الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: أسباب نشوء المذاهب الفقهية
لقد تهيأتْ بعضُ الظروفِ التي أسهمتْ وساعدتْ في نشأةِ المذاهب الفقهيةِ، وبالنظرِ والتأمّلِ في المذاهب، فقد ظَهَرَ لي عددٌ مِن الأسباب التيَ يمكنُ القولُ إنَّها أسبابٌ لنشوئها.
السبب الأول: اختلافُ الأصولِ والمناهج التي سار عليها المجتهدون.
فالأدلةُ المستَدَّلُ بها، وطُرُقُ الاستنباطِ منها، والمنهجُ المتبعُ عند تعارضِها، أمورٌ تختلفُ مِنْ مجتهدٍ إلى آخر، ومِنْ مدرسةٍ فقهيةٍ إلى أخرى
(1)
- وإنْ كان هناك نوعُ تقاربٍ بين بعض المجتهدين - الأمر الذي يدعو إلى تمايزِ مناهجِ المجتهدين، ولَفْتِ نَظَرِ تلامذتِهم إليه، وهو داع إلى استقلالِ المجتهدِ بمذهبٍ، له أصولُه وفروعُه المستقلةُ.
فمثلًا: إذا كان المجتهدُ يحتجُّ بالحديثِ المرسلِ
(2)
وفقَ شروطٍ معينةٍ
(1)
انظر: تأريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ 234)، والجديد في تاريخ الفقه للدكتور محمد إمبابي (ص/ 140).
(2)
المرسل عند الأصوليين: أنْ يقول غيرُ الصحابي قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا. انظر: الحدود للباجي (ص/ 63)، وتقريب الوصول لابن جزي (ص/ 305)، وشرح الكوكب المنير (2/ 574)، وفواتح الرحموت (2/ 174)، ونشر البنود (2/ 60).
وعند المحدثين: ما سقط منه مِن منتهاه ذكر الصحابي، كأنْ يقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا. انظر: الاقتراح في بيان الاصطلاح لابن دقيق العيد (ص/ 208)، والمعيار في الأحاديث الضعيفة والموضوعة لتاج الدين التبريزي (1/ 18)، ونزهة النظر لابن حجر (ص/ 109 - 110)، وفتح الميث للسخاوي (1/ 238)، وتوضيح الأفكار للصنعاني (1/ 283).
- ومجتهدٌ آخر لا يرى الاحتجاجَ به، فإنَّ مِنْ شأنِ هذا الاختلافِ أنْ تنشأَ عنه مذاهبُ عدّةٌ؛ نظرًا لاختلافِ أصولِ الاستنباطِ، وطرائقِ الاجتهادِ.
فإذا كانتْ مناهجُ الاستنباطِ متمايزة، فَأمْرٌ طَبَعي أنْ تتكونَ مذاهبُ متعددةٌ؛ لاختلافِ أنظارِ المجتهدين
(1)
.
السبب الثاني: اختلافُ المجتهدين في الفروعِ، وتشعّبُ آرائِهم، وكثرةُ أقوالِهم في كثيرٍ مِن المسائلِ الفرعيةِ
(2)
، ومِنْ أهمّ أسبابِه، ولا سيما في عصورِ نشأةِ المذاهبِ:
- اختلافُ المجتهدين في الأصولِ والمناهج المعتمدةِ في الاستنباطِ.
فلا يخفى على أحدٍ مِنْ أهلِ العلمِ أنَّ مِنْ أهمِّ أسباب الاختلافِ بين المجتهدين هو اختلافهم في أصولِ الفقهِ، كطُرُقِ الاستدلَالِ، والاستنباطِ مِن النصوصِ.
- اختلافُ المجتهدين في حظوظِهم مِن العلمِ والفهمِ وسعةِ الإدراكِ
(3)
.
- اختلافُ الأمصارِ التي يعيشُ فيها المسلمون، مِنْ حيثُ أنماطُ حياةِ الناسِ، وتباينُ أحوالِهم.
وهذا مِنْ شَأْنِه أنْ يجعلَ حالةَ الفقهِ في قُطرٍ تختلفُ عن حالتِه في بقيةِ الأقطارِ
(4)
.
- عدمُ الاطلاعِ على الحديثِ.
فتدوينُ السنةِ لم يكتملْ، فقد يُفتي المجتهدُ بخلافِ ما جاءتْ به
(1)
انظر: المذاهب الاجتهادية لمحمود بزال (ص/ 51).
(2)
انظر: الفتوى - نشأتها وتطورها للدكتور حسين الفلاح (ص/ 304).
(3)
انظر: أسباب اختلاف الفقهاء لعلي الخفيف (ص/248).
(4)
انظر: الجديد في تاريخ الفقه للدكتور محمد إمبابي (ص/ 140).
السُنّةُ؛ لعدمِ معرفتِه بها، أو لعدمِ ثبوتِها عنده
(1)
.
ومِنْ شأنِ الاختلافِ أنْ تنشأَ عنه اختلافاتٌ علميةٌ، وثروةٌ فقهيةٌ مؤدّيةٌ إلى تعددِ أقوالِ المجتهدين، وتدعو إلى جمع ما تناثرَ عن الواحدِ منهم في مذهبٍ مستقلٍّ.
السبب الثالث: اتِّباعُ التلاميذِ لشيوخِهم، وجمعُهم ما تناثرَ عمَّن بَرَزَ مِنْ مجتهدي عصرِهم، وتدوينُه، والعنايةُ به؛ بحيثُ يتكوّنُ مِنْ صنيعِهم مذهبٌ مستقلٌّ
(2)
.
وممَّا دَفَعَ بالتلاميذِ إلى العنايةِ بعلومِ الأئمةِ، واكتفائِهم بها، وعدمِ الرغبةِ في تجاوزها: إعجابُ التلاميذِ بشيوخِهم.
السبب الرابع: ضعفُ الهمَّةِ عندَ بعضِ تلاميذِ الأئمةِ، فإذا ضَعفتْ الهمّةُ، قَعَدَتْ بصاحبِها عن تَطلّب درجةِ الاجتهادِ في الشريعةِ، وأورثته البقاءَ على ما عَرَفَه وعَلِمَه مِنْ علومِ شيوخِه، دونَ رغبةِ في الوصولِ إلى رتبةٍ أعلى ممَّا هو عليها.
* * *
(1)
انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية (ص/ 5، 19)، والمدخل إلى دراسة الفقه لعبد المجيد الديبانى (ص/ 186)، واجتهادات الصحابة لمحمد الخن (ص/ 138 وما بعدها).
(2)
انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ 302)، ومقدمة في دراسة الفقه للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 191).