُ حجر في: التلخيص الحبير (6/ 3294) عن إسناد عبد الرزاق: "هذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد". وسعيد بن منصور في: السنن، باب: ما جاء في بيع أمهات الأولاد (2/ 87)، برقم (2047)، وقال الألباني في: إرواء الغليل (7/ 190) عن إسناد رواية سعيد: "هذا سندٌ صحيحٌ على شرط الشيخين". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: عتق أمهات الأولاد، باب: الخلاف في أمهات الأولاد (10/ 348)، وقال ابن الملقن في: البدر المنير (9/ 761) عن إسناد رواية البيهقي: "إسنادٌ جيّد".
وقال ابن الملقن في: المصدر السابق (9/ 761): "هذا الأثر مشهور".
وللاستزادة من طرق أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه انظر: المصنف لعبد الرزاق، باب: بيع أمهات الأولاد (7/ 278 وما بعدها).
وأمهات الأولد: جمع أم ولد، وهي: الأمة التي حملت من سيدها، فوضعت منه ما تبين فيه بعض خلق الإنسان. انظر: الإنصاف (7/ 490)، وتحفة المحتاج للهيتمي (10/ 421)، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي (5/ 86).
وجه الدلالة: أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم أخذوا قولَ عمرَ رضي الله عنه تقليدًا له
(1)
.
الثالثة: جاءَ في كتابِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شريحٍ
(2)
: (أن اقضِ بما في كتابِ لله، فإنْ لم يكنْ في كتابِ الله، فبسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنْ لم يكن في سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقضِ بما قَضَى به الصالحون)
(3)
.
وجه الدلالة: أنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أرشدَ إلى تقليدِ الصالحين، وهذا منه إذنٌ في تقليدِ العلماءِ.
الرابعة: أنَّ عبدَ الله بن مسعود رضي الله عنه كان يأخذُ بقولِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(1)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 479)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص / 304) ط/ دار الفتح.
(2)
هو: القاضي شريح بن الحارث، وقيل: ابن شراحيل بن قيس بن الجهم الكندي الكوفي، أبو أمية، تابعي جليل، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وانتقل إلى اليمن في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وولي القضاء ستين سنة للخلفاء: عمر وعثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنه إلى أيام الحجاج، فاستعفاه، فأعفاه، كان ثقة ذا عقلٍ وذكاءٍ وفطنةٍ، فقيهًا شاعرًا عالمًا زاهدًا ورعًا، ومن أعلم الناس بالقضاء، توفي سنة 80 هـ وقيل: 78 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 252)، والتاريخ الكبير للبخاري (4/ 228)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 332)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 460)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 332)، وتهذيب الكمال للمزي (12/ 435)، وسير أعلام النبلاء (4/ 100)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (6/ 182).
(3)
أخرج أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: النسائي في: المجتبى، كتاب: آداب القضاة، باب: الحكم باتفاق أهل العلم (ص/ 811)، برقم (5399)؛ وفي: السنن الكبرى، كتاب: القضاء، باب: الحكم بما اتفق عليه أهل العلم (5/ 406)، برقم (5911)؛ والدارمي في: السنن، باب: الفتيا وما فيه من الشدة (1/ 265)، برقم (169)؛ وابن حزم في: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 29 - 30؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 846)، برقم (1595)؛ والخطيب البغدادي في: الفقيه والمتفقه (1/ 421)، برقم (444)، و (1/ 491)، برقم (532)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: آداب القاضي، باب: موضع المساواة (10/ 110).
وصحح الألباني الحديث في: صحيح النسائي (ص/ 811). ورجال إسناد النسائي رجال الصحيح. انظر: ذخيرة العقبى في شرح المجتبى للأثيوبي (39/ 259).
وقد صححَ ابنُ القيمِ هذا الأخذ
(1)
، ومِنْ ذلك: قولُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه: (إنَّ عمرَ كَرِهَ الصلاةَ بعد العصرِ، وإنِّي أَكْرَه ما كَرِه عمرُ)
(2)
.
وهذا تقليدٌ مِنْ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه لعمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه.
الخامسة: يقولُ عبدُ الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه: (مَنْ كان منكم مستنًا فليستن بمَنْ قد مات، فإنَّ الحيَّ لا تؤمن عليه الفتنةُ، أولئك أصحاب محمد أبرّ الأمة قلوبًا، وأعمقهًا علمًا)
(3)
.
ويقولُ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه أيضًا: (أَلا لا يقلدنَّ رجلٌ رجلًا دينه، إنْ آمنَ آمنَ، وإنْ كفَرَ كفَرَ، فإنْ كانْ مقلّدًا لا محالة، فليقلد الميتَ، وبترك الحيَّ؛ فإنَّ الحيَّ لا تؤمن عليه الفتنةُ)
(4)
.
(1)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 473). ونقل تصحيحَ ابنِ القيم صالح الفلانيُّ في: إيقاظ همم أولي الأبصار (ص/ 121)، ومحمد الأمين الشنقيطي في: أضواء البيان (7/ 534).
(2)
أخرج أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الصلاة، باب: من قال: لا صلاة بعد الفجر (5/ 115)، برقم (7410)؛ والطحاوي في: شرح مشكل الآثار، كتاب: الصلاة، باب: الركعتين بعد العصر (1/ 404)؛ والطبراني في: المعجم الكبير (9/ 168)، برقم (8834)، وإسناد الطبراني على شرط الصحيح. وانظر: تعليق محقق إعلام الموقعين (3/ 473).
(3)
جاء أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من طريق قتادة عنه، وأخرجه: ابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 947)، برقم (1810)؛ وأبو إسماعيل الهروي في: ذم الكلام وأهله (4/ 38)، برقم (758).
وذكر الخطيب التبريزي في: مشكاة المصابيح، كتاب: الإيمان، باب: الاعتصام بالكتاب والسنة (1/ 67 - 68)، برقم (193) أنَّ رزينًا أخرج أثر ابن مسعود رضي الله عنه.
والأثر منقطع الإسناد؛ إذ لم يثبت سماع قتادة عن ابن مسعود رضي الله عنه. انظر: تعليق الألباني على مشكاة المصابيح (1/ 68).
وأخرج أبو نعيم في: حلية الأولياء (1/ 305 - 306) بنحو أثر ابن مسعود رضي الله عنه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، لكن في سنده عمر بن نبهان، وهو ضعيف، كما في: التقريب لابن حجر (ص/ 486).
(4)
أخرج أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اللالكائي في: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 104 - 105)، برقم (130)؛ وأبو نعيم في: حلية الأولياء (1/ 136)؛ وابن حزم في: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 97)، وقال عنه:"هذا باطل". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي (10/ 116).
وهذانِ الأثرانِ يدلانِ على أنَّ ابنَ مسعودٍ رضي الله عنه يرى جوازَ أخذ أقوال العالمِ تقليدًا له.
السادسة: يقولُ مسروق
(1)
: (كان ستةٌ مِنْ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم يفتون الناسَ: ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعلي، وزيد بن ثابت، وأُبيّ بن كعب
(2)
، وأبو موسى الأشعري
(3)
، وكان ثلاثةٌ منهم يَدَعُون قولَهم لقولِ
= وجاء الأثر بلفظ آخر: (لا يقلدن أحدكم دينه رجلًا إن آمن آمن، وإن كفر كفر؛ فإنَّه لا أسوة في الشر)، وأخرجه: الطبراني في: المعجم الكبير (9/ 152) برقم (8764)، وقال الهيثمي في: مجمع الزوائد (1/ 180) عن إسناد رواية الطبراني: "رجاله رجال الصحيح".
(1)
هو: مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد الله، أبو عائشة الوادعي الهمداني الكوفي، سُرق وهو صغير، ثم وُجد فسُمي مسروقًا، كان إمامًا قدوةً عَلَمًا ثقةً، من كبار التابعين، ومن المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، معروفًا بالفتوى وبالعبادة، كان يصلي حتى تتورم قدماه، ومن أقواله:"لأن أفتي يومًا بعدلٍ وحقٍ، أحب إليَّ من أن أغزو سنة"، توفي سنة 62 هـ وقيل: 63 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 76)، والتاريخ الكبير للبخاري (8/ 35)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (2/ 95)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 76)، وتاريخ مدينة السلام للخطيب (15/ 311)، وسير أعلام النبلاء (4/ 63)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 46).
(2)
هو: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد الأنصاري الخزرجي النجاري، أبو المنذر المدني رضي الله عنه، سيد القراء، وأحد فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، من أصحاب العقبة الثانية، شهد بدرًا، وما بعدها، وحفظ القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسميه بسيد المسلمين، توفي سنة 22 هـ وقيل: 32 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 378)، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (3/ 424)، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (2/ 163)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 42)، وأسد الغابة لابن الأثير (1/ 61)، وسير أعلام النبلاء (1/ 389)، والإصابة لابن حجر (1/ 27).
(3)
هو: عبد الله بن قيس بن سُليمٍ بن حضار بن حرب بن عامر، أبو موسى الأشعري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان فقيهًا مقرئًا، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد فتح خيبر، وجاهد معه صلى الله عليه وسلم، وكان من المهاجرين إلى الحبشة، وحمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا، كان من أحسن الصحابة صوتًا بالقرآن، ومعدودًا ممن قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقرأَ أهلَ البصرة، وفقَّههم في الدين، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على زبيد وعدن، وولي إمرة البصرة زمن عمر بن الخطاب، وولي الكوفة لعمان بن عفان رضي الله عنه، وكان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين، توفي رضي الله عنه بالكوفة، وقيل: بمكة سنة 42 هـ وقيل: سنة 44 هـ وعمره نيف وستون سنةً. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 344)، والتاريخ الكبير للبخاري (5/ 22)، والجرح والتعديل لابن =
ثلاثة: كان عبدُ الله يَدَعُ قولَه لقولِ عمر، وكان أبو موسى يَدَعُ قولَه لقولِ علي، وكان زيد يَدَعُ قولَه لقولِ أُبيّ بن كعب)
(1)
.
السابعة: يقول الشعبي: إنَّ جندبًا
(2)
ذُكِر له قولٌ في مسألةٍ من الصلاةِ لابنِ مسعود رضي الله عنه، فقالَ جندبٌ:(أنَّه لرجلٌ، ما كنت لأدعَ قولَه لقولِ أحدٍ مِن الناسِ)
(3)
.
= أبي حاتم (5/ 138)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 432)، وأسد الغابة لابن الأثير (3/ 261)، وتهذيب الكمال للمزي (15/ 446)، وسير أعلام النبلاء (2/ 380)، والإصابة لابن حجر (4/ 211).
(1)
أخرج قول مسروق: ابن سعد في: الطبقات الكبرى (2/ 351)؛ وابن حزم في: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 67)، وضعّف ثبوته؛ لأنَّ في سنده جابر الجعفي، وهوضعيف. وانظر: التقريب لابن حجر (ص/ 169).
وجاء لفظ قريب من اللفظ السابق عن مسروق قال: (شاممت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدت علمهم انتهى إلى ستة، إلى: عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وأبي الدرداء، وزيد بن نابت، ثم شاممت الستة، فوجدت علمهم انتهى إلى علي، وعبد الله)، وأخرجه: ابن سعد في: الطبقات (2/ 351)؛ والفسوي في: المعرفة والتاريخ (1/ 444 - 445)؛ والطبراني في: المعجم الكبير (9/ 94)، برقم (8513)، وقال ابن حجر الهيثمي في: مجمع الزوائد (9/ 16): "ورجاله رجال الصحيح، غير القاسم بن معين، وهو ثقة". والبيهقي في: المدخل إلى السنن (1/ 141 - 143)، بالأرقام (145 - 148).
وأخرج أبو خيثمة في: العلم (ص/ 39)، برقم (94)، والبيهقي في: المدخل إلى السنن (1/ 143)، برقم (149) نحو قول مسروق عن الشعبي.
(2)
لم يتبين لي جندب على وجه التحديد، والأقرب فيما أظن أنه: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي العلقي، أبو عبد الله، له صحبة ليست بالقديمة، ينسب تارة لأبيه، وتارة إلى جده، سكن الكوفة، ثم صار إلى البصرة، وقد روى عنه أهل المصرين، وروى عنه من أهل الشام شهر بن حوشب، من وصاياه: "أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم بالقرآن، فإنه نور بالليل المظلم، وهدى بالنهار، فاعملوا به ما كان من جهد وفاقة، فإن عَرَضَ بلاءٌ، فقدّم مالك دون دينك
…
"، وقد عاش إلى حدود سنة سبعين. انظر ترجقه في: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 35)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص / 112)، وتاريخ مدينة السلام للخطيب (8/ 178)، وتهذيب الكمال للمزي (5/ 137)، وسير أعلام النبلاء (3/ 174)، والوافي بالوفيات للصفدي (11/ 193)، والإصابة لابن حجر (1/ 509).
(3)
أخرج الأثر ابن حزم في: الأحكام في أصول الأحكام (6/ 67)، وفي سنده: جابر الجعفي، وهو ضعيف. انظر: التقريب لابن حجر (ص/ 169).
وهذا الأثر يدلُّ على تقليدِ جندب لابنِ مسعود رضي الله عنه.
فهذه الوقائعُ وغيرها تدلُّ على تقليدِ الصحابةِ رضي الله عنهم لبعضِهم، وتجويزهم لهذا.
مناقشة الدليل السابع: لا نُسلمُ لكم أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم جوزوا التقليدَ، أو وقعوا فيه، وما ذكرتموه مِنْ وقائع لكل منها مناقشةٌ مستقلةٌ:
أولًا: مناقشة ما جاء عن عمر رضي الله عنه: (إنِّي لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكرٍ)، نوقش الأثر من ثمانيةِ أوجه:
الوجه الأول: أنَّ الأثرَ لا يصحُّ. يقولُ ابنُ حزمٍ: "هذا حديثٌ مكذوبٌ محذوفٌ لا يصحُّ منفردًا هذا اللفظُ"
(1)
.
وفيما قاله ابنُ حزمٍ نظرٌ؛ لعدمِ وجودِ كذّاب أو متروكٍ في سندِه، بلْ في الأثرِ انقطاعٌ - كما تقدم في تخريجه - إلا إذا أرادَ بقولِه أنَّه مكذوب أنَّ مَن استدلَّ به على دعوى التقليدِ، فقد كَذَبَ.
الوجه الثاني: على فرضِ صحةِ الأثرِ، فإنَّ معناه: أنَّ عمر رضي الله عنه استحيا مِنْ مخالفة أبي بكرِ رضي الله عنه في اعترافِه بجوازِ الخطأِ عليه، وأنَّ كلامَه كلَّه ليس صوابًا مأمونًا عليه الخطأُ.
ويدلُّ على هذا المعنى: أنَّ عمرَ رضي الله عنه أقرَّ عند موتِه أنَّه لم يقضِ في الكلالةِ بشيءٍ، وأنَّه لم يفهمْها
(2)
.
(1)
الإحكام في أصول الأحكام (6/ 65).
(2)
انظر: المصدر السابق (6/ 127 - 128)، وإعلام الموقعين (3/ 530)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 148)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 104)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 187)، وأضواء البيان (7/ 545 - 546)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/95).
وأخرج ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لم يفهم الكلالة: عبد الرزاق في: المصنف، كتاب: الفرائض، باب: الكلالة (10/ 305)، برقم (19194)؛ وسعيد بن منصور في: السنن (3/ 1178)، برقم (587)، كلاهما من طريق طاووس أنَّ عمر رضي الله عنه قال: فذكر الأثر.
الجواب عن الوجه الثاني: إنَّ اعترافَ عمر رضي الله عنه بعدمِ القضاءِ في الكلالةِ بشيءٍ، وأنَّه لم يفهمْها، دليلٌ على تقليدِه لأبي بكرٍ رضي الله عنه فيها، وليس دليلًا على عدمِ التقليدِ
(1)
.
الوجه الثالث: أنَّ مخالفةَ عمر رضي الله عنه لأبي بكرٍ رضي الله عنه مشهورةٌ، فمِنْ ذلك: أنَّ عمرَ رضي الله عنه أوقفَ الأرضَ المفتوحةَ عنوةً، وكان أبو بكرٍ رضي الله عنه يقسمها
(2)
، وكانَ عمرُ رضي الله عنه يفاضلُ في العطاءِ، وأبو بكرٍ رضي الله عنه يساوي فيه
(3)
، وغير هذا ممَّا يدلُّ على بطلانِ قولِ مَنْ يقولُ: إنَّ عمرَ رضي الله عنه لا يخالفُ أبا بكرٍ رضي الله عنه
(4)
.
= وطاووس لم يلق عمر، فالأثر منقطع.
وأخرجه عبد الرزاق في: المصنف، الموضع السابق (10/ 305)، برقم (19195) عن طاووس عن أبيه عن عمر رضي الله عنه، ورجاله ثقات. انظر: تعليق محقق السنن لسعيد بن منصور (3/ 1189).
وجاء عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ما أرني أعلمها - أي: الكلالة - أبدًا
…
)، وأخرجه: إسحاق بن راهويه، كما في: المطالب العالية لابن حجر (8/ 17)، برقم (1537)، وقال عنه ابن حجر:"صحيح إن كان ابن المسيب سمعه من حفصة، رضي الله عنه". وابن مردويه كما في: الدر المنثور للسيوطي (5/ 143)، وفي: كنز العمال للمتقي (11/ 79). وصحح الأثرَ بلفظه الآخر المتقيُّ في: كنز العمال (11/ 79). ورجال إسناد إسحاق بن راهويه ثقات، وهو صحيح على شرط مسلم. انظر: تعليق محقق المطالب العالية (8/ 18)، وبيَّن المحققُ إمكان اللقاء بين حفصة، وسعيد بن المسيب.
(1)
انظر: التقليد والإفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص / 48).
(2)
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لولا آخر المسلمين ما فتحتُ قريةً إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر)، وأخرجه: البخاري في: صحيحه، كتاب: المزارعة، باب: أوقاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأرض الخراج ومزارعهم ومعاملتهم (ص/ 439)، برقم (2334).
(3)
أخرج البخاري في: صحيحه، كتاب: المغازي، بابٌ (دون ترجمة)، (ص/ 762)، برقم (4022) من حديث قيس، قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف، خمسة آلاف، وقال عمر:"لأفضلنهم على من بعدهم".
(4)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 66)، وإعلام الموقعين (3/ 530 - 531)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 149)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 104)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 187)، وأضواء البيان (7/ 546)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 95).
الوجه الرابع: لو صحَّ الاستدلالُ بهذا الأثرِ على جوازِ التقليدِ في كل واقعةٍ، فليس فيه حجةٌ على التمذهبِ بأحدِ المذاهب الأربعةِ؛ لأنَّ الأئمةَ ليسوا ممَّنْ يداني الصحابةَ رضي الله عنه أو يقاربهم، فلا يصحُّ إِلحاقُ غيرِ الصحابةِ بهم
(1)
.
الوجه الخامس: لو صحَّ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يرى جوازَ التقليدِ في واقعةٍ، فإِنَّا نَرُدُّ قولَه إِلى الكتابِ والسنةِ، وقد شَهِدَ النصُّ بردِّ قولِ مَنْ يقولُ بجوازِ التقليدِ، إِضافةً إِلى أنَّ قولَ الصحابي ليس بحجةٍ
(2)
.
ويمكن الجواب عن الوجه الخامس: بأنَّه مناقشةٌ بمحلِّ النزاعِ، فالمجوّزون يقولون: دلَّ النصُّ على جوازِ التقليدِ، وأنتم تمنعونه، ثمَّ لا نُسلّم أنّ قولَ الصحابي ليس بحجةٍ.
الوجه السادس: أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه استحيا مِنْ مخالفةِ أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وأنتم تستدلون بهذا الأثرِ، لكنَّكم لا تستحيون من مخالفةِ أبي بكرٍ رضي الله عنه، وتقدِّمون أقوالَ إِمامِكم عليه، فأنتم تحتجون بما تخالفونه!
(3)
.
الوجه السابع: أنَّ غايةَ ما في الأثرِ أن عمرَ رضي الله عنه قلَّد أبا بكرٍ رضي الله عنه في مسألةٍ واحدةٍ، خَفِيَ الصوابُ فيها على عمر، وليس فيه دليلٌ على جوازِ اتخاذِ أقوالِ إِمامٍ بعينِه بمنزلةِ نصوصِ الشارعِ، لا يُخرجُ عنها، ولا يُلتفتُ إِلى سواها
(4)
.
(1)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 67)، وإِعلام الموقعين (3/ 532)، وإِيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 149)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 157)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 188).
(2)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 67)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 188).
(3)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 67)، وإِعلام الموقعين (3/ 532)، وإِيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 149)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 95).
(4)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 532)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 359) ط/ دار الفتح، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 106)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 188).
الوجه الثامن: ليس في الأثرِ ما يدلُّ على قولِكم؛ لأنَّ الأثرَ يستدلُّ به مَنْ يرى جوازَ تقليد المجتهدِ لغيرِه من المجتهدين، إِذا عَجَزَ عن الاجتهادِ
(1)
، وتقليدُ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين مسألةٌ أخرى تختلفُ عمَّا نحنُ بصدده.
ويمكن الجواب عن الوجه الثامن: بأنَّه إِذا جازَ للمجتهدِ أنْ يقلِّدَ مجتهدًا آخر، فمِنْ باب أولى يجوزُ التقليدِ لمَنْ لم يكن مجتهدًا.
ثانيًا: مناقشة ما جاء أنَّ الصحابة رضي الله عنهم قلَّدوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين ألزم المطلِّق ثلاثًا بوقوع الطلقات ثلاثًا، ومنع بيع أمهات الأولاد: نوقش من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم الذين أخذوا بقولِ عمرَ رضي الله عنه لم يقلَّدوه، وإنَّما أداهم إِليه اجتهادُهم؛ فلم ينقلْ عن أحدٍ منهم أنَّه قال: إِنِّي رأيتُ هذا؛ تقليدًا لعمرَ
(2)
.
الوجه الثاني: هناك مِن الصحابة مَنْ خالفَ عمر رضي الله عنهم، فعبدُ الله بن عبَّاس رضي الله عنهما خالفه في الإِلزامِ بالطلاقِ، فجاءَ عنه ما يدلُّ على أنَّ الطلاقَ الثلاثَ لا يقعُ إِلَّا واحدةً
(3)
، وابنُ مسعودٍ رضي الله عنه خالفَ عمرَ رضي الله عنه في بيعِ
(1)
انظر: القول المفيد للشوكاني (ص/ 106)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 188).
(2)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 561)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 161)، وأضواء البيان (7/ 557)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 107).
(3)
اختلف الروايات عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، فجاء عنه أنَّه أوقع التطليقات الثلاث طلقة واحدة، وأخرجه: أبو داود في: السنن، كتاب: الطلاق، باب: في نسخ الراجعة بعد التطليقات الثلاث (3/ 67 ط/ مؤسسة الريان)، برقم (2180)، ويقول أبو داود في: السنن، كتاب: الطلاق، باب: نسخ الراجعة بعد التطليقات الثلاث (ص/ 334): "قول ابن عبَّاس هو أن طلاق الثلاث تبين من زوجها مدخولًا بها، وغير مدخول بها: لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره، وهذا مثل خبره في الصرف، قال فيه، ثم إِنه رجع عنه، يعني: ابن عبَّاس". وأحمد في: المسند (4/ 215)، برقم (2387)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الخلع والطلاق، باب: من جعل الثلاث واحدة، وما ورد في خلاف ذلك (7/ 339)، وقال: (هذا الإِسناد لا تقوم به الحجة مع ثمانية رووا عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما فتياه بخلاف ذلك"، أي: أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثًا. =
أمهاتِ الأولادِ
(1)
، وإِذا اختلفَ الصحابةُ في شيءٍ، فالمعوَّلُ عليه هو الحجةُ
(2)
.
الوجه الثالث: على فرضِ التسليمِ بأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم قلَّدوا عمر رضي الله عنه في هاتين المسألتين، فليس فيهما ما يسوِّغُ تقليد مَنْ هو دونَ عمر رضي الله عنه بكثيرٍ في كلِّ ما يصدرُ عنه، وترك أقوال غيرِه ممَّنْ هم مثله، أو أعلم منه
(3)
.
ثالثًا: مناقشة ما جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إِلى شريح: نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ قولَ عمر رضي الله عنه حجةٌ عليكم، لا لكم؛ فإِنَّه أَمَرَ شريحًا أنْ يعملَ بالكتابِ، فيقدمه على غيرِه، ثمَّ بالسنةِ، فإِنْ لم يجدْ قَضَى بما قضى به الصالحون، وهل أنتم تفعلون ما أرشد إِليه عمرُ رضي الله عنه إِذا نزلت بكم نازلةٌ؟ ! وحالكم أنَّكم اقتصرتم على قولِ إِمامِكم، فلم تلتفتوا إِلى غيرِه، ولم تنظروا في دليلِه
(4)
.
= وضعف الحديثَ الخطابيُّ في: معالم السنن (3/ 236).
وصحح ما جاء عن ابن عبَّاس تقيُّ الدين بن تيمية في: الفتاوى الكبرى (3/ 22)، وابنُ القيم في: زاد المعاد (5/ 263)، وبين ابن القيم في: تهذيب السنن (2/ 916) أنَّ الإِمام أحمد صحح إِسناده.
(1)
ذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إِلى أنَّ أم الولد تعتق من نصيب ولدها، وأخرج قوله: عبد الرزاق في: المصنِّف، باب: بيع أمهات الأولاد (7/ 289)، برقم (13215)؛ وابن أبي شيبة في: المصنِّف، كتاب: البيوع والأقضية، باب: في بيع أمهات الأولاد (11/ 208)، برقم (22012)؛ وابن حزم في: الإِحكام في أصول الأحكام (6/ 61)، وقال عن إِسناده:(6/ 62): "هذا السند العجيب الَّذي لا مغمز فيه". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: عتق أمهات الأولاد، باب: الخلاف في أمهات الأولاد (10/ 348).
(2)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 562)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 161)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 326)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 95).
(3)
انظر: المصادر السابقة.
(4)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 557)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 178)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 158)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 322)، وأضواء البيان (7/ 557)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 105).
الوجه الثاني: على فرضِ التسليمِ بما ذكرتم، فإِنَّ هذا قول عمر رضي الله عنهم، وقولُه ليس بحجةٍ
(1)
.
ويمكن الجواب عن الوجه الثاني: بأنَّ كتابَ عمر رضي الله عنه كتابٌ مشهورٌ، ولم ينكرْه أحدٌ من الصحابةِ رضي الله عنهم، فيكون حجةً.
ويمكن أن يضاف إِلى المناقشة وجه ثالث: أن قولَ عمر رضي الله عنه: (واقضِ بما قضى به الصالحون)، يريد به الإِجماعَ، وهو أحدُ الأدلةِ المعتبرةِ، وإِذا فسرنا ما جاء عنه بالإِجماع لم يبقَ فيه متمسكٌ لمن حَمَلَه على التقليدِ.
رابعًا: مناقشة الاستدلال بأنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يأخذ بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نوقش من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنَّ أخذ ابنِ مسعود رضي الله عنه لقولِ عمرَ رضي الله عنه مِنْ باب موافقةِ العالمِ للعالمِ في الرأي والاستدلال، لا مِنْ بابِ التقليدِ له، يؤكدُ هذا أمران:
الأمر الأول: أنَّ عبدَ الله بنَ مسعودٍ رضي الله عنه خالفَ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه في مسائلَ كثيرةٍ
(2)
.
الأمر الثاني: أنَّ عبدَ الله بن مسعود رضي الله عنه نفسَه حذّر مِنْ أن يكون المسلمُ إِمّعةً
(3)
، فقال: (وهو - أي: الإِمعة - فيكم: المُحْقِب
(4)
دينه
(1)
انظر: إِرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 179).
(2)
ساق ابنُ حزم في: الإِحكام في أصول الأحكام (6/ 61 - 64)، وابنُ القيم في: إِعلام الموقعين (3/ 534 - 537) عددًا من المسائل الَّتي خالف فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عمر رضي الله عنه.
(3)
الإِمّعة: الرجل الَّذي يتابع كل أحدِ على رأيه، فلا يثبت على شيء. انظر: الصحاح، مادة:(أمع)، (3/ 1183)، والفائق في غريب الحديث للزمخشري، مادة:(أمع)، (1/ 56)، والقاموس المحيط، مادة:(أمع)، (ص/ 905).
(4)
المُحْقِب: المقلِّد الَّذي جعل دينه تابعًا لدين غيره بلا رويّةٍ ولا برهانٍ، وهو مأخوذ من الإِرداف على حقيبة الرحل. انظر: الفائق في غريب الحديث للزمخشري، مادة:(أمع)، (1/ 56)، وغريب الحديث لابن الأثير (ص/ 220)، ولسان العرب، مادة:(حقب)، (1/ 327)، وتاج العروس، مادة:(أمع)، (20/ 299).
الرجال)
(1)
.
الوجه الثاني: أنَّ المستدلَّ بهذا الأثرِ لا يرى تقليدَ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه ولا ابنَ مسعودٍ رضي الله عنه في كل أقوالهما، بلْ تقليدُ مَنْ بعدهما من الأئمةِ أحبُّ إِليه، وآثرُ عنده
(2)
.
الوجه الثالث: لو سُلِّمَ الاستدلال بهذا الأثرِ على مطلوبِكم، فإِنَّه يكونُ متمسكًا لمنْ قالَ: يجوزُ تقليدُ المجتهدِ لمجتهدٍ آخر، وهذه مسألةٌ أخرى غير مسألتنا
(3)
.
ويمكن الجواب عن الوجه الثالث: بأنَّه إِذا جازَ للمجتهدِ أنْ يقلَّدَ مجتهدًا آخر، فمِنْ بابٍ أولى يجوزُ لمن لم يكن مجتهدًا أنْ يقلِّد أحدَ المجتهدين.
خامسًا: مناقشة ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
(1)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 61، 68)، وإِعلام الموقعين (3/ 538)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 108 - 109)، وإِيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 151)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 190)، وأضواء البيان (7/ 548 - 549)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 97).
وأخرج أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الطَّبراني في: المعجم الكبير (9/ 153)، برقم (8766)؛ وأبو نُعيم في: حلية الأولياء (1/ 137)؛ وابن حزم في: الإِحكام في أصول الأحكام (6/ 68)؛ والبيهقي في: المدخل إِلى السنن، باب: فضل العلم (1/ 341)، برقم (378)؛ والحنائي في: فوائده (1/ 589)، برقم (100)، وحسَّن محقق الكتاب (1/ 590) إِسناد الحنائي؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 983)، برقم (1874، 1876).
وأخرج الطَّبراني في: المعجم الكبير (9/ 152)، برقم (8765) أثرَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ:(لا يكون أحدكم إِمعة). قالوا: وما الإِمعة يا أبا عبد الرَّحمن؟ قال: (يقول: إِنَّما أنا مع الناس، إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطن أحدكم نفسه على إنْ كفر الناس أن لا يكفر). وضعف ابنُ حجر الهيثمي في: مجمع الزوائد (1/ 181) إِسناد الطَّبراني.
(2)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 62)، وإِعلام الموقعين (3/ 537)، وإِيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 151)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 109)، وأضواء البيان (7/ 549).
(3)
انظر: القول المفيد للشوكاني (ص/ 106).
الأول: مناقشة أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستنًا
…
)، نوقش الأثر من ثلاثةِ أوجه:
الوجه الأول: أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عيَّن المستنَ بهم، وهم الصحابةُ رضي الله عنهم، والمستدلُّ بهذا الأثرِ يُقَدِّم قولَ إِمامِه على من عداه
(1)
.
الوجه الثاني: يكونُ الاستنانُ بالصحابةِ رضي الله عنهم بالاقتداءِ بهم، بحيثُ يأتي المقتدي بمثلِ ما أتوا به، ويفعل كما فعلوا.
ويدلُّ على التفريقِ بين الاستنانِ والتقليدِ: أنَّ ابنَ مسعودٍ نفسَه نَهَى عن أنْ يكونَ المرءُ إِمعةً - أي: مقلدًا كما تقدم - وأَمَرَ بالاستنانِ
(2)
، وهذا يدلُّ على تفريقه بينهما، فلا يصحُّ حملُ ما جاءَ عنه في الاستنانِ على معنى التقليدِ
(3)
.
الوجه الثالث: أنَّ ابنَ مسعود رضي الله عنه نهى عن الاستنانِ بالأحياءِ، وأنتم تقلِّدون الأحياءَ، فلا يستقيمُ لكم الاستدلالُ بهذا الأثرِ
(4)
.
الثاني: مناقشة أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ألا لا يقلدن، رجل رجلًا
…
): نوقش الأثر من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ الأثرَ غيرُ ثابتٍ
(5)
.
الوجه الثاني: أنَّ في متن الأثرِ نكارةً، أوضحها ابنُ حزم، بقولِه:"مَعَ أنَّه - أي: ما نسب إِلى ابنِ مسعود - كلامٌ فاسدٌ؛ لأنَّ الميتَ أيضًا لا تُؤمَنُ عليه الفتنةُ إِذا أفتى بما أفتى، ولا فرقَ بينه، وبين الحي في هذا"
(6)
.
(1)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 555)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 157)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 102).
(2)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 573).
(3)
انظر: المصدر السابق (3/ 555)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 157)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 102).
(4)
انظر: إِيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 157).
(5)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 98).
(6)
المصدر السابق (6/ 98).
ويمكن أنْ يُضاف إِلى المناقشة وجهان آخران:
الوجه الثالث: أنَّ مقتضى الأثرِ إِنْ صحَّ منعُ تقليدِ الحي، والمستدلُّ به لا يقولُ بمقتضاه.
الوجه الرابع: عارضَ أثرَ عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه، مع ضعفِه ما جاءَ عنه مِنْ نهيه عن أنْ يكونَ المرءُ إِمّعةً
(1)
.
سادسًا: مناقشة قول مسروق: (كان ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفتون الناس
…
)، نوقش من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الأثرَ ضعيفٌ لا تقومُ به حجةٌ
(2)
.
الوجه الثاني: على فرضِ صحةِ الأثرِ، فإِنَّ المذكورين فيه لم يكونوا يَدَعُون ما يعرفون مِن السنةِ المطهرةِ تقليدًا لهؤلاءِ الثلاثة، بلْ إِذا ظَهَرَتْ لهم السنةُ لم يكونوا يَدَعُونها لقولِ أحدٍ كائنًا مَنْ كان، فهذا عبدُ الله بن عبَّاس رضي الله عنهما حين أنكرَ على مَنْ خالفَ السنة بقولِه:(قال: أبو بكرٍ وعمر)، وقال:(أراهم سيهلكون؛ أقولُ: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويقولون: نهى أبو بكرٍ وعمرُ)
(3)
.
(1)
تقدم تخريج الأثر في: (ص/ 806).
(2)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 67)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 98).
(3)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 538 - 539)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص / 152)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 109)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 313)، وأضواء البيان (7/ 550)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 95).
وأخرج أثر عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما: أحمد في: المسند (4/ 132)، برقم (2277)، و (5/ 228)، برقم (3121)، وصحح أحمد شاكر في: تخريجه مسند أحمد (5/ 48) إِسناد رواية أحمد في الموضع الثاني؛ وابن حزم في: حجة الوداع (ص/ 564)؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 1210)، برقم (2378، 2381)؛ والخطيب البغدادي في: الفقيه والمتفقه (1/ 376 - 377)، برقم (379). وفي سنده شريك بن عبد الله، وهو صدوق يخطئ كثيرًا، كما في: التقريب لابن حجر (ص/317). =
وإِنَّما كانوا يَدَعُون أقوالَهم لأقوالِ هؤلاءِ؛ لأنَّهم يقولون قولًا، ويقولُ هؤلاءِ قولًا مخالفًا لهم، ويكون الدليلُ معهم، فيرجعون إِليهم، ويَدَعُون أقوالَهم، وهذا عكس ما يفعلُه بعضُ المتمذهبين؛ إِذ لا يَدَعُون أقوالَ إِمامِهم وإِنْ خالفت الدليلَ
(1)
.
الوجه الثالث: لو سلمنا أنَّ الأثرَ يدلُّ على أنَّ الثلاثةَ المذكورين فيه يقلِّدون الثلاثةَ الآخرين، فليس فيه حجةٌ على تقليدِ الأئمةِ الأربعةِ؛ لأنَّ المقلَّدين في الأثرِ هم أَجِلَّةُ الصحابةِ رضي الله عنهم، ومَنْ جاءَ بعدَهم لا يداينهم ولا يقربُ منهم، فإِلحاقُه بهم فيه نظرٌ بيِّنٌ
(2)
.
ثامنًا: مناقشة قول جندب: (إِنَّه لرجل، ما كنتُ لأدع قوله:
…
):
نوقش بالأوجه الثلاثة الَّتي نوقش بها أثر مسروق آنف الذكر
(3)
.
الدليل الثامن: إِجماعُ الصحابةِ رضي الله عنهم على جوازِ استفتاءِ العامي أكثر
= وحَسَّن الأثرَ ابنُ مفلح في: الآداب الشرعية (2/ 164).
ويشهد للأثر السابق ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله؛ نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحدثونا عن أبي بكر وعمر)، وأخرجه: الطحاوي في: شرح معاني الآثار (2/ 189)؛ والطَّبراني في: المعجم الأوسط (1/ 11)، برقم (21)، وحسَّن ابنُ حجر الهيثمي في: مجمع الزوائد - ط/ دار الفكر - (3/ 526) إِسنادَ رواية الطَّبراني؛ وابن حزم في: حجة الوداع (ص/ 565)؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 1209)، برقم (2377)؛ والخطيب البغدادي في: الفقيه والمتفقه (1/ 377)، برقم (380).
وقد ساق تقيُّ الدين بن تيمية في: مجموع الفتاوى (20/ 216)، وفي: رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص/ 48)، وابنُ القيم في: إِعلام الموقعين (3/ 539) - وتبعهما آخرون - أثرَ ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال: أبو بكر وعمر). ولم أقف عليه مسندًا فيما رجعت إِليه من مصادر.
(1)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 68)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 364) ط/ دار الفتح.
(2)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 68).
(3)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 68)، وإعلام الموقعين (3/ 539)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 314).
مِنْ عالمٍ فيما يعرضُ له مِن المسائلِ، وإِذا لم يلزم مَنْ عدا المجتهد في عصرِ أوائل الأُمَة أنْ يختصَ بعالمٍ معيّنٍ، فكذا ما بعده مِن العصورِ
(1)
.
وقد حكى الإِجماعَ جمعٌ من الأصوليين، منهم: الآمديُّ
(2)
، والعزّ بن عبد السلام
(3)
، وشهابُ الدين القرافيُّ
(4)
، وصفيُّ الدين الهندي
(5)
.
وهذا الدليلُ يدلّ على جوازِ التمذهبِ، ويدفعُ القولَ بوجوبِه.
الدليل التاسع: أنَّه لم ينقلْ عن أحدٍ مِن الصحابةِ رضي الله عنهم أنَّهم كانوا يلزمون أحدًا بالتقيّدِ بمذهبِ أحدِ مجتهدي عصرِهم، ولو كان عدمُ التقيدِ بمذهبٍ معيَّنٍ غيرَ جائزٍ لما جازَ لهم السكوتُ عنه، وعدمُ إِنكارِه
(6)
.
الدليل العاشر: أنَّ الله تعالى لم يُوْجِبْ على أحدٍ مِن الناسِ أن يتقيّدَ بمذهبِ أحدِ الأئمة الأربعة، بحيثُ لا يخرجُ عنه، ولا أوجبه رسولُه صلى الله عليه وسلم، ولا واجبَ إِلَّا ما أوجبه للهُ تعالى أو رسولُه، ولذا فالتمذهب غيرُ واجبٍ
(7)
.
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 161)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 164)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 55)، وصفة الفتوى (ص/ 72)، والبحر المحيط (6/ 319)، وتيسير التحرير (4/ 253).
(2)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام (4/ 238).
(3)
نقل القرافيُّ حكايةَ العز بن عبد السلام الإِجماع في: نفائس الأصول (9/ 4147). وانظر: الفتاوى المصرية للعز بن عبد السلام (ص/ 52).
(4)
انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 432).
(5)
انظر: نهاية الوصول (8/ 3920)، والتقرير والتحبير (3/ 350)، وأصول الفقه للدكتور زكي شعبان (ص/ 339).
(6)
انظر: نهاية الوصول للهندي (8/ 3920)، والبحر المحيط (6/ 319)، والاستعداد لرتبة الاجتهاد لابن نور الدين (2/ 1172)، والتقرير والتحبير (3/ 351)، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1138)، وأصول الفقه الإِسلامي للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 489)، والوجيز في أصول الفقه للدكتور محمد الزحيلي (ص/ 375)، وأصول الفقه للدكتور زكي شعبان (ص/ 339).
(7)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 259 - 215)، وإعلام الموقعين (6/ 203)، =
الدليل الحادي عشر: انعقدَ الإِجماعُ على جوازِ التمذهبِ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ
(1)
.
يقولُ القاضي عياضٌ: "وَقَعَ إِجماعُ المسلمين في أقطارِ الأرض على تقليدِ هذا النمطِ، واتباعهم - أي: الأئمة الأربعة - ودَرْس مذاهبِهم"
(2)
.
ويقولُ الوزيرُ ابن هبيرة واصفًا المذاهب الأربعة: "الَّتي اجتمعت الأمةُ على أنَّ كلًّا منها يجوزُ العمل به"
(3)
.
ويقولُ ابنُ فرحون المالكي عن المذاهب الفقهية: "هؤلاءِ الذين وَقَعَ إِجماعُ الناسِ على تقليدِهم، مع الاختلافِ في أعيانِهم، واتفاق العلماءِ على اتباعِهم، والاقتداء بمذاهبِهم، ودَرْس كتبهم، والتفقه على مآخذِهم
…
"
(4)
.
= والتقرير والتحبير (3/ 350)، والقول السديد لمحمد فروخ (ص/ 106)، وضوء النهار للحسن الجلال (1/ 123)، وعمدة التحقيق للباني (ص/ 81)، والوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان (ص/ 411)، وأصول الفقه الإِسلامي للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 489)، وأصول الفقه للدكتور زكي شعبان (ص/ 339)، والمدخل للفقه الإِسلامي للدكتور محمد مدكور (ص/ 319)، والمدخل في التعريف بالفقه للدكتور عبد المجيد مطلوب (ص/244).
(1)
انظر: رسالة الاجتهاد والتقليد لحمد بن معمر (ص/ 76)، والقول السديد لعلي القنوجي (ص/ 16)، وفتاوى سماحة الشيخ محمد بن إِبراهيم (2/ 17)، واللامذهبية للدكتور محمد البوطي (ص/ 79)، وأصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1138).
وقد نسب الشَّيخ حمد بن معمر في: رسالة الاجتهاد والتقليد (ص/ 76) إِلى المتأخرين أنهم يستدلون بالإِجماع الَّذي حكاه ابن هبيرة، الآتي بعد قليل.
وادَّعى ابن أبي القاسم اليماني الزيدي - كما نقله عنه محمد الوزير في: العواصم والقواصم (3/ 128)، وفي: الروض الباسم (1/ 220) - انعقاد إِجماع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين على وجوب التزام مذهب إِمام معين؛ لأنَّه لم يعلم أن أحدًا كان يأخذ بقول أبي بكر في مسألة وبقول عمر في مسألة أخرى.
وقد ردَّ عليه محمدُ الوزير في: العواصم والقواصم (3/ 128 - 133)، وفي: الروض الباسم (1/ 228 - 221).
(2)
ترتيب المدارك (1/ 63).
(3)
الإفصاح (2/ 343). وانظر: المسودة (2/ 958).
(4)
الديباج المذهب (1/ 63).
ويقولُ شاه ولي الله الدهلوي: "المذاهبُ الأربعةُ المدوَّنةُ المحررةُ قد اجتمعت الأمةُ - أو مَنْ يعتدّ به منها - على جوازِ تقليدِها إِلى يومِنا هذا"
(1)
.
فالتمذهبُ قديمٌ، وقد أَدركَ الناسُ شيوخَهم عليه
(2)
.
مناقشة الدليل الحادي عشر: نوقش الدليل من وجهين:
الوجه الأول: انعدامُ قيمةِ الإِجماع المذكورِ في الدليل؛ لأنَّ المجمعين هم المقلِّدون المذهبيون الذين لم يتأهلوا للنظرِ في الأدلةِ
(3)
.
ويمكن الجواب عن الوجه الأول: بأنَّه لا يُسلَّم لكم أنَّ المجمعين هم مِنْ المتمذهبين الذين لم يتأهلوا إِلى النظرِ في الأدلةِ، والاستنباطِ منها، بلْ أربابُه مِن المتأهلين إِلى النظرِ في الأدلةِ، ومعرفةِ القولِ الراجحِ بدليلِه.
الوجه الثاني: نختلفُ معكم في تفسيرِ كلامِ بعضِ من أوردتم حديثه، فليس مرادُ ابنِ هبيرةَ - على وجهِ الخصوصِ - بالإِجماعِ الَّذي حكاه الإِجماعَ على جوازِ تقليدِ الأئمةِ الأربعةِ، وإِنَّما مرادُه الردُّ على مَن اشترطِ في القاضي أنْ يكون مجتهدًا، وأنَّ المقلِّدَ لا ينفذُ قضاؤه، وحَمَلَ كلامَ مَن اشترطَ في القاضي أنْ يكون مجتهدًا على ما كانت عليه الحالُ قبلَ استقرارِ المذاهب الأربعةِ، وأمَّا بعد استقرارها، فيجوزُ تولية المقلِّدِ لها، وينفذُ قضاؤه
(4)
.
ويدلُّ على هذا: سياقُ كلامِ ابنِ هبيرةَ؛ إِذ يقولُ: "اتفقوا على أنَّه لا يجوزُ أنْ يولَّى القضاء مَنْ ليس مِنْ أهلِ الاجتهادِ، إِلَّا أبا حنيفةَ، فإِنَّه قال: يجوزُ ذلك.
(1)
حجة الله البالغة (1/ 473).
(2)
انظر: الاتباع لابن أبي العز (ص/ 87)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 123).
(3)
انظر: العواصم والقواصم لابن الوزير (3/ 131)، والروض الباسم له (1/ 224)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 124)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 255)، وسبيل الجنة لأحمد آل بوطامي (ص/ 54).
(4)
انظر: رسالة في الاجتهاد والتقليد لحمد بن معمر (ص/ 76 - 77).
قال الوزير: والصحيحُ في هذه المسألةِ، أنَّ قولَ من قال: لا يجوزُ تولية قضاءٍ حتى يكون مِنْ أهلِ الاجتهادِ، فإِنَّه إِنَّما عَنى به ما كانت الحال عليه قبلَ استقرارِ ما استقر مِنْ هذه المذاهب الَّتي اجتمعت الأُمَّةُ على أنَّ كلًّا منها يجوزُ العملُ به؛ لأنَّه مستندٌ إِلى أَمرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وإلى سنته، فالقاضي في هذا الوقتِ وإِنْ لم يكنْ مِنْ أهلِ الاجتهادِ
…
فإِنَّ ذلك ممَّا قد فُرغَ له منه غيرِه، ودأب له فيه سواه، وانتهى الأمرُ مِنْ هؤلاءِ الأئمة المجتهدين إِلى ما أراحوا فيه مَنْ بعدهم، وانحصرَ الحقُّ في أقاويلهم
…
فإِذا عَمَلَ القاضي في أقضيتِه بما يأخذُه عنهم، أو عن الواحدِ منهم، فإِنَّه في معنى مَنْ كان أدّاه اجتهادُه إِلى قولٍ قاله"
(1)
.
ويمكن أن يضاف إِلى المناقشة وجه ثالث: أنَّ الإِجماعَ المذكورَ إِنْ حُمِلَ على جوازِ التمذهبِ بهذه المذاهب بحيثُ تكون طريقًا للتفقه، ومعرفةِ الأدلةِ، والراجحِ بدليلِه، فهذا مسلَّم؛ لأنَّه لا يظهرُ لي جريان الخلافِ في هذه الحالةِ.
وإِنْ حُمِلَ على جوازِ التقليدِ المذهبي للمتأهلِ لمعرفةِ الأدلةِ والنظرِ فيها والاستنباطِ منها، فحكايةُ الإِجماعِ حينئذٍ محلُّ نظرٍ؛ لوجودِ الخلافِ في هذه الحالةِ.
الدليل الثاني عشر: أنَّ العلماءَ اتفقوا على عدم الإِنكارِ في مسائلِ الاجتهادِ، ولا ريبَ أن أقلَّ ما يُقالُ عن المذاهب الأربعةِ: إِنَّها مِنْ هذا القبيلِ
(2)
.
يقولُ سفيانُ الثوري: "إِذا رأيتَ الرجلَ يعملُ العملَ الَّذي اختُلِف فيه، وأنتَ ترى تحريمَه، فلا تنهه"
(3)
.
(1)
الإِفصاح (2/ 407).
(2)
انظر: الطريقة المثلى لعلي القنوجي (ص/ 131)، والتمذهب - دراسة تأصيلية واقعية للدكتور عبد الرَّحمن الجبرين، مجلة البحوث الإِسلامية، العدد: 86 (ص / 176 - 177).
(3)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 481). ومن استدل بقول سفيان الثوري ذكره ضمن الدليل الثالث عشر، ولم أورده تحته، وذكرته ضمن الدليل الثاني عشر؛ لمناسبته.
ويقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "مسائلُ الاجتهادِ مَنْ عَمِلَ فيها بقولِ بعضِ العلماءِ لم يُنْكَرْ عليه، ولم يُهجرْ، ومَنْ عَمِلَ بأحدِ القولين لم يُنكرْ عليه، وإِذا كانَ في المسألةِ قولان، فإِنْ كانَ الإِنسانُ يظهر له رجحانُ أحدِ القولين، عَمِلَ به، وإِلَّا قلَّدَ بعض العلماءِ الذين يعتمدُ عليهم في بيانِ أرجحِ القولينِ"
(1)
.
ويمكن أنْ يناقش الدليل الثاني عشر: بأنَّ ما جاء عن سفيانَ الثوري لا يدلُّ على ما ذكرتم، وإِنَّما هو مِنْ بابِ السعةِ على المخالفِ في المسائلِ الاجتهاديةِ.
الدليل الثالث عشر: جاءَ عن الأئمةِ المجتهدين التصريحُ بجوازِ التقليدِ، ومنهم مَنْ جوَّزه للمجتهدِ، وإِذا جازَ للمجتهدِ جازَ لغيرِه ممَّنْ لم يبلغْ درجةَ الاجتهادِ مِنْ بابٍ أولى.
وإِذا جازَ تقليدُ الأئمة، فإِنَّه يجوزُ أنْ يُقْتَصَرَ على تقليدِ واحدٍ منهم بعينِه
(2)
.
ومِن الأقوالِ الواردةِ عن الأئمةِ في هذا الشأنِ:
قولُ محمد بن الحسن: يجوزُ للعالمِ تقليد مَنْ هو أعلمُ منه
(3)
.
وكان الإِمامُ مالكٌ لا يخرجُ عن عملِ أهلِ المدينة، كما هو مشهورُ مذهبِه
(4)
.
(1)
مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 207).
(2)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 481)، وإِيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص / 123)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 338)، وأضواء البيان (7/ 537)، وأصول الفقه للدكتور عياض السلمي (ص/ 483)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 117).
(3)
انظر: الفصول في الأصول للجصاص (4/ 284)، والمعتمد (2/ 942)، ومسائل الخلاف في أصول الفقه للصيمري (ص/378)،
(4)
انظر: إِحكام الفصول (ص/ 482)، وترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 43)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 308) ط/ دار الفتح، وعمل أهل المدينة للدكتور أحمد نور =
وجاءَ عن الإِمامِ الشَّافعي أنَّه قلَّدَ غيرَه
(1)
.
مناقشة الدليل الثالث عشر، نوقش الدليل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إِنْ كانَ مرادُكم في الدليلِ أنَّ جميعَ الأئمةِ جوّزوا التقليدَ، فهذه الدعوى محلُّ نظرٍ؛ إِذ جاءَ عن بعضِ الأئمةِ النهيُّ عنه
(2)
.
الوجه الثاني: أنَّ مَنْ يستدل بهذا الدليلِ يُنْكِر نسبةَ التقليد إِلى إِمامِه؛ وقد اضطربَ بعضُ الشافعية في تفسيرِ ما جاءَ عن الإِمام الشَّافعي مِن القولِ بالتقليدِ، فالدليلُ في أصلِه غيرُ مسلَّم عند بعضِ المستدلين به
(3)
.
الوجه الثالث: أنَّ ما جاءَ عن الأئمةِ مِن العملِ بالتقليدِ إِنَّما كان في مسائل يسيرةٍ، لم يقفوا فيها على دليلٍ من الكتابِ ولا من السنةِ، وبناءً عليه، فلا يصحُّ جعل ما نُقِلَ عنهم في هذه المسائل القليلة دليلًا على جوازِ التقليدِ المذهبي الَّذي لا يُخرجُ فيه عن أقوالِ إِمام المذهب في الأعمِّ الأغلبِ
(4)
.
ويمكن أن يضاف إِلى المناقشة وجه رابع: أنَّ ما جاء عن الإِمام مالك مِنْ أخذه بعمل أهل المدينة لا يعدُّ تقليدًا، وإنَّما هو أخذ بالدليلِ.
وما جاءَ عن الإِمامِ الشَّافعي أنَّه قلَّد غيره، فليس مرادُه بالتقليدِ التقليدُ المصطلح عليه، بلْ مرادُه به الاتّباعُ
(5)
.
= سيف (ص/ 113 وما بعدها)، وخبر الواحد إِذا خالف عمل أهل المدينة للدكتور حسان فلمبان (ص/ 58 وما بعدها)، وأصول الإِمام مالك النقلية للدكتور عبد الرَّحمن الشعلان (2/ 1051 وما بعدها)، وعمل أهل المدينة لموسى إِسماعيل (ص/ 285 وما بعدها).
(1)
انظر: الأم (8/ 225)، وإعلام الموقعين (3/ 481)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 308) ط/ دار الفتح.
(2)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 572 - 573)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 338).
(3)
انظر: المصدرين السابقين.
(4)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 574)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 341).
(5)
انظر: إِعلام الموقعين (5/ 554)، والمدخل المفضل إِلى فقه الإمام أحمد (1/ 64) حاشية رقم (1).
الدليل الرابع عشر: أنَّ الأئمةَ الأربعة على هدىً، فاتْبَاعُهم على هدىً قطعًا؛ لأنَّهم ساروا وراءَهم
(1)
.
مناقشة الدليل الرابع عشر: إِن الهدى الَّذي كان الأئمةُ عليه هو اتِّباعهم للدليلِ، والعملُ بالكتاب والسنةِ، وهذا هو طريقهم، فمَنْ سارَ عليه، فاتَّبع الدليلَ، وانقادَ إِليه، فهو على هدىً، أمَّا اتخاذُ أقوالِ واحدٍ منهم، وجعلها بمنزلةِ نصوصِ الشرعِ الَّتي لا محيدَ عنها، فليس هذا مِنْ هديهم
(2)
.
ويمكن الجواب عن مناقشة الدليل الرابع عشر: بأنَّ السيرَ على طريقِ الأئمةِ إِنَّما يتمُّ لمنْ بَلَغَ رتبةَ الاجتهادِ، أو كانت لديه أهليةُ النظرِ في الأدلةِ، والاستنباط منها، أمَّا مَنْ تمذهبَ، ولم يتأهلْ للنظرِ في الأدلةِ، فله السيرُ على أقوالِ إِمامِه.
يقولُ الشيخُ حمدُ بن معمَّر: "مَنْ كان محصلًا لبعضِ العلومِ، وقد تفقه في مذهبٍ مِن المذاهبِ، وتبصَّرَ في كتبِ متأخري الأصحابِ
…
ولكنَّه قاصرُ النظرِ عن معرفةِ الدليلِ، ومعرفةِ الراجح مِنْ كلامِ العلماءِ: فهذا له التقليدُ أيضًا؛ إِذ لا يجبُ عليه إِلَّا ما يقدرُ عليه"
(3)
.
الدليل الخامس عشر: إِنَّ صوابَ المتمذهب في تقليدِ إِمامِه أقربُ مِنْ صوابِه في اجتهادِه لو أرادَ طلبَ الحقِّ بنفسِه، وَيكون حالُه كمَنْ أرادَ شراءَ سلعةٍ لا خبرةَ له بها، فإِنَّه إِذا قلَّدَ عالمًا بتلك السلعةِ خبيرًا بها ناصحًا، كان صوابُه وحصولُ غرضِه أقربَ مِنْ اجتهادِ نفسِه
(4)
.
مناقشة الدليل الخامس عشر: نوقش الدليل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: مقتضى دليلِكم أنَّه لا يمكنُ أن يخفى على إمامِ
(1)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 449).
(2)
انظر: المصدر السابق.
(3)
رسالة في الاجتهاد والتقليد (ص/ 44 - 45)، والدرر السنية لابن قاسم (4/ 27 - 64).
(4)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 483)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 351)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 122).
المذهب دليلٌ مِن الأدلةِ الشرعيةِ النقليةِ، وهذا ما لا يقولُه أحدٌ؛ فإِنَّ أجلةَ الَصحابةِ رضي الله عنهم مع قرب عهدِهم مِن النبي صلى الله عليه وسلم خفيتْ عليهم بعضُ السننِ
(1)
.
وإِذا سُلِّم أنَّ إِمامَ المذهبِ قد تخفى عليه بعضُ السننِ، لم يكن القولُ بأنَّ تقليدَه في كلِّ حالٍ ولكلِّ شخصٍ أسلمُ، مسلَّمًا.
الوجه الثاني: قولكم: "إِنَّ صواب المتمذهب
…
" دعوى غير مسلَّمةٍ؛ فإِنَّ المتمذهبَ إِذا قلَّد إِمامَه، وخالفَ إِمامَه غيرُه مِن العلماءِ - ممَّنْ هم مثله أو أعلم منه - لم يدرِ المتمذهبُ أهو على صوابٍ، أم على خطأٍ؟
وإِنَّما يكونُ المتمذهبُ أقربَ إِلى الصوابِ، إِذا عَرَفَ أنَّ الصوابَ مع إِمامِه دونَ غيرِه، وحينئذٍ لا نُثَرِّبُ فعله؛ لأنَّه عَرَفَ الدليلَ
(2)
.
ويمكن أن يجاب على الوجه الثاني: بأنَّ ما ذكرتموه في مناقشتِكم مُسلَّم لمنْ لديه أهليةُ النظرِ في الأدلةِ، أمَّا إِنْ كانَ المتمذهبُ غيرَ متأهلٍ للنظرِ فيها - إِمَّا لتدرجِه في العلمِ وإِمَّا لضعفِ علمِه - فلا يُسلَّمُ لكم إِيجاب النظر عليه في الأدلةِ؛ لفقدِه الآلة.
الوجه الثالث: إِنَّ ما مثلتم به في دليلِكم حجةٌ عليكم! فإِنَّ مَنْ أرادَ شراءَ سلعةٍ إِذا اختلفَ عليه اثنانِ، وكلٌّ منهما يأمرُ بخلافِ ما يأمره به الآخرُ، فإِنَّه لا يُقْدِمُ على تقليدِ أحدِهما، بلْ يطلبُ الصوابَ مِنْ أقوالهما،
(1)
ساق تقيُّ الدين بن تيمية في: رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص/ 7 - 17)، ابنُ القيم في: إِعلام الموقعين (4/ 19 - 28)، والشنقيطي في: أضواء البيان (7/ 568 - 570) شواهد على عدم اطلاع بعض أجلة الصحابة رضي الله عنهم على بعض سنن النبي صلى الله عليه وسلم. وانظر: الاستذكار لابن عبد البر (1/ 188).
وهناك رسالة علمية بعنوان: (استدراك بعض الصحابة ما خفي على بعضهم من السنن - جمعًا ودراسة) للدكتور سليمان الثنيان، وقد طبعت في الجامعة الإِسلامية، عام 1429 هـ.
(2)
انظر: إِعلام الموقعين (4/ 28 - 29)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 356)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 124).
ولو أَخَذَ بقولِ أحدِهما تقليدًا عُدّ مخاطرًا مذمومًا، ولم يُمْدَحْ، بلْ عليه أنْ يطلبَ الصوابَ مِنْ خارجٍ؛ ليتبيّنَ له المصيبُ
(1)
.
ويمكن أن يضاف إِلى المناقشة وجه رابع: إِنْ كان المتمذهبُ متأهلًا للنظرِ في الأدلةِ، والترجيحِ بينها، فلا يُسلَّمُ لكم أنَّ صوابَه في تقليدِ إِمامِه أقربُ مِنْ صوابِه مِن اجتهادِه، بلْ لو نَظَرَ المتمذهبُ المتأهلُ في الأدلةِ، فأخطأَ الحكمَ، فهو خيرٌ ممَّا لو قلَّدَ إِمامَه فأصابَ؛ لأنَّه باجتهادِه قد أدَّى ما عليه - وهو أخذ الحكمِ مِنْ دليلِه - وخطؤه مغفورٌ له.
الدليل السادس عشر: قياسُ التمذهبِ بأحدِ المذاهب الأربعةِ والاقتصار على واحدٍ منها على الاقتصارِ على إِحدى القراءاتِ السَبعِ، فإِذا جازَ للمسلمِ أنْ يقرأَ القرآنَ بإِحدى القراءاتِ السبعِ مقتصرًا عليها
(2)
، فيجوزُ له أنْ يتمذهبَ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ
(3)
.
مناقشة الدليل السادس عشر: إِنَّ القياسَ المذكورَ في دليلِكم غيرُ صحيحٍ؛ للفارقِ البيّنِ بين القراءاتِ السبعِ، والمذاهب الفقهيةِ، ووجه الفرقِ: أنَّ القراءات متواترةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم نفسِه، وقد قَرَأ بها تسهيلًا على الناسِ، فكلُّها حقٌّ، بخلافِ المذاهبِ الفقهيةِ، فأكثرُ مسائلِها آراء، تحتملُ الصوابَ والخطأَ، ولا يمكنُ القولُ بأنَّها كلها صوابٌ
(4)
.
وأيضًا: فالقراءاتُ وإن اختلفتْ في اللفظِ إِلَّا أنَّ المعنى واحدٌ، أو متقاربٌ
(5)
، بخلافِ المذاهبِ الفقهيةِ، فبينها اختلافٌ معنوي في كثيرٍ مِن المسائلِ.
(1)
انظر: المصادر السابقة.
(2)
انظر: إِعلام الموقعين (6/ 205).
(3)
انظر: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب (ص/ 20 وما بعدها)، واللامذهبية للدكتور محمد البوطي (ص/ 78)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 111).
(4)
انظر: بدعة التعصب المذهبي لعبَّاسي (ص/ 95)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 109).
(5)
انظر: الرد على من اتَّبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب (ص/ 31 - 32).
وأمر آخر: وهو أنَّه يحصلُ المقصودُ بواحدةٍ من القراءاتِ، بخلافِ آراءِ المذاهب الفقهيةِ، فقد يكون القولُ الراجحُ خارجًا عن المذهبِ؛ فلا تحصلُ للمقتَصرِ على مذهبٍ واحدٍ معرفةُ الراجحِ في بعضِ المسائلِ إِلَّا إِذا اطَّلعَ على غيرِه مِن المذاهبِ.
الدليل السابع عشر: قياسُ تقليدِ أحدِ الأئمةِ الأربعةِ وأخذِ أقوالِه على قَبولِ روايةِ الراوي، فالراوي سَمِعَ بأذنِه ما رواه، فأدَّى مسموعَه، والعالم عَقِلَ بقلبِه ما سمعه، فأدَّى معقوله
(1)
.
مناقشة الدليل السابع عشر: إِنَّ القياسَ المذكورَ في دليلِكم غيرُ صحيحٍ؛ إِذ ثمّةَ فرقٌ بين الرأي والروايةِ، وذلك مِن وجهين:
الوجه الأول: أنَّ اتِّباعَ الراوي واجبٌ؛ لأنَّ الله أَمَرَ بقبولِ خبرِه، ولأنَّه انفرد بعلمِ ما أَخبَرَ به، بخلافِ اتِّباعِ العالمِ، فغيرُ واجبٍ؛ لأنَّ الله لم يأمرْ به، ولإِمكانِ أنْ يعلمَ الناظرُ مِنْ حيثُ عَلِمَ العالمُ.
الوجه الثاني: أنَّ الغلطَ في الروايةِ قليلٌ؛ لأنَّ ضبطَها سهلٌ، بخلافِ الرأي، فالغلطُ فيه ليس بالقليلِ؛ لدقَّةِ طرقِه، وكثرتِها
(2)
.
الدليل الثامن عشر: قياسُ أخذِ أقوالِ العالمِ على أخذِ أقوالِ المقوِّمين للمتلفاتِ، والقائفين
(3)
والمترجمين والمعرِّفين والمعدِّلين، وعلى قَبولِ الأعمى لمنْ يَدُلُّه على القِبلةِ، وهذا كلُّه تقليدٌ محضٌّ
(4)
.
(1)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 483)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 198).
(2)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 17)، وإعلام الموقعين (4/ 17 - 18).
(3)
القائف: الَّذي يعرف الآثار، ويعرف النَسَب بالشبه. انظر: طلبة الطلبة للنسفي (ص/ 278)، والمطلع على أبواب المقنع للبعلي (ص/ 284)، والقاموس المحيط، مادة:(قوف)، (ص/ 1095).
(4)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 69، 98)، وإعلام الموقعين (3/ 480 - 481)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 180)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 306) ط/ دار الفتح، والدين الخالص للقنوجي (4/ 199، 332)، وأضواء البيان (7/ 534)، والمقلدون والأئمة الأربعة لمعشاشة (ص/ 112).
مناقشة الدليل الثاني عشر: هناك فرق بين قَبولِ رأي العالمِ، وما ذكرتموه في قياسِكم، وبيان ذلك: أنَّ قَبولَ قولِ المقوِّمِ والقائفِ وسائر مَنْ ذكرتُم في المقيسِ عليه مِنْ بابِ قبولِ قولِ المخبرِ الَّذي أَمَرَ للهُ بقَبولِ خبرِه إِنْ كانَ عدلًا صادقًا، وليس مِنْ بابِ قبولِ الفتيا في الدِّينِ مِنْ غيرِ قيامِ دليلٍ على صحتِها
(1)
.
أدلة أصحاب القول الثاني (القائلين بوجوب التمذهب):
استدلَّ أصحابُ القولِ الثاني بأدلةٍ، منها:
يستدلُ أصحابُ القولِ الثاني بأكثر أدلةِ أصحابِ القولِ
(2)
، لكنَّهم يضيفون إِليها أدلةً ترتقي بالقولِ بالجوازِ إِلى القولِ بالوجوبِ:
الدليل الأول: يجبُ التمذهبُ على غيرِ المجتهدِ مِنْ غيرِ العامةِ
(3)
؛ لئلا يفضي عدمُ تمذهبِه إِلى التقاطِ رخصِ المذاهب، واتِّباعِ الهوى، فيأخذ في عدّةِ مسائل بالمذهبِ القائلِ بالإِباحةِ، ويتركَ المذهبَ القائلَ بالمنعِ، وفي هذا مفسدةٌ ظاهرةٌ، تضرُّ بالدِّينِ، وتؤدي إِلى الانحلالِ عن التكليفِ، ولذا قلنا: بوجوبِ التمذهب بمذهبِ معيَّنٍ
(4)
.
يقولُ أبو عبدِ الله المازري: "لستُ ممَّنْ يحملُ الناسَ على غيرِ المعروفِ المشهورِ مِن مذهبِ مالكٍ وأصحابِه؛ لأنَّ الورعَ قلَّ، بلْ كاد
(1)
انظر: المصادر السابقة، ما عدا إِعلام الموقعين، فانظر:(3/ 567 - 568)، وأضواء البيان (7/ 563 - 562).
(2)
عدا الدليل الثامن، والدليل التاسع، والدليل العاشر.
(3)
تقدم لنا في مسألة مستقلة أنَّ الأقرب أن العامي لامذهب له، ولا يصح منه التمذهب.
(4)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 162)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 55)، وصفة الفتوى (ص/ 72)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3919)، ولمع اللوامع لابن رسلان، القسم الثاني (2/ 671)، وضوء النهار للحسن الجلال (1/ 122)، وإجابة السائل للصنعاني (ص/ 410)، وأصول الإِفتاء للعثماني (ص/ 257) مع شرحه المصباح في رسم المفتي، والوجيز في أصول التشريع للدكتور محمد هيتو (ص/ 519)، والتمذهب دراسة تأصيلية واقعية للدكتور عبد الرَّحمن الجبرين، مجلة البحوث الإِسلامية، العدد: 86 (ص/ 173).
يُعْدمُ! والتحفّظُ على الدياناتِ كذلك؛ وكثرت الشهواتُ، وكَثُرَ مَنْ يَدَّعي العلمَ، ويتجاسرُ على الفتوى فيه، فلو فُتِحَ لهم بابٌ في مخالفةِ المذهبِ لاتّسعَ الخرقُ على الراقعِ، وهتكوا حجابَ هيبةِ المذهب، وهذا مِن المفسدات الَّتي لا خفاءَ بها"
(1)
.
مناقشة الدليل الأول: نوقش الدليل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: ما ذكرتموه في دليلِكم منقوضٌ بعصرِ الإِسلامِ الأَوَّل، فلم يُلْزِم الصحابةُ رضي الله عنهم ولا التابعون أحدًا بالتمذهبِ بمذهبٍ معيَّنٍ؛ لئلا يقعَ الناسُ في الأخذِ بالرخصِ
(2)
.
الجواب عن الوجه الأول: إِنَّ المذاهبَ لم تكنْ مدوّنةً ولا محررةً في العصرِ الأول، وهذا يجعل المقلِّدين يسألون مَنْ وجدوه حين تَعْرِضُ لهم المسألةُ، لذا لم نقلْ بوجوب التمذهب بمذهب معيّنٍ، بخلافِ العصورِ اللاحقةِ، فالمذاهبُ قد دُوِّنَتْ ومُهِّدَتْ وأُصِّلَتْ
(3)
.
الوجه الثاني: ما ذكرتموه في دليلِكم مسلَّمٌ، إِنْ كان الخروجُ لغيرِ مقتضٍ شرعي، أمَّا إِن التزمَ بالمذهب، وخَرَجَ عنه؛ لتبيّنِ رجحانِ غيرِه مِن المذاهبِ، فهذا ممَّا يُمدحُ فاعلُه، ولَا يُذمّ
(4)
.
يقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "مَنْ التزم مذهبًا معينًا، ثم فَعَلَ خلافَه، مِنْ غير تقليدٍ لعالمٍ آخر أفتاه، ولا استدلال بدليلٍ يقتضي خلافَ ذلك، ومِنْ غيرِ عذرٍ شرعي يبيحُ له ما فعله، فإِنَّه يكون متبعًا لهواه، وعاملًا بغيرِ اجتهادٍ ولا تقليدٍ
…
فهذا مُنْكَرٌ
…
وأمَّا إِذا تبين له ما يُوجبُ رجحان قولٍ على قولٍ، إِمَّا بالأدلةِ المفصلةِ، إِنْ كان يعرفها ويفهمها، وإِمَّا بأنْ يرى أحد
(1)
نقل الشاطبي كلامَ أبي عبد الله المازري في: الموافقات (5/ 101).
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 162)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 55)، وصفة الفتوى (ص/ 72).
(3)
انظر: المصادر السابقة، وأصول الفقه للدكتور عياض السلمي (ص/ 483).
(4)
انظر: المسودة (2/ 921).
الرجلين أعلم بتلك المسألةِ مِن الآخرِ، وهو أتقى لله فيما يقوله، فيرجع عن قولٍ إِلى قولٍ لمثل هذا: فهذا يجوزُ، بلْ يجبُ"
(1)
.
الوجه الثالث: أنَّ إِيجابَ الالتزامِ بالمذهب، مع اشتمالِه على أقوال مرجوحةٍ أمرٌ لا تقرُّه الشريعةُ
(2)
، وتكون المَفسدةُ حينئذٍ في القولِ بالإِيجابِ.
الدليل الثاني: أنَّ قصرَ الناسِ على مذهب معيّنٍ مِن المذاهبِ الأربعةِ، يحققُ مصالحَ عدة، كضبطِ الناسِ في عباداتِهم ومعاملاتِهم، وانضباطِ أقضيةِ الحكّامِ.
ومِنْ حكمةِ الله تعالى أنْ ضَبَطَ الدّينَ وحفظه بأنْ نَصَبَ للناسِ أئمةً اجتمعُ الناسُ على علمِهم ودرايتهم، فصارَ الناسُ يعولون عليهم، وعلى مذاهبِهم المحررةِ.
وأيضًا: فالتمذهبُ يحققُ مصلحةَ إِسكاتِ كلِّ مَنْ لم يكنْ أهلًا للاجتهادِ
(3)
.
يقولُ ابنُ رجبٍ: "ولولا ذلك - أيْ: وجود المذاهب الأربعة - لرأى الناسُ العجبَ العجاب مِنْ كلِّ أحمقٍ متكلِّفٍ مُعْجَبٍ برأيه جريءٍ على الناسِ"
(4)
.
الدليل الثالث: أنَّ مَن اعتقدَ أنَّ مذهبَه هو الحقّ، وَجَبَ عليه العملُ بموجبِ اعتقادِه
(5)
.
(1)
مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 221).
(2)
انظر: التمذهب - دراسة تأصيلية واقعية للدكتور عبد الرَّحمن الجبرين، مجلة البحوث الإِسلامية، العدد: 86 (ص/ 173).
(3)
انظر: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب (ص/ 27 وما بعدها)، وحجة الله البالغة للدهلوي (1/ 473).
(4)
الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (ص/ 28).
(5)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 350)، وتيسير التحرير (4/ 253)، والتقليد في الشريعة الإِسلامية لعبد الله الشنقيطي (ص/ 144).
الدليل الرابع: أنَّ الاجتهادَ قد انقطعَ بعد الأئمةِ الأربعةِ
(1)
، وإِذا لم يُوْجَدْ مجتهدٌ تعيَّنَ تقليد أحدِ هؤلاءِ الأئمةِ
(2)
.
مناقشة الدليل الرابع: لا يُسَلّم لكم القولُ بانقطاعِ الاجتهادِ، فلا يخلو عصرٌ عن مجتهدٍ
(3)
، ثمَّ إِنَّكم لم تلتزموا أقوالَ هؤلاءِ الأئمة، بل قلدتم متأخري علماءِ مذهبِكم
(4)
.
الدليل الخامس: أنَّ إِمامَ المذهبِ قد اطَّلعَ على معاني كتاب الله جميعِها، ولم يفته منها شيءٌ، وعلى جميعِ سنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولمَ يفته منها شيءٌ، ولذا اتبعناه؛ لكمالِ علمِه
(5)
.
مناقشة الدليل الخامس: قولكم: إِن إِمامَ المذهبِ أحاطَ بجميعِ الأدلةِ، قولٌ مردودٌ؛ فإِنَّ أجلّةَ الصحابةِ رضي الله عنهم مع قُربِ عهدهم مِن النبي صلى الله عليه وسلم خفيت عليهم بعضُ السننِ
(6)
، والأئمةُ أنفسُهم معترفون بعدمِ الإِحاطةِ بمعاني نصوص الكتاب والسنة
(7)
، وما مِنْ شكٍّ أنَّه يفوتُ الواحد منهم بعضُ الأحاديثِ الَّتي لم يطلعْ عليها، وهو معذورٌ في تركِ العملِ بها؛ لعدمِ اطلاعِه
(8)
.
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 91)، وصفة الفتوى (ص/ 17).
(2)
انظر: سبيل الجنة لأحمد آل بوطامي (ص/ 65)، وتنزيه السنة والقرآن له (ص/ 139)، والصوارم والأسنة لمحمد الشنقيطي (ص/ 314)، ودرة الغمام الرقيق لعبد الله التليدي (ص/ 55).
(3)
انظر مسألة: (خلو العصر عن مجتهد) في: البرهان (2/ 880)، والمنخول (ص/ 484)، ومجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 204)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1552)، والتحبير (8/ 4059)، وشرح الكوكب المنير (4/ 564)، وإرشاد الفحول (2/ 1041).
(4)
انظر: سبيل الجنة لأحمد آل بوطامي (ص/ 57، 70)، والصوارم والأسنة لمحمد الشنقيطي (ص / 316).
(5)
انظر: أضواء البيان (7/ 567)، ودرة الغمام الرقيق لعبد الله التليدي (ص/ 55).
(6)
انظر: إِعلام الموقعين (4/ 19 - 28).
(7)
انظر: أضواء البيان (7/ 567)، ودرة الغمام الرفيق لعبد الله التليدي (ص/ 55).
(8)
انظر: أضواء البيان (7/ 567).
الدليل السادس: أنَّنا نعملُ بنصوصِ إِمامِ المذهب ونلتزم مذهبَه؛ لأنَّه لا قدرةَ لنا على معرفةِ نصوصِ الكتابِ والسنةِ، فإِذا لمَ نقلِّدْ إِمامَنا بقينا في حيرةٍ
(1)
.
مناقشة الدليل السادس: لا يجوزُ الإِعراضُ عن نصوصِ الكتابِ والسنةِ، بل الواجبُ تعلّمهما، وادِّعاؤكم أنَّ معرفةَ الكتاب والسنةِ غيرُ مقدورٍ عليه، قولٌ مردودٌ، فالله تعالى أَمَرَ الناسَ بتدبُّرِ القرآنِ الكريمِ
(2)
.
يقولُ ابنُ حزمٍ مخاطبًا أصحاب هذا الدليل: "فليتَ شعري كيفَ قصرتْ عقولُكم عن فهمِ ما افترض الله تعالى عليكم تدبره والأخذ به، واتّسعتْ عقولُكم للفهمِ عن الشَّافعي ومالكٍ وأبي حنيفةَ؟ ! وما أمركم الله تعالى قطُّ بالسماعِ منهم خاصة دونَ سائرِ العلماءِ، ولا ضمن لكم ربُّكم تعالى قط العونَ على فهمِ كلامِهم، كما ضمن لكم في فهمِ كلامِه"
(3)
.
أدلة أصحاب القول الثالث (القائلين بالاستحباب):
تقدمت الإِشارةُ إِلى أن قولَ أصحابِ القول الثالث يرجعُ إِمَّا إِلى القولِ الأول، وإِمَّا إِلى القولِ الثاني.
أدلة أصحاب القول الرابع (القائلين بالمنع من التمذهب):
استدلَّ أصحابُ القولِ الرابعِ بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
(4)
.
(1)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 131)، وأضواء البيان (7/ 584).
(2)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 490)، وأضواء البيان (7/ 576).
(3)
الإِحكام في أصول الأحكام (6/ 132).
(4)
الآية (41) من سورة العنكبوت.
وجه الدلالة: أنَّ مَنْ اتخذَ عالمًا إِمامًا له يعرضُ عليه نصوصَ الكتابِ والسنةِ، فما وافقَ قولَ إِمامِه قَبِلَه، وما خالفه تركه، مع أنَّه يُقر بأنَّ هذا قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: فقد اتخذ إِمامَه مِنْ دونِ الله وليًا
(1)
.
مناقشة الدليل الأول: يمكن أن يناقش وجه الدلالة من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ ما ذُكرَ في وجه الدلالةِ هو التعصّب لأقوالِ الإِمامِ، وليس هذا ما نتحدثُ عنه.
الوجه الثاني: لا يصح تنزيلُ الآيةِ على مَنْ يعتقدُ أنَّ الحلالَ هو ما أحلَّه الله ورسولُه صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الحرامَ هو ما حرَّمه اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم، لكن لما قَصُرَ علمُه وفهمُه عمَّا قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وضعفَ إِدراكُه عن بلوغِه، ولم يكنْ عنده علمٌ بطرقِ الجمعِ بين الأدلةِ: اتَّبع عالمًا يغلبُ على ظنِّه أنَّه متبعٌ للكتاب والسنةِ - وإنْ علم مِنْ إِمامِه مخالفةً للدليلِ تَرَكَ قولَه - فإِنَّ مثلَ هذا لا يلحَقه لومٌ، ولا تتوجه إِليه هذه الآيات
(2)
.
الدليل الثاني: قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}
(3)
.
وجه الدلالة: أنَّه لا وليجةَ أعظم ممَّنْ جَعَل أقوالَ عالمٍ بعينِه عيارًا
(4)
على كلامِ الله تعالى، وكلامِ رسولِه صلى الله عليه وسلم
(5)
.
مناقشة الدليل الثاني: الَّذي يأخذُ قولَ إِمامِه؛ لاعتقادِه أنَّ قولَه كاشفٌ عن مرادِ الله ومرادِ رسولِه صلى الله عليه وسلم لا أنَّه اختارَ قولَ إِمامِه وقدّمه على قولِ الله
(1)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 124).
(2)
انظر: حجة الله البالغة للدهلوي (1/ 477)، والدرر السنية لابن قاسم (4/ 72).
(3)
من الآية (16) من سورة التوبة.
(4)
العيار: الوِزَان، تقول: عيّر الدنانير، أي: وزنها واحدًا بعد واحدِ. انظر: لسان العرب، مادة:(عير)، (4/ 623)، والقاموس المحيط، مادة:(عير)، (ص/ 575).
(5)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 124)، وإعلام الموقعين (3/ 448 - 449).
وقولِ رسوله صلى الله عليه وسلم لم يتخذْ إِمامَه وليجةً
(1)
.
الدليل الثالث: قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}
(2)
.
وجه الدلالة: أنَّ مَنْ تمذهبَ بمذهبِ أحدِ الأئمةِ، ووَجَدَ قولًا لإِمامِه يخالفُ الكتابَ أو السنة، فإِنَّه يأبى قبولَ الدَّليلِ، ويتّبعُ ما عليه آباؤه
(3)
.
مناقشة الدليل الثالث: يمكن أن يناقش وجه الدلالة بما نُوقش به الدليلُ الأولُ.
الدليل الرابع: قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
(4)
.
وجه الدلالة: أنَّ اللهَ تعالى خصَّ بالفلاحِ مَنْ دعا إِلى الخيرِ، والداعون إِلى الخيرِ هم الداعون إِلى كتابِ الله، وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، لا الداعون إِلى رأي فلانٍ وفلانٍ
(5)
.
مناقشة الدليل الرابع: يمكن أن يناقش وجه الدلالة: بأنَّ دلالةَ الآيةِ على ما ذكرتموه ليست دلالةً ظاهرةً بحيثُ يُلزم المخالف لقولِكم بتركِ قولِه، وكون الدعوة إِلى الكتابِ والسنةِ مِن الفلاحِ أمرٌ لا مِرْيَةَ فيه، لكنْ قد يكونُ الأخذُ بمذهبِ أحدِ الأئمة طريقًا إِلى معرفةِ الكتابِ والسنةِ، إِذا قَصَدَه المتمذهبُ.
(1)
انظر: فوائد في علوم الفقه لحبيب الكيرواني (ص/ 15).
(2)
الآية (170) من سورة البقرة.
(3)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 125)، ومجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 15)، وإِعلام الموقعين (3/ 447)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 104).
(4)
الآية (104) من سورة آل عمران.
(5)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 524)، وإِيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 144)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 302).
الدليل الخامس: حديث عدي بن حاتم المتقدم.
وقد تقدم الاستدلال به، ومناقشةِ وجه الدلالة في المبحثِ الأولِ مِنْ هذا الفصلِ.
الدليل السادس: أنَّ اللهَ تعالى لم يأمرْ بالتمذهبِ بمذهب أحدٍ مِن الأئمةِ الأربعةِ، ولا أَمَرَ به رسولُه صلى الله عليه وسلم، فمِنْ أينَ لكم اتباعُ عالمٍ بعينِه دون غيرِه من العلماءِ؟ !
(1)
.
مناقشة الدليل السادس: يمكن أن يناقش الدليل: بأنَّه يُسلَّمُ لكم أنَّ اللهَ تعالى لم يأمرْ بالتمذهبِ، ولذا لم نقلْ بوجوبِه، لكنَّ الله أجازَ لمَنْ لم يبلغْ درجةَ الاجتهادِ أنْ يأخذَ أقوالَ العلماءِ، وإذا جازَ أخذُ أقوالِ العلماءِ، جازَ الاقتصارُ على أخذِ أقوالِ واحدٍ منهم.
الدليل السابع: أنَّ المتمذهبين بمذهبِ إِمامٍ معيّنٍ خالفوا أمرَ الله تعالى وأمرَ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وارتكبوا ما نهاهم عنه إِمامُهم، وسلكوا ضدَّ طريقِ أهلِ العلمِ، وبيان هذا: أنَّ اللهَ أَمَرَ بردِّ ما تنازع فيه المسلمون إِليه، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، وذلك في قولِه تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}
(2)
، والمقلِّدون لإِمامِهم ردّوا ما تنازعَ الناسُ فيه إِلى إِمامِهم.
وأَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند الاختلافِ بالأخذِ بسنتِه، وسنةِ خلفائِه الراشدين، والمقلِّدون لإِمامِهم أخذوا بقولِ إِمامِهم وتمسّكوا به.
وخالفوا إِمامَهم؛ فالأئمة نَهَوا عن تقليدِهم، وحذروا منه، كما سيأتي بعد قليل.
وسلكوا ضدَّ طريقِ أهلِ العلمِ؛ فإنَّ طريقَهم طلبُ أقوالِ العلماءِ،
(1)
انظر: جامع المسائل لابن تيمية (المجموعة الثامنة/ 439)، وإعلام الموقعين (3/ 528 - 529)، والرحلة إِلى إِفريقيا للشنقيطي (ص / 151)، ونثر الورود له (2/ 686)، وتبصير النجباء للدكتور محمد الحفناوي (ص/ 236).
(2)
من الآية (59) من سورة النساء.
وعرضها على القرآنِ والسنةِ الثابتةِ وأقوالِ الصحابةِ رضي الله عنه، فما وافقها أخذوا به، وما خالفها ردّوه، والمقلدون قصروا الحقَّ في أقوالِ إِمامِهم
(1)
.
مناقشة الدليل السابع: يمكن أن يناقش الدليل: بأنَّ ما ذكرتموه مسلَّمٌ إِنْ تحققتْ للمتمذهب درجةُ الاجتهادِ، أو تأهلَ إِلى النظرِ في الأدلةِ، وأمكنه النظرُ، ثمَّ تَركه، وقلَّد إِمامَه.
أمَّا إِنْ كان المتمذهبُ غيرَ متأهلٍ للنظرِ في الأدلةِ، واقتصر على قولِ إِمامِه - الَّذي يظن أنَّه متبعٌ للقرآنِ والسنةِ، ولم يظهرْ له أنَّه خالفهما - فلا يتوجه إِليه أنَّه قد خالفَ أمرَ الله وأمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم وارتكبَ ما نهاه عنه إِمامُه.
الدليل الثامن: إِجماعُ الصحابةِ والتابعين كلهم على المنعِ مِنْ أنْ يقصدَ أحدٌ إِلى أقوالِ أحدِ العلماءِ، فيأخذها كلّها، ولا يلتفتْ إِلى غيرِها، حكاه ابنُ حزمٍ، فقالَ: "قد صحَّ إِجماعُ الصحابةِ رضي الله عنهم أولهم عنْ آخرِهم، وإِجماعُ جميعِ التابعين أولهم عنْ آخرِهم على الامتناعِ والمنعِ مِنْ أنْ يقصدَ منهم أحدٌ إِلى قولِ إِنسانٍ - منهم أو ممَّنْ قبلهم - فيأخذَه كله.
فليَعْلَم مَنْ أَخَذَ بجميعِ قولِ أبي حنيفةَ، أو جميع قولِ مالكٍ، أو جميعِ قولِ الشَّافعي، أو جميعِ قولِ أحمدَ بن حنبل رضي الله عنه ممَّنْ يتمكنُ مِن النظرِ، ولم يتركْ مَنْ اتَّبعه منهم إِلى غيره: أنَّه قد خالفَ إِجماعَ الأمّةِ كلّها عن آخرها، واتّبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنين"
(2)
.
وحكى الإِجماعَ أيضًا تقِيُّ الدينِ بنُ تيميةَ
(3)
.
وحكى ابنُ القيّمِ إِجماعَ الأمةِ على تحريمِ اتخاذِ أقوالٍ رجلٍ بعينِه،
(1)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 522 - 523)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص / 143)، وهداية السلطان إِلى مسلمي بلاد اليابان للمعصومي (ص/ 98)، وسبيل الجنة لأحمد آل بوطامي (ص/ 62).
(2)
النبذ في أصول الفقه (ص/ 116). وانظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 79).
(3)
انظر: الأخبار العلمية للبعلي (ص/ 482).
وجعلها بمنزلةِ نصوصِ الشارعِ، فلا يلتفتُ إِلى نصوصِ الكتابِ والسنةِ
(1)
.
مناقشة الدليل الثامن: يمكن أن يناقش الدليل: بأن دعوى الإِجماعِ المذكورة محلُّ نظرٍ؛ وتحتاجُ إِلى إِثبات، ولم يورد ابنُ حزمٍ قولًا لأحدٍ الصحابةِ رضي الله عنهم أو التابعين دالًا على المنعِ.
لكن إِنْ كان قَصْدُ مَنْ حكى الإِجماعَ عدمَ التزام مَنْ كان متأهلا للنظرِ في الأدلة
(2)
- إِمَّا لبلوغِه درجة الاجتهادِ، وإِمَّا لتحققِ وصف الاجتهاد الجزئي فيه في بعضِ المسائلِ، وفي كلامِ ابنِ حزمٍ السابق إِشارةٌ إِلى قيدِ التمكن مِن النظرِ - بأقوالِ عالم، مع تمكنِه مِن الوصولِ إِلى الحكمِ الشرعي، وتَرَكَه إِعراضًا عن الأدلةً؛ أو مَعَ نظرِه فيها، وتوصله إِلى رأي، وترَكَ ما ترجَّحَ عنده، وبقي على قولِ إِماِمه: فتُسلَّم لهم حكايةُ الإِجماعِ - ويكون صنيعُ المتمذهبِ حينئذٍ تعصبًا مذهبيًا ممقوتًا - لأنَّ حالَ الصحابةِ رضي الله عنهم والتابعين أنَّهم يعملون بما ترجّحَ عندهم.
الدليل التاسع: أنَّ التزامَ أقوالِ عالمٍ بعينِه دونَ غيرِه، بحيثُ لا يخرجُ عنها بدعةٌ محدثةُ لم تكنْ موجودةً في صدرِ الإِسلامِ الأول، فلم يكن الصحابةُ منقسمين إِلى مذاهب علمائهم، وبناءً عليه لا يجوزُ التمذهبُ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ
(3)
.
يقول ابنُ حزمٍ: "إِنَّ تقليدَ الآراءِ لم يكن قطُّ يومًا في قرنِ الصحابةِ رضي الله عنهم ولا في قرنِ التابعين ولا في قرنِ تابعي التابعين - وهذه القرونُ الَّتي أثنى
(1)
انظر: إِعلام الموقعين (3/ 532).
(2)
انظر: حجة الله البالغة للدهلوي (1/ 475).
(3)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 146، 175)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 168)، وإِيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 125)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 123)، وهداية السلطان إِلى مسلمي بلاد اليابان للمعصومي (ص/ 70 - 71)، وأضواء البيان (7/ 521)، ودرة الغمام الرقيق لعبد الله التليدي (ص/ 34)، وبدعة التعصب المذهبي لعباسي (ص/ 91 - 92).
النبيُّ عليها - وإِنَّما حدثتْ هذه البدعةُ في القرنِ الرابعِ المذموم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّه لا سبيلَ إِلى وجودِ رجلٍ واحدٍ في القرونِ الثلاثةِ المتقدمةِ قلَّدَ صاحبًا أو تابعًا أو إِمامًا أخذ عنه في جميعِ أقوالِه، فأخذه كما هو، وتديّن به وأفتى به الناسَ"
(1)
.
ويقولُ ابنُ القيّم: "إِنَّا نعلمُ بالضرورةِ أنَّه لم يكنْ في عصرِ الصحابةِ رجلٌ واحد اتَّخذَ رجلًا منهم يقلِّدُه في جميعِ أقوالِه، فلم يُسقطْ منها شيئًا، وأسقطَ أقوالَ غيرِه، فلم يأخذ منها شيئًا، ونعلم بالضرورةِ أن هذا لم يكنْ في عصرِ التابعين، ولا تابعي التابعين
…
وإِنَّما حدثت هذه البدعةُ في القرنِ الرابعِ
…
"
(2)
.
مناقشة الدليل التاسع: نوقش الدليل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: قولكم: "إِنَّ أخذَ أقوالَ عالمٍ بعينه لم يكن موجودًا في الصدر الأول"، لا يمكنُ لكم أنْ تقيموا الدليلَ عليه، فقد يكون هناك التزامٌ مِنْ بعضِ الناسِ بما يصدرُ عن أحدِ علماءِ الصحابةِ رضي الله عنهم بعينِه من فتاوى، ولم تتطلعوا عليه
(3)
.
بلْ هناك ما يدلُّ على وجودِ شيءٍ من الالتزامِ بأقوالِ العالم، فقد كان المنادي في الحجِّ يصيحُ:"لا يُفتي الناسَ إِلَّا عطاءُ بن أبي رباح"
(4)
.
وقد تقدّمَ في الفصلِ الثاني كلامُ عليّ بن المديني بشأنِ حال التابعين مع علماءِ الصحابة رضي الله عنهم.
ولو قلتم لم يُوْجَدْ في الصدرِ الأول النّسبُ المذهبية - كبكري وعمري - لسلِّمَ لكم.
(1)
التلخيص لوجوه التخليص (ص/ 135 - 136). وانظر منه: (ص/ 137).
(2)
إِعلام الموقعين (3/ 484 - 485).
(3)
انظر: أصول الفقه للدكتور عياض السلمي (ص/ 483).
(4)
انظر: اللامذهبية للدكتور محمد البوطي (ص/ 79). وانظر مقولة: "لا يفتي الناس إِلَّا عطاء" في: تاريخ دمشق لابن عساكر (40/ 385)، وسير أعلام النُّبَلاء (5/ 82)، والبداية والنهاية (13/ 70).
الوجه الثاني: لو سُلِّم أنَّه لم يكن في الصدرِ الأولِ للإِسلامِ التزامٌ لأقوالِ عالمٍ بعينه، فإِن عدمَ وجودِه لا يدلُّ على تحريمِه
(1)
، ولا سيَّما في شأنِ المتمذهَبِ الَّذي لم يتأهلْ للنظرِ، والمتمذهب المتأهلِ الَّذي لم يتمكنْ مِن النظرِ.
الوجه الثالث: إِنَّ السببَ في عدم الالتزام بأقوالِ عالم في الصدرِ الأولِ هو أنَّه لم يكنْ ثمّةَ مذاهب محررةٌ مدونةٌ، يمكنُ معها التزامُ مذهب عالمٍ بعينِه
(2)
، فكانَ العلماءُ يعلِّمون طلابَهم العلم، ويفتون الناسَ، ولم تكن مذاهبُهم مدونةً، وعدمُ تدوينِ أقوالِ العلماء في تلك العصورِ صارفٌ عن التمذهبِ بها.
الدليل العاشر: أنَّ الأئمةَ الأربعةَ، وإنْ كانوا مجتهدين، فهم بَشَرٌ، يصيبون ويخطئون، وقد يخفى عليهم شيءٌ مِن السننِ الواردةِ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيفَ يجوزُ تقليدُهم؟ !
(3)
.
يقولُ ابنُ عبد البر: "إِذا ثَبَتَ وصحَّ أنَّ العالمَ يخطئُ وَيزِلُّ، لم يجزْ لأحدِ أنْ يفتي، ويَدِين بقولٍ لا يعرِفُ وجهه"
(4)
.
ويقول ابنُ القيِّم: "إِنَّ العالمَ قد يَزِل ولا بُدّ؛ إِذ ليس بمعصومٍ، فلا يجوزُ قَبولُ كل ما يقولُه، وينَزلُ قوله منزلةَ قولِ المعصومِ"
(5)
.
وإذا ثَبَتَ أنَّ العالمَ يخطئُ، فكيفَ يجوزُ للمتمذهبِ أنَّ يُحلِّلَ ويُحرّمَ،
(1)
انظر: أصول الفقه للدكتور عياض السلمي (ص/ 483).
(2)
انظر: المصدر السابق.
(3)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 86)، وخطبة الكتاب المؤمل لأبي شامة (ص/ 142)، ومجموع فتاوى شيخ الإِسلام (19/ 69)، و (5/ 210)، وإِيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 35 - 36)، وهداية السلطان إِلى مسلمي بلاد اليابان للمعصومي (ص/ 86)، والتقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 144).
(4)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 983).
(5)
إِعلام الموقعين (3/ 453).
ويريقَ الدماءَ، ويبيحَ الفروجَ، ويُملّكَ الدُّور بقولِ مَنْ يُقرُّ المتمذهبُ نفسُه بجوازِ كونِه مخطئًا؟ !
(1)
.
مناقشة الدليل العاشر: يمكن أن يناقش الدليل: بالتسليمِ لما قالوه فيما إذا كان المتمذهبُ متأهلًا للنظرِ في الأدلةِ عارفًا بدلالات الألفاظِ، وأمكنه الوصولُ إلى الحكمِ
(2)
.
أمَّا إنْ كان المتمذهبُ غيَر متأهلٍ، فلا يُسلّمُ لهم؛ لأنَّ فرضَه التقليدُ وسؤالُ العلماءِ، وإذا جازَ له التقليدُ لأيّ عالم، جازَ له أنْ يقتصرَ على واحدٍ منهم؛ لقناعتِه بعلمِه وفضلِه، فيقتصر على أقوالِه.
الدليل الحادي عشر: جاءَ عن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه قولُه: (إنَّ حديثَكم شرُّ الحديثِ، إنَّ كلامَكم شرُّ الكلامِ؛ فإنَّه قد حدثّتم الناسَ حتى قيل: قال فلانٌ، وقال فلانٌ، ويُتْرَك كتاب الله، مَنْ كان منكم قائمًا فليقم بكتاب الله، وإلا فليجلسْ)
(3)
.
وجه الدلالة: أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصف مَنْ يقولُ: قالَ فلان، إذا كان تاركًا لكتابِ الله، بأنَّ كلامَه شرُّ الكلامِ، وكان هذا في عصرِه القريبِ مِن عصرِ النبوةِ، فكيفَ بالعصورِ التي بعده؟ ! وكلامُه صادقٌ على مَنْ تَرَكَ الأدلةَ مِن الكتابِ والسنةِ، وأَقبلَ إلى ما قاله إمامُه
(4)
.
الدليل الثاني عشر: جاءَ عن عبدِ الله بن عباس رضي الله عنهما قوله: (ويلٌ للأتباعِ مِن عثراتِ العالمِ). قيل له: وكيفَ ذلك؟ قال: (يقول العالمُ شيئًا
(1)
انظر: المصدر السابق (3/ 486 - 487).
(2)
انظر: اللامذهبية للدكتور محمد البوطي (ص/ 47).
(3)
أخرج أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أبو زرعة الدمشقي في: تاريخه (1/ 543)، برقم (1470)؛ وابن حزم في: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 97)؛ وأبو إسماعيل الهروي في: ذم الكلام وأهله (4/ 5)، برقم (717).
(4)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 98)، وإعلام الموقعين (3/ 458 - 459).
برأيه، ثم يجدُ مَنْ هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيترك قولَه ذلك، ثم تمضي الأتباعُ)
(1)
.
وجه الدلالة: أنَّ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بيَّن أنَّ الويلَ لكاتب رأي العالمِ والآخذِ به؛ لأنَّ العالمَ قد يُغيّرُ رأيه إذا بلغَه دليلٌ يخالفُ قولَه الأولَ، وقد يبقى بعضُ أتباعِه على رأيه الأولِ المخالفِ للدليلِ
(2)
.
الدليل الثالث عشر: يقولُ عبدُ الله بن مسعودِ رضي الله عنه: (لا يقلدنَّ أحدُكم دينَه رجلًا إنْ آمنَ آمنَ، وإنْ كَفَرَ كَفَرَ؛ فإنَّه لا أسوةَ في الشرِّ)
(3)
.
مناقشة الدليل الثالث عشر: أنَّ في أثرِ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ضعفًا
(4)
.
ويمكن أن يضاف إلى المناقشة وجهان آخران:
الوجه الثاني: وَرَدَ الأثرُ بلفظٍ آخر - وقد تقدم ذكرُه في أدلةِ أصحابِ القولِ الأول - دالٍّ على خلافِ قولِكم.
الوجه الثالث: على فرضِ التسليمِ بالأثرِ؛ فإنَّ قولَه رضي الله عنه موجّه إلى المجتهدين، فلا يجوزُ لهم التقليدُ؛ لقدرتِهم على معرفةِ الحكمِ بالنظرِ في الأدلةِ.
الدليل الرابع عشر: يقولُ عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه: "الإمعةُ فيكم
(1)
أخرج أثر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ابن حزم في: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 99)؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 984)، برقم (1877)؛ والخطيب البغدادي في: الفقيه والمتفقه (2/ 27)، برقم (647)؛ والبيهقي في: المدخل إلى السنن، باب: ما يخشى من زلة العالم في العلم أو العمل (2/ 288 - 289)، برقم (835 - 836).
(2)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 100)، وجامع بيان العبم وفضله لابن عبد البر (2/ 984)، وإعلام الموقعين (3/ 455)، وإيقاظ همم أولى الأبصار للفلاني (ص/ 37).
(3)
تقدم تخريج أثر ابن مسعود رضي الله عنه في: (ص / 806).
(4)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 97).
المُحْقِب دينه الرجال)
(1)
.
وجه الدلالة: أنَّ ابنَ مسعود رضي الله عنه بيّنَ أن الإمعةَ هو المقلِّدُ، الذي يجعل دينَه تابعًا لغيرِه
(2)
.
مناقشة الدليل الرابع عشر: يمكن أن يناقش الدليل: بالوجهِ الثالثِ المذكورِ في مناقشةِ الدليلِ الثالثِ عشرِ.
الدليل الخامس عشر: جاءَ عن الأئمةِ الأربعةِ وغيرِهم النهيُّ عن تقليدِهم، وذمُّ مَنْ أَخَذَ أقوالَهم دونَ معرفةِ أدلتِها، فمَنْ قلَّدَهم فقد عصاهم
(3)
، وبناءً عليه: يكونُ تقليدُ المتمذهبِ لإمامِه محرِّمًا عليه تقليدَه! لأنَّ إمامَه نهاه عنه، فإنْ كان مقلِّدًا لجميعِ مذهبِه - والمنعُ مِنْ تقليدِه مِنْ مذهبِه - فهّلا أَخذَ بهذا النهي؟ !
(4)
.
يقولُ الإمامُ أبو حنيفةَ: "لا يحلُّ لمنْ يفتي مِنْ كتبي أنْ يفتي حتى يعلم مِنْ أينَ قلتُ؟ "
(5)
.
(1)
تقدم تخريجه في: (ص/ 842).
(2)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 68)، وإعلام الموقعين (3/ 538، 573)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 36 - 37).
(3)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 123)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 1211 - 212)، وإعلام الموقعين (3/ 469، 484)، وتحفة الأنام للسندي (ص/ 169)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 142 وما بعدها)، ومنحة الغفار له (1/ 124)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 126)، والدين الخالص للقنوجي (4/ 135، 216)، وهداية السلطان إلى مسلمى بلاد اليابان للمعصومي (ص / 59 - 60)، وأضواء البيان (7/ 573 - 576)، وحياة الألباني لمحمد الشسباني (1/ 418)، وبدعة التعصب المذهبي لعباسي (ص/ 55 - 58، 97 - 100)، والمدخل في الفقه الإسلامي للدكتور محمد شلبي (ص / 207 - 209).
(4)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 486 - 487)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 316) ط/ دار الفح، والدين الخالص للقنوجي (4/ 281).
(5)
ذكر ابن عبد البر قول الإمام أبي حنيفة مسندًا في: الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة (ص/ 267). ونقل قول الإمام أبي حنيفة ابنُ القيم في: إعلام الموقعين (3/ 488)، وصالحٌ الفلاني في: إيقاظ همم أولي الأبصار (ص/ 153 - 154)، (ص/ 317) ط/ دار الفتح.
ويقولُ أبو يوسفَ: "لا يحلُّ لأحدٍ أنْ يقولَ بقولِنا حتى يعلم مِنْ أين قلناه؟ "
(1)
.
وقال الهيثم بن جميل
(2)
للإمامِ مالكٍ: إنَّ عندنا قومًا وضعوا كتبًا، يقولُ أحدُهم: حدثنا فلانٌ عن فلانٍ عن عمر بن الخطاب بكذا، وحدثنا فلانٌ عن إبراهيم بكذا، ونأخذُ بقولِ إبراهيمَ. قالَ مالكٌ:"صحَّ عندهم قولُ عمر؟ ". قلتُ: إنَّما هي روايةٌ كما صحَّ عندهم قولُ إبراهيمَ. قال مالكٌ: "هؤلاء يستتابون! "
(3)
.
ويقولُ الإمامُ الشافعي: "مَثَلُ الذي يطلبُ العلمَ بلا حجّةٍ كمَثَلِ حاطبِ ليلٍ، يحمل حُزمةَ حطبٍ، وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدري"
(4)
.
ويقولُ المزنيُّ في مقدمةِ مختصرِه في الفقهِ الشافعي: "اختصرتُ هذا مِنْ علمِ الشافعي من معنى قولِه؛ لأُقَرِّبَه على مَنْ أرادَه، مع إعلامِيه نهيه عن تقليدِه، وتقليدِ غيرِه"
(5)
.
(1)
أخرج البيهقيُّ قولَ أبي يوسف في: المدخل إلى السنن (1/ 235) برقم (262). ونقل ابنُ القيم قول أبي يوسف في: إعلام الموقعين (3/ 470).
(2)
هو: الهيثم بن جميل البغدادي، أبو سهل الأنطاكي، كان إمامًا كبيرًا، حافظًا ثبتًا ثقة صاحب سنة صالحًا، جاء في ترجمته: أنه أفلس في طلب الحديث مرتين، تحول إلى أنطاكية، فاستقر بها، قال عنه الإمام أحمد: "كان من أصحاب الحديث ببغداد
…
"، أخذ الحديث عن جماعة منهم: الإمام مالك، والليث بن سعد، توفي سنة 213 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 490)، وتهذيب الكمال للمزي (30/ 365)، وسير أعلام النبلاء (10/ 396)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 363)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ 61).
(3)
أخرج قولَ الإمام مالك: ابنُ حزم في: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 120 - 121).
(4)
أخرج قولَ الإمام الشافعي: ابنُ أبي حاتم في: آداب الشافعي (ص/ 100)؛ وأبو نعيم في: حلية الأولياء (9/ 125)؛ والبيهقيُّ في: المدخل إلى السنن (1/ 235 - 236) برقم (263).
وقد وقد نقل أبو نعيم في: حلية الأولياء (9/ 125) تفسير الربيع لقول الشافعي، فقال:"يعني: الذين لا يسألون عن الحجة أين؟ يَكْتُب العلم، وهو لا يدري على غير فهم، فيكتب عن الكذاب، وعن الصدوق، وعن المبتدع، وغيره، فيَحْمِل عن الكذاب والمبتدع الأباطيلَ، فيصير ذلك نقصًا لإيمانه، وهو لا يدري".
وعلى هذا التفسير لا يحمل كلام الإمام الشافعي على من قلد إمامًا دون معرفة دليله.
(5)
مختصر المزني (1/ 122) مع شرحه الحاوي. ولما نقل ابنُ حزم في: الإحكام في أصول =
ويقولُ الإمامُ أحمدُ: "لا تُقلّدْ دينك أحدًا مِنْ هؤلاءِ
…
"
(1)
، ويقولُ أيضًا:"لا تقلدني، ولا تقلد مالكًا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخُذْ مِنْ حيثُ أخذوا"
(2)
.
وهذا الكلامُ موجّهٌ إلى مَنْ لم يبلغْ رتبةَ الاجتهادِ؛ لعدمِ احتياجِ المجتهدِ إلى قولِهم
(3)
.
مناقشة الدليل الخامس عشر: لا شكَّ في أن هؤلاءِ الأئمة ممَّنْ يعظّمُ الكتابَ والسنةَ، ويوجبُ اتباعَهما، ولا ريبَ في أن على كلِّ طالب علمٍ أنْ يهتمَّ بالكتابِ والسنةِ، وأنْ يشتغلَ بتعلّمِهما، لكنَّ هذه الأقوالَ الَواردةً عن الأئمةِ مُوجّه إلى المجتهدين؛ لتمكنِهم مِنْ معرفةِ الحكمِ بدليلِه، وإلى مَنْ تأهلِ إلى النظرِ في الأدلةِ - وإنْ لم يرتقِ إلى درجةِ الاجتهادِ في الشريعةِ - لقدرتِه على استنباطِ الحكمِ مِن الكتابِ والسنةِ.
أمَّا مَنْ لم يبلغْ هذه الدرجة، فإنَّ كلامَهم لا يتوجّه إليه البتة
(4)
؛ بدليل: أن كلامَهم موجهٌ إلى تلامذتِهم - وقد بلغ بعضُهم رتبةَ الاجتهادِ، وتأهّلَ كثيرٌ منهم إلى النظرِ في الأدلةِ - لحثِّهم على النظرِ في أقوالِهم،
= الأحكام (6/ 123) عبارة المزني تصرف فيها فجعل نهي الإمام الشافعي موجهًا إلى الناس.
وقد اختلف علماء الشافعية في عود الضمائر في قوله: "إعلاميه نهيه عن تقليده". انظر: الحاوي للماوردي (1/ 138 - 139)، وخطبة الكتاب المؤمل لأبي شامة (ص/ 110).
(1)
نقل أبو داود قول الإمام أحمد في: مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (ص/ 369). وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 212).
(2)
نقل قولَ الإمام أحمد: تقيُّ الدين بن تيمية في: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 211 - 212)، وابنُ القيم في: إعلام الموقعين (3/ 469)، وفي: الروح (2/ 774)، وصالحٌ الفلاني في: إيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 281) ط/ دار الفتح.
(3)
انظر دراسات اللبيب لمحمد معين (ص/93)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 50).
(4)
انظر: حجة الله البالغة للدهلوي (1/ 475)، والدرر السنية لابن قاسم (4/ 21)، وشرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 82)، وعمد التحقيق للباني (ص/ 40)، وبلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 93)، ولزوم اتباع مذاهب الأئمة للحامد (ص/ 15).
والبحثِ عن مآخذِها، ليأخذوا العلمِ عن بصيرةٍ
(1)
.
يقولُ بدرُ الدّينِ الزركشي: "إنَّما نهوا المجتهدَ خاصّةً عن تقليدِهم، دونَ مَنْ لم يبلغْ هذه الرتبة"
(2)
.
ويقولُ ابنُ رجب: "مَنْ عَرَفَ ذلك - أيْ: الكتاب والسنة - وبَلَغَ النهايةَ مِنْ معرفتِه
…
فهذا لا حجرَ عليه، ولا يتوجّه الكلامُ فيه، إنَّما الكلامُ في منعِ مَنْ لم يبلغْ هذه الغاية، ولا ارتقى إلى هذه النهايةِ، ولا فهم مِنْ هذا إلا النزرَ اليسير، كما هو حالُ أكثرِ أهلِ هذا الزمانِ"
(3)
.
الدليل السادس عشر: يُقالُ للمتمذهبِ المقلِّدِ لإمامِه: هل لك حجّةٌ فيما ذهبتَ إليه في تقليدِك قول إمامِك؟ فإن قال: نعم، فقد أَبْطَلَ التقليدَ؛ لقيامِ الحجةِ على القولِ. وإنْ قال: لا. قيل له: فَلِمَ أرقتَ الدماءَ وأبحتَ الفروجَ دونَ حجةٍ؟ فإنْ قال: أنَا أعلمُ أنِّي مصيبٌ، وإنْ لم أعرف الحجةَ؛ لأنِّي قلَّدتُ إمامًا، وهو لا يقولُ قولًا إلا بحجةٍ خفيتْ عليَّ. قيل له: إذا جازَ تقليدُ معلمِك؛ لأنَّه لا يقولُ إلا بحجةٍ خفيتْ عليك، فتقليدُ معلّم معلّمِك أولى؛ لأنَّه لا يقولُ إلا بحجّةٍ خفيتْ على معلمِك، كما لم يقلْ معلمُك إلا بحجةٍ خفيتْ عليك. فإنْ قال: نعم، تَرَكَ تقليدَ معلّمِ معلّمِه، ومَنْ هو أعلى حتى ينتهي إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وإن قال: لا. قيل له: كيفَ يجوزُ تقليدُ مَنْ هو أصغرُ وأقلُّ عِلْمًا، ولا يجوزُ تقليدُ مَنْ هو أكبرُ وأكثرُ علمًا؟ ! هذا تناقض. فإنْ قال: معلّمي وإنْ كانَ أصغر، فقد جَمَعَ عِلْمَ مَنْ هو فوقه إلى علمِه، فهو أبصرُ بما علمَ، وأعلم بما تَرَكَ. قيل له: وكذلك مَنْ تعلّمَ مِن معلمِك، فقد جَمَعَ عِلْم معلّمِك، وعلمَ مَنْ فوقه إلى علمِه، فيلزمك تقليده، وترك معلمِك
(4)
.
(1)
انظر: بلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 93)، وابن حزم - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 237 - 238).
(2)
البحر المحيط (6/ 280). وانظر: العقد الفريد للسمهودي (ص/ 57).
(3)
الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (ص/ 38 - 39).
(4)
جاءت هذه المحاجة عن المزني، وقد ذكرها الخطيب البغدادي مسندة إلى المزني في: الفقيه =
الدليل السابع عشر: أن هؤلاءِ المتمذهبين في أمورِ دنياهم لا يقلَّدون أحدًا، ولا يجرون معاملةً حتى يتأمّلونها، ويتقون الغبنَ فيها، وإذا كان هذا صنيعُهم في أمورِ دنياهم، فإنَّ أمورَ دينهم أولى أنْ لا يقلدوا فيها أحدًا
(1)
.
الدليل الثامن عشر: أن التمذهبَ يؤدّي إلى مفاسد عدةٍ، منها:
• التعصّبُ لقولِ إمامِ المذهب، والدفاعُ عنه بشتى السبل، وإذا خالفَ قولُ الإمامِ نصًّا مِن الكتاب أوَ السنةِ، انبرى أتباعُه في التكلَّفِ في ردِّ النصِّ، وإخراجِه عن دلالتِه، وَتحيلوا لدفعِه؛ ليصحَّ قولُ إمامِهم
(2)
.
• الوقوعُ في التفرقِ والاختلافِ في الدّينِ، وهذا التفرقُ هو شأنُ أتباعِ المذاهبِ
(3)
.
• عدمُ معرفةِ الأدلةِ التي تدلُّ على خلافِ مذهبِ الإمامِ؛ وذلك لاكتفائِهم به واقتصارِهم عليه، وتقليدهم إيّاه في كلِّ ما قالَ، وعدم النظرِ في الأدلةِ.
يقولُ الفخرُ الرازي: "قد شاهدتُ جماعةً مِن مقلّدةِ الفقهاءِ، قرأتُ عليهم آياتٍ كثيرةً مِنْ كتاب الله تعالى في بعضِ المسائلِ، وكانت مذاهبُهم بخلافِ تلك الآياتِ، فلمَ يقبلوا تلك الآيات، ولم يلتفتوا إليها، وبقوا
= والمتفقه (2/ 136 - 137). وانظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 992 - 993)، وإعلام الموقعين (3/ 462 - 463)، وأضواء البيان (7/ 530).
(1)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 130)، وإعلام الموقعين (4/ 29).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 490 - 491)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص/ 163 وما بعدها)، ودرة الغمام الرقيق لعبد الله التليدي (ص/ 31)، وسبيل الجنة لأحمد آل بوطامي (ص/ 90 وما بعدها)، وبدعة التعصب المذهبي لعباسي (ص/ 94)، والتقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/144).
(3)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 524)، وتحفة الأنام للسندي (ص/ 71)، ودليل الطالب للقنوجي (ص/ 192)، وهداية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان للمعصومي (ص/ 79)، وبدعة التعصب المذهبي لعباسي (ص/ 94)، والتقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 144)، والتمذهب لليافعي (ص/ 138).
ينظرون إليَّ! كالمتعجبِ، يعني: كيفَ تعملُ بظاهرِ هذه الآياتِ مع أن الروايةَ عن سلفنا وردتْ عَلى خلافِها؟ ! "
(1)
.
مناقشة الدليل الثامن عشر: إنَّ ما ذكرتموه مِن المفاسد هي مِن التعصّب المذهبي، وهذا ما نمنعُه، أمَّا التمذهب، فليس ما ذكرتم مِنْ لازمِه
(2)
- وإنْ كانَ أثرًا مِن آثارِه جاءَ مِنْ تطبيقِه على وجهٍ خاطئ - وبناءً عليه: فإنَّا لا نمنعُ التمذهبَ لوجودِ التعصبِ والافتراقِ، بلْ فمنعُ التعصبَ والافتراقَ، ونميّزُ بينه وبين التمذهبِ
(3)
.
ومِنْ جهةٍ أخرى: فإنَّه لو وَقَعَ الافتراقُ والاختلافُ بين متبعي الدليلِ؛ لأيّ سببٍ، فهلْ يمكنُ لأحدٍ أنْ يمنعَ اتِّباعَ الدليلِ؛ لتفرقِ أصحابِه الذين يدّعون اتَباعَه؟ ! بالطبعِ لنْ يمنعَ، وإنَّما الذي يتوجه إليه المنعُ هو التفرقُ والاختلافُ فحسب.
الدليل التاسع عشر: يُقالُ لأتباعِ المذاهب المقلدين لها: أكانَ الناسُ قبلَ أنْ يولدَ إمامُكم على هدىً، أم على ضلَالةٍ؟ ولا بُدَّ أن تُقِروا أنَّهم كانوا على هدى. فيُقال لكم: فما الذي كانوا عليه سوى اتِّباعِ القرآنِ والسنةِ، وتقديمها على كلِّ ما يخالفها؟ وإذا كان هذا هو الهدى، فليس ما عداه إلا الضلال. فإنْ قلتم: إنَّ إمامَنا سارَ على طريقِ الهدى، وسَلَكَ منهجَ السابقين. قيل لكم: مَنْ عداه مِن الأئمةِ، أشاركَ إمامكم في السيرِ على طريقِ الهدى، أم أن إمامَكم انفردَ بسلوكِ الطريقِ؟ فإنْ قلتم بالثاني، فهذا ضلالٌ مبينٌ. وإنْ قلتم بالأولِ، فكيفَ لكم قبول أقوالِ إمامِكم، وردّ أقوالِ غيرِه، حتى كأنَّ الصوابَ معه وحده؟ !
(4)
.
(1)
مفاتيح الغيب (16/ 37). وقارن بإرشاد الطالبين إلى المنهج القويم للرازي (ص/ 392).
(2)
انظر: أصول الفقه للدكتور عياض السلمي (ص/ 483)، والتمذهب لليافعي (ص/ 139).
(3)
انظر: إمام الكلام للكنوي (ص/ 34 - 37).
(4)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 142 - 143)، وإعلام الموقعين (3/ 487 - 488)، وهداية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان للمعصومي (ص/ 97).
ويمكن أن يناقش الدليل التاسع عشر: بأنَّ هذا الدليلَ يدفعُ القولَ بوجوبِ التمذهبِ، ولا يقوى على منعِه إنْ كانَ المتمذهبُ غير متأهلٍ للنظرِ في الأدلةِ ومعرفةِ الراجحِ مِن الأقوالِ.
الدليل العشرون: أنّ عدمَ التمذهبِ بمذهبِ واحدٍ هو الأصلُ، وهو الأيسرُ والأقربُ إلى الفهمِ
(1)
، وفي التمذهبِ وقوعٌ في الحرجِ والشدةِ
(2)
.
الدليل الحادي والعشرون: أن التمذهبَ بمذهبٍ واحدٍ يجزُ إلى اتباعِ المجتهدين دونَ ذكرِ دليلِ قولِهم
(3)
.
الدليل الثاني والعشرون: أن في التمذهبِ انغلاقًا على علمِ مجتهدٍ واحدٍ، وتركًا لعلمِ غيرِه
(4)
.
الدليل الثالث والعشرون: أن في التمذهبِ بمذهبِ إمامٍ معيّنٍ إلحاقًا لغيرِ المعصومِ بالمعصومِ، وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ مَن تَبع مذهبًا فإنَّه يسوّي في واقعِ الأمرِ بينَ اتِّباعِ النبي صلى الله عليه وسلم المعصومِ، واتِّباعِ الفقيه غير المعصومِ
(5)
.
• الموازنة والترجيح:
تُعدُّ مسألة: (حكم التمذهبِ بأحدِ المذاهبِ الفقهيةِ الأربعةِ) مِنْ أعظمِ
(1)
انظر: بدعة التعصب المذهبي لعباسي (ص/ 91)، والتقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص / 143)، والاجتهاد والتقليد للدكتورة نادية العمري (ص/ 322)، والتمذهب دراسة تأصيلية واقعية للدكتور عبد الرحمن الجبرين، مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 86 (ص/ 170).
(2)
انظر: أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1138)، والوجيز في أصول الفقه للدكتور محمد الزحيلي (ص / 370)، وتبصير النجباء للدكتور محمد الحفناوي (ص/ 236 - 237)، وأصول الفقه للدكتور زكي شعبان (ص/ 339).
(3)
انظر: التقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 143).
(4)
انظر: المصدر السابق (ص/ 144).
(5)
انظر: جامع المسائل لابن تيمية، المجموعة الثامنة (ص/ 439)، والتقليد وأحكامه للدكتور سعد الشثري (ص/ 143)، وبدعة التعصب المذهبي العباسي (ص/ 91)، والتمذهب دراسة تأصيلية واقعية للدكتور عبد الرحمن الجبرين، مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 86 (ص/ 170).
المسائلِ التي حَصَلَ فيها نزاعٌ بين العلماءِ قديمًا وحديثًا، وأرى صعوبةً كبيرةً في إطلاقِ القولِ بترجيحِ أحدِ الأقوالِ في المسألةِ؛ لأنَّ المتمذهبين ليسوا على درجةٍ واحدةٍ، هذا من جهة.
ومِنْ جهةٍ أخرى: فإنَّ للتمذهبِ معنى واسعًا، قد يضيقُ عند بعضِ الناسِ؛ فيحارب المذاهبَ؛ بحجةِ محاربةِ التقليدِ المذهبي.
وسأذكرُ الراجحَ في ضوءِ النقاطِ الآتيةِ، (وممَّا يجدرُ التنبيه إليه أن بعضَ النقاطِ التي سأذكرُها قد لا يكون لها تعلقٌ مباشرٌ بالمسألةِ، وقد ذكرتُها؛ لأهميتِها):
الأولى: أن أيَّ دعوةٍ إلى نَبْذِ المذاهبِ الفقهيةِ المتبوعةِ، أو نَبْذِ كتبِ الفقهِ وأصولِه؛ بحجّةِ أنَّها آراء علماء، وأنَّها تربي على تقديمِ الأقوالِ على الأدلةِ: دعوى مردودةٌ؛ إذ ليس كلُّ كتبِ الفقهِ وأصولِه بهذه الحالة، بلْ إنَّ كتبَ المذاهب الأساسية - إلا ما قلَّ - لا تخلو مِنْ ذكرِ الأدلةِ؛ فكتبُ المذاهب طريقٌ إلى معرفةِ أدلةِ المسائلِ
(1)
، فالمذاهبُ الفقهيةُ مدارس فقهيةٌ لتفسيرِ النصوصِ الشرعيةِ، واستنباطِ الأحكامِ منها
(2)
.
يقولُ أبو إسحاقَ الشاطبي: "إذا ثَبَتَ أن الحقَّ هو المعتبرُ، دونَ الرجالِ، فالحقُّ أيضًا لا يُعْرَف دونَ وساطتهم، بلْ بهم يُتوصلُ إليه، وهم الأدلةُ على طريقِه"
(3)
.
الثانية: أن أيسرَ طريقٍ لتعلمِ الفقهِ وأصولِه هو التمذهبُ بأحدِ المذاهبِ الفقهية المتبوعة؛ لأنَّه أجمعُ الطرقِ وأحكمها، وأيسرها في
(1)
من نماذج الدعوة إلى ترك كتب الفقهاء، وعدم الإفادة منها، ما يقوله مؤلِّف رسالة:(البيان والتفصيل في وجوب معرفة الدليل)(ص/ 156): "
…
نكتفي ببعض كتب الحنابلة التي خدع الكثير بالعكوف عليها والتفقه فيها، وأهملوا التفقه في السنة الصحيحة".
(2)
انظر: سبيل الجنة لأحمد آل بوطامي (ص/ 76)، والوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان (ص/ 411).
(3)
الاعتصام (3/ 338).
تحصيل هذين العلمين، فقد خَدَمَ أربابُ المذاهبِ مذاهبهم خدمةً فائقةً، وألَّفوا فيها كتبًا تختصرُ الطريقَ أمامَ الطالبِ، مع عنايتِهم بتحريرِ المسائلِ، والتفريقِ بين المتشابهاتِ، فمَنْ سَلَكَ طريقَ التمذهبِ، فقد ارتقى الدرجةَ الأُولى في العلمِ
(1)
.
ثمَّ يتدرجُ في العلمِ، ويجعل مسائل المذهب على ثلاثةِ أقسام كما ذَكَرَ ذلك تقيُّ الدين بن تيمية في نصيحتِه لمنْ جاءَه مريدًا ترك مذهبِه، وقد ذكرتُها في صدرِ المبحثِ.
الثالثة: يمكنُ القولُ: إنَّ التمذهبَ سلاحٌ ذو حدين، فالتمذهبُ طريقٌ للتفقهِ والترقّي في العلمِ، وقد يصلُ بصاحبِه إلى درجةِ الاجتهادِ في الشريعةِ.
وقد يكونُ التمذهبُ طريقًا إلى الانغلاقِ في دائرةٍ مذهبيةٍ ضيقةٍ، بعيدةٍ عن معرفةِ الأدلةِ، مقتصرةٍ على التقليدِ والجمودِ المذهبي.
يقولُ القاضي عياض: "يلزمُ طالب العلم في بدايتِه في درسِ ما أصّله الأعلمُ مِنْ هؤلاءِ - أي: المجتهدين - وفرّعه، وحفظُه ما ألَّفه وجمعه، والاهتداء بنظرِه في ذلك، والميل معه حيثُ مالَ
…
فسبيله أنْ يقلِّدَ مَنْ
(1)
انظر: بدعة التعصب المذهبي لعباسي (ص/ 112 - 113) فقد نقل عن الشيخ الألباني أن دراسة الفقه تكون بتعلمه عن طريق أحد المذاهب الأربعة، ثم يتدرج في العلم، واستثنى من توفر لهم المناخ الصحي العلمي، كسلفي دمشق، فلا حاجة لهم إلى دراسة الفقه عن طريق أحد المذاهب الأربعة.
ويقول الشيخ مقبل الوادعي في: تحفة المجيب (ص/ 238 - 239): "أما الرجوع إلى زاد المستقنع، فأرى أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وفرق كبير وبون شاسع بين كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبين عبارات زاد المستقنع أو غيره من كتب الفقه!
…
". وكلام الشيخ مقبل وإن كان الباعث عليه الغيرة على نصوص الكتاب والسنة، إلا أن فيه تطويلًا للطريق أمام الطالب في سبيل تحصيل العلم.
وانظر: بدعة التعصب المذهبي لعباسي (ص/ 62) فقد قرر عدم منعه من دراسة الفقه على الطريقة المذهبية، بشرط عدم التعصب للمذهب، وفي:(ص/ 199) بيّن أن الكتب الفقهية المذهبية تحوي الانحرافات والعيوب والمآخذ والأخطاء والسخافات والحماقات!
وكان الواجب عليه أن لا يعمم حكمه على كتب المذاهب، وأن يشير إلى خلو عدد منها من الانتقادات التي ذكرها.
يُعرفُه أنَّ هذا هو الحقّ، حتى إذا أَدركَ مِن العلمِ ما قُيِّضَ له، وحصَّلَ منه ما قَسَمَ لله له، وأفلحَ وكان فيه محلٌ للنظرِ والاجتهادِ: انتقل إلى ذلك وأدركه"
(1)
.
الرابعة: أنَّ الذين حاربوا التمذهبَ، توجه كلامُهم في الأساسِ إلى محاربةِ التقليدِ المذهبي، والتقليدُ عندهم: أخذُ القولِ دونَ معرفةِ دليلِه.
الخامسة: التعصّبُ المذهبي بكافّةِ صورِه وألوانِه غيرُ جائزٍ، والواجبُ الحذرُ منه، والتحذيرُ مِن الوقوعِ فيه، ولا بُدَّ مِن التفريقِ بينه وبين التمذهبِ.
ومَنْ أعطى إمامَه فوقَ المنزلةِ التي يستحقها، وجَعَلَ أقوالَه حاكمةً على الكتابِ والسنةِ، فقد وَقَعَ في التعصّبِ المذهبي المقيتِ
(2)
.
وليس يصحُّ المنعُ مِن التمذهبِ بحجةِ أنَّه تعصبٌ.
السادسة: أنَّ المصلحةَ لها أثرٌ في الترجيحِ في هذه المسألةِ - فالمصلحةُ دليلٌ مِن الأدلةِ - فقد يكون مِن المصلحةِ في قُطرٍ مِن الأقطارِ الإبقاءُ على التمذهبِ، وعلى قولِ إمامِ المذهبِ - أو ما استقر عليه المذهبُ - وذلك لتحقيقِ مصلحةٍ راجحةٍ في أقضيةِ الناسِ، وعدم خروجِهم إلى تتبعِ الرخصِ.
ويلحقُ بهذا، ما إذا كانَ العلماءُ في قطرٍ ما لم يطلعوا على المذاهبِ الأخرى، لعدمِ وصولِ مؤلفاتِ أربابِها إليهم، فيرونَ الإبقاء على ما عرفوه مِنْ مذهبِهم ممَّا لم يخالفْ دليلًا.
يقولُ عبد الله العلوي: "الظاهرُ أنَّ مذهبَ مالكٍ يتعيّن على جُل أهلِ المغربِ! إذ لا يكادُ يُوجدُ فيه أحدٌ يعرفُ فقهَ غيرِه مِن المذاهبِ الثلاثةِ الأخرى، ولا كتابَ مؤلِّفٍ في ذلك، وكذا يتعيّنُ مذهبُ أبي حنيفةَ في
(1)
ترتيب المدارك (1/ 63).
(2)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل لأبي شامة (ص / 127)، وإمام الكلام للكنوي (ص/ 34 - 37)، والاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 207).
أرضِ الرومِ؛ لما ذكِرَ"
(1)
.
ويقولُ شاه ولي الله الدهلوي: "إذا كان إنسانٌ جاهلٌ في بلادِ الهند أو بلادِ ما وراء النهرِ، وليس هناك عالمٌ شافعي ولا مالكي ولا حنبلي، ولا كتابٌ مِنْ كتبِ هذه المذاهبِ، وَجَبَ عليه أنْ يُقلِّدَ مذهبَ أبي حنيفةَ، وَيحْرُم عليه أنْ يخرجَ عن مذهبِه؛ لأنَّه حينئذٍ يخلعُ ربقةَ الشريعةِ، ويبقى سُدًا مُهْمَلًا"
(2)
.
السابعة: وهي متصلة بالسادسة: إذا كان لدى المتمذهب أهليةُ النظرِ في الأدلةِ، ومعرفة القولِ الراجحِ، لكنَّه نَشَأَ في بيئةٍ يغلبُ على أهلِها الالتزامُ بالمذهبِ، ومحاربةُ مَنْ يخرجُ عنه، ورأى أن المصلحةَ تقضي عدمَ معارضةِ أربابِ مذهبِه: فعليه الأخذُ بما ترجّحَ عنده، ثمَّ يسعى إلى تخريجِ الرأي الذي توصّلَ إليه على أصولِ مذهبِه أو فروعِه ما أمكن؛ لتتحققَ له مصلحتانِ: اتباعُ القولِ الراجحِ، وعدمُ مخاصمةِ أربابِ مذهبِه.
الثامنة: إذا ترقّى المتمذهبُ في العلمِ، وتأهل إلى النظرِ في الأدلةِ، ومعرفةِ القولِ الراجح، أو تحقق له الاجتهَادُ الجزئي في بعضِ المسائلِ: فالواجبُ عليه اتباعُ ما ترجّح عنده في المسائلِ التي تَنْزِلُ به، أو التي يُستفتى عنها، أمَّا فيما عداهما فهو في فسحةٌ مِنْ أمرِه، إذا لم يكن هناك نصٌّ في المسألةِ، ولم يظهرْ له خطأٌ إمامِه
(3)
.
وإذا تبيّنَ للمتمذهب الذي لم يتأهلْ للنظرِ في الأدلةِ خطأ إمامِ مذهبِه، فعليه تركُ قولِه، واتباع الصوابِ الذي بانَ له
(4)
.
(1)
نشر البنود (2/ 352). وانظر: مراقي السعود إلى مراقي السعود (ص/ 463)، ونثر الورود للشنقيطي (2/ 687 - 688).
(2)
الإنصاف في بيان سبب الاختلاف (ص/ 34).
(3)
انظر: منهاج السنة النبوية (2/ 244).
(4)
انظر: التمذهب - دراسة تأصيلية واقعية للدكتور عبد الرحمن الجبرين، مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 86 (ص/ 178).
يقولُ الشيخُ محمد أبو زهرة: "إنَّ أهلَ النظرِ والإدراكِ، ومَنْ توفرت عندهم أدواتُ الاجتهادِ، لا يسوغ لهم أنْ يقلّدوا إمامًا في كل ما يقولُه - أو كلّ ما قالَ وقرر - مِنْ غيرِ ترجيحٍ بدليلٍ على دليلٍ
…
مَنْ يتبع ذلك الاتباع، فقد خالفَ الأئمةَ الأربعةَ في أقوالِهم؛ لأنَّهم دعوا إلى عدم الأخذِ بأقوالهم مِنْ غيرِ معرفةِ أدلتِهم".
(1)
.
التاسعة: يسوغُ للمتمذهب إذا لم يتأهلْ إلى النظرِ في الأدلةِ، أو كانت عنده الأهليةُ، لكنَّه لم يتمَكن مِن النظرِ، أو نَظَرَ ولم يتوصلْ إلى الراجِحِ، أو ضاقَ عليه الوقتُ، أو غمضتْ عليه سبلُ الاستنباطِ
(2)
: أنْ يأخذ بقولِ إمامِه - سواءٌ أعرفَ دليلَه أم لا - وذلك لجوازِ التقليدِ له في هذه الحالةِ.
ولشمسِ الدّينِ الذهبي كلامٌ جيّدٌ متصلٌ بمسألتنا، يقول: "مَنْ بَلَغَ رتبةَ الاجتهادِ، وشَهِدَ له بذلك عدّةٌ من الأئمةِ، لم يسغ له أنْ يُقلّدَ، كما أن الفقيهَ المبتدئَ والعاميَّ الذي يحفظُ القرآنَ - أو كثيرًا منه - لا يسوغُ له الاجتهادُ أبدًا؛ فكيفَ يجتهدُ؟ ! وما الذي يقولُ؟ ! وعلامَ يبني؟ وكيفَ يطيرُ ولمَّا يُرَيّش؟ !
والقسم الثالث: الفقيهُ المنتهي اليقظُ الفَهِمُ المحدّثُ الذي قد حَفِظَ مختصرًا في الفروعِ، وكتابًا في قواعدِ الأصولِ، وقَرَأَ النحوَ، وشارك في الفضائلِ، مع حفظِه لكتابِ الله وتشاغلِه بتفسيرِه
…
فهذه رتبةُ مَنْ بَلَغَ الاجتهادَ المقيّد، وتأهلَ للنظرِ في دلائل الأئمةِ، فمتى وَضَحَ له الحقُّ في مسألةٍ، وثبت فيها النصُّ، وعملَ به أحدُ الأئمةِ
…
فليتبعْ فيها الحقَّ
…
ولا يسعه فيها بعد قيامِ الحجةِ عليه تقليدٌ"
(3)
.
(1)
ابن حزم - حياته وعصره (ص/ 237 - 238).
(2)
انظر: عمدة التحقيق للباني (ص/ 67).
(3)
سير أعلام النبلاء (18/ 191).
العاشرة: أن حصولَ أهليةِ النظرِ في الأدلةِ يتوقّفُ على وجودِ شروطِ الاجتهادِ الرئيسة
(1)
.
الحادية عشرة: القولُ بوجوبِ التمذهبِ محلُّ نظرٍ؛ لعدمِ قيامِ الدليلِ المُوْجِبِ، ولقيامِ الإجماعِ على عدمِ لزومِ أخذِ أقوالِ مفتٍ واحدٍ في زمنِ الصدرِ الأولِ مِن الإسلامِ.
الثانية عشرة: جُمْلةُ القولِ: إن التمذهبَ جائزٌ في الجملةِ.
الثالثة عشرة: أنَّ وطأةَ الخصومةِ والنزاعِ بين المجوزين أو الموجبين للتمذهبِ، والمانعين منه تخفُّ في المسائلِ التي لم يَرِدْ فيها نصٌّ مِن الشارعِ؛ ذلك أن كثيرًا مِنْ أدلة المانعين للتمذهبِ تتكئُ على مخالفةِ المتمذهبِ للأدلةِ النقلية مِن الكتابِ والسنةِ، ويُشدّدون على مَنْ خالفها، أو أعرضَ عنها؛ اكتفاءً بما في مذهبِه.
وهذا ما يدعو إلى ضرورةِ التفريقِ بين الشرعِ المنزَّلِ
(2)
، والشرعِ المؤوَّلِ
(3)
؛ فيجبُ على المتمذهبِ في الشرعِ المنزَّلِ أنْ يعرفَ حكمَ الله تعالى بدليلِه، فمتى وَجَدَ نصًّا مِن كتَابِ الله وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو المقدّمُ.
أمَّا الشرعُ المؤوَّلُ، فالأمرُ فيه أخفُّ - كما لو يكن في المسألةِ نصٌّ أو كان ظاهرُ النصوصِ التعارض
(4)
- لأنَّه ممَّا يسوغُ اتباعُه، ولا يجب
(5)
.
(1)
انظر: البحر المحيط (6/ 210)، والعقود الياقوتية لابن بدران (ص/ 159).
(2)
الشرع المنزَّل: هو الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حكمه الذي لا حكم له سواه.
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 248)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان له (ص / 192)، والروح لابن القيم (2/ 774)، والطرق الحكمية له (1/ 263).
(3)
الشرع المؤوَّل: أقوال المجتهدين المختلفة، التي لم يقولوا عنها: هذا حكم الله الذي يجب اتباعه. انظر: المصادر السابقة.
(4)
انظر: الرحلة إلى إفريقيا للشنقيطي (ص/ 152).
(5)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 248)، والروح لابن القيم (2/ 774).
وفي نصيحةِ تقي الدّينِ بنِ تيميةَ المتقدمةِ لمنْ أرادَ تركَ مذهبِه ما يشهدُ لما ذكرتُه آنفًا.
الرابعة عشرة: أن أخذَ قولِ العالمِ موجودٌ في زمنِ الصحابة رضي الله عنهم، يدلُّ عليه: قول طاووس: (إنِّي رأيتُ سبعين مِن أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تدارؤوا في شيءٍ صاروا إلى قولِ ابنِ عباس)
(1)
.
وفي أثرِ ابن عباس المتقدم، قول عروة له - وكان ابنُ عباس قد خالفَ أبا بكرٍ وعمر لثبوتِ سنةِ النبي صلى الله عليه وسلم عنده -:(هما كانا أتبعَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأعلمَ منك).
الخامسة عشرة: لا يتعارضُ ما قررتُه في حكمِ التمذهبِ في ضوءِ التفصيلِ السابقِ مع دعوةِ أهلِ العلمِ إلى الرجوعِ إلى المصدرين الرئيسين: الكتاب والسنةِ؛ لأنَّ التمذهبَ لا يتعارضُ مع معرفةِ الأدلةِ، وتركِ مذهب الإمامِ متى ما ظَهَرَ للمتمذهبِ رجحانُ غيرِه.
يقولُ الشيخُ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: "نحنُ في الفروعِ على مذهبِ الإمامِ أحمدَ بن حنبل، ولا ننكرُ على مَنْ قلَّدَ أحدَ الأئمةِ الأربعةِ
…
إلا أنَّنا في بعض المسائل، إذا صحَّ لنا نصٌّ جليٌّ مِنْ كتابٍ أو سنةٍ غيرُ منسوخٍ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه، وقالَ به أحدُ الأئمةِ الأربعةِ: أخذْنا به، وتركنا المذهبَ"
(2)
.
السادسة عشرة: أن إيجابَ اتباع عالم بعينه، والدعوةَ إليه، وتحريمَ الخروجِ عن أقوالِه مِن التعصبِ المذهبي المذموم
(3)
.
السابعة عشرة: أنَّ مَنْ تمذهبَ بمذهبٍ واحدٍ، واقتصرَ عليه، فإنَّه
(1)
أخرج ابنُ سعد الأثرَ في: الطبقات الكبرى (2/ 367) بسند لا بأس به. وذكر قولَ طاووس: ابنُ الأثير في: أسد الغابة (3/ 293)، وابنُ حجر في: الإصابة (4/ 148).
(2)
نقل كلامَ الشيخ عبد الله بن محمد: ابنُ قاسم في: الدرر السنية (1/ 227).
(3)
انظر: الاتباع لابن أبي العز (ص/ 79).
يفوّتُ على نفِسه الاطلاعَ والإفادةَ من جهودِ العلماءِ المحققين مِن المذاهبِ الأخرى
(1)
.
• سبب الخلاف:
يظهرُ أن للخلافِ في المسألةِ عدة أسباب، وهي:
السبب الأول: حكمُ تقليدِ المجتهدِ الميت.
ولم أرَ لهذا السببِ أثرًا في أدلةِ المسألةِ، فلم يتكئْ عليه المانعون للتمذهبِ - في ضوءِ ما وقفتُ عليه من مصادر - إلا أن مَنْ تكلّم عن أثرِ الخلافِ في مسألةِ:(تقليد الميت) ذَكَرَ مسألة: التمذهب مِنْ جملةِ آثارِ الخلافِ، وقد تقدّم بيان ذلك في مسألةِ:(تقليد الميت)
(2)
.
السبب الثاني: أيلحقُ المتمذهبُ بالمجتهدين، أم بالعوامِّ؟
مَنْ رأى إلحاقَ المتمذهبِ بالمجتهدين مَنَعَه مِن التمذهبِ - التقليد المذهبي - وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الرابعِ.
ومَنْ رأى إلحاقَ المتمذهبِ بالعوامِّ جوّزَ له - أو أوجب عليه - التمذهبَ، وهذا ما سار عليه أصحابُ القولِ الأولِ، والقولِ الثاني
(3)
.
يقولُ أبو إسحاقَ الشاطبي: "الثالث: - أي: من أحوال المكلفين - أنْ يكونَ غيرَ بالغٍ مبلغ المجتهديىن، لكنَّه يفهمُ الدليلَ وموقعَه، ويصلحُ فهمُه للترجيحِ بالمرجحاتِ المعتبرةِ في تحقيقِ المناطِ ونحوِه، فلا يخلو أنْ يُعْتَبر ترجيحُه ونظرُه، أو لا؟
فإن اعتبرناه، صارَ مثلَ المجتهدِ
…
والمجتهدُ إنَّما هو تابع للعلمِ الحاكمِ، ناظرٌ نحوه، متوجّهٌ شطره، فالذي يُشْبِهه كذلك.
وإنْ لم نعتبرْه، فلا بُدَّ مِنْ رجوعِه إلى درجةِ العامي، والعاميُّ إنَّما
(1)
انظر: بدعة التعصب المذهبي لعباسي (ص / 157).
(2)
انظر: العزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 422)، وبلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 20).
(3)
انظر: العزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 422).
اتبع المجتهدَ مِنْ جهةِ توجهه إلى صوب العلمِ الحاكمِ، فكذلك مَنْ نُزِّلَ منزلتَه"
(1)
.
السبب الثالث: هلْ يدخلُ المتمذهبُ في عموم الأدلةِ الدالةِ على جوازِ التقليدِ؟
مَنْ رأى أن المتمذهبَ يدخلُ في عمومِ أدلةِ جوازِ التقليدِ، جوّزَ - أو أوجبَ - التمذهبَ، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الأولِ، وأصحابُ القولِ الثاني.
ومَن رأى عدمَ دخولِ المتمذهبِ في عمومِ أدلةِ جوازِ التقليدِ، مَنَعَ التمذهبَ، وقَصَرَ الأدلةَ على العامي الصرفِ، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الرابعِ.
السبب الرابع: هلْ أخذُ أقوالِ العالمِ دونَ معرفةِ دليل قولِه مِن التعصّبِ؟
مَنْ رأى أن أخذَ أقوالِ العالمِ دونَ معرفةِ دليلِ قولِه ليس مِنْ قبيلِ التعصب، جوَّزَ - أو أوجبَ - التمذهبَ، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الأَول، وأصحابُ القولِ الثاني.
ومَنْ رأى أنَّ أخذَ أقوالِ العالمِ دونَ معرفةِ دليلِ قولِه مِن التعصبِ، مَنَعَ التمذهبَ، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الرابع
(2)
.
يقولُ شمسُ الدّينِ الذهبي: "ما يتقيّد بمذهبٍ واحدٍ إلا مَنْ هو قاصرٌ في التمكنِ مِن العلمِ - كأكثرِ علماءِ زمانِنا - أو مَنْ هو متعصّبٌ"
(3)
.
السبب الخامس: هلْ في عدمِ الخروجِ عن أقوالِ إمامِ المذهبِ تنزيلٌ
(1)
الاعتصام (3/ 314 - 315).
(2)
انظر: التمذهب لليافعي (ص/ 140).
(3)
سير أعلام النبلاء (14/ 491). وانظر: خطبة الكتاب المؤمل لأبي شامة (ص / 138 وما بعدها).
له فوقَ منزلتِه، ورفعٌ له إلى درجةِ الأنبياءِ؟
مَنْ رأى أنَّه ليس في عدمِ الخروجِ عن أقوالِ إمامِ المذهبِ تنزيلٌ له فوقَ منزلتِه، ورفعٌ له إلى درجةِ الأنبياءِ، جوّزَ - أو أوجبَ - التمذهبَ، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الأولِ، وأصحابُ القولِ الثاني.
ومَنْ رأى أن في عدمِ الخروح عن أقوالِ إمامِ المذهب تنزيلًا له فوقَ منزلتِه، ورفعًا له إلى درجةِ الأنبياءِ، مَنَعَ التمذهبَ، وهذَا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الرابعِ
(1)
.
يقولُ محمد حياة السندي: "إنْ لم يقدرْ - أي: على معرفةِ القرآنِ والسنةِ - فعليه أنْ يُقلّدَ العلماءَ مِنْ غيرِ التزامِ مذهبٍ؛ لأنَّه يُشْبِه اتخاذه نبيًا"
(2)
.
السبب السادس: واقعُ بعضِ المتمذهبين مِنْ تعصّبِهم المقيتِ لأقوالِ إمامِهم، وردّ النصوصِ مِن الكتابِ والسنةِ؛ لمخالفتِها المذهبِ، وعدم الالتفاتِ إلى الأدلةِ الشرعيةِ إلا علَى سبيلِ الندرةِ
(3)
، وترك ردِّ ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنةِ
(4)
، والقول بإغلاقِ باب الاجتهادِ
(5)
، وغير ذلك من صور التعصبِ، الأمر الذي أورث عند بعضِ العلماءِ موقفًا شديدًا ضدّ هؤلاءِ المتمذهبين المتعصبين.
السبب السابع: هل كل مجتهد مصيب؟
تُعدُّ مسألة: (التصويب والتخطئة) إحدى المسائلِ الأصوليةِ التي طال
(1)
انظر: العلم الشامخ للمقبلي (ص/ 389)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 70)، وإيقاظ الوسنان لمحمد الحسني (ص/ 116)، وبدعة التعصب المذهبي لعباسي (ص/ 292، 91).
(2)
نقل كلامَ محمد السندي صالحٌ الفلاني في: إيقاظ همم أولي الأبصار (ص/ 70).
(3)
انظر: بدعة التعصب المذهبي لعباسي (ص/ 54).
(4)
انظر: قواعد الأحكام لابن عبد السلام (2/ 275).
(5)
انظر: العلم الشامخ للمقبلي (ص / 108).
الحديثُ والخلافُ فيها، ولها أثرٌ في عددٍ مِن المسائلِ الأصوليةِ، ويمكن ردُّ الخلافِ في مسألةِ:(حكم التمذهب بأحد المذاهب الفقهية المتبوعة) إليها
(1)
، وأشيرُ إلى أن هذا السببَ متمسكٌ لبعضِ العلماءِ، وإلا فإنَّ بعضَ القائلينَ بالتخطئةِ قد اختلفوا في مسألةِ: حكمِ التمذهبِ.
• نوع الخلاف:
يظهرُ أن الخلافَ بين الأقوالِ خلافٌ معنويٌّ، ويظهرُ أثرُه في نشوءِ مسألة أخرى، وهي:(الانتقال عن المذهب).
فمَنْ رأى التمذهبَ - جوازًا أو وجوبًا - تحدّثَ عن مسألةِ: (الانتقال عن المذهب)، وبيَّنَ أحكامَها.
ومَنْ منعَ التمذهبَ ولم يره، فليس هناك ما يدعوه إلى الحديثِ عن مسألةِ:(الانتقال عن المذهبِ)؛ لأنَّه لا يرى التمذهبَ أصلًا.
* * *
(1)
انظر: شرح غاية السول لابن المبرد (ص/ 443).