الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: الرد على الشبه
يمكن الرد على جدليات النصارى حول القرآن الكريم بشكلٍ مجملٍ، وآخرَ مفصل.
المسألة الأولى: الرد المجمل، ويقال فيه ما يلي:
الأمر الأول: ثبت على مرِّ السنين وتعاقبها من أكثر من أربعة عشر قرناً من الزّمان أنّ القرآنَ الكريمَ معجزةٌ خالدةٌ لا تقبل المعارضة والنقض أبداً.
وعلى الرغم من إعلان التحدي المبكر، فقد «أجمع رواة التّاريخ والآثار، على أنّ أساطين البلغاء وفحول الشعراء من مشركي العرب لم تحدثهم أنفسهم بمعارضة القرآن، ولم ينقل عن أحد منهم أنّه حاول أن يأتي بمعارضة للقرآن، مع شدّة حرصهم على صدّ النّاس
عن الإسلام، والتكذيب برسالة محمد عليه الصلاة والسلام» (1).
ومع إغفال ذكر بعض المحاولات الموغلة في الضّعف، يمكن أن نشير هنا إلى محاولة عبد الله بن المقفع (2)، حين كَتَب شيئاً، فمرّ ذات يوم بصبيّ يقرأ قوله تعالى:{وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (3)، فمزّق ما جمع، واستحيا من إظهاره، وقال:"هذا والله لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله"(4).
ولا يزال التحدي قائماً على مدى هذه القرون الطّويلة، فَلِمَ نكل النصارى وغيرُهم عن معارضة القرآن وقد اطّلعوا -ولا شك- على إعلان التحدي فيه في أكثر من آية.
(1) انظر: التبيان في آداب حملة القرآن، محمد علي الصابوني، ص146.
(2)
هو أحد أئمة الكتّاب، وأول من عني في الإسلام بترجمة كتب المنطق. نشأ في العراق مجوسيًّا ثم أسلم، وولي كتابة الديوان لأبي جعفر المنصور. ترجم عن الفارسية "كليلة ودمنة" وهو أشهر كتبه، وله رسائل غاية في الإبداع. قُتل في البصرة بسبب اتهامه بالزندقة. انظر: الأعلام، الزركلي 4/ 140.
(3)
سورة هود، الآية 44.
(4)
انظر: التبيان في آداب حملة القرآن، محمد علي الصابوني، ص149.
ويحسن أن نشير هنا إلى محاولة ملفتة للنظر، قام بها المنصر أنيس شروش (1)، حين ألف كتابه "الفرقان الحق"(2)، زاعماً أنّه يُعارض القرآن، بل هو خيرٌ منه.
والقارئ لهذا الكتاب لا يجد فيه إلا جملاً من القرآن الكريم، تلاعب بها تقديماً وتأخيراً، وتحريفاً وتبديلاً، في صورة متهافتة، يُغني سقوطها عن إسقاطها (3).
ونخلص من كل ما تقدم إلى أنّ القرآن معجزة خالدة لم يوجد -ولا يمكن أن يوجد- من يقدر على معارضتها.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «وكون القرآن أنّه معجزةٌ ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط، أو نظمه وأسلوبه فقط، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط، ولا من جهة صرف الدّواعي عن معارضته فقط، ولا من جهة سلب قدرتهم على معارضته فقط، بل هو آيةٌ بيّنةٌ معجزةٌ من وجوهٍ متعدّدةٍ: من جهة اللّفظ، ومن جهة النّظم، ومن جهة البلاغة في دلالة
(1) هو نصراني عربي، ولد في فلسطين، ثم انتقل منها إلى الأردن، ثم إلى أمريكا، حيث درس اللاهوت والفلسفة. له جهود تنصيريّة تمثلت في رحلاته إلى أكثر من ستة وسبعين بلداً، وكذا عقد المؤتمرات والمحاضرات، ونشر المؤلفات. وقد عُرف عنه حقده الشديد على الإسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. انظر: الانتصار للقرآن، صلاح الخالدي، ص23 - 26.
(2)
كَتَبَه المؤلف باللغة العربية، ثم ترجمته زوجته إلى الإنجليزية. وقد أمضى في تأليفه سبع سنين، وضمّنه سبعاً وسبعين سورة. طُبع عدة طبعات، ونشر على نطاق واسع على الشبكة العالميّة. انظر: المرجع السابق، ص10.
(3)
انظر الرابط: www.alkalema.net/furqan/36.htm
وللرد على الكتاب: انظر: الانتصار للقرآن، لصلاح الخالدي.
اللّفظ على المعنى، ومن جهة معانيه الّتي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك. ومن جهة معانيه، الّتي أخبر بها عن الغيب الماضي، وعن الغيب المستقبل، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بيّن فيه من الدّلائل اليقينيّة، والأقيسة العقليّة الّتي هي الأمثال المضروبة» (1).
وقد بلّغ النبي صلى الله عليه وسلم الكفارَ آياتِ التحدي بأن يأتوا بمثله، ثم بعشر سورٍ منه، ثُمَّ بسورة واحدة، وفي كلِّ مرةٍ يعجزون، مع شدةِ عداوتهم له، وحرصِهم على دفع دعواه ووأدها والحيلولة دون انتشارها، وهم «العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء، فكلٌّ عجز عنه، ولم يقدر على شيء منه بوجه» (2).
فبعد هذا؛ إنْ أتى أحد بعد أولئك القوم يريد الطعن في بلاغة القرآن الكريم وفصاحته
وسلامة تراكيبه النحوية فإنّه لا اعتبار لقوله، ولا التفات إليه؛ إذ لو كان ذلك ممكناً لسبق إليه الكفار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
بل كان منهم العكس من ذلك، فقد بهرهم بيانُه، وأخذت بألبابهم فصاحتُه، وسحرتهم بلاغتُه.
فهذا عتبة بن ربيعة (3) لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم صدر سورة فُصِّلت؛ أنصت لها، وألقى بيده خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه، حتى إذا بلغ قوله تعالى:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (4)، أمسك بفيه مناشداً له بالرَّحم أن يكف، لعلمه صدق النبي صلى الله عليه وسلم. ثم لما رجع إلى الكفّار قال لهم: "والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله
(1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، شيخ الإسلام 5/ 428.
(2)
انظر: درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية 7/ 298.
(3)
هو أبو الوليد عتبة بن ربيعة بن عبدشمس. كبير قريش، وأحد ساداتها في الجاهليّة. كان خطيباً موصوفاً بالرأي والحلم والفضل، وتوسط للصلح يوم حرب الفجّار بين هوازن وكنانة. أدرك الإسلام فعاداه، وقُتل يوم بدر، سنة ثنتين من الهجرة. انظر: الأعلام، الزركلي 4/ 200.
(4)
سورة فصلت، الآية 13.
الذي سمعت نبأً" (1).
ومثله الوليد بن المغيرة (2) حين قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (3)، قال لقومه: "والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئاً من هذا. والله
إنّ لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يعلى عليه، وإنّه ليحطم ما تحته" (4).
الأمر الثاني: من خصائص الأمة المحمديّة أنّ مُعتَمدها في تحمل الكتاب العزيز ونقله للخلف عن السّلف؛ كان على الحفظ في الصدور، لا على الكتابة في السطور. ولهذا فحفظة القرآن اليوم لبعضهم أسانيد إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
وبتكفل الله تعالى بحفظ كتابه الكريم، ثُمّ بهذا المنهج الذي سلكته الأمّة وحافظت عليه، لا يزال النصّ القرآني اليومَ كما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن الجزري (5) -في كلام له نفيس-: «ثم إنَّ الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى
(1) انظر: الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، البيهقي، ص312 - 313. قال المحقق:«أخرجه المصنف في الدلائل، وابن كثير في البداية والنهاية، وعزاه لعبد بن حميد، وإسناده حسن» .
(2)
هو أبو عبدشمس الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. من قضاة العرب في الجاهليّة، ومن زعماء قريش وزنادقتها. كان ممن حرّم الخمر في الجاهليّة، وأدرك الإسلام وهو شيخ هرم فعاداه. هلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر. وهو والد خالد بن الوليد رضي الله عنه. انظر: الأعلام، الزركلي 8/ 122.
(3)
سورة النحل، الآية 90.
(4)
انظر: الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرّشاد، البيهقي، ص314.
(5)
هو أبو الخير شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن علي العمري الدمشقي، الشهير بابن الجزري. شيخ الإقراء في زمانه، ومن حفّاظ الحديث. ولد في دمشق سنة 751هـ ومات في شيراز سنة 833هـ. له: النشر في القراءات العشر- غاية النهاية في طبقات القراء- طيبة النشر في القراءات العشر، وغيرها. انظر: الأعلام، الزركلي 7/ 45 - 46.
لهذه الأمة، ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنَّ ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، فقلت له: رب إذاً يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة، فقال: مُبتليك ومُبْتَلٍ بك ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان، فابعث جنداً أبعث مثلهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأنفِق ينفَق عليك)(1).
فأخبر تعالى أنَّ القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تُغسل بالماء، بل يقرؤوه في كل حال كما جاء في صفة أمته:"أناجيلهم في صدورهم"، وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه، لا في الكتب (2)، ولا يقرؤونه كله إلا نظراً لا عن ظهر قلب، ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله أقام له أئمة ثقات تجردوا لتصحيحه وبذلوا أنفسهم في إتقانه وتلقوه
من النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً، لم يُهملوا منه حركةً ولا سكوناً ولا إثباتاً ولا حذفاً، ولا دَخل عليهم في شيء منه شكٌّ ولا وهم، وكان منهم مَن حفظه كلَّه، ومنهم مَن حفظ أكثرَه، ومنهم مَن حفظ بعضَه، كلُّ ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم» (3).
وليست هذه الحقيقة محل قناعة المسلمين وحدهم، بل شاركهم فيها علماء ومفكرون من الملّة النصرانيّة وغيرها، وعلى الطّاعنين في القرآن من النّصارى تفسير هذا الأمر.
ومن أمثلة ذلك قول الفيلسوف الفرنسي إيرنست رينان (4): «إنّ الواقعة الحقيقيّة للتّاريخ القديم لهذا الإسلام، أي القرآن، تظل خارج كلِّ الشّبهات في البعد عن التّحريف» (5)؟!
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنّة والنّار، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النّار، ح2865، 2/ 1310 - 1311.
(2)
هكذا، ولعلَّ الصواب: الذين لا يحفظونه إلا في الكتب.
(3)
انظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري 1/ 6.
(4)
فيلسوف ومستشرق ومفكر فرنسي. ولد سنة 1823م ومات سنة 1892م. درس في المدارس اللاهوتيّة، وتضلّع في اللغات الشرقيّة، وعني بالعقائد الإسلاميّة. ترجع شهرته في البلاد الإسلاميّة إلى محاضرة ألقاها سنة 1883م بعنوان "الإسلام والعلم"، وقد هاجم فيها الإسلام. انظر: المستشرقون، نجيب عقيقي 1/ 191. وموسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، ص311 - 320.
(5)
انظر: الوضعيّة والاستشراق في عصر الأيدلوجيّة، محمد عثمان الخشت، ص34. نقلاً عن موجز تاريخ الأديان، فيلسيان شالي.
الأمر الثالث: تقدم في المطلب الأول (1) بيان أنّ دينَ الله واحدٌ من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأنَّ رسل الله تعاقبت وكتبه تتالت في سياق الدعوة إلى التوحيد والطاعة ونبذ الشرك والمعاصي، وأنّ الشرائع اختلفت لحكم أرادها الحكيم العليم.
وعلى هذا فلا يَتصور ذو عقل أنه إذا أتى في القرآن الكريم شيء مما في كتب الله السابقة كان ذلك مطعناً ومأخذاً. بل ما كان من قصص الأنبياء مع أقوامهم، أو غيرها من الأخبار؛ لو ورد في كتاب ثم تكرر في القرآن، لكان وروده في القرآن على وجه المطابقة التامّة متى جزمنا بخلو الخبر الأول من التحريف، ووصوله إلينا كما أُنزل.
بل إنَّ القرآن ينص صراحة على تكرار معان في كتب سبقته، وذلك كقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (2)، وقوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (3)، وقوله تعالى:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (4).
وعليه؛ فإنّ الطّعن في القرآن الكريم لورود أمرٍ فيه سَبَقَ ذكره في التوراة أو الإنجيل أو الزّبور أمرٌ غيرُ مُسلَّم.
الأمر الرابع: بأيِّ وجهٍ يُقبل ادّعاءُ تصديقِ القرآنِ الكريمِ لكثيرٍ من العقائدِ النّصرانيّة وقد جاء فيه التّصريح بكفر معتقدها في غير موضع، في آيات محكمات.
فمن ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (5).
(1) انظر صفحة 207
(2)
سورة الأنبياء، الآية 105.
(3)
سورة الأعلى، الآيتين 18، 19.
(4)
سورة النجم، الآيات 36 - 40.
(5)
سورة المائدة، من الآية 17.
فهذه الآيات المحكمات الواضحات، وغيرها كثير، تدل -بما لا يدع شبهة أو تأويلاً- على مضادة القرآن للعقائد النصرانيّة التي هي في حقيقتها انحراف عن الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام.
ولو فرض بقاء أحد على مثل ما جاء به عيسى عليه السلام؛ فإنّه ملزم باتباع النبي الذي بشر به عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (3).
ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم يموتُ ولم يؤمنْ بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النّار)(4). ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مع عمر رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة غضب وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي)(5).
الأمر الخامس: إنّ استشهاد النصارى بالقرآن الكريم على صحة عقائدهم وسلامة كتابهم مغالطة بينة، لأنّ المستشهد بشيء على شيء لا بد أنْ يكون مصدقاً بذلك الذي
(1) سورة المائدة، الآية 72.
(2)
سورة المائدة، الآية 73.
(3)
سورة الصف، الآية 6.
(4)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع النّاس ونسخ الملل بملته، ح153، 1/ 80.
(5)
رواه أحمد وغيره، وحسنه الألباني. انظر له: إرواء الغليل 6/ 34.
يستشهد به، وإلا كان المستشهَد عليه باطلاً لبطلان المستشهَد به، وهم لا يعتقدون صدق القرآن ولا يعترفون به.
وهذا المسلك لا يلزم المسلمين حين يحتجون عليهم ببعض كتبهم، لأنَّه من المتقرر لدى المسلمين الاعتقاد الجازم أنّ الله أنزل التوراة على موسى عليه السلام، والإنجيل على عيسى عليه السلام، ثم أصاب الكتابين ما أصابهما من التحريف والتبديل والتضييع (1).
الأمر السّادس: تقدم في تمهيد هذا الفصل بيان الأمور التي ملأت قلوب النصارى حقداً على الإسلام ونبيه وكتابه. ومَن بلغ به البغض منتهاه كان ذلك حاملاً له على التجني
والعدوان بغير حق.
والناظر في الخدمات التفاعلية للشبكة يرى صنوفاً لا حصر لها من هذا الاعتداء الحاقد صباح مساء.
وهكذا دُفنت تحت ركام الأحقاد جُلُّ معاني العدل والإنصاف ومراعاة ضوابط البحث العلمي النزيه. فلا تكاد تجد شيئاً يتعلق بالإسلام والمسلمين إلا أُخرج بصورة مشوهة بشعة. وأُجري هذا المنهج على الدين نفسه، وعلى الدّيان، وعلى النبيِّ العدنان، وعلى الكتاب الفرقان، وعلى السُّنَّة النبويَّة وحَمَلتها من الصحابة والتابعين ومن تبعهم، وعلى المنتسبين لهذا الدين في كل مكان وزمان.
وهنا تثار مناقشة عقليّة حول إمكانيّة قبول هذا التّشويه؛ وقد حوّل الله بهذا الدّين حال العرب أوّلاً من الجاهليّة والهمجيّة والتّخلف الخُلُقي والثّقافي والعلميّ، إلى مجتمعات متحليّة بالآداب والفضائل، رائدةٍ في مجالات العلم والحضارة والفِكر.
وقد شهد بهذا العقلاء والمنصفون من أتباع الأديان الأخرى. يقول توماس أرنولد (2): «ولقد كتبت إسبانيا الإسلاميّة في القرون التي تقع بين هذين التاريخين [711 - 1502م]
(1) انظر: حول القرآن الكريم والكتاب المقدس، هاشم جود، ص14 - 15.
(2)
مستشرق إنجليزي، تخرّج من جامعة كامبردج، ودرّس في الجامعات الهنديّة، ثم عاد إلى بريطانيا ليكون أول من يرأس كرسي اللغة العربية والدراسات الإسلاميّة بجامعة لندن. توفي سنة 1930م، ومن كتبه: الدعوة الإسلامية- الخلافة- الدين الإسلامي. انظر: موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، ص9 - 10.
صفحةً من أنقى الصفحات وأسطعها في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى. وقد امتد تأثيرها من ولاية بروفانس إلى الممالك الأوروبيّة الأخرى، وأتت بنهضة جديدة في الشعر والثقافة، ومنها تلقى طلاب العلم المسيحيون من الفلسفة اليونانيّة والعلوم ما أثار في نفوسهم النّشاط العقلي حتى جاء عصر النهضة الحديث» (1).
الأمر السّابع: من المتقرر لدى المسلمين قاطبة -إلا مَن شذَّ من المبتدعة- فضلُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعدالتُهم، وسبقُهم في الفضائل والمحاسن.
قال المزني (2) رحمه الله: «ويقال بفضل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو أفضل الخلق وأخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ونثني بعده بالفاروق، وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فهما وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضجيعاه في قبره، ونثلث بذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم بذي الفضل والتقى علي بن أبي طالب ? أجمعين.
ثم الباقين من العشرة الذين أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنّة، ونُخْلص لكل رجل منهم من المحبة بقدر الذي أوجبَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفضل، ثم لسائر أصحابه من بعده ? أجمعين.
ويُقال بفضلهم، ويُذكرون بمحاسن أفعالهم، ونمسك عن الخوض فيما شجر بينهم؛ فهم خيار أهل الأرض بعد نبيهم، ارتضاهم الله عز وجل لنبيه، وجعلهم أنصاراً لدينه، فهم أئمة الدين، وأعلام المسلمين ? أجمعين» (3).
يُساق هذا التقرير لمن يطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليتخذ من ذلك طريقاً للطعن في كتاب الله الكريم، لأنّه لم يصل إلينا إلا عن طريقهم، فهم المتلقون له من النبي صلى الله عليه وسلم، المبلغونه مَنْ بعدهم. وهم أصحابُ الجمع الأول على عهد الصديق، وأصحابُ الجمع الثاني على
(1) انظر: قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل، ص331 - 332.
(2)
هو أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني المصري، تلميذ الشّافعي. ولد سنة 175هـ ومات بمصر سنة 264هـ. كان إماماً في الفقه، وصاحب عبادة وزهد وورع. وكان سلفيّ المعتقد، ذا تأثر كبير بشيخه الشّافعي. انظر ترجمته لمحقق كتابه شرح السنة؛ جمال عزّون، ص17 - 50.
(3)
انظر: شرح السنة، المزني، ص87 - 88.
عهد ذي النورين، ? أجمعين.
والعجبُ الذي لا ينقضي، ممن يبيح لنفسه ما يحرمه على غيره، فإنّ النّصارى يُعلون مكانة التّلاميذ الاثني عشر، ولا يرضون الطّعن فيهم، ثمّ لا يرون للمسلمين حقًّا في تقدير أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وهم في سبيل ذلك يغضون الطّرف عمّا ذكره المسيحُ نفسُه في حقّ هؤلاء الحواريين من من قلّة الإيمان، وعدم الفهم (1).
وقد وصفَ كبيرَ الحواريين بأنّه شيطانٌ، معثرةٌ للمسيح، مهتمٌّ بما للنّاس، غيرُ مهتمٍّ بما لله، وبأنّه سينكر معرفته بالمسيح ثلاث مرّات قبل أن يصيح الدّيك (2).
وقد حدَث من التّلاميذ أنْ تركوه وهربوا في أحرج الأوقات كما يحكي العهد الجديد (3).
فإذا صحَّ أنْ يبقى لهؤلاء التّلاميذ قَدْرُهم مع ما بدر منهم، ومع توبيخ المسيحِ لهم، فكيف تُنزع مكانةُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد فدوه بالأنفس والأهل والأموال، ومات وهو عنهم راض؟!
الأمر الثامن: لقد سار المسلمون في فهم كتاب ربهم جلّ وعلا على منهجٍ مستقيمٍ ثابتٍ أرشدهم إليه منزلُ هذا الكتاب سبحانه وتعالى.
وخلاصةُ هذا المنهج؛ أنَّ القرآن فيه المحكمُ الذي يَسهل فهم المراد منه لكلِّ أحد، والمتشابهُ الذي لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
(1) مرقس 9: 19، و9:32.
(2)
متّى 16: 23، و26:34.
(3)
متّى 26: 56.
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1).
والمنهج السليم ردُّ المتشابه إلى المحكم لأنّ الكل من لدن حكيم عليم، فلا يُتصور وجود تضاد أو اختلاف:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2).
قال ابن كثير في تفسير آية آل عمران: «يخبر تعالى أنّ في القرآن آيات محكمات هنّ أمّ
الكتاب، أي: بيّناتٌ واضحات الدّلالة، لا التباس فيها على أحدٍ من النّاس، ومنه آياتٌ أخر فيها اشتباهٌ في الدّلالة على كثيرٍ من النّاس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكّم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس» (3).
وضدُّ هذا المنهج هو سبيل الأمم الهالكة التي نهجت مصادمة الآيات ببعضها، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفقأ في وجهه حَبُّ الرُّمَّان من الغضب، فقال:(بهذا أُمرتم، أو لهذا خُلقتم، تَضربون القرآنَ بعضَه ببعض، بهذا هَلكت الأممُ قبلكم)(4).
الأمر التّاسع: أنّ من أسس العقيدة الإسلاميّة الإيمان بكل كتب الله المنزلة على رسله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (5). وأنّ من هذه الكتب صحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داوود؛ عليهم وعلى نبينا الصلاة والسّلام.
(1) سورة آل عمران، الآية 7.
(2)
سورة النساء، الآية 82.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير 2/ 6.
(4)
رواه ابن ماجة وقال الألباني حسن صحيح. انظر له: صحيح سنن ابن ماجة 1/ 46 - 47.
(5)
سورة البقرة، الآية 285.
المسألة الثانية: الرد المفصل، ويقال فيه ما يلي:
الأمر الأول: الحديث عن الأحرف القرآنيّة السّبعة يحتاج إلى شيء من التفصيل.
لقد نزل القرآنُ -أوّل ما نزل- على العرب، وكانوا أهل عصبيّة وجاهليّة، تعتز كل قبيلة بما تنفرد به، وتعد ذلك مفخرةً تراق لأجلها الدّماء.
وكان من جملة ذلك ما يتعلق باللغة من مفرداتٍ وأساليبِ أداء ونحو ذلك، مما يمكن إجمال الإشارة إليه باللهجة.
فكان من الحكمة أن يستوعب القرآن كلَّ هذه اللهجات، ليكون أدعى لقَبول أتباعها له، وأيسرَ عليهم في تلقيه وفهمه وحفظه. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الحريص على رفع الحرج عن أمته- يستزيد ربّه من الأحرف حتّى بلغت سبعة (1).
لكنّ هذه التّوسعة لم تكن على حساب قداسة التشريع، بل كانت محصورة في الألفاظ دون المعاني والأحكام، مقيّدة بحدود ما أنزل الله، لا مجال فيها لاتباع الهوى (2).
وكانت الأمةُ مخيّرةً في القراءة بأي حرف من هذه الأحرف، لأنّ التنوع فيها هو في الألفاظ المستخدمة، مع وحدة المعنى والدلالة.
واستمر الحال إلى أن جاءَ عهدُ الخليفةِ الرّاشدِ عثمانُ بن عفّانَ رضي الله عنه، وكثرت الفتوحات، واتسعت رقعة البلاد الإسلاميّة، وكثر الدّاخلون في الإسلام من غير النّاطقين بالعربيّة حتّى ربما فاق عددهم العرب، وتفرّق القرّاء في الأمصار يعلمون النّاس القرآن.
(1) دليل ذلك حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، أنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: إنَّ الله يأمرك أن تُقرئَ أمتك القرآن على حرف، فقال:(أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنَّ أمتي لا تطيق ذلك)، ثم أتاه الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئَ أمتك القرآن على حرفين، فقال:(أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنَّ أمتي لا تطيق ذلك)، ثم جاءه الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئَ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال:(أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنَّ أمتي لا تطيق ذلك)، ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئَ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا. رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أنَّ القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، ح821، 1/ 367.
(2)
انظر: نزول القرآن وتاريخه وما يتعلق به، محمد عمر حويّة، ص42.
وكان كل قارئ ربّما قرأ بما شاء من الأحرف بناءً على أصل الرّخصة في ذلك، فإذا اجتمع التّلاميذ النّاشئة عجبوا لقراءة بعضهم، ثمّ تطوّر ذلك إلى الجدالِ أيُّ القراءاتِ أفصح، ثم آل الحال إلى الخصومةِ وتأثيمِ بعضهم بعضاً (1).
وقد رأى ذلك الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أثناء مشاركته في فتوح أرمينيّة وأذربيجان، ففزع من ذلك، وخشي أنْ يحدث الخلاف بين المسلمين في كتاب ربهم، فلما قدم على عثمان رضي الله عنه قال له: "يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب
اختلاف اليهود والنصارى" (2).
وأمام هذه الفتنة الكبيرة كان الهمّ الأكبر هو المحافظة على صحّة النص القرآني في مقابل بوادر الاختلاف التي ظهرت مهددةً الموقف الموحد للمسلمين من مصدر تشريعهم.
فخلاصة ما حدث هو اتفاق الصّحابة بالإجماع (4) على الأخذ بحرف واحد من الأحرف السّبعة، درءاً للفتنة، وتمشياً مع أصول التشريع الإسلامي، وأخذاً بأصل الرّخصة. وتمّ اختيار حرف قريش لأنّه هو الغالب في القرآن، وبه ابتدأ إنزاله قبل أن يستوعب الأحرف الباقية، وكان الأقوى من بين سائر اللهجات لمكانة قريش بين القبائل.
ولقد آتى هذا الاجتهاد العثمانيُّ ثمرته الطيبة، فبقي اتفاق الأمة على كتابها إلى هذا اليوم.
وقولنا "تمشياً مع أصول التشريع" مردّه إلى أنَّ التدرجَ سمةٌ من سمات التشريع الإسلامي، وهو من مزاياه الواضحة، ومن جوانب الحكمة فيه، مراعاة للتيسير على النّفوس، لتتقبل
(1) انظر: تاريخ التشريع الإسلامي، منّاع القطّان، ص193.
(2)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، ح4987، ص1275.
(3)
انظر: الاستذكار، ابن عبد البر 8/ 44 - 45.
(4)
امتنع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بادئَ الأمر من إحراق مصحفه، ثمّ رجع طواعية لما رأى إجماع الصحابة على ما فيه مصلحة الأمّة. انظر: جمع القرآن حفظاً وكتابة، علي بن سليمان العبيد، ص51.
التّكاليف من غير ضجر أو تعنت.
وفي الذي حدث إظهارٌ لمرونة الشريعة الإسلامية في فتح باب الاجتهاد لاختيار ما يحقق المصالح ويدفع المفاسد، ضمن إطار الدّين.
وفيه بيان فضل الصّحابة حين قاموا بالاجتهاد في الوقائع التي ليس فيها نصّ، وحُقَّ لهم هذا الاجتهاد لأنّهم تلقّوا عن الرسول الكتاب والسّنّة، وصاحبوه، وشاهدوا أسباب نزول الآيات وورود السّنن، وكانوا موضع ثقته (1).
فإذا جاء من يطعن في إجماع تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار وجه للقراءة من عدّة أوجهٍ جائزة؛ قيل له: بأي منهج ترد هذا وأنت تقبل مخالفة "بولس" -الذي لم ير المسيح- لتلاميذ المسيح في أغلب الأمور العقديّة والتّشريعيّة؟!
وبأي منهج تقبل ما سارت عليه المجامع النصرانيّة من تقريرٍ للعقائد والشّعائر والطّقوس والأسفار التي كوّنت الكتاب المقدّس؟!
إنّ من يورِد هذا الطّعن يُثْبِتُ في مقابِله -من حيث لا يشعر- صحّة النصّ القرآني بالحرف الذي ارتضاه الصّحابة وأجمعوا عليه.
بقي أنْ نشير هنا إلى أنّ الصحابة قد هابوا الإقدام على جمع القرآن في مصحف واحد (2). ومَنْ هذا صنيعهم؛ هل يَتصور أحدٌ أنْ يكون منهم جرأة على محتوى النص؟!
الأمر الثاني: جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه هي إحدى مناقبه رضي الله عنه وأرضاه، وكان القرآن قد جمع على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالأحرف السبعة، ثم لما كان الخلاف الذي سبق ذكره رأى عثمان رضي الله عنه وأد هذه الفتنة فأمر «أنْ يوحد القرآن على حرف واحد، ألا وهو حرف قريش أي لغة قريش، فجَمع القرآن على حرف واحد على لغة قريش -وهو
(1) انظر: خلاصة التشريع الإسلامي، عبد الوهاب خلاّف، ص20 وما بعدها.
(2)
كان هذا هو موقف الصديق رضي الله عنه عندما عرض عليه عمر رضي الله عنه جمع القرآن، وكان هو موقف زيد بن ثابت رضي الله عنه عندما كلّفه الصديق بجمع القرآن، وكانوا (يتهيبون من فعل شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وذلك لشدة اتباعهم، إلا أنَّ الله تعالى شرح صدورهم لما كان فيه الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. انظر: صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، ح4986، ص1274 - 1275.
الذي نقرأ به الآن- ثم أَمر بسائر المصاحف فأُحرقت لئلا تبقى فيفتتن النَّاس بها، فكان في ذلك مصلحة عظيمة، وفضيلة لأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لا توصف، فنسأل الله تعالى أن يجزيه عن المسلمين خيراً» (1).
وقد لقي جمعُ عثمان إجماعَ الصحابة ورضاهم، ومن المنقول عن علي رضي الله عنه قوله: "يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حراق مصاحف، فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف
مثل الذي فعل عثمان" (2).
قال البغوي في شرح السنة: «فاستشار عثمانُ الصحابةَ في ذلك، فجمع اللهُ سبحانه وتعالى الأمةَ بحسن اختيار الصحابة على مصحف واحد هو آخر العرضات من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أبو بكر الصديق أمر بكتابته جمعاً بعد ما كان مفرقاً في الرقاع بمشورة الصحابة حين استحر القتل بقراء القرآن يوم اليمامة، فخافوا ذهاب كثير من القرآن بذهاب حملته، فأمر بجمعه في مصحف واحد، ليكون أصلاً للمسلمين، فيرجعون إليه ويعتمدون عليه، فأمر عثمانُ بنسخه في المصاحف، وجَمَعَ القومَ عليه، وأَمَرَ بتحريق ما سواه، قطعاً لمواد الخلاف ..
فأمَّا القراءة باللغات المختلفة؛ فما يوافق الخط والكتاب، فالفسحة فيها باقية، والتوسعة قائمةٌ بعد ثبوتها وصحتها بنقل العدول عن الرسول صلى الله عليه وسلم، على ما قرأ به القراء المعروفون بالنقل الصحيح عن الصحابة رضي الله عنهم» (3).
وأمّا الطعن في الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه فيرده ما تقدم في الأمر السابع من الرد المجمل (4). وكل ما ذكر عنه من إساءة إلى حفصةَ أو زيدٍ أو محمدِ بن أبي بكرٍ محضُ كذبٍ وافتراء.
بل الثابت أنّ جمع القرآن كان بإجماع الصحابة ?، وأنّ الصحف التي كانت عند
(1) انظر: شرح رياض الصالحين، محمد بن صالح العثيمين 4/ 635.
(2)
انظر: مناهل العرفان، الزرقاني 1/ 214.
(3)
انظر: شرح السنة، البغوي 4/ 511.
(4)
انظر صفحة 224.
حفصة طلبها عثمان ثم ردها إليها بعد نسخها، وكانت بخط زيدٍ إبّانَ الجمعِ الأولِ على عهدِ الصديقِ رضي الله عنه (1)، وقد انتقلت بعد وفاة أبي بكرٍ إلى عمرَ ثم إلى ابنته حفصةَ لأنها كانت وصيَّتَه (2).
وقد بقيت الصحف التي عند حفصةَ على حالها إلى أنْ توفيت فأرسل والي المدينة مروانُ
بن الحكمِ (3) إلى عبد اللهِ بن عمرَ (4) رضي الله عنه يطلبها، ثم أعدمها خشيةَ أن يقع لأحدٍ منها توهّمُ أنَّ فيها ما يخالف المصحفَ الذي استقرَّ عليه الأمر (5).
وأمّا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال يوم استحر القتل بقراء اليمامة: (ذهب اليوم قرآن كثير) فرواية مكذوبة عليه؛ يدفعها «تظاهر أبي بكر وعمر وجماعة من الصحابة على جمع القرآن وعرضه، وتدوين عمر له، وعرضه عرضة ثانية، وضبطه في الصحيفة التي خلفها عند ابنته حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذه النّاس بذلك، وتعريفهم أنَّه جميع الذي كان أنزله الله سبحانه وتعالى ..
ولا يمكن أن يكون المراد ذهاب شيء من القرآن فإنّ عمرَ يعلم أنّ الذين قُتلوا يوم اليمامة إنما أَخذوا ما أَخذوا عن أُبيّ وعبد الله بن مسعود وغيرهما من الحفظة» (6).
وأمّا عدم كتابة آية الرّجم في المصحف فحجة على المشبِّه لا له؛ فإنّه لما كانت هذه الآية مما نزل من القرآن حفظها عمرُ وغيرُه من الصحابة، فقرأها أمام الصحابة ولم ينكر عليه أحد. ولما كانت منسوخةَ الرّسم باقيةَ الحكم لم تُضف للمصحف بدليل قول عمر:
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 15/ 252.
(2)
انظر: فتح الباري، ابن حجر 9/ 16.
(3)
هو أبو عبد الملك، مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة القرشي الأموي. ولد بمكة، وولي المدينة غير مرّة لمعاوية، ومات خنقاً سنة خمس وستين، وقيل مات بالطّاعون. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 3/ 476 - 479.
(4)
هو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن الخطاب. أسلم وهو صغير، وهاجر مع أبيه، واستصغر يوم أحد، ثم شارك يوم الخندق، وكان ممن بايع تحت الشجرة. روى علماً كثيراً نافعاً، وتوفي سنة ثلاث وسبعين، عن خمس وثمانين سنة، وقيل غير ذلك. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 3/ 203 - 239.
(5)
انظر: فتح الباري، ابن حجر 9/ 20 - 21.
(6)
انظر: الانتصار للقرآن، الباقلاني 1/ 399 - 400.
(لولا أن يقال زاد ابن الخطّاب في كتاب الله لأثبتها).
وهذا القول من عمرَ دليلٌ على إجماع الصّحابة على ما في المصحف، ودليلٌ على أنّ هذا الإجماعَ والضَّبطَ من الصّحابة شكَّل حارساً يمنعُ من أراد الزيادةَ في القرآن أو الإنقاصَ منه.
وقد أجمع كلُّ من روى هذه القصة، وأكثرُ من تكلم في الناسخ والمنسوخ، على أنَّ آيةَ
الرَّجمِ كانت مما نُسخ لفظاً وبقي حُكما (1).
وأمّا قول عائشة ?: (كان مما أنزل عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن)، فقد رجَّح المحققون أنّ هذه الآية نُسخت لفظاً، ولم يبلغ ذلك كلَّ النّاس إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض النّاس يقرؤونها (2).
وأمّا الخبر عن عمر رضي الله عنه أنّه قال: (في القرآن ألف ألف حرف، وسبعة وعشرون ألف حرف، فمن قرأه صابراً كان له بكل حرف زوجة من الحور العين)، فإنّها رواية لو صحّت لم تكن مقبولة لمعارضتها الثابت القطعي في القرآن الكريم من تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم، وهذا أصل لا يقف لمعارضته شيء.
وهو خبر يعارض الثابت عن عمر رضي الله عنه وباقي الصّحابة من إجماعهم على المصحف المجموع زمن خلافة الصّدّيق رضي الله عنه.
ومع هذا فالرواية ضعيفة لا تصح عن عمر رضي الله عنه (3).
وعلى اعتبار صحتها فإنها تحمل على ما نسخ رسمه من القرآن (4).
(1) المرجع السابق 1/ 401 - 402
(2)
انظر: مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، ص230.
(3)
هذه الرواية لم ترد إلا عند الطبراني في الأوسط، من رواية محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني. قال عنه ابن حجر:(تفرد بخبر باطل) ثم ساق الرواية. انظر: لسان الميزان، ابن حجر 5/ 313.
(4)
انظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي 1/ 196.
وأمّا رواية أنّ سورة الأحزاب كانت توازي سورة البقرة؛ فرواية باطلة، لا تصح عن أبي بن كعب رضي الله عنه (1)، إذ لو صحت لاشتهرت عنه وثبتت. ويدل على بطلانها «أنّه لا يجوز أن يضيع ويسقط من سورة الأحزاب أضعاف ما بقي منها، فيذهب ذكر ذلك وحفظه عن سائر الأمة سوى أبي بن كعب، مع ما وصفناه من حالهم في حفظ القرآن، والتدين بضبطه
وقراءته وإقرائه والقيام به والرجوع إليه والعمل بموجبه» (2).
وأمّا شبهة آية الأحزاب فقد جمع كاتِبُها بين الجهل والكذب والعدوان والتّدليس.
وتحقيق الأمر أنّ الصّحابة ? كانوا يحفظون الآية المقصودة، وهي قوله تعالى:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (3) بدليل قصة مقتل أنس بن النضر رضي الله عنه (4) يوم أحد، حين أبلى بلاءً حسناً حتى وُجد به ما يزيد عن ثمانين ضربة بالسيف أو طعنة بالرمح أو رمية بالسهم، ولم تعرفه إلا أخته ببنانه، فقال أنس بن مالك رضي الله عنه (5):«كنَّا نرى أو نظنُّ هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه. ثمّ قرأ الآية» (6).
ولما طفق زيد بن ثابت رضي الله عنه ينجز مهمة جمع القرآن وفق منهجيّة عالية الدقة والتثبت
(1) هو أبو المنذر، أبيّ بن كعب بن قيس الأنصاري، سيد القراء. شهد العقبة وبدراً، وحفظ القرآن على حياة النبي صلى الله عليه وسلم. كان رأساً في العلم والعمل، ومات في خلافة عثمان سنة ثلاثين. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 1/ 389 - 402.
(2)
انظر: الانتصار للقرآن، الباقلاني 1/ 394.
(3)
سورة الأحزاب، الآية 23. وهنا يتضح المظهر الأول لجهل هذا المشبه حين ذكر أنها الآية الثانية والعشرين.
(4)
هو أنس بن النضر بن ضمضم الأنصاري الخزرجي. عم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. غاب عن غزوة بدر، ثمّ شهد أحد فأبلى بلاءً حسناً، وقتل يومئذ. انظر: الإصابة في تمييز الصّحابة، ابن حجر 1/ 281.
(5)
هو أبو حمزة، أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاري الخزرجي. خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلميذه، وآخر أصحابه موتاً. كان من المكثرين من الرّواية، ومات سنة ثلاث وتسعين. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 3/ 395 - 406.
(6)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسَّير، باب قول الله تعالى:(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)، ح2805، ص694.
تشترط الكتابة مع الحفظ؛ لم يجد هذه الآية مكتوبةً إلا عند خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه (1).
ولقد كان خزيمة رضي الله عنه من أجلاء الصحابة وفضلائهم، وكان المتفرد باعتبار النبي صلى الله عليه وسلم شهادته تعدل شهادة رجلين. وذلك في قصة الأعرابي الذي باع فرساً من النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنكر وطلب شاهداً، فجاء خزيمة رضي الله عنه يشهد ولم يكن حضر البيع، فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«أشهد بصدقك يا رسول الله» (2).
وهذا الفرس المبتاع جاء أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ردّه على الأعرابي فأصبح ميتاً، وجاء أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ألزم الأعرابي البيع فأخذه وسمّاه المرتجز (3).
وهنا يظهر كذب هذا المشبه وتجنيه حين زعم أنّ القصة في الصحيحين، وأنها في شاة يهودي ظلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ليُفهم القارئَ أنه عليه الصلاة والسلام كان يحتقر أهل الكتاب ويظلمهم.
ويَظهر كذلك تدليسه حين ربط بين القصتين ليضعف من صحة إلحاق الآية بموضعها من القرآن الكريم، متجاهلاً أو جاهلاً أنَّ الصحابة كانوا يحفظونها، وزيدٌ نفسه يقول:«فقدت آية كنت أسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم» .
ولا يخفى -كذلك- وقيعة هذا المشبه في النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابه. وليس هذا بغريب على من يؤمن بكتاب ينسب قبيح الأفعال والأقوال إلى الله تعالى، ورسله الكرام. الأمر الثالث: القول بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كانت تنزل عليه الآيات بالليل فينساها بالنهار، والعكس، وأنّه لذلك نزل قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) بدليل المأثور عن ابن عبّاس؛ تطبيقٌ لآية آل
(1) وهذا هو المظهر الثاني لجهل صاحب الشبهة، حين ذكر أنها لم توجد إلا عند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
انظر: مختصر تاريخ دمشق، ابن منظور 8/ 47.
(3)
انظر: الروض الأنف، السهيلي 5/ 246.
(4)
سورة البقرة، الآية 106.
عمران التي فضحت منهج الذين في قلوبهم زيغ؛ حين يتركون المحكم ويأخذون المتشابه ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويله.
فأمّا المحكم هنا فمثل قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (1).
وفي الحديث المتفق عليه أنَّ ابن عباس رضي الله عنه قال في تفسير هذه الآيات: "كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه .. فأنزل الله عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}، قال:"جمعه في صدرك ثم تقرؤه"، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال:"فاستمع له وأنصت، ثم إنَّ علينا أن تقرأه"، قال:"فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل عليه السلام استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقْرَأَه"(2).
ومن المحكم قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3).
قال ابن كثير في تفسيرها: «ثُمَّ قَرَّرَ تعالى أنَّه هو الذي أنزل الذِّكر، وهو القرآن، وهو الحافظ له من التّغيير والتّبديل. ومنهم من أعاد الضّمير في قوله تعالى: {لَهُ لَحَافِظُونَ} على النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، والمعنى الأول أولى، وهو ظاهر السياق» (4).
وقال صاحب أضواء البيان: «بَيَّنَ تعالى في هذه الآية الكريمة أنَّه هو الذي نزَّل القرآن العظيم، وأنَّه حافظٌ له من أن يُزاد فيه أو يُنقص أو يَتغير منه شيء أو يُبدَّل، وبيَّن هذا المعنى في مواضعَ أخرَ كقولِه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
(1) سورة القيامة، الآيات 16 - 19.
(2)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى (لا تحرك به لسانك) وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، ح7524، ص1859. ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الاستماع للقراءة، ح448، 1/ 208.
(3)
سورة الحجر، الآية 9.
(4)
انظر: تفسير ابن كثير 4/ 527.
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1)، وقولِه:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} إلى قولِه: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية؛ أنَّ الضمير في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} راجعٌ إلى الذِّكر الذي هو القرآن» (2).
وأمّا آية البقرة التي استدل بها المشبه على كثرة وسرعة نسيان النبي صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من الوحي؛ فلا دليل له فيها على المعنى الذي أراده، ولا صحة لسبب النّزول الذي ذكره. فإنّ الصحيح في سبب نزولها «أنّ اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة، وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إنَّ محمداً يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن
إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضاً، فأنزل الله الآية» (3).
وكلمة (ننسها) في الآية جاءت على قراءتين.
الأولى بفتح النون الأولى والسين والهمز (نَنْسَأها)، والمعنى نؤخر نزولها أو نَسْخها.
والثانية بضم النون الأولى وتسكين الثانية وكسر السين (نُنْسِها)، والمعنى نتركها فلا نبدلها ولا نَنْسَخها؛ من النسيان، وهو الترك، كما في قوله تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (4).
وأمَّا قوله بنسيان الصحابة ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم فبعيد كل البعد عن الحقيقة، فقد حفظَ القرآنَ جميعَه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم غيرُ واحدٍ من أصحابه، وما مِن الصحابة إلا من حفظ بعضَه، وكان يحفظ بعضُهم ما لا يحفظه الآخرُ، فهو جميعُه منقولٌ سماعاً منه بالنّقل المتواتر (5).
وقتل غدراً على عهده صلى الله عليه وسلم يوم بئر معونة سبعون من القراء (6). واستحر القتل بالقراء يوم اليمامة سنة ثنتي عشرة من الهجرة على عهد الصديق رضي الله عنه، وكان ذلك سبب الجمع الأول.
(1) سورة فصلت، الآيتين 41 - 42.
(2)
انظر: أضواء البيان، الشنقيطي 3/ 144.
(3)
انظر: تفسير القرطبي 2/ 300.
(4)
انظر: تفسير القرطبي 2/ 309. والشّاهد في سورة التوبة، من الآية 67.
(5)
انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية 3/ 21.
(6)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب من قتل من المسلمين يوم أحد، ح4078، ص1001.
الأمر الرابع: القول بأنّ مخطوطات القرآن الكريم، ولا سيما مخطوطات صنعاء، فيها ما يثبت أنَّ القرآن قد تعرضّ للتحريف والتبديل؛ قولٌ بعيدٌ عن المنهج العلمي الموضوعي.
ذلك أنّ جُلَّ مخطوطات القرآن الكريم التي تعود إلى القرون الهجريّة الأولى هي وديعةُ مكتبات لندن وأوسلو وبرلين وباريس ولينغراد والفاتيكان (1)، وهي عواصم نصرانيّة؛ لو وَجدت فيها الدلالة على ما تريد ما احتاجت إلى الإحالة على مخطوطات البلاد الإسلامية، كمخطوطات صنعاء وتركيا وسمرقند وغيرها.
وأمّا مخطوطات صنعاء فقد اكتشفت في عام 1385هـ الموافق 1965م، وتتميز بكثرة كميتها وقدم تاريخها، ومن بينها أكثر من مائة مصحف ترجع إلى القرون الهجريّة الأول والثاني والثالث والرّابع والخامس. وقد خضعت للدراسة التي بيّنت سلامة النص القرآني من أي شائبة تحريف أو تبديل (2).
لقد استدعى مدير إدارة الآثار اليمنيّة خبيرين ألمانيين للمساعدة على ترميم هذه المخطوطات والعناية بها، غير أنّهما قاما بتصوير أكثرَ من خمس وثلاثين ألف ورقة، ثم كتب كلٌّ منهما مقالة عن هذه المخطوطات (3)، خلاصتها في أمرين:
أولهما: الملاحظات الطفيفة في أمور تتعلق بالإملاء والنّسخ ممّا لا يمس وحدة النص.
هذه الفروق التي أشاروا إليها هي من قبيل ما يلي (4):
- كتابة كلمة (كلّما) في كلمتين هكذا (كلّ ما)، في مثل قوله تعالى:{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} (5). وهذا الاختلاف لا يغير في النطق ولا المعنى شيئاً.
(1) انظر: المخطوطات القرآنية في صنعاء من القرن الأول والثاني الهجريين وحفظ القرآن الكريم، غسّان حمدون، ص1، كتاب إليكتروني بصيغة PDF، منشور في موقع المؤلف على الشّبكة، وعنوانه:
www.hamdoun.net/Default.aspx?value=ctgItem-3-8
(2)
المرجع السابق، ص2.
(3)
انظر: مزاعم المستشرقين حول القرآن الكريم، محمد مهر علي، ص22، 26.
(4)
الأمثلة هنا من بحث الدكتور غسّان حمدون، الصفحات 10، 14، 18 على الترتيب.
(5)
سورة الأعراف، من الآية 38.
- كتابة كلمة (أنّما) في كلمتين هكذا (أنّ ما)، في مثل قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} (1). وهذا الاختلاف لا يغير في النطق ولا المعنى شيئاً.
- كتابة كلمة (يُشرك) بتاء المخاطبة هكذا (تُشرك)، في قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2). وهذا الاختلاف مرده قراءة ابن عامر الشّامي (3)، ولا تعارض في المعنى بينها وبين
القراءة بياء الغيبة.
وثانيهما: أنّهما -بصرف النظر عن محتويات المخطوطات- يظنّان أنّ النص القرآني الموجود الآن بيد المسلمين لا يمكن أن يتصف بالوضوح والسّلامة من التحريف.
وهنا يحق لمن يحترم عقله أن يتساءل عمّا يقبل من قول الخبيرين الألمانيين. هل يقبل إثباتهما الضمني لسلامة القرآن، المبني على خمس وثلاثين ألف ورقة، أم يقبل ما هو محل ظن عندهما، لم يقدما عليه دليلاً؟!
وإذا كانت قناعتهما المسبقة تقضي بتحريف القرآن، فَلِمَ لم يقدما من كنز مصورات المخطوطات القرآنية عندهما ما يعضده ويقويه؟!
إنّ النتيجة المنطقيّة هنا تلزمنا باعتقاد خلو هذه المخطوطات مما يمكن أن يكون دليلاً على التحريف، واحتوائها ضرورةً على إثبات سلامة النص القرآني.
لقد قام المستشرق توبي ليستر (4) بنشر مقالة مطوّلة عن هذه المخطوطات، استقى مادّتها -حسب قوله- من اتصال هاتفي بأحد الخبيرين الألمانيين.
(1) سورة لقمان، من الآية 27.
(2)
سورة الكهف، الآية 110.
(3)
هو أبو عمران، عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبي. أحد القراء السبعة. ولي قضاء دمشق زمن خلافة الوليد بن عبد الملك، وتوفي بها سنة ثمان عشرة ومائة، وله سبع وتسعون سنة. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 5/ 292 - 293. والأعلام، الزركلي 4/ 95.
(4)
لم أقف على ترجمة له.
أكد في مقالته على أنّ هذه المخطوطات ستساعد المستشرقين على إثبات أنّ للقرآن تاريخاً كما أنّ للكتاب المقدّس تاريخاً، وأنّ المسؤولين في إدارة الآثار اليمنيّة غيرُ حريصين على القيام بدراسات مفصّلة حولها حتى لا تحدث بلبلةٌ في العالم الإسلامي.
إنّه هنا يثبت شيئاً، ويفترض آخر. يثبت عدم عصمة الكتاب المقدس، وأنّ له تاريخاً تعاقبت فيه الأيدي بالإضافة والحذف، والأخذ والرّدّ، إلى أنْ تشكَّل بصورته الحاليّة. ويفترضُ أنّ مخطوطات صنعاء سوف تسهم في إثبات نظير هذا بالنسبة للقرآن.
ومرة أخرى! أيهما يقدَّم؛ الإثبات الذي جزم به، أم الظّنّ الذي ادّعاه؟!
وإذا كانت إدارة الآثار اليمنيّة نكلت عن دراسة المخطوطات؛ فَلِمَ امتنع الخبيران
الألمانيَّان من إثبات ما يعتقدانه بلا دليل، إلا إذا افترضنا حرصهما أيضاً على عدم إحداث بلبلة بين المسلمين!
هذا مع أنّهما اتصلا بمدير الآثار في اليمن ليتنصلا مما جاء في محاضرة ليستر، وليُكذِّبا اتصاله بهما! (1)
لقد اقتنت جامعة ميونخ الألمانيّة عدداً هائلاً من المخطوطات القرآنيّة، ونشرت تقريراً أوليًّا عنها قبيل الحرب العالمية الثانية، قالت فيه:"لقد تمت مقارنة عدد كبير من النّسخ، فلم يوجد بينها اختلاف في النصّ القرآني، ما عدا أخطاء طفيفة في الإملاء أو النّسخ هنا أو هناك، والتي لا تمس بوحدة النصّ"(2).
وأمّا كون عدد آيات سورة الأعراف مائةٌ وخمسٌ وستون آية فمرد ذلك إلى أنّ كاتب المخطوط كتب في المنطقة الفاصلة بين سورتي الأنعام والأعراف هذا العدد بالأحرف بجوار اسم سورة الأعراف. ومِن هنا ظنّ البعض أنّ هذا هو عدد آيات الأعراف؛ والواقع أنه عدد آيات سورة الأنعام كما في المصاحف اليوم (3). هذا إذا سلّمنا بصحة مصورة المخطوطة التي
(1) انظر: مزاعم المستشرقين حول القرآن الكريم، محمد مهر علي، ص25.
(2)
المرجع السّابق، ص26.
(3)
انظر: الطعن في القرآن الكريم من خلال مخطوطات صنعاء وغيرها، طارق أحمد، ص36، كتاب إلكتروني بصيغة PDF منشور على موقع المرصد الإسلامي لمقاومة التنصير، على الرّابط:
www.tanseerel.com/main/articles.aspx?article_no=7918
نُشرت على بعض المواقع.
وعلى الجازم بهذا القول أن يأتي بدليل على دعواه بعرض مخطوطة السورة كاملة ليتبين قدر الآيات المثبتة من المحذوفة. كما أنّ عليه أن يفسر اتفاق علماء المسلمين على مرِّ القرون على الآيات التي يستشهدون بها في مصنفاتهم، فلم يأت في يوم مَن ذَكَر عن أحدهم استشهاده بشيء انفرد به!
والدّعاوى إذا لم يقيموا عليها * بيّناتٍ أصحابُها أدعياءُ
وهكذا يبين للمتجرد للحق أنّ هذه المآخذ لا يوجد لها أصل صحيح؛ وكل استنادها
على اختلافات إملائيّة، وفروق بين القراءات (1)، وليس فيها ما يعد مأخذاً معتبراً.
والأمر نفسه ينطبق على باقي المخطوطات التي يذكرونها.
وسوف نرى في المطلب الخامس بعد قليل، أنّ هذه الملاحظات لا تشكل شيئاً أمام كتاب يرى غالبية العلماء المحققين الذين درسوه، ممن يؤمن به ويقدسه، أنّه لا وجود لمخطوطة أصليّة واحدة لشيء منه، وأنّه لا يوجد سند واحد صحيحٌ يثبت صحة القطع بثبوت أسفاره لمن نسبت إليهم، فضلاً عن جهالة كُتّابه، وزمن كتابته، والأقوام الذين كتبت لهم، ناهيك عن آلاف الاختلافات بين نسخه، والعدد الكبير من الأخطاء والتناقضات بين دفتيه.
وقد أراد أحد المنصرين أنْ يخدم مسعاه الدّعوي من هذا الجانب فكتب في إثبات تحريف القرآن استدلالاً بثلاثة فروق جوهرية -في نظره- بين الطبعة القديمة والحديثة لمصحف ورش المتداول في بلاد المغرب (2).
وهذه الفروق هي كون البسملة من الفاتحة رقِّمت في إحدى الطبعتين دون الأخرى،
(1) للاستزادة في موضوع القراءات: انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني، ومباحث في علوم القرآن لمنّاع القطّان، والقراءات في نظر المستشرقين والملحدين لعبد الفتّاح القاضي، والرد على المستشرق اليهودي جولدتسيهر في مطاعنه على القراءات القرآنية لمحمد حسن جبل.
(2)
انظر الرابط: www.arabchurch.com/forums/showthread.php?t=173546
وكون الآية الأخيرة منها قُسِمت آيتين في الطبعة القديمة، وكون الحروف المقطعة من سورة البقرة رقَّمت آية في الطبعة الحديثة فأصبحت عدد آيات السورة مائتين وخمساً وثمانين.
وهو بهذا يؤكد -من حيث يدري أو لا يدري- سلامة النص القرآني، وعصمته من التحريف، على مدى قرون الإسلام كلها؛ إذ غاية ما عدَّه فروقاً جوهريةً لم يكن إلا تغييراً في موضع ترقيم الآية دون المساس بالمحتوى في قليل أو كثير.
الأمر الخامس: دعوى الأخطاء النَّحوية في القرآن مدفوعة بما تقدم في الأمر الأول من الرد المجمل (1).
الأمر السادس: دعوى دلالة القرآن على صحة العقائد النصرانيّة (2) يدفعها ما تقدم في الأمر الرّابع من الرد المجمل (3)، وفيه تصريح القرآن الكريم بتكفير معتنقي عقيدة التثليث، وهي العقيدة التي تجمع عليها طوائف النّصارى.
وكم في القرآن من النكيرِ على هؤلاء في غلوهم في عيسى بن مريم عليه السلام، وتجنيهم على الرب العظيم حين جعلوا له الولد، وإعلانِ المسيح براءته يوم القيامة ممن اتخذه وأمَّه إلهين من دون الله.
وكم فيه من بيانِ توبة آدم عليه السلام، وقبولِ الله تعالى لها، وأنّه لا تزر وازرة وزر أخرى. وفي هذا نسف لعقيدة الخطيئة الأولى، التي تؤمن بها كلُّ الطوائف النصرانيّة.
وفي الكتاب العزيز بيان مساواة عيسى بن مريم عليه السلام في مهمة البلاغ لباقي إخوانه
(1) انظر صفحة 218، وللاستزادة في كشف هذه الدّعوى: انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 15/ 251 وما بعدها، ودفاع عن القرآن الكريم أصالة الإعراب ودلالته على المعاني في القرآن الكريم واللغة العربية؛ لمحمد حسن جبل، والرد على شبهات حول أخطاء إملائيّة في القرآن الكريم؛ لعبد الرحمن دمشقية.
(2)
لكبير الكنيسة القبطية الأرثوذكسية شنودة الثالث بحث في هذا الجانب. انظر ملخصه مع الرد عليه في كتاب (مواجهة صريحة بين الإسلام وخصومه)، لعبد العظيم المطعني، ص14 - 70. وله أيضاً كتاب (القرآن والمسيحية)؛ انظر ملخصه والرد عليه في كتاب (رد افتراءات المبشرين على آيات القرآن الكريم)، لمحمد جمعة عبد الله، ص94 - 199.
(3)
انظر صفحة 221.
النبيين والمرسلين، وأنّه لما مُكر به رفعه الله إليه. وفي هذا نسف لعقيدتي الصَّلب والفداء، وهما -كذلك- محل إجماع الطوائف النصرانية.
ويدفعه -كذلك- الأمرُ الخامس من الردِّ المجمل (1)، وفيه أنّه لا يُقبل استدلالهم بالقرآن وفي عقيدتهم أنّه كتاب باطل، ليس هو كلام الله تعالى. ومع هذا نبين الرد على ما أوردوه.
فالاستدلال بمدح الله تعالى للتوراة والإنجيل على صحة ما فيهما اليوم أمرٌ غيرُ مسلّم، فإنّه -وإنْ كان المسلم يؤمن بإنزال الله هذين الكتابين- إلا أنّه يعتقد بتحريفهما وبنسخ القرآن لهما، بدلالة القرآنِ الكريم نفسِه الذي استدلوا به، وأنّ المدحَ منصرفٌ إلى أصل الكتابين المنزلين قبل تسلل اليد البشرية المحرِّفة الآثمة إليهما، وقبل نسخهما بالقرآن.
وعلى هذا المعتقد سار علماء التّفسير، ولهذا قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} (2)؛ قال: «{هدى للنّاس} أي في زمانهما» (3).
ويدل على ذلك إخبارُ القرآن الكريم بتحريف أهل الكتاب للتوراة والإنجيل، ونهيُ النبي صلى الله عليه وسلم وغضبُه الشديد لما رأى بيدِ عمرَ رضي الله عنه شيئاً من التوراة.
وأمّا الاستدلال بأمر اليهود والنصارى بتحكيم التوراة والإنجيل، وإقامتهما، والوعيد الحسن لهم إن هم فعلوا ذلك؛ فبيانه كالتّالي:
أولاً: الأمر بتحكيم التوراة يريدون به قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (4).
وهذه الآية لها سبب نزول. ذلك أنّ اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أنّ
(1) انظر صفحة 222.
(2)
سورة آل عمران، الآيتين 3 - 4.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير 2/ 5.
(4)
سورة المائدة، الآية 43.
رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما تجدون في التّوراة في شأن الرّجم؟» ، فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه (1):"كذبتم إنّ فيها الرّجم"، فأتوا بالتّوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرّجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام:"ارفع يدك"، فرفع يده فإذا فيها آية الرّجم، فقالوا:"صدق يا محمّد، فيها آية الرّجم"، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما (2).
وعليه؛ فالأمر في حادثة معينة وليس على إطلاقه. بل وفيه دليل على أنّ اليهود كانوا
ينسبون إلى التّوراة ما ليس فيها ولو لم يكن ممّا أقدموا على تبديله (3)، وهو نوع من أنواع التحريف.
ثانياً: وأمّا الأمر بتحكيم الإنجيل فيريدون به قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4).
والمعنى هنا يحتمل أمرين.
أولهما: أنّ النصارى كانوا مأمورين بتحكيم الإنجيل في زمانهم.
والثاني: «ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، وممّا فيه البشارة ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم والأمر باتّباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
(1) هو عبد الله بن سلام بن الحارث. من خواص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة، وتوفي سنة ثلاث وأربعين. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 2/ 413 - 426.
(2)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب قول الله تعالى (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهو يعلمون)، ح3635، ص894. ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا، ح1699، 2/ 812.
(3)
انظر: فتح الباري، ابن حجر 12/ 172.
(4)
سورة المائدة، الآية 47.
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}» (1).
ثالثاً: وأمّا الوعيد الحسن لأهل الكتاب إنْ هم أقاموا التوراة والإنجيل، فالمقصود به قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (2).
وفي هذه الآية ترتيب النّعيم على إقامة التوراة والإنجيل، «ومن إقامتهما الإيمان بما دَعيا
إليه، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم، أي: لأجلهم وللاعتناء بهم {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} أي: لأدرَّ اللهُ عليهم الرزق، ولأمطرَ عليهم السماء، وأنبتَ لهم الأرض» (3).
رابعاً: وأمّا أمرُ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالرجوع لأهل الكتاب عند الشك فالمقصود به قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (4).
وفي تمام الآية ما يجلي الأمر ويرفع الاشتباه. فنص الآية بالتمام هو الآتي: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} . والمقصود من التنبيه لسؤال أهل الكتاب تثبيت المؤمنين بأنّ أهل الكتاب عندهم البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم.
نقل ابن كثير عن بعض أئمة التّفسير قولَهم: بَلَغَنَا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا أشكّ ولا أسأل)، ثمّ قال: «وهذا فيه تثبيتٌ للأمّة، وإعلامٌ لهم أنّ صفة نبيّهم صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب
(1) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 126 - 127. والشّاهدين -على الترتيب- آية 68 من المائدة، وآية 157 من الأعراف.
(2)
سورة المائدة، الآية 66.
(3)
انظر: تفسير ابن سعدي، ص238 - 239.
(4)
سورة يونس، من الآية 94.
المتقدّمة الّتي بأيدي أهل الكتاب، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (1) الآية.
ثمّ مع هذا العلم يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم، يُلبِّسون ذلك ويحرّفونه ويبدّلونه، ولا يؤمّنون به مع قيام الحجّة عليهم» (2).
خامساً: وأمّا الاستدلال بآية التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ .. } فقد تقدمت الإجابة عليه (3).
وهكذا فكلُّ ما يُورد من دلالة القرآن العزيز على صحة الديانة النصرانيّة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم متهافت لا يثبت عند التمحيص، وأنّ المقصود به تصحيح الدّيانتين باعتبار أصلِ ما أَرسل الله به موسى وعيسى عليهما السلام، ومن جملته الأمر باتّباع محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (4).
الأمر السّابع: الطعن في قصص القرآن الكريم من حيث تكرر شيء منها فيما بقي من الكتب السّابقة؛ يدفعه ما تقدم تقريره في المطلب الأول من هذا المبحث (5).
ويضاف له تقريرُ اختلاف قصص القرآن عن قصص الكتب السّالفة في المنهج، والهدف، والتفرد، والتصحيح.
فمنهج قصص القرآن يركِّز على الدلائلِ الواقعيّة، والإعراضِ عن التفصيلات التاريخيّة كأسماء الأشخاص، وذكر الزّمان والمكان. بينما قصص التوراة والإنجيل تجنح للخيالِ القصصي، والإغراقِ في التفصيلات التّاريخية.
(1) سورة الأعراف، من الآية 157.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير 4/ 296.
(3)
وذلك في المبحث الثالث من الفصل الأول، انظر صفحة 137.
(4)
للاستزادة في هذا الموضوع؛ انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام (2/ 285 وما بعدها إلى آخر الجزء)، وحول القرآن الكريم والكتاب المقدس لهاشم جود (الفصل الأول من الكتاب)، وفضيحة المبشرين في احتجاجهم بالقرآن المبين لعبد الله الحسني، وافتراءات المنصرين على القرآن أنه يؤيد زعم ألوهية المسيح عليه السلام لعلي بن عتيق الحربي، وتنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين لمنقذ السّقّار ص171 - 193.
(5)
انظر صفحة 205.
وعندما تهدف قصص التوراة والإنجيل لمجرد السرد التاريخي؛ تجمع القصص القرآنية أهدافاً سامية، كالاستدلال على التوحيد، وتثبيت الرسول والمؤمنين، والفصل في مواضع الاختلاف، والعظة والاعتبار، والحجة والإقناع، وإظهار قدرة الله تعالى.
وينفرد القرآن بقصص لم تذكر في غيره، كقصة صالح وشعيب وهود والخضر وذي القرنين، إضافةً إلى التفاصيل الجزئيّة داخل القصص التي أوردتها الكتب الأخرى.
وعندما يكرر القرآن قصةً وردت في التوراة والإنجيل فإنّه لا يكرر ما فيها من أخطاء كتبتها يد التحريف، بل يصححها بحقائق أتت مكتشفات علماء الآثار والحفريات والعلم الحديث بتأييدها (1).
وأمّا تفاصيل ما سيق من مطاعن في تفصيلات بعض قصص القرآن فبيانه كالتّالي:
أمّا تعليم آدمَ الأسماء كلها فهو خبرٌ من الله تعالى لم يرد تفصيله، فيوقن المسلم بصدقه، ولا يخوض في تكلف المراد بهذه الأسماء، موقناً بقدرة الله على كل شيء. ولعل الله جل جلاله ألقى في قلب آدم عليه السلام علمَ مسميات الأشياء. ونظيرُ ذلك في القدرة كثير، ومنه خلق آدم من غير أب أو أم، فالموجد الأشياء من عدم؛ لا يكون إلقاؤه علم مسميات الأشياء في روع أحد من خلقه؛ شيئاً بعيداً.
وأمّا قصة موت نبي الله سليمان عليه السلام، فإنّها من أخبار الغيب، ومن مظاهر قدرة الله تعالى، والله على كل شيء قدير. وقد عمّى الله على الجانّ المسخرين لسليمان في الأعمال الشّاقة موته ليتبين للجن والإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب؛ وإلا ما لبثوا في العذاب الشديد مدة موته عليه السلام وهو متوكئٌ على منسأته (2).
على أنّ هذه المدة لم يرد في القرآن والسنة تحديدها.
وليست هذه المعجزة بأكبر من تحويل العصا حيّة، أو تفجير اثنتي عشرة عيناً بضربة
(1) انظر: ماذا يريد الغرب من القرآن لعبد الراضي عبد المحسن، ص185 - 197. وتنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين لمنقذ السّقّار، ص70 - 71.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير 6/ 501 - 503، والمنسأة هي العصا.