الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالاستعمار) (1)، كان التَّنصير منصباً في الغالب لخدمة الجوانب السياسيّة والعسكريّة.
وفي بعض الأماكن والبلدان يدفع المنصِّرَ إلى عمله حماستُه الدينية لإنقاذ المدعوين من دينونة الخطيئة، ومنحِهم البشارةَ والسعادة في الحياة وبعد الممات باتباع الإنجيل والدخول في مملكة الرب المخلص يسوع كما يعتقد.
ويوجد مَن دفعته النّوازعُ الشخصيّة، أو الأطماعُ الدنيويّة إلى ممارسة العمل التّنصيري.
وفي المجتمعات النَّصرانيَّة يكون الهدفُ تثبيتَ النصراني وتقويةَ إيمانه والحيلولةَ بينه وبين سماع رسالة الإسلام الحقّة النّقيّة من شوائب التحريف والتشويه، أو أي دعوة دينية أخرى. وهكذا في أوساط التجمعات النَّصرانيَّة داخل البلاد الإسلاميّة أو غيرها.
وفي المجتمعات غير النَّصرانيَّة يهدف العمل التَّنصيري لوقف المد الإسلامي، ووقف انتشار أي دين آخر.
وهذا التَّفصيلُ لا ينفي اجتماع أكثر من دافع، أو الاستفادة من العوامل الأخرى.
المطلب الثالث: وسائل التَّنصير
يقسم كثير من الباحثين الوسائل التَّنصيريَّة إلى مباشرة وغير مباشرة.
ويعنون بالمباشرة، تلك المتمثلة في الدعوة الشخصية التي يقوم فيها المنصِّر بالتحدث مع من يستهدفه، ومحاولة إقناعه بالدخول في النَّصرانيَّة.
ومن أشكالها -كذلك- إقامة المناظرات الدينيّة.
(1) درج كثير من الكتّاب على تسميتها بحروب الاستعمار. وهذه المفردة تعني البناء والتشييد واستخراج ثروات الأرض لأجل نفع السّكان، كما في قوله تعالى على لسان صالح عليه السلام مذكِّراً قومه بنعم الله تعالى:{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (سورة هود، من الآية 66). ولقد كان احتلال بلاد المسلمين -في غالبه- نهباً لخيراتها، ونشراً لما يُفسد العقائد والأخلاق، فكان تسميته بالاستخراب أولى. وترى الموسوعة الميسرة أن التسمية بالاستعمار مغالطة وتشويش على المعنى الحقيقي، والأولى أن يسمى استعباداً لا استعماراً. انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة 2/ 954. على أنّ استخدامهم لمفردة الاستعباد فيه نظر.
وأما الوسائل غير المباشرة فهي ما يكون عبر التطبيب، أو التعليم، أو المطبوعات، أو الوسائل الإعلامية، أو الخدمات الاجتماعية، أو المؤتمرات والمراكز التَّنصيريَّة، أو غيرها (1).
ويرى الباحث أنّ أهم الوسائل التي نُشِر التَّنصير عبرها هي خمس وسائل:
الوسيلة الأولى: الخدمات الطبيّة
حينما تذهب الإرسالية التَّنصيريَّة إلى بلد لا يوجد فيه طبيب واحد؛ لتعرض تقديم الخدمات الصحيّة؛ فإنّ حاجة النّاس ستجعلهم يتقبلون هذا الزائر ويتعاملون معه (2).
وبهذا المدخل وجدت البعثات الطِّبيّة ترحيباً بها في أوساط المجتمعات الأخرى. ومع مرور الوقت تشكلت قناعة المنصِّرين بأنّ هذه الوسيلة يجب أنْ تُعطى الأولوية، وتكاثرت أقوالهم في تأييد هذا التّوجه، ولا سيَّما وهم يرون في ذلك سيراً على نهج المسيح عليه السلام وتلامذته من بعده، في تقديم العلاج للمرضى.
ولهذا يقول صموئيل زويمر: "إنَّ جميع العاملين في ميدان التَّبشير في الجزيرة العربية متفقون على أن الطبيب القدير والجراح الماهر يحمل جوازاً يفتح الأبواب المغلقة"(3).
وهكذا قام المنصرون بإنشاء المستشفيات، والمراكز الصحية الثابتة والمتنقلة، وتزويدها بالأطباء والممرضين والفنيين من الجنسين ممن تم تأهيله سلفاً للعمل التَّنصيري.
ولهذا نجدهم في المؤتمرات يوصون بالتركيز على العمل الطبي (4).
الوسيلة الثانية: الخدمات التعليميّة
تؤكد أقوال كثير من المنصِّرين على أنَّ التعليم هو أحد أهم الوسائل التي استخدمت في
(1) وهذا التقسيم ليس على إطلاقه؛ فوسيلة الشّبكة العالميّة يمكن أن يمارس فيها التَّنصير بشكل مباشر، وذلك بالتقنيات التي تتيح اللقاء المباشر بالصوت والصورة بين المنصِّر وبين من يُريد دعوته.
(2)
وهذا ما حدث في البحرين مثلاً سنة 1892م. انظر: أصول التَّنصير في الخليج العربي؛ زيجلر، ص35.
(3)
انظر: التَّبشير في الخليج العربي؛ عبدالمالك التميمي، ص76.
(4)
أوصى المنصِّر هاربر في مؤتمر القاهرة التَّنصيري عام 1906م بوجوب الإكثار من الإرساليات الطبية لأنَّ رجالها يحتكون دائماً بالجمهور ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمنصرين الآخرين. انظر: الغارة على العالم الإسلامي؛ شاتليه، ترجمة الخطيب واليافي، ص23.
التَّنصير، والتي يجب الاستمرار في تسخيرها لخدمة العمل التَّنصيري.
يقول ميلر بروز (1): «لقد أدى البرهان إلى أنَّ التعليم أثمن وسيلة استغلها المبشرون الأمريكيون في سعيهم لتنصير سورية ولبنان» .
ويقول منصِّر آخر: «إنَّ التعليم في مدارس الإرساليات المسيحية إنما هو واسطة إلى غاية فقط؛ هذه الغاية هي قيادة الناس إلى المسيح وتعليمهم حتى يصبحوا أفراداً مسيحيين وشعوباً مسيحيّة» (2).
وهكذا انطلق المنصِّرون ينشؤون المدارس والمعاهد والكليات والجامعات (3)، ويبثون المعلمين المنصِّرين فيها، ويستقبلون الطلاب المبتعثين للدراسة في البلاد النَّصرانيَّة، ويحاولون الإسهام في صياغة مناهج التعليم في البلدان المستهدَفة بالتَّنصير، إلى غير ذلك من صور التَّنصير عبر الخدمات التعليمية.
الوسيلة الثالثة: الوسائل الإعلاميّة
قد يكون الإعلام اليوم هو السّلاح التَّنصيري الأول. ففي ظل طغيان العولمة الإعلاميّة ربما صار ممكناً الوصول إلى معظم النّاس عبر الإذاعة أو التلفاز أو الشبكة العالميّة.
ولهذا فليس من المستغرب قيام العشرات من الهيئات والمنظمات النَّصرانيَّة في بلاد شتّى بإنشاء المحطات الإذاعيّة، والتخطيط لها، وتبادل الخبرات والاستشارات، وعقد المؤتمرات والندوات، والدورات التأهيليّة للكوادر العاملة في هذه المحطات، وإجراء البحوث والدراسات على المستمعين بغرض تقييم البرامج الإذاعية (4).
(1) هو رئيس قسم لغات الشرق الأدنى وآدابه، وأستاذ الفقه الديني الإنجيلي بجامعة "ييل". عمل أستاذاً بجامعة "براون"، وأستاذاً زائراً بالجامعة الأمريكيّة في بيروت، وله عدة مؤلفات. انظر: قالوا عن الإسلام، عماد خليل، هامش ص51.
(2)
انظر: التَّبشير والاستعمار؛ فروخ وخالدي، ص66 - 67.
(3)
استقرأ الباحث عبدالعزيز البداح، في رسالته للماجستير، حال المدارس الأجنبيَّة في البحرين، وخلص إلى أنَّ هذه المدارس قامت بجهود تنصيريَّة كبيرة. انظر: المدارس الأجنبيّة في الخليج واقعها وآثارها دراسة ميدانيَّة، ص282 - 283.
(4)
انظر: الإذاعات التَّنصيريَّة الموجهة إلى المسلمين العرب؛ كرم شلبي، ص63.
وليس بغريب –كذلك- أن تكون هناك العديد من القنوات الفضائية التَّنصيريّة التي تبث باللغة العربيّة (1)، وبعضها يبث على أقمار صناعيّة عربيّة.
وأمّا الجهد التَّنصيريّ عبر شبكة المعلومات العالميّة فهو كبير جدًّا، ولعل هذا البحث يُسهم في بيان شيء من جوانبه (2).
الوسيلة الرابعة: المطبوعات
أدرك المنصِّرون ما للكلمة المطبوعة من أثر في نفوس المدعوين يعمل على تغيير قناعاتهم وهز ثوابت عقائدهم.
ولهذا سعوا في بث ترجمات كتابهم المقدس، وعملوا على طباعة الكتب الدينيّة والكتيبات والنشرات التعريفيّة والدّعويّة الموجّهة للمدعوين على اختلاف أعمارهم (3).
وهكذا نجدهم في كل مكان يستهدفونه يهتمون بإقامة المكتبات، وتوزيع الأناجيل بأعداد كبيرة.
وهم –كذلك- ينشئون قاعات للمطالعة في مؤسساتهم التَّنصيريَّة كالمستشفيات والمخيمات، ويسيرون المكتبات العائمة على متن السفن؛ كسفينة (لاغوس) التي ترسو أحياناً في مرافئ الخليج وتعلن عن معرض كتاب متنوع تباع فيه الأناجيل والمطبوعات التَّنصيريَّة بأسعار زهيدة (4).
ومن طرقهم –كذلك- استئجار من يكتب مقالات في الصحف العربيّة، أو إنشاء صحف خاصّة بهم (5).
(1) انظر: الفضائيات العربيّة التَّنصيريَّة؛ تركي الظفيري، ص52.
(2)
رسالة الباحثة إنعام عقيل –وعنوانها: أبرز المواقع التَّنصيريَّة عبر شبكة المعلومات العالميّة- أبانت الجهود التَّنصيريَّة عبر مواقع الشبكة. وقد طبعتها مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1428هـ.
(3)
بعض هذه المطبوعات مخصصة للأطفال، مثل:"قصص التوراة مصورة للعيون الصغيرة". انظر: التَّبشير المسيحي في الخليج العربي، دنفر، ص14.
(4)
انظر: التَّبشير المسيحي في منطقة الخليج العربي؛ أحمد فون دنفر، ص37.
(5)
مثل صحيفتي بشائر الإسلام، والشرق والغرب. انظر: حقيقة التَّبشير بين الماضي والحاضر، أحمد عبدالوهاب، ص168.
ولهم اهتمام بالمجلات التَّنصيريَّة، ولعل أهمها مجلة العالم الإسلامي، التي لا تزال تصدر منذ قرابة مائة سنة.
الوسيلة الخامسة: الخدمات الاجتماعيّة
اهتم المنصِّرون كثيراً بهذه الوسيلة، وسخروها في تحقيق أهدافهم. فأنشؤوا المخيمات والمعسكرات وبيوت الطلبة وملاجئ الأطفال، وخصصوا بيوتاً للفتيات المطلقات والأرامل الصغيرات. وأقاموا الأندية الناشطة بالحفلات والمحاضرات وليالي السّمر. وهناك المطاعم ودور السينما وبيوت الرذيلة. ولهم اهتمام بالمشاريع الزراعية وتربية الدواجن ومخالطة مجتمع المزارعين. ولهم إسهام في المشروعات الصناعية، ومخالطة الحرفيين في مصانعهم. ولبعضهم توجه في تزويج النصرانيات من المسلمين بغية التأثير عليهم. إلى غير ذلك من صور الخدمات الاجتماعيّة (1).
وبعد استعراض هذه الوسائل يجدر الإشارة إلى وجود غيرها، كالمؤتمرات التَّنصيريَّة التي تراجع آليات العمل التَّنصيري من حين لآخر. وكالمراكز المعنية بالدراسات والتدريب لخدمة هذا المجال. وكأسلوب صانعي الخيام الذي يتسلل من خلاله المنصِّرون تحت لباس المهن الطبيّة والتعليميّة والحرفيّة وغيرها (2). وكالأعمال الإغاثيّة التي تستغل في الدعوة للنصرانيّة في كثير من الأحيان.
ولعل آخر الوسائل التي سخرت لخدمة العمل التَّنصيري هي شبكة المعلومات العالميّة. ولهذا يجيء هذا البحث لدراسة جوانب استخدام الخدمات التفاعليّة للشبكة من أجل نشر النَّصرانيَّة والدعوة إليها.
ومن المناسب إيراد تعريف موجز بهذه الوسيلة، وذلك في المبحث التّالي.
(1) انظر: التَّنصير في القرن الإفريقي ومقاومته، سيد أحمد علي، ص126 - 138.
(2)
لمعلومات أكثر حول هذا الأسلوب؛ يمكن الرجوع إلى: التنصير مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته، علي النملة، ص73 - 106. والتغلغل الصليبي في منطقة الخليج، أحمد فون دنفر، ترجمة سالم المولى، ص9 - 15.