المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الرابع: الرد على الشبه - التنصير عبر الخدمات التفاعلية لشبكة المعلومات العالمية

[محمد بن موسى المجممي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التَّمهيداهتمام المنصِّرين بوسيلة شبكة المعلومات العالميّة

- ‌المبحث الأول: التَّعريف بالتَّنصير

- ‌المطلب الأول: تعريف مصطلحات: التَّنصير، التَّبشير، الكرازة

- ‌المطلب الثاني: أهداف التَّنصير

- ‌المطلب الثالث: وسائل التَّنصير

- ‌المبحث الثاني: التَّعريف بشبكة المعلومات العالميّة

- ‌المبحث الثالث: أدلَّة اهتمام المنصِّرين بالشبكة

- ‌المطلب الأوّل: أسباب اهتمام المنصِّرين بالشبكة العالميّة

- ‌المطلب الثّاني: الأدلَّة القوليَّة

- ‌المطلب الثالث: الأدلة العمليَّة

- ‌الفصل الأولطرق التّنصير عبر الخدمات التّفاعليّة

- ‌التمهيد: اهتمام المنصِّرين بالخدمات التّفاعليّة

- ‌المطلب الأول: التَّعريف بالخدمات التّفاعليّة

- ‌المطلب الثاني: أسباب اهتمام المنصِّرين بالخدمات التّفاعليّة

- ‌المطلب الثالث: دلائل اهتمام المنصِّرين بالخدمات التّفاعليّة

- ‌المبحث الأول: التنصير عبر المنتديات الحواريّة

- ‌المطلب الأول: التَّعريف بالمنتديات الحواريَّة

- ‌المطلب الثاني: مدخل إلى المنتديات التنصيريّة

- ‌المطلب الثالث: المنتديات التي تعرض الديانة النصرانيّة

- ‌المطلب الرّابع: المنتديات التي تتعرض للإسلام

- ‌المبحث الثاني: التنصير عبر المجموعات البريديّة

- ‌المطلب الأوّل: التَّعريف بالمجموعات البريديّة

- ‌المطلب الثاني: مدخل إلى المجموعات البريديّة التنصيرية

- ‌المطلب الثالث: جوانب التنصير في المجموعات البريديّة

- ‌المبحث الثالث: التّنصير بواسطة خدمات المحادثة

- ‌المطلب الأوّل: التَّعريف بخدمات المحادثة

- ‌المطلب الثاني: أنموذج للتنصير عبر خدمات المحادثة

- ‌المطلب الثالث: جوانب التّنصير في غرف المحادثة

- ‌المطلب الرابع: منهج التّنصير في غرف المحادثة

- ‌المبحث الرّابع: التنصير بواسطة مواقع الشّبكات الاجتماعيّة

- ‌المطلب الأوّل: التَّعريف بالشّبكات الاجتماعيّة

- ‌المطلب الثاني: أنموذج للتنصير عبر الشّبكات الاجتماعيّة

- ‌المطلب الثالث: التنصير من خلال موقع الفيسبوك

- ‌المبحث الخامس: التنصير بواسطة مواقع مشاركة الملفات المرئيّة

- ‌المطلب الأوّل: التَّعريف بخدمة مشاركة الملفات المرئيّة

- ‌المطلب الثاني: أنموذج للتنصير عبر خدمة مشاركة الملفات المرئيّة

- ‌المطلب الثالث: التنصير من خلال الملفات المرئيّة في اليوتيوب

- ‌المطلب الرابع: التنصير من خلال التعليقات في اليوتيوب

- ‌المطلب الخامس: منهج التنصير عبر موقع اليوتيوب

- ‌الفصل الثانيأبرز شبه المنصرين عبر الخدمات التفاعليّة، والرد عليها

- ‌تمهيد: بث الشبهات؛ أولى الخطوات التنصيرية

- ‌المطلب الأول: تعريف الشبهة لغة واصطلاحاً

- ‌المطلب الثاني: دلائل سعي المنصرين لبث الشبهات

- ‌المطلب الثالث: بواعث سعي المنصرين لبث الشبهات

- ‌المبحث الأول: أبرز الشبه حول القرآن الكريم، والرد عليها

- ‌المطلب الأول: موقف القرآن من الكتب السّابقة

- ‌المطلب الثاني: أبرز الشبه حول القرآن الكريم

- ‌المطلب الثالث: المناهج المتبعة في طرح هذه الشبه

- ‌المطلب الرابع: الرد على الشبه

- ‌المطلب الخامس: مناقشة الشبه في ضوء الكتاب المقدس

- ‌المبحث الثاني: أبرز الشبه حول النبي صلى الله عليه وسلم، والرد عليها

- ‌المطلب الأول: إرسال الرسل، وحال أقوامهم معهم

- ‌المطلب الثاني: أبرز الشبه حول النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: المناهج المتبعة في طرح هذه الشبه

- ‌المطلب الرابع: الرد على الشبه

- ‌المبحث الثّالث: أبرز الشّبه حول السّنة النّبويّة، والرّدّ عليها

- ‌المطلب الأول: تعريفُ السّنّة، وبيانُ مكانتها

- ‌المطلب الثاني: أبرز الشبه حول السنة

- ‌المطلب الثالث: المناهج المتبعة في طرح هذه الشبه

- ‌المطلب الرابع: الرد على الشبه

- ‌المبحث الرّابع: أبرز الشبه حول التشريع الإسلامي، والرد عليها

- ‌المطلب الأول: المقصود بالتّشريع الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: أبرز الشبه حول التشريع الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: المناهج المتبعة في طرح هذه الشبه

- ‌المطلب الرابع: الرد على الشبه

- ‌الفصل الثالثواقع مواجهة التّنصير عبر الخِدْمات التفاعليّة

- ‌تمهيد: استفادة المسلمين من الشَّبكة في الذّبّ عن الدين

- ‌المطلب الأول: جوانب استفادة المسلمين من وسيلة الشبكة

- ‌المطلب الثّاني: ضوابط الدّعوة في الخدمات التفاعليّة

- ‌المبحث الأول: المواجهة باستخدام المنتديات الحواريّة

- ‌المطلب الأول: المُنتدياتُ المقتصرةُ على عَرض الإسلام

- ‌المطلب الثّاني: المنتديات التي تتعرض للنصرانيّة

- ‌المطلب الثّالث: تقييم المواجهة عبر المنتديات

- ‌المبحث الثاني: المواجهة عبر المجموعات البريديّة

- ‌المطلب الأوّل: محتويات المجموعات البريديّة الإسلاميّة

- ‌المطلب الثّاني: تقييم المواجهة عبر المجموعات البريديّة

- ‌المبحث الثالث: المواجهة عبر خدمات المحادثة

- ‌المطلب الأوّل: مدخل إلى غرف المحادثة الإسلاميّة

- ‌المطلب الثاني: محتوى النِّقاش في الغرف الإسلاميّة

- ‌المطلب الثالث: تقييم المواجهة عبر خدمة المحادثة

- ‌المبحث الرّابع: المواجهة عبر الشبكات الإجتماعيّة

- ‌المطلب الأول: نشر الإسلام من خلال شبكة الفيسبوك

- ‌المطلب الثاني: مواجهة التنصير من خلال شبكة الفيسبوك

- ‌المطلب الثّالث: تقييم المواجهة من خلال شبكة الفيسبوك

- ‌المبحث الخامس: المواجهة عبر مواقع مشاركة الملفات المرئيّة

- ‌المطلب الأوّل: مواجهة التنصير من خلال الملفات المرئيّة في اليوتيوب

- ‌المطلب الثّاني: مواجهة التنصير من خلال التعليقات التفاعليّة في اليوتيوب

- ‌المطلب الثّالث: تقييم المواجهة من خلال مواقع مشاركة الملفات المرئيّة

- ‌الخاتمة

- ‌أولاً: النتائج

- ‌ثانياً: التَّوصيات

- ‌قائمة المصادر والمراجع

- ‌أولاً: الكتب

- ‌ثانياً: مواقع الشّبكة العالميّة

- ‌ثالثاً: البرامج الالكترونيّة

- ‌رابعاً: المجلات

- ‌خامساً: المواد الصوتيّة

الفصل: ‌المطلب الرابع: الرد على الشبه

‌المطلب الرابع: الرد على الشبه

يمكن الرد على جدليات النّصارى حول الجوانب التّشريعيّة بشكلٍ مجملٍ، وآخرَ

مُفَصّل.

المسألة الأولى: الرد المجمل، ويقال فيه ما يلي:

إذا سلّم المناقَش بالردود التي سيقت في المباحث الثلاثة المتقدمة في هذا الفصل، فأقر بأنّ القرآنَ الكريم كتابُ الله المنزل، ومحمداً صلى الله عليه وسلم نبيُّ الله المرسل، والسّنّةَ وحيٌ ثان، فإنّ هذا يستلزم التسليم بكل جوانب التشريع الإسلامي؛ إذ هي مستمدة من الوحيين، مبلغة بواسطة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

وعندها لا يكون لاعتراض معترض على شيء منها حظ من النّظر.

وأمّا إذا لم يسلم بذلك -وهو الغالب- فيُسلك معه منهجُ الرد التفصيلي وفق الآتي.

المسألة الثانية: الرد المفصل، ويقال فيه ما يلي:

الفرع الأول: الرد على الشبهة الأولى

خلاصة هذه الشّبهة قولهم أنّ الإسلام دين قام على معاداة الأمم الأخرى، وإرهابها، وتخويفها، وإذلالها، ثمّ كرّس هذه المعاني في الكتاب والسّنّة.

أول الأسئلة المهمة هنا هي التساؤل عن سمة العلاقة بين المسلمين وغيرهم، أهي قائمة على الحرب، أم على السلم؟

درس الباحث عبد الله الطريقي هذه المسألة باستفاضة في رسالته لدرجة الدكتوراه، وخلُص إلى أنّ علماء الإسلام انقسموا في إجابة هذا السؤال إلى قسمين، ولكلٍّ أدلته.

فرأى الجمهور أنّ الأصلَ في علاقة المسلمين مع من عداهم الحربُ حتى يسلموا أو يبذلوا الجزية.

ورأى آخرون أنّ الأصل السلم، ولا يصار إلى الحرب إلا عند الضرورة، بأن يعتدى

ص: 319

على المسلمين، فيجب عليهم صد العدوان عن أنفسهم وبلادهم.

ثم قال الباحث بعد استعراض أدلة الفريقين: «وبالمقارنة بين الأدلة يبدو أنَّ ثمة تقارباً في قوة كل منهما وضعفه، الأمر الذي يجعل ترجيح أحدهما عسيراً» (1).

ثم رأى في ترجيحه التفصيل في الأمر، بحيث تكون العلاقة سلميّةً قبل بلوغ الدعوة وأثناءها، وفي حالة التجاوب معها. وتكون حربيّةً إذا بلغت الكفارَ الدعوةُ فوقفوا منها موقف العداء والعناد والصّدّ (2).

ولعلّ هذا هو الأقرب لأنّ المقصود الأعلى من جهاد الطلب إبلاغ الدعوة، وإزالة ما يحول بين المسلمين وإيصالَ رسالة الدين إلى العالمين (3).

ولأنّ مجردَ الكفر ليس موجباً للقتل بل مبيحاً له، بدليل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الكفار من النساء والولدان والشيوخ الكبار والرهبان والعبّاد.

والأصلُ أنّ الدماءَ معصومةٌ محفوظة، لا تزهق لمجردِ المخالفةِ في المعتقد.

وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن يدعوهم، ولم يرسل معه جيشاً.

ولم يُعهد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أجبر أحداً على الإسلام، وقد كان يساكنه في المدينة اليهود، فيتعامل معهم بالبيع والشراء، ويجيب دعواتهم، ويأكل من طعامهم، ويعود مرضاهم. ثم وفد عليه وفد نصارى نجران فجادلهم ولم يكرههم على الإسلام، بل ترك لهم حرية التدين، وإدارة شؤون كنائسهم، مع التزامهم بدفع الجزية لقاء حماية المسلمين لهم، حيث لا مجال لمشاركتهم في مهام الدفاع عن ديار المسلمين التي يعيشون فيها.

ولم يُعهد كذلك عن الصحابة ولا التابعين أن أجبروا أحداً في فتوحاتهم على الإسلام، بل يُترك الكتابيُّ على دينه، ويُلزم دفعَ الجزية.

(1) انظر: التعامل مع غير المسلمين، الطريقي، ص124.

(2)

المرجع السّابق، ص128.

(3)

وهو ما رجّحه أيضاً الباحث محمد خير هيكل، في كتاب "الجهاد والقتال في السياسة الشرعية" 3/ 1705، وهو في الأصل رسالة دكتوراه.

ص: 320

ثم إنّ الآيات والأحاديث دلّت على بقاء الكفر في الأرض إلى قرب قيام السّاعة حين

ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، فكانت المساعي لإبادة الكفر وأهله خلاف سنّة الله القدريّة.

ويكفي في هذا قول الباري جل جلاله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1).

إنّ الأمة الإسلامية هي في هويتها الأصليّة أمّة عقيدة ودعوة، وهذه الدّعوة إلى العقيدة هي مِلاك صلتها بالأمم الأخرى، تلك الصلة القائمة على منهج متكامل؛ القتالُ أحدُ عناصره الدّائرة مع مصلحة الدّعوة وجوداً وعدماً (2).

ومن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله، لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه (3).

وأمّا النصوص التي استدل بها أصحاب هذه الشبهة لتشويه صورة الإسلام، وتنفير النّاس منه، باعتباره -وفق رؤيتهم- دينٌ يحث أتباعه على إهانة المخالفين وإذلالهم، وإرهابهم وتخويفهم، إلى أن يتحقق المقصود الأهم وهو قتلهم وإبادتهم، فالجواب عنها يحتاج إلى بسط، وذلك في النقاط التّالية.

أولاً: المقصود بالصّغار في آية التّوبة هو جريان أحكام الإسلام على أهل الكتاب إذا قوتلوا فأبوا الدّخول في الإسلام.

ذلك أنّ الأرضَ أرضُ الله، والإسلامَ دينُه، والعزةَ لله ولرسوله وللمؤمنين.

ومردُّ هذه العزة لا لاعتبار عنصري أو غيره، وإنما المحك اتباع شرع الله تعالى. فلو اتبعه نصرانيٌّ أو يهوديٌّ أو وثنيٌّ أو غير ذلك؛ كان من جملة المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، لا فرق إلا بالتّقوى.

(1) سورة الممتحنة، الآيتين 8، 9.

(2)

انظر: ما هي علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى؟، أحمد الأحمد، مجلة الجامعة الإسلامية، العدد السّادس والعشرون.

(3)

انظر: السياسة الشرعيّة في إصلاح الرّاعي والرّعية، ابن تيميّة، ص159.

ص: 321

وقد ورد في بعض التّفاسير صورٌ من الإذلال والإهانة والتحقير، إلا أنّ هذه الأقوالَ ضعيفة، لا يسندها دليل صريح في الكتاب أو السنّة.

فالرّاجح في معنى الصّغار هو جريانُ أحكام الإسلام عليهم، وإلزامُهم تسليم الجزية بأيديهم لا أنْ يرسلوا بها غيرهم، ليتحقق إقرارهم الفعلي بعلو الإسلام على ما عداه من الأديان.

وهذا المعنى هو الذي رجحه كبار المحققين، وهو المتوافق مع تعاليم الإسلام وأخلاقه الرّفيعة (1).

قال ابن القيم رحمه الله -بعد أن ذكر روايات صنوف الإهانة والإذلال-: «وهذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصّحابة أنهم فعلوا ذلك.

والصّوابُ في الآية أنّ الصّغار هو التزامهم لجريان أحكام الملّة عليهم، وإعطاء الجزية، فإنّ التزام ذلك هو الصّغار» (2).

ثم إنّ في قصةِ وفدِ نصارى نجرانَ ما يُبين الهدي النبوي في التعامل مع أهل الكتاب، وليس فيه شيء من معاني الصغار غير ما تقدم ترجيحه.

فقد كتب لهم النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً أنهم آمنون على أنفسهم، وملّتهم، وأرضهم، وأموالهم، وأنّ الإسلام لا يغير شيئاً مما كانوا عليه، فلا يتدخل في توليةِ أو عزلِ راهب أو أسقف، ولا يعاقب أحداً بظلم غيره.

ثم أرسل معهم أبا عبيدة رضي الله عنه (3) لأخذ الجزية منهم، ولم يأمره بشيء فيه تحقير أو إهانة

(1) للقرطبي رحمه الله كلام جميل في تفصيل أحكام الجزية في الإسلام، وبيان ما فيها من عدالة وتسامح. انظر: الجامع لأحكام القرآن 10/ 161 - 172.

(2)

انظر: أحكام أهل الذّمة، ابن القيم 1/ 120 - 121.

(3)

هو أبو عبيدة، عامر بن عبد الله بن الجرّاح. أحد السّابقين الأولين، وأحد العشرة المبشرين، وأمين هذه الأمّة، وصاحب المناقب الجمّة. رضيه أبو بكر يوم السقيفة مع عمر بن الخطاب ليختار المسلمون أحدهما للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان من جمعة القرآن، ومن الموصوفين بحسن الخلق والحلم والتواضع. ولي الشّام زمن عمر فكان آية في العدل والزّهد. مات في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 1/ 5 - 23.

ص: 322

لهم (1).

والمتأمل في هذه الآية التي استدلوا بها يجد أنّ قتالَ الكفار وإبادَتهم ليس غايةً في الإسلام، إذ لو كان كذلك ما اكتفي بأخذ الجزية من أهل الكتاب وتركهم على دينهم.

ثانياً: وأمّا آيات سورة البقرة، من قوله تعالى:{واقتلوهم حيث ثقفتموهم} ، فإنّ الموردين لهذه الشّبهة يجتزئون هذا المقطع ليصوروا للسّامع حثّ الإسلام على قتل المخالفين في الدين أيًّا كانوا، في كل مكان وزمان، وفي كلِّ الأحوال.

كما يصورون أنّ سفك دماء الكفار، وإبانة رقابهم عن أجسادهم، غايةٌ يحث الإسلامُ أتباعَه على تحقيقها.

والأمر فيه من التدليس والخداع ما يَبين للمتأملِ الطالبِ للحق.

فإنّ هذه الآياتِ نزلت في مشركي قريش، بدلالة قوله تعالى:{وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} ، فقد أخرجوا المسلمين من ديارهم في مكة، ووقفوا منهم موقف الحرب، فحث الله تعالى عباده على مقاتلة هؤلاء في كل مكان عدا المسجد الحرام ما لم يبدأ الكفار بالقتال فيه.

ومع هذا فقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات أنّ المقصود من القتال في سبيله ليس سفك الدماء وأخذ الأموال، بل إظهارُ دين الله تعالى على سائر الأديان، ودفعُ كل ما يعارضه من الشرك وغيره، فإذا حصل هذا المقصود فلا قتل ولا قتال (2).

ثم إنّ من يورد هذه الشبهة يتعامى عن الآية التي سبقت هذه الآيات، وهي قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3).

ففي هذه الآية بيانٌ لأخلاقيّات الجهاد الإسلامي، وذلك في اقتصاره على مقاتلة من

(1) انظر: نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة، أحمد علي عجيبة، ص158.

(2)

انظر: تفسير ابن سعدي، ص89.

(3)

سورة البقرة، الآية 190.

ص: 323

يقاتل، دون غيره ممن لا يستحق القتل كالنساء والصبيان والشيوخ والعُبّاد، وغيرهم ممن لا يشترك في القتال، فإنّ التعرض لهم يعد اعتداءً.

ويدخل في الاعتداء، مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها، فإنّ ذلك لا يجوز (1).

وبهذا يتضح المقصود من الآيات، وينكشف التدليس.

ثالثاً: وأمّا آية الأنفال، فقد اجتزأها بعض المستدلين بها عن سياقها، واكتفى بعضهم بمفردة واحدة منها هي كلمة (تُرهبون)، ثم بنوا على ذلك أنّ الإسلام دين إرهاب، مستفيدين من شيوع هذه الكلمة في السّنوات الأخيرة، وإنكارِ العامّة لها لما غرس في العقول من ربط بينها وبين فئام من المسلمين يعتدون على الآمنين قتلاً وترويعاً.

إنّ المتأمل لسياق الآية وما قبلها وما بعدها يتضح له أنّها نزلت في حق الكفار المحاربين.

فيأمر الله تعالى المؤمنين أن يعدوا لأعدائهم الكفار الساعين في هلاكهم وإبطال دينهم؛ كلَّ ما يقدرون عليه من القوّة العقلية، والبدنية، وأنواع الأسلحة، ونحو ذلك، مما يعين على قتالهم (2).

وأمّا غير المحارب فلا يدخل في هذا، بدليل الآية التي بعدها، حيث يأمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم؛ متى مال الكفار المحاربون إلى الصلح وترك القتال، أن يجيبهم إلى ما طلبوا، متوكلاً على ربه (3).

قال الشيخ ابن سعدي في فوائد إجابة الكفار إلى الصلح عند أمن غدرهم: «ومنها: أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضاً، وتمكن كلٌّ من معرفة ما عليه الآخر، فإنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان، لحسنه في أوامره ونواهيه، وحسنه في معاملته للخلق والعدل فيهم، وأنّه لا

(1) انظر: تفسير ابن سعدي، ص89.

(2)

المرجع السّابق، ص324 - 325.

(3)

المرجع السّابق، ص325.

ص: 324

جور فيه ولا ظلم بوجه، فحينئذ يكثر الراغبون فيه والمتبعون له» (1).

وبهذا يتضح كمالُ الإسلام، وعدلُه، وسماحتُه، وشمولُ أحكامه لسائر الحالات من حرب أو سلم.

رابعاً: وأمّا حديث (أمرت أن أقاتل النّاس) فهو حديث صحيح، إلا أنّه ليس على عمومه، لورود أدلة أخرى تعارض العموم.

وقد أجيب عن التعارض الظاهر بإجابات منها: احتمال نسخ الحديث بالآية التّاسعة والعشرين من سورة التّوبة.

ومنها أنّ المراد بالنّاس؛ المشركون والوثنيون دون أهل الكتاب، فيكونُ من باب العام الذي يراد به الخاص.

ومنها أنّ المقصود بالقتال؛ نفسُه أو ما يقومُ مقامه كالجزية والصلح.

ومنها -وقد استحسنه ابن حجر- أنّ الغرض من ضرب الجزية إلجاء الكفار إلى الإسلام، وسببُ السببِ سببٌ، فكأنّه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا بما يؤديهم إلى الإسلام (2).

خامساً: وأمّا استدلالهم بحديث (أعطيت خمساً)، وفيه النّصر بالرعب، فمرده جهلهم بالكتاب الذي يقدسونه.

فإنّ فيه شواهدَ كثيرةً تُبين أنّ الله ينصر أولياءه بإلقاء الرّعب في قلوب أعدائهم.

ومن ذلك النّصّ التّالي من سفر الخروج: (مَن مِثلك بين الآلهة يا رب؟ مَن مِثلك معتزاً في القداسة مخوفاً بالتّسابيح صانعاً عجائب؟، تمد يمينَك فتبتلعهم الأرض، تُرشد برأفتك الشعبَ الذي فديته، تهديه بقوتك إلى مَسكن قدسك، يسمعُ الشعوبُ فيرتعدون، تأخذُ الرعدة سكانَ فلسطين، حينئذ يندهش أمراء أدوم، أقوياءُ مواب تأخذهم الرجفة، يذوبُ

(1) المرجع السّابق، نفس الصّفحة.

(2)

انظر: التعامل مع غير المسلمين، الطريقي، ص116 - 117.

ص: 325

جميعُ سكان كنعان) (1).

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نصر بالرّعب مسيرة شهر على المعادين لدين الله تعالى، فإنّ هذه العقوبة قد سلطت على بني إسرائيل لسنوات، كما في نص المزامير:(فأَفنى أيامَهم بالباطل وسنيَّهم بالرعب)(2).

والأمر على كل حال كرامة ثابتة لأولياء الله، وعقوبة ثابتة في حق أعداء الله.

وقد ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك وقد نصره الله على الرّوم بالرّعب فجبنوا عن ملاقاته (3).

سادساً: وأمّا حديث (فاضطروهم إلى أضيقه)، فهو صورة أخرى لما سبق ذكره من أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين القائمين بشرعه أيًّا كانوا.

فمن آمن واتبع كان حقيقاً بالإكرام والاحترام، ومن كفر لم يكن أهلاً لشيء من ذلك.

فلا يُكرم الكافر بأن يُبدأ بالسّلام، أو يترك له وسط الطريق، ولكنْ متى سلّم شُرع الرّد عليه، وقد اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلّموا، ولكنْ بعبارة (وعليكم)(4).

وليس في هذا الحديث تشريع لإيذاء غير المسلم والاعتداء عليه.

ولذا يقول القرطبي في شرح هذا الحديث: «معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيِّق إكراماً لهم واحتراماً، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حَرَفِه حتى يضيق عليهم، لأنّ ذلك أذى

(1) الخروج 15: 11 - 15. والشواهد كثيرة غير ما ذكر، كما في التثنية 11: 25، وأخبار الأيام الثّانية 14: 11 - 14، وأستير 8: 17، وغيرها. (والنصوص من ترجمة الفانديك)

(2)

المزامير 78: 33. (ترجمة الفانديك)

(3)

انظر: شرح سنن ابن ماجة، مغلطاي الحنفي 1/ 694. (طبعة مكتبة نزار الباز، ط1، 1419هـ، حسب فهرسة المكتبة الشّاملة).

(4)

انظر: شرح صحيح مسلم، النووي 14/ 144.

ص: 326

لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب» (1).

سابعاً: وأمّا الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه، فإنّ الذين يوردونه من النّصارى يسلكون به مسلك التعميم؛ كعادتهم.

فيصورون للسّامع أنّ هذا الخليفة الرّاشد، الذي يفهم حقيقة تعاليم الإسلام، يدعو إلى إهانة وتحقير وإذلال النّصارى.

وحقيقة الأمر خلاف ذلك، فإنّ أبا موسى الأشعري رضي الله عنه اتخذ كاتباً نصرانيًّا، زمن ولاية عمر رضي الله عنه، فأمره بعزله وتولية كاتب مؤمن. وما ذلك إلا لأنّ هذا العمل له أهميته وخطورته.

قال الشيخ صالح الفوزان (2) - معلقاً على هذا الأثر وغيره-: «ومن هذه النصوص يتبيَّن لنا تحريم تولية الكفار أعمال المسلمين التي يتمكَّنون بواسطتها من الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم» (3).

وليس في الأمر شيء يتعلق بالعنصريّة أو غيرها، بل المسلمون -بفضل الله- لديهم الميزان الواضح الذي يَفصل في الأمور، وهو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ولهذا فإنّه في حادثة مشابهة، كتب عمر بن عبد العزيز (4) رحمه الله إلى أحد عمّاله الذين اتخذوا كاتباً نصرانيًّا: «أما بعد: فإنّه بلغني أنّ في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا

(1) انظر: فتح الباري، ابن حجر 11/ 40.

(2)

هو صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية. ولد سنة 1363هـ، ونال درجتي الماجستير والدكتوراه في الفقه من كلية الشريعة بالرياض. تقلد عدة مناصب، وله العديد من المؤلفات النّافعة. انظر ترجمته على موقع الإفتاء: www.alifta.com.

(3)

انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، صالح الفوزان، ص427.

(4)

هو أبو حفص، عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. كان ثقة مأموناً فقيهاً عالماً ورعاً عادلاً. ولي الخلافة سنة تسع وتسعين، ومات سنة إحدى ومائة بدير سمعان من أرض حمص. عُدَّ خامس الخلفاء الراشدين لسيره على طريقتهم، رحمه الله. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 5/ 114 - 148، والأعلام، الزركلي 5/ 50.

ص: 327

الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1)، فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسّان بن زيد - يعني ذلك الكاتب - إلى الإسلام فإنْ أسلمَ فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين. فأسلم حسّان وحسن إسلامه) (2).

الفرع الثاني: الرد على الشبهة الثانية

خلاصة هذه الشبهة الطعنُ في أهداف فريضة الجهاد في الإسلام، والقولُ بأنها متلخصة في إبادة الكافر، واغتنام نسائه وولده وماله وأرضه.

وقبل مناقشة هذه المقالة المتعلقة بأخلاقيّات الجهاد في الإسلام من حيث الغاية والأهداف؛ يحسن مناقشة أصل هذه الفريضة: هل هي ابتداع في الإسلام، أم امتداد للشرائع السّابقة؟

إذا قرأنا الكتاب النصراني المقدس وجدنا فيه أنّ الجهاد ضد الكفار فريضةٌ أوجبها الله على أنبياء بني إسرائيل، وذلك في نصوص كثيرة من سفر التثنية، وسفر الخروج، وغيرهما (3).

وفي القرآن الكريم خبر حوار موسى عليه السلام مع قومه بعد امتنان الله عليهم بإهلاك فرعون وجنوده، وكيف أنّه رغّبهم في القيام بفريضة الجهاد، ليتمكنوا من دخول الأرض المقدسة، لكنّهم جبنوا فعاقبهم الله بالتيه أربعين سنة.

وفيه خبر طلب الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى أن يرسل لهم ملِكاً يقودهم لجهاد أعدائهم الكفار، فأرسل الله لهم طالوتَ، فجبنوا واعترضوا عليه، ولم يثبت منهم إلا القليل، وكان فيهم داوود عليه السلام، الذي قتل جالوتَ، فكُتب لهم النصر.

(1) سورة المائدة، الآية 57.

(2)

انظر: أحكام أهل الذمة، ابن القيم 1/ 459.

(3)

انظر على سبيل المثال: التثنية 20: 10 - 17، 7: 1 - 2، 13: 1 - 16، 17: 2 - 5، والخروج 23: 23 - 24، 34: 12 - 13، 22:20. وانظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي 4/ 1259 - 1270.

ص: 328

وعلى هذا فإنّ هذه الشعيرة فرضت في الإسلام كما فرضت في اليهوديّة والنصرانيّة من قبل، فلا وجه للاعتراض على أصل وجودها.

ثم الأمر الثاني الذي نناقشه هنا، الفرق بين أخلاقيّات الجهاد في الإسلام، وفيما سبقه من الأديان، مع التّركيز على اليهوديّة والنّصرانيّة وفق ما جاء في الكتاب المقدّس.

لقد أمر الله نبيه في الكتاب المقدس أن يعاملَ ستَّ قبائلَ بقتل كلِّ حيٍّ منهم بحد السّيف، ذكراً كان أم أنثى، كبيراً كان أم طفلا، بما يسمى في عرف النّاس اليوم الإبادة الجماعيّة (1). وأمّا باقي القبائل فيدعون إلى الصلح والطّاعة ودفع الجزية، فإن لم يذعنوا وجب جهادهم، وقتلُ كل ذكورهم، وسبيُ النساء والأطفال، ونهبُ الدواب والأموال، وتوزيعُها على المجاهدين.

يقول النص في الكتاب المقدس: (وإذا تقدمتَ إلى مدينةٍ لتقاتلها، فادعها أولاً إلى السِّلم، فإذا أجابتك بالسلم وفَتحت لك أبوابَها، فكلُّ القومِ الذي فيها يكونُ لك تحت السُّخرة ويخدِمك. وإن لم تسالمك، بل حاربتك، فحاصرتها، وأسلمها الربُّ إلهُك إلى يدك، فاضرب كلَّ ذكرٍ بحد السيف. وأما النساءُ والأطفالُ والبهائمُ وجميعُ ما في المدينة من غنيمة، فاغتنمها لنفسك، وكُلْ غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك إياها. هكذا تصنع بجميع المدن البعيدة منك جداً والتي ليست من مدن تلك الأمم هنا. وأما مدنُ تلك الشعوب التي يعطيك الربُّ إلهُك إياها ميراثاً، فلا تستبقِ منها نسمة، بل حرمهم تحريماً: الحِّثيين والأمُّوريين والكنعانيين والفَرِزِّيين والحُوِّيين واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهك)(2).

وفي نص العدد 33: 51 - 56، يأمر الله بني إسرائيل إذا تجاوزوا نهر الأردن أن يبيدوا كل سكّان الأرض، ويدمروا دور عبادتهم، ويكسروا أصنامهم. وهذا أيضاً شكل من

(1) عرّفت اتفاقيّة الإبادة الجماعيّة عام 1948م مفهوم الإبادة الجماعيّة بأنّه: "نية التّدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قوميّة أو إثنيّة أو عنصريّة أو دينيّة بصفتها هذه". انظر: قاموس الأمن الدولي، بول روبنسون، ص125.

ومن صور الإبادة الجماعيّة ما يسمى بالتطهير العرقي، وهو: سياسة إزالة جميع أفراد جماعة عِرقيّة معينة من منطقة معينة، وذلك بقتل أفراد الجماعة المستهدفة. انظر المرجع نفسه، ص110.

(2)

التثنية 20: 10 - 17.

ص: 329

أشكال الإبادة الجماعيّة للمخالفين في الدين، مع إفناء معبوداتهم ودور العبادة. وقد رجح بعض الباحثين أنّ هذا العدد الذي أبيد يقرب من الثمانين مليوناً (1).

ثم في سفر التثنية13: 1 - 16 توجيهٌ بقتل الكفار مع دوابهم بحد السّيف، وحرق قراهم وأمتعتهم وأموالهم بالنّار.

وهكذا فالتشريع الجهادي في العهد القديم مرعب، لا يعرف الرحمة، فهو يوجه بما يسمى اليوم الإبادة الجماعية والأرض المحروقة، ولا يستثني طفلاً أو امرأة أو شيخاً كبيراً، أو دار عبادة، بل يشمل حتى الدوابَّ والعجماوات.

وفي أحايين قليلة ينزل إلى مرتبة إبادة الذكور، واستبقاء النساء والأطفال للاستعباد.

وفي أجمل حالاته يقبل الصلح مع الإلزام بدفع الجزية (2).

وفي مقابل ذلك كانت غايات الجهاد في الإسلام، قمةً في الأهداف والأخلاقيّات. فالمقصود من الجهاد؛ طلباً كان أو دفعاً، تبليغ دين الله، ودعوة النّاس إليه، وإخراجهم من الظّلمات إلى النور، وإعلاء دين الله في أرضه، وأن يكون الدين كله لله (3).

وفي معركة القادسيّة حاور قائدُ الفرس المغيرةَ بن شعبة رضي الله عنه (4) قائلاً: "إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا"، فقال له المغيرة:"إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة".

ثم حاور ربعيَّ بن عامر رضي الله عنه، وسأله عن هدفهم من قتال الفرس، فقال له ربعي: "إنّ

(1) انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي 4/ 1262.

(2)

استعرض الدكتور محمد بن عبد الله السحيم، في بحثه "موقف اليهود والنّصارى من مخالفيهم من خلال كتابهم المقدس ومن خلال شواهد التّاريخ"؛ أحكام الحرب في تشريعات الكتاب المقدس المتسمة بالقسوة والفظاعة والبغي والتطاول والاعتداء، في مقابل تشريعات الجهاد في الإسلام المتسمة بالعدل والرّحمة والتسامح. انظر بحثه في مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة والدراسات الإسلامية، عدد 47، رجب 1430هـ، ص546 وما بعدها.

(3)

انظر: المقصود من الجهاد، عبد العزيز بن باز، مجلة الجامعة الإسلامية، العدد الثاني عشر.

(4)

هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتّب. من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة والدّهاء. شهد بيعة الرضوان، ومات سنة خمسين، عن سبعين سنة. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 3/ 21 - 32.

ص: 330

الله ابتعثنا لنخرج من شاء، من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نُفضي إلى موعود الله" (1).

إنّ الجهاد في الإسلام هدفه تبليغ الدّعوةِ كلَّ الناس، وأن يكون العلو والظهور والغلبة لدين الله في أرضه، ثم لا يُكره أحدٌ على الدخول فيه، فإنّ الكفر باق إلى قيام السّاعة.

والأصل في الإسلام عدم التشوف للقتال والقتل، ولذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم تمني لقاء العدو، وذلك حين تألبت الأحزاب لاجتياح المدينة، فقال:(أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السيوف)(2).

«لقد سبق الإسلامُ المدنيةَ المزعومة اليوم إلى سنِّ القوانين ووضع الضوابط التي تمنع الحروب والاقتتال ما أمكن، ثم إنْ وقعت واضطر المسلمون لخوض غمارها عني بكل ما من شأنه أن يُلطِّفَ من آثارها، ويحققَ ثمارها الداعمة للسّلام المستقبلي» (3).

ولما كانت أهداف الجهاد في الإسلام سامية؛ فقد كانت الوسائل أخلاقيّة.

فقد كاتب النبي صلى الله عليه وسلم ملوك عصره يدعوهم للإسلام، وتعهد بإبقاء من يسلم منهم في منصبه. وكان يتعامل مع رسل الملوك تعاملاً حسناً مع ما يبدر من بعضهم من تجاوز.

وقد حرص على إبرام العقود والمصالحات القاضية بتغليب السلم وتجنب الحروب، وكان يلتزم بها ولا يخفرها.

وكان يتثبت من الأخبار الواردة بنقض العهود مع بعض من عاهد، ثم ينبذ إليهم العهد إذا تيقن منهم نية الغدر.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه

(1) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير 1/ 1046.

(2)

رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب لا تمنوا لقاء العدو، ح3025، ص745. ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء، ح1742، 2/ 831.

(3)

انظر: أخلاقيات الحرب في السيرة النبويّة، صالح الشمراني، ص39.

ص: 331

من المسلمين خيراً، ثم قال لهم:(اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإنْ أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إنْ فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإنْ أبوا أنْ يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أنْ يجاهدوا مع المسلمين، فإنْ هم أبوا فسلهم الجزية، فإنْ هم أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، فإنْ هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم .. )(1).

ولقد أمَر النبي صلى الله عليه وسلم جيوشه ألا يتعرضوا لمسالم، أو عسيف -وهو الأجير-، وألا يقتلوا امرأة أو طفلاً أو شيخاً كبيراً أو عابداً. ولذا لما رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه أنكر وغضب.

ونهى عن التحريق بالنّار، وقال:(لا يعذِّب بالنّار إلا ربُّ النّار)(2)، بل غضب في إحدى مغازيه لما أخذ أحدُ الصحابة مِن عشِّ حمَّرةٍ بيضَها (3).

وكان يوجب الكف عمن يظهر إسلامه، ولو كان نطقه للشهادتين -في أغلب الظن- تحرزاً من السيف وقد علاه، كما في قصة أسامةَ؛ حبِّه وابنِ حبِّه، حين كان يردد عليه:(أقتلته بعد أنْ قال لا إله إلا الله)(4).

وبهذا العرض يتبين فرق ما بين الأخلاق الجهادية في الإسلام، وما في العهد القديم.

(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، ح1731، 2/ 828 - 829.

(2)

رواه أبو داوود، وصححه الألباني. انظر له: صحيح سنن أبي داوود 2/ 145.

(3)

رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه محقق الكتاب. انظر: الأدب المفرد، ت. خالد العك، ص116.

(4)

رواه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، ح4269، ص1045. ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، ح96، 1/ 57.

ص: 332

والواقع التطبيقي كرّس هذه الفروق فإنّ المسلمين في فتوحاتهم كانوا قبل القتال يدعون النّاس إلى الدخول في دين الله، فإن أرادوا البقاء على أديانهم طولبوا بدفع الجزية.

ثم كان الفاتحون يتمسكون بالإسلام، ويلتزمون به سلوكاً وعملاً وقولاً، ويُظهرون الفرح والتكبير إذا دخل كافر في الإسلام، ثم يحسنون معاملة أهل الذّمة، فيمكنونهم من البقاءِ على أديانهم، والاستمرارِ في ممارسة مهنهم وتجارتهم وفلاحتهم، مع إلغاء الامتيازات الطبقيّة، وتمكين كل صاحب حق من الحصول على حقه ولو كان خصمُه من المسلمين، بل لو كان أمير البلد.

كل هذا جعل أهل البلاد المفتوحة يقبلون على الإسلام، وإن لم يدخلوا فيه؛ شهدوا شهادة الحق بسماحته وعدله (1).

وأمّا النّصارى فكانت حروبهم على النقيض من ذلك، ولا سيما حروبهم الصليبيّة التي استمرت قرنين من الزمان، من سنة 490هـ إلى 690هـ، مدفوعةً بالنّزعة الصليبيّة بتحريض البابا أوربان الثاني، ومساعده بطرس النّاسك، ومتوجةً بمنح الجنود غفران الخطايا، وتعليقِهم الصليب الأحمر على الكتف الأيمن.

فلما دخلت الجيوش الصليبية بلاد المسلمين قتلت في أنطاكيةَ قرابة مائة ألف مسلم، وفي القدسِ ما يربو عن سبعين ألف مسلم، وهدّمت المساجد، وحرّقت المصاحف، وانتهكت الأعراض، ولم يفرق النصراني الصليبي بين مقاتل أو مدني في العرف السياسي اليوم (2).

وفي القرون الوسطى الأوروبية المظلمة أقامت الكنيسة الكاثوليكية محاكم التفتيش لإجبار النّاس على اعتناق الكاثوليكيّة، وفي حقيقة الأمر «لم يكن هناك جهد منظم من قِبَل أي ديانة للتحكم بالنّاس، ولاحتواء روحانياتهم أقوى من محاكم التّفتيش المسيحيّة .. التي

(1) انظر: انتشار الإسلام بالفتوحات الإسلامية زمن الرّاشدين، جميل عبد الله المصري، مجلة الجامعة الإسلاميّة، العددين: الحادي والثمانون، والثاني والثّمانون.

(2)

انظر: الحروب الصليبيّة، أحمد باقر وعبد الله مبارك، ص19 - 20.

ص: 333

حاولت إرعاب النّاس في سبيل الطّاعة» (1).

وقد شملت هذه المحاكم المخالفين للكاثوليكيّة داخل الدائرة النصرانيّة، ثم امتدت خارجها لتشمل المسلمين واليهود، مجبرة الكل على الطّاعة أو التعرض لصنوف التقتيل والتعذيب دون إعطاء المتهم فرصةَ الدفاع عن نفسه، فضلاً عن أن يكون هناك أمل للعفو عنه.

وقد شملت تلك الممارسات بعد سلب أموال المتهمين، التعذيبَ بالماء، والشويَ في أفران النّار، والرّميَ في حفرٍ مليئة بالأفاعي، وشقَّ البطون وإرسال الفئران لتحفر معدة المتهم ملحقة به آلاماً فظيعة، إلى غير ذلك من صنوف الرّعب والتنكيل (2).

والذي يستعرض الاستيلاء النصراني الكاثوليكي على القارة الأمريكيّة يجد من فظائع القتل والتعذيب والإجرام ما تشيب له رؤوس الولدان. وكل ذلك ارتكب باسم التبشير، كما في شهادة الراهب الاسباني الكاثوليكي "لاس كازاس".

يقول هذا الراّهب في شهادته: «لقد قتل المسيحيون كل هذه الأنفس البريئة، وفتكوا كل ذلك الفتك باسم الدين .. وكم من جرائم ارتكبوها باسم التبشير ..

لقد ظل الأسبان طوال هذه السنين يكتبون، ويزعمون أنّ الله أرسلهم لفتح هذه البلاد التي كانت آمنة مطمئنة، وأنّ الله هو الذي نصرهم على هذه الأمم» (3).

ثم يحكي كيف كان ينظر المسيحيون إلى الهنود الحمر لا كما ينظرون إلى الحيوانات، بل أقل قدراً، وكيف أنهم كانوا يُقَتَّلون قبل أن يُبَلَّغوا شيئاً عن المسيح (4)، وكيف نكَّل هؤلاء بسكان تلك البلاد بعد سرقة خيراتها، فبقروا بطون الحوامل، وأقاموا المشانق الجماعيّة، واغتصبوا النّساء، وكانوا يَقطعون أطراف الهندي ويرمونها للكلاب، أو يُرسلون عليهم الكلاب المفترسة تمزق أجسادهم، وربما انتزعوا الرضيع ورضخوا رأسه بالحجارة على مرأى

(1) انظر: الجانب المظلم في التّاريخ المسيحي، هيلين إليربي، ص91.

(2)

المرجع السابق، ص100.

(3)

انظر: المسيحية والسيف، لاس كازاس، ص10 - 11.

(4)

المرجع السابق، ص26.

ص: 334

من أمه، وربما أقاموا حفلات التحريق والشواء للهنود الحمر.

ونتيجة لذلك لما دُعي زعيم قبيلة إلى التنصر ليكون مصيره الجنة، سأل عن هذه الجنّة إنْ كان بها مسيحيون، فلما قيل له نعم، قال:"إنني أفضل دخول النّار على أن ألتقي بهم في الجنّة .. أرسلوني إلى النّار"(1).

هذا هو الفتح النصراني! فهل يقارن بالفتح الإسلامي الذي جعل بلداناً كثيرةً تدخل في الدين بدعوة شخص واحد، أو عدة أشخاص، لا يحملون إلا سلاح الإيمان والعقيدة في قلوبهم، والخلق الحسن في تعاملهم.

الفرع الثالث: الرد على الشبهة الثالثة

خلاصة هذه الشبهة الطعن في الحدود التشريعيّة في الإسلام، ووصفها بالقسوة والشدّة والبشاعة، وعدم توافقها مع احترام إنسانيّة المرء، في عصر سمت فيه مدركات البشر عن هذه العقوبات الوحشيّة إلى غيرها مما هو ألطف، كالسّجن أو الإلزام بأعمال تطوعيّة أو نحو ذلك، كما يقولون.

لقد اتخذ كثير من النّصارى تلك المقولة مدخلاً للتّنفير من الإسلام، وتبغيضه في نفوس النّاس، مسلمهم وكافرهم.

والحقّ أنَّ هذه العقوبات زاجرةٌ منفرةٌ من اقتراف ما رتب عليه من الجرائم، إلا أنّ هناك أسئلة رئيسيّة، متى نوقشت بتجرد؛ تبينت الحقائق وتكشفت.

أوّلها: هل انفرد الإسلام بتقرير هذه الحدود دون ما سبقه من الأديان السّماوية؟

والثّاني: هل تتضمن هذه التشريعات حِكَماً تفوق ما فيها من قسوة؟

والثّالث: أليس في العقل الصحيح والمنطق المستقيم والفطرة النّقية دلالة على صحة إقامة الحدود؟

(1) المرجع السابق، ص36.

ص: 335

والرّابع: إذا كان المسيح عليه السلام يقول: (من ثمارهم تعرفونهم. أيُجنى من الشوكِ عنبٌ أو من العُلَّيْقِ تين؟)(1)؛ فلنقارن بين المجتمعات التي طبقت الحدود الإسلاميّة، وتلك التي لم تطبقها، ولننظر في النتائج.

فأمّا السؤال الأول فقد كفانا الكتاب المقدس عند النّصارى -بوضعه الحالي- مؤونة الإجابة عليه.

ففي العهد القديم منه تشريع إقامة حد القتل على الزاني (2) واللائط (3) ومن أتى بهيمة سواءً كان رجلاً أو امرأة (4).

بل فيه قتل من سبّ أباه أو أمَّه (5)، أو تقرّب إلى جانّ (6).

وإن كان الزنا من ابنة كاهن فإنّها تحرق بالنّار (7).

كما يقام حدُّ القصاص؛ النَّفسُ بالنَّفس، والعينُ بالعين، والسِّنُّ بالسِّن، واليَدُ باليد، والرِّجلُ بالرِّجل، والحرْقُ بالحرق، والجُرح بالجُرح، والرَّضُّ بالرَّض (8).

وأمّا المرتد فإنّه يرجم بالحجارة حتّى يموت (9)، أو يذبح كما ذبح النّبي إيليا في وادي قيشون أربعمائة وخمسين رجلاً عبدوا العجل (10).

(1) متّى 7: 16، وليس معنى إيراد النصوص المذكورة على لسان المسيح عليه السلام الجزم بصحة نقلها عنه، لأنّ هذه الأسفار تفتقد إلى الأسانيد المتصلة إلى من نسبت إليه، سواءً كانت أسانيد صحيحة أو باطلة. وهذا باعتراف علماء النّصرانية، وعذرهم في ذلك ما مروا به من اضطهادات أوائل العهد النصراني.

(2)

اللاويين 20: 10 - 12

(3)

اللاويين 20: 13

(4)

اللاويين 20: 15 - 16

(5)

اللاويين 20: 9

(6)

اللاويين 20: 27

(7)

اللاويين 21: 9.

(8)

الخروج 21: 23 - 24، واللاويين 24: 19 - 20، والتكوين 9: 6 - 7، والعدد 35:16.

(9)

التثنية 13: 6 - 10، و17: 2 - 5.

(10)

الملوك الأول 18: 17 - 40.

ص: 336

فعلى هؤلاء قبل أنْ يسألوا عن تفسير العقوبات الجسديّة في الإسلام أن يفسروا ما في العهد القديم من أمثالها (1).

وعليهم أن يفسروا تفوقها في القسوة.

فالقاتل العمد في الإسلام يجوز لأوليائه أن يعفوا عنه ويأخذوا الدية، أو القصاص مثل ما فعل بالمقتول.

وأما الكتاب النصراني المقدس فإنّه يجازي القاتل بالقتل مع التمثيل بجثته، ولا يبيح العفو وأخذ الدّية (2).

وإذا اعترض المجادل على هذه الإيرادات بأنّها من العهد القديم، وقد نسخه العهد الجديد، فإنّ الذي قال بالنّسخ "بولس"، وأمّا صاحب الرسالة عيسى عليه السلام فقد قال -كما في إنجيل متّى، 5: 17 - 19: (لا تظنوا أني جئتُ لأبطل الشريعة أو الأنبياء، ما جئتُ لأبطل، بل لأُكْمِل. الحقَّ أقول لكم: لن يزول حرفٌ أو نقطةٌ من الشريعة حتى يَتمَّ كلُّ شيء، أو تزولَ السماء والأرض. فمن خالف وصيةً من أصغرِ تلك الوصايا وعَلَّم الناس أن يفعلوا مثله، عُدَّ الصغيرَ في ملكوت السموات. وأما الذي يعملُ بها ويعلِّمها فذاكَ يُعَدُّ كبيراً في ملكوت السموات).

فإن كانوا على دين "بولس" فليعترضوا، وإن كانوا أتباعاً للمسيح فيلزمهم كل ما في النّاموس، وهو شريعة موسى عليه السلام.

وتتمة النص السّابق من إنجيل متّى توضح هذا، فإنّ المسيح يقرر ما في التوراة من أحكام القصاص من القاتل، وتحريم الزنا، وتحريم أخذ أموال الغير بغير حق، والقصاص في الأعضاء؛ العين بالعين والسن بالسن، وغير ذلك. ثم يضيف عليها المسيح مفاهيم أوسع، مع الإبقاء على أصل الأحكام (3).

(1) انظر: أجوبة الأسئلة التشكيكيّة، عبد الرحمن بن حبنكة الميداني، ص83.

(2)

صموئيل الثّاني 4: 11 - 12، والعدد 35: 31 - 34.

(3)

انظر الإصحاح الخامس من إنجيل متّى، المسمّى موعظةَ الجبل، أو عظة يسوع الكبرى.

ص: 337

وأمّا إجابة السؤال الثّاني فتحتاج إلى بحوث ورسائل مستقلة، وقد كُتب فيها في القديم والحديث، ولكنْ لعل من اللازم هنا ذكر ومضات وخلاصات في هذا الشأن، وذلك في النقاط التالية.

أولاً: إنّ العقوبات المقررة في الإسلام تتلاءم مع المخالفات المرصودة لها، فيكون التخفيف فيما يقل ضرره وينحصر، والتشديد في المخالفات الخطرة، التي يؤدي التساهل فيها إلى انهيار الأخلاق، وفساد المجتمعات، ويتعدى ضررها إلى الأفراد والجماعات.

وهذا ما لا نجده في عقوبات الكتاب المقدس، حين يقرر -مثلاً- قتل من سبّ أحد والديه، أو تقرب للجان، أو يوجب قطع يد المرأة التي تمسك بعورة من يخاصم زوجها (1)!

ثانياً: إنّ الذي شرّع الحدود في الإسلام هو عالم الغيب والشّهادة، الخبير بمسالك النّفوس ودروبها، فجاءت لحكم عظيمة، منها الرّحمة بالمذنب حين يكون الحد كفّارة لما اقترف، والرحمة بالمجتمع حيث يسوده بتطبيق الحدود الأمن والبركة (2).

ثالثاً: الحدود في الإسلام محاطةٌ سلفاً بأسوار الوقاية، قبل أن تكون مُتبَعةً بأسواط العقوبة.

«وقاعدة التشريع التي لا تنخرم؛ أنّ الله سبحانه وتعالى إذا حرّم شيئاً حرّم الأسباب والدّوافع الموصلة إليه، سدّاً للذريعة، وكفّاً عن الوقوع في حمى الله ومحارمه، ليعيش في مجتمع مملوء بالإباء والشّمم، عن كافّة الرّذائل والطرائق الموصلة إليها» (3).

ففي الزنا -مثلاً- هناك وجوه من سدّ الذرائع، هي بمثابة الأحراز والحواجز بين المسلم والوصول لهذه الجريمة الأخلاقيّة؛ عدّ بعض المحققين منها عشرة أوجه (4).

(1) التثنية 25: 11 - 12

(2)

انظر: الحدود في الإسلام، جمعة علي الخولي، مجلة الجامعة الإسلامية، العدد 50 - 51.

(3)

انظر: الحدود عند ابن القيم، بكر بن عبد الله أبو زيد، ص106.

(4)

في المرجع السّابق نقل المؤلف كلام ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة، كما في صفحة 107 وما بعدها. والرسالة نفسها استوعبت كلام ابن القيم في حكم التشريع في إقامة حدود الزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة والردة وغيرها، وهي قيّمة جداً في بابها، ويحسن الرّجوع إليها.

ص: 338

وهكذا الحال مع باقي المعاصي المرتَّب عليها حدودٌ شرعية. وتفصيل هذا الأمر يحتاج لبحث مستقل.

رابعاً: ليست العقوبة في الإسلام غايةً في ذاتها، بدليل درء الحدود بالشبهات، والحث على الاستتار بستر الله لمن وقع في شيء منها، وبيان فضل من ستر مسلماً.

فالحدود المقدرة شرعاً تسقط ولا تقام عند وجود شبهة أو التباس بالفعل أو المحل، شريطة أنْ تكون الشّبهةُ قويةً، وأن لا تكون في حقوق العباد (1).

ومن وقع في شيء منها فتاب واستتر بستر الله كُفِي، بنص قوله صلى الله عليه وسلم:(اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها فمن ألمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)(2).

وقد جاء الحث على ستر المسلم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة)(3).

خامساً: يوفر الإسلام للمتهم الضمانات الكافية بحيث لا يؤخذ بشيء لا يستحق المؤاخذة عليه، أو لم يثبت عليه ثبوتاً قطعيًّا.

فلا يجوز تطبيق الحدّ إلا إذا كان مرتكب الجريمة بالغاً عاقلاً عالماً بالتّحريم (4).

وهناك من الضّوابط المشدّدة في إثبات هذه الجرائم على مرتكبيها ما يمنع وقوع الخطأ. ففي حالة الزنا -مثلاً- لا يقام الحد على الزّاني إلا إذا أقرّ به أربع مرات، أو شهد عليه أربعة شهود عدول رأوا فعل الزنا صريحاً بأم أعينهم.

وهكذا باقي الحدود.

(1) انظر: موسوعة القواعد الفقهيّة، محمد صدقي بن أحمد البورنو 5/ 97.

(2)

رواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وصححه الألباني. انظر له: السلسلة الصحيحة 2/ 267 - 268.

(3)

رواه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، ح2442، ص591. ورواه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ح2580، 1/ 1199.

(4)

انظر: الملخص الفقهي، الفوزان 2/ 416 - 417.

ص: 339

وإذا انتقلنا إلى السؤال الثالث، فإنّ العقل والمنطق والفطرة تؤيد أحكام العقوبات المفروضة في الإسلام.

فكيف تكون العقوبة عقوبةً إلا إذا كانت رادعة زاجرة؟!

وكيف يُقبل من الطّبيب بتر عضو من جسد المريض لاستبقاء باقيه، ولا يقبل القصاص من القاتل لاستبقاء باقي المجتمع؟!

وإذا كان الوالد يضرب ابنه لغرض التأديب فيُستحسن منه الفعل، فالحال نفسه مع جلد شارب الخمر، والقاذف، والزّاني غير المحصن، ونحو ذلك.

وكيف يأمن النّاس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم إذا لم تقم الحدود؟!

إنّ النّاظر إلى جريمة الزنا وما فيها من خلط الأنساب وإهلاك الحرث والنّسل، وفاحشة اللواط وما فيها من شذوذ واعتداء، وجريمة القذف وما ينتج عنها من تدنيس أعراض المسلمين وتلطيخ جانب الأبرياء وإشاعة الفحش في المجتمعات، وجريمة السُّكر وما ينتج عنها من إذهاب العقول ومقارفة المساوئ، وجريمة القتل والحرابة وما تذهبه من الأمن والاستقرار؛ ليحمد الله تعالى على ما شرّع من حدود وعقوبات زاجرة.

إنّ الذي يشفق على القاتل من حد السيف، ويتعامى عن المقتول الذي فقد حياته، وخلّف وراءه زوجة قد ترمَّلت، وأبناءً قد تيتَّموا، وحرموا مصدر أنسهم وإعالتهم؛ إنّه لشخص قد جانب الصّواب، وتنكّب سبيل العدل والإنصاف.

وأمّا التساؤل الرّابع فتجيب عنه الإحصاءات الرّقميّة.

توضِّح جداول مقارنات الجرائم في موسوعة ويكيبيديا تضاعف أعداد جرائم القتل في البلدان النصرانيّة عنها في البلاد الإسلاميّة، وخصوصاً تلك التي تطبق الحدود الشرعيّة (1).

والنّاظر في أعداد الجرائم في البلاد النّصرانيّة تهوله الأرقام. ففي الولايات المتحدة الأمريكيّة سقط أكثر من 666 ألف قتيل خلال ستة وثلاثين عاماً، من الفترة ما بين عام

(1) انظر: ar.wikipedia.org، مفردة: جريمة؛ تصنيف فرعي: قائمة الدول حسب معدل جرائم القتل.

ص: 340

1960م إلى 1996م، وفي عام 2006م لوحده كانت هناك أكثر من سبعة عشر ألف جريمة قتل (1).

وسجلت في تلك الدولة أكثر من تسعين ألف جريمة اغتصاب عام 2008م، هذا عدا الحالات التي لا يبلغ عنها، بحيث تشير الإحصاءات هناك إلى أنّ15 إلى 20% من النساء تعرضن لحالة اغتصاب واحدة على الأقل في حياتهن (2).

وطبقاً لإحصاءات الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية فإنَّ معدل الجرائم لديها كان: وقوع جريمةِ سرقةٍ عاديةٍ كل ثلاث ثوان، جريمةِ سطوٍ كل أربع عشرة ثانية، سرقةِ سيارةٍ كل خمس وعشرين ثانية، سرقةٍ مقترنة بالعنف كل ستين ثانية، جريمةِ اغتصابٍ كل ست ثوان، جريمة قتل كل إحدى وثلاثين ثانية (3).

ونتيجةً لهذا فإنّ هذا البلد يعد في مقدمة بلدان العالم من حيث عدد القابعين في سجونه، فقد تجاوز عددهم سبعة ملايين سجين مع نهاية العام الميلادي 2003.

وهكذا نجد أنّ الدول الإسلاميّة قد حُميت بفضل الإسلام من غلواء الجرائم التي تتهدد الأنفس والأعراض والأموال والعقول، مع ما فيها من تقصير في تطبيق الحدود، ولو أنّ الحدود الشرعيّة التي سنّها الإسلام طُبّقت لانحسرت أعداد الجرائم إلى أرقامٍ غايةٍ في القلة (4).

«وقد امتحن العالم الإسلامي تنفيذ العقوبات الرادعة، فكان ثمرةُ ذلك أمناً شاملاً، واستقراراً كاملاً، جعل مجتاز البادية الغريب يأمن على ماله ونفسه وعرضه من عاديات اللصوص والقتلة وسائر المجرمين، بعد أن كانت مليئة بالمخاوف الشديدة والجرائم

(1) انظر: en.wikipedia.org/wiki/Crime_in_USA#Prison_statistics

(2)

انظر: en.wikipedia.org/wiki/Rape_in_the_United_States_of_America

(3)

انظر: الإجرام العالمي وفشل العقوبات الوضعيّة، أكرم المشهداني، مجلة البيان، العدد 223 (برنامج إلكتروني).

(4)

يقول محمد قطب: «ويكفي أنْ نعلم أنّ حد السرقة لم ينفذ إلا ست مرات في أربعمائة سنة لنعرف أنها عقوبات قصد بها التخويف الذي يمنع وقوعها ابتداءً» . انظر له: شبهات حول الإسلام، ص155. ومع التحفظ على هذه الإحصائيّة التي أوردها الكاتب ولم يشر للمرجع؛ إلا أننا نجزم بأنّ التطبيق الصحيح للعقوبات إبّان القرون الإسلاميّة الأولى أدى إلى انحسار تلك الجرائم، وبالتّالي قلة مرات تنفيذ العقوبات. كما أنّنا نجزم أنّ هذا ما سيحصل في كل عصر ومصر يطبق فيه شرع الله، لأنّه من لدن حكيم خبير.

ص: 341

الشنيعة» (1).

قال الشيخ صالح الفوزان: «فلا تتم سياسة الملك إلا بزواجر عقوبات لأصحاب الجرائم، منها ينزجر العاصي ويطمئن المطيع وتتحقق العدالة في الأرض ويأمن النّاس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، كما هو المشاهد في المجتمعات التي تقيم حدود الله .. بخلاف المجتمعات التي عطلت حدود الله، وزعمت أنها وحشية، وأنها لا تليق بالحضارة المعاصرة، فحَرمت مجتمعاتها من هذه العدالة الإلهيّة، ومن نعمة الأمن والاستقرار» (2).

وقد خُدم هذا المجال -بحمد الله- بأبحاث وكتابات مطولة مفصلة يحسن الرجوع إليها (3).

وبهذا يتم الحديث عن أبرز الشّبهات حول بعض الجوانب التّشريعيةّ في الإسلام (4)، وبه ينتهي هذا الفصل، ويعقبه الفصل الأخير، في دراسة الجهد الإسلامي المقاوم للتّنصير عبر الخدمات التفاعليّة.

(1) انظر: أجنحة المكر الثلاثة، الميداني، ص541.

(2)

انظر: الملخص الفقهي، الفوزان 2/ 415 - 416.

(3)

للاستزادة حول الرد على الشبهات المثارة حول العقوبات الشرعيّة، انظر: أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، عبد الرحمن بن حبنكة الميداني، ص530 - 543. ودحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعيّة، عبد العزيز الفوزان، مجلة البيان، عدد 218. وشبهات حول الإسلام، محمد قطب، ص150 - 156.

(4)

ويجدر التنبيه هنا إلى أنّ الحديث عن مكانة المرأة في الإسلام؛ هو جانبٌ يكثر طرقه من قِبَل المنصرين في الخدمات التّفاعليّة للشّبكة. وقد تصدّى لبيان هذه الجوانب ثُلّة من العلماء والكُتّاب، فيحسن الرّجوع إلى ما كتبوا. ومن ذلك: شبهات حول المرأة لمحمد قطب، تحرير المرأة بين الإسلام والغرب لمحمد عمارة، المرأة بين شريعة الإسلام والحضارة الغربيّة لوحيد خان، تأملات حول مكانة المرأة في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام لعزيّة علي طه.

ص: 342