الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأزواجه حال الحيض، لتعطي معنى غير الذي فهمه سلفُ المسلمين وخلَفُهم.
وفي هذا المبحث ستجد مثالاً آخر عند مناقشة الشبه في المطلب الرّابع.
سادساً: من الأساليب المتبعة في كثير من الشبه تحميل النصوص فوق ما تحتمل، وتنزيلها على ما لا تدل عليه صراحة.
وقد تقدم في المبحثين السّابقين في هذا الفصل أمثلة على هذا المنهج.
وفي الشبه تجاه السّنّة النبويّة تطبيق لهذا المنهج أيضاً. فعلى سبيل المثال نصَّ بعضهم على
أنَّ حديث (إذا وقع الذّباب في شراب أحدكم .. )(1) يدل على وجوب غمسه وشرب ما وقع فيه، وأنّ مخالفة المسلم لهذا محرمة، لما فيها من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ومجانبة الاقتداء به.
ثمّ يرتب على هذا أنّه لو قدَّم المسلم لابنه -فلذة كبده- كوباً من اللبن فوقع فيه الذباب، وجب على الأب غمس الذباب بكامل جسمه في اللبن، وسقيه الولد ولو أبى تقذراً.
ثم تعميم ذلك إلى أنّ الإسلام في كثير من تعاليمه يخالف الفِطَرَ والأذواقَ المستقيمه (2).
المطلب الرابع: الرد على الشبه
يمكن الرد على جدليّات النصارى حول السّنّة النّبويّة بشكلٍ مجملٍ، وآخرَ مفصل.
المسألة الأولى: الرد المجمل، ويقال فيه ما يلي:
الأمر الأول: تقدم في المبحث السابق الخلوص إلى ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وسقوط المطاعن التي وجهت إليه.
ومقتضى هذا اعتقاد عصمته صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن ربه. فكل ما جاء به فهو الحق من عند
(1) انظر تفصيل الرد على هذه الشبهة في المطلب الرّابع، صفحة 308.
(2)
يتكرر طرح هذا في غرف الحوار النصرانيّة على البالتوك.
ربه جل وعلا، سواءً فهمه العقل واستوعبه، أو حار فيه ولم يبلغ فهم كنهه.
فمتى أقر المرء بثبوت النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وجب عليه التصديق بكل ما أخبر، وما لا تبلغه العقول منه فإنه يُوكل إلى عالم الغيب والشّهادة.
الأمر الثاني: ثبت في السّنّة الصحيحة تضليلُ النّصارى، وبيانُ كفرهم ومخالفتهم ما أَنزل الله على نبيه الكريم عيسى عليه السلام، وإثباتُ تحريفِهم كتابَهم وطاعتِهم الأحبارَ والرهبان في تحليل الحرام وتحريم الحلال، ونذكر من هذه الأحاديث ما يلي:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسُ محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي،
ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) (1).
وهذا الحديث صريح في كفر مَن بلغته رسالة الإسلام من اليهود والنّصارى ثم لم ينتقل مما هو عليه إليها، لأنّه حُكِم عليه بالخلود في النّار، ولا يخلَّد في النّار إلا الكافرون.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، ليوشكن أنْ ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)(2).
ووجه الدلالة من الحديث حُكْمُ عيسى عليه السلام بالإسلام، فيدل على نسخ رسالته برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن مظاهر ذلك كسر الصّليب، وقتل الخنزير، وعدم قبول الجزية ممن يريد دفعها ليبقى على دينه، بل يُلزم بالإسلام أو يقاتَل.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس بيني وبينه نبي - يعني عيسى عليه السلام وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجلٌ مربوع إلى الحمرة والبياض، بين ممصرتين (3)، كأنّ رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع النّاس ونسخ الملل بملته، ح153، 1/ 80.
(2)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب قتل الخنزير، ح2222، ص530. ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ح155، 1/ 80.
(3)
الممصَّرة من الثياب: التي فيها صفرة خفيفة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير 4/ 336.
يتوفى فيصلي عليه المسلمون) (1).
وهذا الحديث أصرح من الذي قبله في الدّلالة على أنّ الإسلام ناسخ لما قبله من الأديان، ومقتضى ذلك أنّ من بقي على دينٍ غيره كان كافراً.
الرّابع: قوله صلى الله عليه وسلم: (ستصالحكم الرّوم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً، فتنتصرون، وتغنمون، وتَسلمون، ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع رجلٌ من أهل الصليب الصليبَ، فيقول: غلب الصليب، فيغضبُ رجل من المسلمين، فيقومُ إليه فيدقُّه، فعند ذلك
تغدر الروم، ويجتمعون للملحمة) (2).
وفي هذا الحديث دليل على بطلانِ دين الصّليب، وهو النّصرانيّة، ومناقضتِه وعداوتِه للإسلام والمسلمين.
الخامس: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم غضب حين رأى مع عمر رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال:(أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي)(3).
فإذا كان موسى عليه السلام، وهو أحد أولي العزم من الرّسل، ملزمٌ باتباع دين الإسلام لو فُرض وجوده بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فغيره أولى. ويكون ما جاء به من الدين؛ منسوخاً بالإسلام، وما جاء به من كتاب؛ منسوخاً بالقرآن، ومن تمسك بالتوراة وما جاء به موسى عليه السلام، ولو فُرض بقاؤه كما أُنزل؛ يكون على ضلالة.
ثم يقال: هل بعد هذه الأدلة الصّريحة الصحيحة موضع لمن يقول بأنّ سنّة محمد صلى الله عليه وسلم تصحح النّصرانيّة، وتنظر إليها على أنّها سبيل حق ونجاة لمن أيقن بعقائدها وارتضاها ديناً؟!
الأمر الثالث: الدّين والعقل نعمتان من الله عز وجل، وإذا كان المصدر واحداً فإنّ العقل السليم يستبعد وجود التناقض بين ما يصدر عن المصدر الواحد.
(1) رواه أبو داوود وصححه الألباني. انظر له: صحيح سنن أبي داوود 3/ 32.
(2)
رواه ابن ماجة وصححه الألباني. انظر له: صحيح سنن ابن ماجة 3/ 340 - 341.
(3)
حديث حسّنه الألباني في إرواء الغليل 6/ 34، وقد سبق ذكره.
وعلى هذا سار الفهم الإسلامي. يقول شيخ الإسلام: «ما عُلم بصريح العقل لا يُتصور أن يعارضه الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يُعارضه معقول صريح قط.
وقد تأملتُ ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدتُ ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهاتٌ فاسدةٌ يُعلم بالعقل بطلانها، بل يُعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع ..
ووجدتُ ما يُعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث موضوع، أو دلالة ضعيفة، فلا يَصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟
ونحن نعلم أنَّ الرسل لا يخبرون بمحالات العقول بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته» (1).
الأمر الرابع: متى حمل الإنسان حقداً على صاحب رسالة فإنه يعاديه، ويحسده حسداً يحمله على تقبيح الحسن الذي يأتي منه، ولا يَسلم من ذلك إلا من تحلّى بخُلق الإنصاف. والإنصاف عزيز.
وقد ثبت حسدُ أهل الكتاب لأهل الإسلام: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (2).
إنَّ الموقف العدائي لكثير من النّصارى من الإسلام ونبيه؛ حملهم على مجانبة المنهج المنصف في النظر إلى الأشياء والمبادئ والأشخاص المخالفة في المعتقد.
وقد كان السّلف لا يأخذون بأقوال الأقران بعضهم في بعض؛ والجميع في دائرة المؤمنين، تحرزاً من غلبة الحسد الذي يُعمي عن رؤية سبيل الإنصاف والعدل (3)، فكيف
(1) انظر: درء تعارض العقل والنّقل، ابن تيميّة 1/ 147.
(2)
سورة البقرة، من الآية 109.
(3)
يقول الذهبي رحمه الله: «كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أنَّ عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئتُ لسردتُ من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم» . انظر له: ميزان الاعتدال 1/ 111.
الحال بمن جاء دينٌ يُصادم عقائدهم ويُسفِّه مذاهبهم؟!
وبعد هذه الجوانب الإجماليّة نأتي إلى تفصيل الرد.
المسألة الثانية: الرد المفصل، ويقال فيه ما يلي (1):
الأمر الأول: القول بأنّه صح في الحديث أنّ عيسى عليه السلام يأتي آخر الزّمان حَكَماً مقسطاً وديّاناً عادلاً؛ يحتاج إلى شيء من البسط.
ذلك أنّ المعتقد الإسلامي ينص على أنّ عيسى عليه السلام لما تآمر اليهود على قتله، ألقى الله شبهه على غيره، ورفع المسيح إليه، {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2).
ثم لا تقوم السّاعة حتى ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيَقتل المسيح الدّجال، ويُهلك الله بعد ذلك يأجوج ومأجوج، ثم «يتفرغ للمهمة الكبرى التي أُنزل من أجلها، وهي تحكيم شريعة الإسلام، والقضاء على المبادئ الضالة والأديان المحرفة» (3)، فيَكسر الصّليب، ويَقتل الخنزير ولا يَقبل إلا الإسلام.
ثم يطيب العيش في الأرض للمسيح والمؤمنين، ويبارَك لهم في الأرزاق، حتى يرسلَ الله عليهم ريحاً طيبةً تأخذ تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن، ولا يبقى إلا شرار الخلق فتقوم عليهم السّاعة (4).
(1) الرّدّ هنا على الشّبهات حسب ترتيب ورودها في مطلب الشّبهات.
(2)
سورة النّساء، الآيتين 157 - 158.
(3)
انظر: القيامة الصغرى وعلامات القيامة الكبرى، عمر الأشقر، ص264.
(4)
جل جمل المعتقد الإسلامي أُخذت من حديث النّواس بن سمعان رضي الله عنه، المروي عند مسلم، كتاب الفتن وأشراط السّاعة، باب ذكر الدّجال وصفته وما معه، ح2937، 2/ 1141 - 1143.
وأمّا المعتقد النصراني فإنّه يوافق في أنّ المسيح سيأتي آخر الزّمان، ويسمون هذا المجيءَ بالمجيء الثّاني، إلا أنهم يخالفون في سبب المجيء.
فالسبب عند جُلِّ الطوائف هو محاسبةُ المسيح للخلق ومجازاتُهم، وزادت طائفة من البروتستانت قضاءَ المسيح على أعدائه، وتحقيقَ الخلاص للمؤمنين به، وتحقيقَ الملك الألفي، ومعناه أنّ المسيح يملك مع أتباعه العالمَ ألف سنة مليئةً بالرّخاء والأمن وطيب العيش (1).
ومن هنا نفهم سبب إدراج كلمة (ديّاناً)، والقول بأنّها وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أنّ الأحاديث التي وردت في نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان لم تصفه بهذا الوصف، وإنما وصفته بأنّه إمام مقسط أو عادل، وحَكَمٌ مقسط أو عادل.
ففي الحديث المتفق عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)(2).
وفي رواية لمسلم: (إماماً مقسطاً، وحكماً عدلاً)(3).
وعند ابن ماجة: (حكماً مقسطاً، وإماماً عدلاً)(4).
وليس في الأحاديث أنّه يجيء ديّاناً للخلق، أي محاسباً مجازياً لهم، بل فيها أنّه يحكمُ بالقرآن والسّنّة، ويصلي خلف إمام المسلمين، ويحج ويعتمر، ويكسر الصّليب رمز النصرانيّة المحرّفة، ويقتل الخنزير، ولا يقبل الجزية من أحد، بل يفرض على الجميع الدّخول في الإسلام.
الأمر الثّاني: وأمّا القول بأنّه صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه أخبر بسجود الأنبياء لعيسى عليه السلام، ويدخل في ذلك سجود زكريّا أو روحه للمسيح، وأنّ هذا السّجود دليل على
(1) انظر: ملاحم آخر الزّمان عند المسلمين وأهل الكتاب وآثارها الفكريّة، ياسر الأحمدي، ص378 - 379، 392.
(2)
سبق تخريجه في الهامش الثاني، صفحة 292.
(3)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب نزول عيس بن مريم حاكماً بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ح155، 1/ 80 - 81.
(4)
رواه ابن ماجة وصححه الألباني. انظر له: صحيح سنن ابن ماجة 3/ 338.
ألوهيته، وعبادتهم له؛ فإنّ هذا كسابقه، لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن تأتي الأحاديث بمثله.
والّذي جاءت به الأحاديث هو تحريم سجود العبادة لغير الله، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)(1).
ودخل النّبي صلى الله عليه وسلم حائطاً من حوائط الأنصار، فإذا فيه جملان يضربان ويُرعدان، فاقترب
منهما، فوضعا جرانهما بالأرض، فقال من معه: نسجد لك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي أن يُسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي له أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما عظم الله عليها من حقه)(2).
وأمّا سجود الاحترام والتّوقير فقد كان جائزاً عند الأمم السّابقة، ولهذا سجد أهل يوسف له، كما في قوله تعالى:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} (3).
قال ابن كثير في تفسيرها: «أي: سجد له أبواه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر رجلاً ..
وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرِّم هذا في هذه الملة، وجُعل السجودُ مختصاً بجناب الرب سبحانه وتعالى ..
والغرض أنَّ هذا كان جائزاً في شريعتهم؛ ولهذا خروا له سجداً» (4).
ولعل صاحب هذه الشبهة عنى ما ذكره أحد المنصرين حين تكلم في قناة فضائيّة فذكر أنّ المصادر الإسلاميّة تُثبت أنَّ أمّ يحيى عليه السلام وكانت حاملاً به قالت لمريم بنت عمران: (إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك)، تعني عيسى عليه السلام.
(1) رواه الترمذي وصححه الألباني، انظر له: صحيح سنن الترمذي 1/ 593.
(2)
رواه الترمذي وابن حبّان والبيهقي، وحسّنه الألباني. انظر له: إرواء الغليل 7/ 54.
(3)
سورة يوسف، من الآية 100.
(4)
انظر: تفسير ابن كثير 4/ 412.
وهذه الرواية وردت في بعض التفاسير وغيرها، ولا دلالة فيها على ألوهية المسيح، فإنّ السجود عند تلك الأقوام كان من معانيه الاحترام والتقدير كما تقدم، وكما ورد في الكتاب النصرانيّ المقدّس في مواضع كثيرة، كسجود إبراهيم عليه السلام للملائكة، وسجود لوط عليه السلام للملكين، وسجود يوسف عليه السلام لأبيه، وسجود إخوته له (1).
ولو ذَكر هذا المنصر الرّواية كاملة لعرف جمهوره أنّها تصرّح بأنّ عيسى عليه السلام عبدٌ لله،
ونبيٌّ من جملة الأنبياء (2).
وكيف يصح ما أرادوا والرواية في كتابهم المقدس لا تبلغ حد السجود، وإنما اكتفت بقول:(ارتكض الجنين ابتهاجاً في بطني)(3)، بل إنّ يحيى لم يعرف عيسى-^- لما التقاه بعد أنْ أصبحا كبيرين، فكيف عرفه وهو جنين وسجد له (4).
الأمر الثّالث: وأمّا القول بأنّ عيسى عليه السلام وُصف في حديث صحيح بأنّه علاّم الغيوب؛ فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو اختلاق من قائله جزماً؛ لا أظنه سبق إليه.
وإذا تأملنا كتاب النّصارى المقدّس نجد فيه من النصوص ما يدل على أنّ المسيح لم يكن يعلم الغيب.
فإنّه لو كان يعلم الغيب ما جهل أنّ اليهود ومن معهم سيقبضون عليه ويقتلونه على الصّليب؛ كما في رواية الكتاب النصراني المقدس، فإنّ فيه:(ثم أبعد قليلاً وسقط على وجهه يصلي فيقول: يا أبت، إن أمكنَ الأمرُ، فلتبتعد عني هذه الكأس، ولكنْ لا كما أنا أشاء، بل كما أنت تشاء)(5).
وفي ذات الرّواية كان يسائل ربّه عن سبب تخلّيه عنه، فقد كان يظن أنّ ربّه سيجنبه هذه الكأس: (ونحو الساعةِ الثالثةِ صرخَ يسوعُ صرخةً شديدة قال: إيلي إيلي لما شبقتاني؟،
(1) التكوين 18: 2، 19: 1، 48: 12، 43: 26 (على التّرتيب). والأمثلة على ذلك كثيرة.
(2)
انظر: المستدرك على الصحيحين، الحاكم 2/ 697 - 698.
(3)
لوقا 1: 44.
(4)
انظر: رد ياسر جبر، على الرابط: www.ebnmaryam.com/vb/t14907.html
(5)
متّى 26: 39.
أي: إلهي إلهي لماذا تركتني؟) (1).
ولو كان يعلم الغيب ما جهل موعد قيام السّاعة، فقد قال عنها:(وأما ذلك اليوم أو تلك الساعة فما من أحد يعلمها: لا الملائكة في السماء، ولا الابن، إلا الآب)(2).
بل كان يجهل ما هو أقل من ذلك شأناً، فقد رأى شجرة تين من بعيد، وكان جائعاً،
فذهب إليها لعله يجد فيها ثمراً، ولم يكن إذ ذاك وقت إثمارها (ورأى عن بعدٍ تينةً مورقةً، فقصدها عساه أن يجد عليها ثمراً. فلما وصل إليها، لم يجد عليها غيرَ الورق، لأنَّ الوقتَ لم يكن وقتَ التين)(3).
وأمّا في الجانب الإسلاميِّ فإنّه لا يمكن أن يُطلِق مسلمٌ وصفَ "علاّم الغيوب" إلا على الله جل وعلا، دع عنك سيد الخلق ونبي الأمة صلى الله عليه وسلم.
فإنّ المتقرر المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أنّ الغيب لا يعلمه إلا الله، كما قال سبحانه:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (4).
والمسيح عليه السلام عندما يسائله ربه يوم القيامة عمن اتخذه وأمه إلهين من دون الله زاعماً أنّ المسيح أمره بذلك؛ يدفع التهمة عن نفسه -صادقاً- بقوله: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (5) فيصف ربّه بهذا الوصف مختصاً به دون سواه.
والذي جاءت به الأحاديث الصحيحة وَصْفَ عيسى عليه السلام بالعبودية والنبوة والرسالة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق،
(1) متّى 27: 46.
(2)
مرقص 13: 32.
(3)
مرقص 11: 13
(4)
سورة النمل، الآية 65.
(5)
سورة المائدة، من الآية 116.
أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم (أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي)(2).
الأمر الرّابع: وأمّا الاستدلال بحديث الشّفاعة على ألوهيّة المسيح باعتبار أنّه لم يخطئ
أو يذنب، فالأمر يحتاج لشيء من البسط.
حديث الشّفاعة من الأحاديث التي صحّت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الشّفاعة الأولى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أعظم الشّفاعات، وهي المقام المحمود الذي ذكر الله عز وجل له، ووعده إيّاه، وأمرنا الرسول الكريم أن نسأله له بعد كلِّ أذان.
يشفع أولاً إلى الرّحمن في
…
فصلِ القضاء بين أهل الموقف
من بعد أن يطلبها النّاس إلى
…
كلِّ أولي العزم الهداةِ الفُضَلا (3)
ويعتذر آدم ونوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام عن هذه المهمة، ويذكر كلٌّ منهم ذنباً، ويعتذر عيسى عليه السلام ولا يذكر ذنباً، إلا أنّ هذا لا يدل على ألوهيته. بل المتأمل في الحديث يجد أنه حجّةٌ قويّةٌ على المستدل به على ألوهيّة المسيح، وذلك من الجوانب التّالية (4):
أولاً: اعتراف عيسى عليه السلام بأنّه مربوب لا ربّ، وذلك في قوله (إنّ ربي).
ثانياً: إظهار عيسى عليه السلام الخوف من الله تعالى، والرب لا يخاف، وذلك في قوله:(إنّ ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله).
ثالثاً: إظهار عيسى عليه السلام حاجته لرحمة ربه، وذلك مفهوم من قوله (نفسي نفسي).
رابعاً: إرشاد عيسى عليه السلام للنّاس للذّهاب إلى غيره ليشفع لهم، ولو كان إلهاً ما احتاج
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله:(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)، ح3435، ص851.
(2)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى (واذكر في الكتاب مريم)، ح3443، ص853.
(3)
انظر: معارج القبول، حافظ الحكمي 2/ 260.
(4)
التأملات التّالية من رواية مسلم للحديث في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنّة منزلة فيها، ح194، 1/ 110 - 111.
لذلك، ولقام بالفصل بين النّاس ومحاسبتهم.
خامساً: اعتراف عيسى عليه السلام بأفضليّة محمد صلى الله عليه وسلم عليه، وذلك حين قال للمستشفعين:(اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد).
سادساً: في الحديث لم يُذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ذنب، وأعطي الشّفاعة، فدل على أفضليته على سائر الرّسل عليهم الصلاة والسّلام.
سابعاً: في هذا الحديث الذي يحتجون به هنا ذِكْرُ أنّ عيسى عليه السلام أحدُ رسل الله، وأنّه كلّم النّاس في المهد صبيّا. ومع هذا فهم يكذبون بهذين الأمرين، فكيف يستدلون بحديث يكذبون بسائر جُمَلِهِ إلا جملةً واحدة.
ثامناً: جاء في روايةٍ أخرى لمسلم أنّ كل الخلق يرغبون يوم القيامة إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن يشفع لهم عند الله بفصل القضاء بما فيهم الأنبياء، وذلك فيما رواه مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنَّ ربي أرسل إليّ: أنِ اقرأِ القرآن على حرف، فرددت إليه: أنْ هوِّن على أمتي، فأرسل إليّ: أنِ اقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هوِّن على أمتي، فأرسل إليّ: أن اقرأه على سبعة أحرف ولك بكل رَدة رددتكها مسألة تسألنيها، قلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق حتى إبراهيم)(1).
تاسعاً: في هذا الحديث بيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق.
قال صاحب "فتح الباري" في فوائد حديث الشّفاعة: «تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق، لأنَّ الرسل والأنبياء والملائكة أفضل مما سواهم، وقد ظهر فضله في هذا المقام عليهم» (2).
عاشراً: من أين لهم أنّ عيسى عليه السلام لم يعمل خطيئة؟ فإنّ الذي في الحديث أنّه لم يذكر له خطيئة، وليس فيه أنّه لم تصدر عنه خطيئة. وحتّى مع ثبوت ذلك فمن أين لهم أنّ من لم
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أنَّ القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، ح820، 1/ 366 - 367.
(2)
انظر: فتح الباري، ابن حجر 11/ 441.
يخطئ من البشر فإنّه يرقى لمرتبة الألوهية؟
حادي عشر: إذا كان هؤلاء يستدلون بالسّنّة فإنّ فيها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج رأى في السّماء الثانية ابنا الخالة؛ عيسى ويحيى ^، فسلّما عليه ورحّبا به وأقرّا بنبوته (2).
ثاني عشر: يعترف عيسى عليه السلام في كتاب النّصارى المقدّس بأفضلية يحيى عليه السلام عليه، في نص مضطرب، هو قوله:(الحقَّ أقول لكم: لم يظهر في أولاد النساء أكبرُ من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغرَ في ملكوت السموات أكبرُ منه)(3).
فكيف يكون الأصغرُ أكبرَ ممن هو أكبرُ منه؟!
الأمر الخامس: وأمّا الطّعن في السّنّة بمخالفتها الحقائق العلميّة والمدركات العقليّة المنطقيّة كما في حديث سجود الشمس تحت العرش عند غروبها، فبيانه يكون بالعودة إلى أصل الموضوع، وهو موقف المرء من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فأمّا المكذب بأصل النبوة فإنّه لا يُجدي معه النقاش في جزئيات ما جاءت به السنة النبويّة، ولكن يُناقش باحتواء سائر الأديان على أمور غيبيّة لا تُدرك بالعقل المجرد، وقد جاء في الكتاب المقدس عند النّصارى ما لا يحصى من النصوص الغيبيّة التي يوقنون بصحتها، وبأنها كتبت عن طريق أناس مصطفين مسوقين بروح القدس (4).
(1) انظر: الجواب الصحيح، ابن تيميّة 3/ 350.
(2)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ح3207، ص793 - 794. ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السّماوات وفرض الصلوات، ح162، 1/ 85 - 87.
(3)
متّى 11: 11.
(4)
انظر: موقع "العالم غير المشاهد" حيث يتحدث عن عالم الغيب في الكتاب المقدس، أي حديث الكتاب المقدس عن الجنّة والنّار والملائكة والشّياطين والسحر والسحرة وعلامات قرب القيامة وغيرها من الغيبيات.
الموقع باللغة الإنجليزية، ورابطه: www.unseenworld.com
وأمّا الذي تقرر عنده صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّه مرسل من ربّه، فالواجب عليه قبول كل ما جاء به من أمور الغيب، والمبادرة بالتسليم مع استحضار مباينة عالَم الغيب لعالَم الشّهود.
ومتى حكّم المرء عقله في ما جاء من الغيبيات وقع في الحيرة والشك، وسار في طريق الفرق الضالّة.
ولما حكَّمت بعض الفرق عقولها في باب الأسماء والصفات، وقعت في التشبيه، أو فرَّت منه فنفت ووقعت في التعطيل.
«ومسألة الإيمان بالغيب، والاعتقاد بوجود مخلوقات وأشياء غائبة عن مداركنا، كلها أمور لا تخضع للتجربة والمشاهدة، والإدراك البشري ..
ولا يكون للغيب، والتعبد بالإيمان به معنى، إذا حاولنا أن نتطاول لمعرفته بحواسّنا أو عقولنا، وإذا شخَّصنا أو حكمنا به كما نتصور؛ لم يكن غيباً إن أصبنا الحقيقة، وكنّا كاذبين إن خالفنا الحقيقة ..
ثم إنّ الله تعالى جعل الإيمان بالغيب امتحاناً وابتلاءً لعباده» (1).
ومن هذه الغيبيّات ما في صحيح البخاري من أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبا ذر رضي الله عنه (2) حين غربت الشمس: (أتدري أين تذهب؟)، قال أبو ذر رضي الله عنه: الله ورسوله أعلم، قال:(فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ})(3).
(1) انظر: الاتجاهات العقلانيّة الحديثة، ناصر العقل، ص123، 128، 129.
(2)
هو أبو ذرّ، جندب بن جنادة الغفاري. خامس خمسة في الإسلام. كان رأساً في الزهد والصدق والعلم والعمل، قوّالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. مات زمن خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي 2/ 46 - 78.
(3)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر بحسبان، ح3199، ص792. والشّاهد في سورة يس، الآية 38.
قال ابن حجر رحمه الله (1): «وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق عن دورانها في سيرها .. وظاهر الحديث أنّ المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند سجودها،
ومقابل الاستقرار المسير الدائم المعبر عنه بالجري» (2).
وقال في موضع آخر: «ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من الملائكة، أو تسجد بصورة الحال فتكون عبارة عن الزّيادة في الانقياد والخضوع في ذلك الحين» (3).
والحاصل أنّ هذا الأمر غيبي، نجزم بصحة وقوعه، على كيفيّة يعلمها الله تعالى وحده (4)، فإنّه لا علم لنا بكيفيّات الغيب ما لم يأتنا بها الإنباء في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولم يأت في بيان هذا الأمر مزيد تفصيل، فيكونُ السبيلُ التسليمَ به كما سلَّم به الصّحابة ولم يسألوا ولم يستشكلوا.
وقد ردَّ شيخ الإسلام رحمه الله في "بيان تلبيس الجهميّة" على من أنكر هذا الحديث لعدم استيعاب عقله له، وأنكر مثله حديث نزول الله إلى السَّماء الدنيا في الثلث الأخير، وقعّد في هذا قاعدة مفيدة، فيها بيان سبب وقوع هؤلاء فيما وقعوا فيه، فقال رحمه الله:«وهذا إنّما قالوه لتخيلهم من نزوله ما يتخيلونه من نزول أحدهم» (5).
وقال في موضع آخر: «والمقصود أنّ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره؛ كلُّه
(1) هو أبو الفضل، شهاب الدين، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني. ولد بالقاهرة سنة 773هـ وتوفي بها سنة 852هـ. أكثر الرحلات في طلب العلم، وحصّل شهرة واسعة. كان من أئمة العلم، ومن المكثرين من التأليف. أهم كتبه: فتح الباري بشرح صحيح البخاري- التلخيص الحبير- بلوغ المرام- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، الإصابة، تهذيب التهذيب، تقريب التهذيب. انظر: الأعلام، الزركلي 1/ 178 - 179.
(2)
انظر: فتح الباري، ابن حجر 8/ 542.
(3)
المرجع السّابق 6/ 299.
(4)
انظر: كلام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حول هذا، على الرابط: www.binbaz.org.sa/mat/9141
(5)
انظر: بيان تلبيس الجهمية، ابن تيمية 4/ 55.
حق يصدِّق بعضُه بعضا، وهو موافق لفطرة الخلائق وما جُعل فيهم من العقول الصريحة والقُصود الصحيحة، لا يخالف العقل الصريح ولا القصد الصحيح ولا الفطرة المستقيمة ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما يَظُنُّ تعارضَها من صدَّق بباطلٍ من النُّقول، أو فَهِمَ منه ما لم يدل عليه، أو اعتقد شيئاً ظنَّه من العقليّات وهو من الجهليّات، أو من الكشوفات وهو من الكسوفات» (1).
ولعلَّ هؤلاء أُتوا من جهة قياسهم هذا الأمر الغيبي على ما يشاهدونه من سجود الآدميين، الذي يقتضي وجود الأطراف كاليدين والرجلين، ولزوم التوقف والاطمئنان. وهذا غير لازم؛ فإنَّ سجود كلّ شيء بحسبه، ولا يمكن قياس عالَم الغيب على عالَم الشّهود.
الأمر السّادس: وأمّا القول بأنّه جاء في السّنّة ما يخالف العقل والمنطق كما في الإخبار عن بول الشيطان وخروج صوت الرّيح منه، فبيانه كالتّالي:
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار كثيرة في بيان أمور متعلقة بالشّيطان لا سبيل إلى علمها إلا عن طريق الوحي.
فقد أخبر أنّه يجري من الإنسان مجرى الدم، وأنّه مُتسلط على بني آدم بالوسوسة والتحزين والتلاعب حال المنام. وإذا وُلد المولود طعن في خاصرته إلا عيسى بن مريم عليه السلام، وإذا نام بات على خيشومه، فإنْ نام عن الصلاة المكتوبة بال في أذنيه، وإنْ تثاءب فلم يغطِّ فاه ضحك منه ودخل في فيه، وإذا مرَّ بآية سجدة فسجد بكى الشيطان، وإنْ سمع الأذان والإقامة فرَّ من المسجد مسافةً بعيدة وله ضراط أو حصاص (2).
وهو يرى الإنسان، فكان إذا رأى عمر رضي الله عنه جبن وسلك طريقاً آخر. وتراه الحيوانات، فإذا رأته الحمير نهقت.
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/ 580، وللشيخ رحمه الله جهود كبيرة في بيان عدم تعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح، وألَّف في هذا مجلداً من عشرة أجزاء؛ هو "درء تعارض العقل والنّقل".
(2)
الحُصَاص: شدّة العدو وحِدَّته، وقيل: هو أن يمصع بذنبه ويَصُرَّ بأذنيه ويعدو، وقيل: هو الضُّراط. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير 1/ 396.
وله القدرة على أنْ يتمثَّل في صورة الرجل، فيأتي القوم، فيحدثهم بالحديث من الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلاً أعرف وجهه، ولا أدري ما اسمه يحدث.
وفي المنام يتمثل للنائم في صورة أشخاص يعرفهم أو لا يعرفهم، إلا أنّه لا يتمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم.
وثبت أنّه يأكل بشماله مع القوم الذين لم يُسموا على طعامهم، ويبيت في بيوتهم إنْ لم يُسموا عند دخولها، ويعمل على التحريش بين النّاس (1).
كلُّ هذه الأمور الغيبيّة وغيرها أخبر بها الصّادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه، ولا سبيل لدفعها بدعوى أنَّ العقل لا يفهمها.
ومنها -كما تقدم- أنّه يبول في أذني المسلم الذي ينام عن الصلاة، والحديث في هذا صحيح، رواه الشيخان (2).
وقد تأوَّل بعض العلماء المعنى، ورأوا أنّه مجاز في معنى الإفساد، أو في معنى تحكم الشيطان بالعبد، واستخفافه به، واحتقاره والاستعلاء والظهور عليه (3).
وقيل كناية عن سدِّ الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر، أو هو مَثَلٌ مضروب للغافل عن القيام بثقل النوم كمن وقع البول في أذنه فثقّل سمعَه وأفسد حسّه، والعرب تكني عن الفساد بالبول (4).
ولا مانع من أنْ يكون المرادُ حقيقةَ الأمر، فيحمل الحديث على ظاهره، ولا إشكال في ذلك، فقد ثبت -كما تقدم- أنّ الشيطان يأكل ويشرب ويضحك ويبكي ويتمثَّل على
(1) هذه الأخبار الغيبية سيقت مما ورد في الصحيحين أو أحدهما، وخشية الإطالة تركت تخريجها هنا.
(2)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ح3270، ص807. ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، ح774، 1/ 351.
(3)
حكاها النووي، وذكر معها قول من قال بأنّ الحديث على ظاهره، ولم يرجح شيئاً.
انظر: شرح مسلم، النووي 6/ 64.
(4)
انظر: فتح الباري، ابن حجر 3/ 28 - 29.
هيئات بشريّة إلى غير ذلك، مع جهلنا بكيفيّة أفعاله، وجزمنا بأنها من العالم الغيبي الذي لا يُدرك بالحواس ولا يُفهم كنهه بالعقول.
ومثله يقال في فراره من المسجد عند الأذان والإقامة وله ضراط، فقد ثبت هذا في السّنّة، وتأوَّله بعض شرّاح الحديث، إلا أنّه لا يوجد ما يمنع من إثباته على الحقيقة، وفق كيفيّات غيبيّة لا سبيل للعقل البشري أن يدركها.
الأمر السّابع: وأمّا القول بأنّه ورد في السّنّة ما يخالف الفطر السليمة والأذواق المستقيمة كما في إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم من وقع الذّباب في إنائه أن يغمسه ثم يطرحه ويتناول ذلك الشّراب، وأنّ في هذا الصنيع تقذير وزيادة تنجيس، فبيانه أنْ يقال:
صح في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإنّ في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء)(1).
لقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم العلّة من أمره بغمس الذّباب، وهذا البيان دليل على أنّه إنّما تكلم به عن طريق الوحي من الله (2)، ولو كان مفتر على الله ما أتى بشيء من العلوم الغيبيّة التي قد يبادر من في قلبه مرض إلى التشغيب عليه بها.
إنّ تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا الأمر دليل على أنّه قام بتكليف البلاغ عن ربه خير قيام، غير عابئ بطعن من يطعن، واستهزاء من يستهزئ.
والله عز وجل عليم بخواص مخلوقاته، وما فيها من الدّاء والدواء، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3).
إنّ المرء ليعجب من المنهجيّة التي يسلكها بعض النّصارى حيال النصوص الإسلاميّة -إن صحَّ أن تسمى منهجيّة- فإنّهم يُحمِّلون الدليل ما لا يحتمل، ويُلزمونه ما ليس بلازم. فقد رأى بعضهم أنّ هذا الإرشاد النبوي هو على سبيل الوجوب، وأنَّ على المسلم أن
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب إذا وقع الذباب في الإناء، ح5782، ص1463.
(2)
انظر: شبهات حول السّنّة، عبد الرّزّاق عفيفي، ص16.
(3)
المرجع السّابق، نفس الصفحة. والشاهد في سورة الملك، الآية 14.
يغمس كامل هذه الحشرة ولو تيقن أنها طارت من محل قاذورات، ثم يتجرع هذا الشراب.
إنّ الأمر في هذا الحديث للإرشاد لا للوجوب، وفيه رخصة وعزيمة، فمن قوي توكله على ربه وتصديقه خبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يضره، وسلمت نفسه من النفور من ذلك؛ فإنْ فَعَلَهُ كان مأجوراً، وإنْ طَرح الشّراب بالكلية فلا حرج عليه.
وأمّا استشكال أنْ تجمع هذه الحشرة النفع والضرّ في جسمها، فقد نقل ابن حجر عن
وهذا الحديث هو واحد من النصوص التي حكّم بعض النّاس فيها عقولهم فخلصوا إلى ردها، متجاهلين أنّ العقول يعتريها الخطأ والصّواب، وهي متفاوتة فلا يكون لتقديم أحدها على غيره حجة إلا كما لدى الآخر، فأي العقول نجعل حكماً (3)؟!
الأمر الثّامن: وأمّا الاعتراض على حديث لعق الأصابع أو إلعاقها بعد الفراغ من الطعام، فيقال في إيضاحه ما يأتي:
هذا الحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى الشيخان وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم:(إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها)(4).
(1) هو أبو سليمان، حمد بن محمد الخطّابي البستي، الفقيه المحدث. ولد في بست سنة 319هـ ومات بها سنة 388هـ. له: معالم السنن- بيان إعجاز القرآن- إصلاح غلط المحدثين- غريب الحديث، وغيرها. انظر: الأعلام، الزركلي 2/ 273.
(2)
انظر: فتح الباري، ابن حجر 10/ 251 - 252.
(3)
انظر: شبهات حول السنة، عفيفي، ص58.
(4)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأطعمة، باب لعق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل، ح5456، ص1388. ومسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب استحباب لعق الأصابع والقصعة .. ، ح2031، 2/ 975.
أولُّ ما يرد به على هؤلاء أنّ الأمر في هذا الحديث على سبيل الإرشاد والاستحباب عند جمهور العلماء (1).
وأمّا اللعق ففيه حِكَم، لعل من أهمها تحصيل بركة الطّعام، وهذا جاء مبيّناً في روايات
أخرى، كقوله صلى الله عليه وسلم:(فإنّه لا يدري في أيِّ طعامه البركة)(2).
وفيه دفع للكبر الذي هو داء مهلك للعبد، ولذا جاءت الشّريعة بأسباب دفعه، وتحصيل خلق التّواضع الذي يرفع صاحبه عند الله.
وليس في اللعق شيء من الاستقذار، لأنّه يأتي عقب الفراغ من الطّعام، لا في أثنائه بحيث يعيد أصابعه في الطّعام وعليها أثر ريقه (3).
وأمّا الإلعاق فالمقصود به -كما قاله شُرّاح الحديث- أن يكون لمن يقبل ذلك ولا يستقذره كزوجة وولد ونحو ذلك (5).
وخلاصة الأمر أنّ إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم بلعق الأصابع أو إلعاقها عقب الطّعام هو على سبيل
(1) انظر: عمدة القاري، العيني 21/ 76.
(2)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب استحباب لعق الأصابع والقصعة .. ، ح2033، 2/ 976.
(3)
انظر: فتح الباري، ابن حجر 9/ 578.
(4)
المرجع السّابق 9/ 578 - 579.
(5)
انظر: شرح مسلم، النووي 13/ 206، وقد زاد رحمه الله ما فيه نظر، وذلك قوله:«وكذا من كان في معناهم كتلميذ يعتقد بركته ويود التبرك بلعقها، وكذا لو ألعقها شاة ونحوها» .
وذلك أنّ التبرك بالصالحين يكون من خلال مجالستهم ومصاحبتهم في حياتهم، وعن طريق الانتفاع بما ورثوه من العلم النّافع بعد مماتهم، وما عدا ذلك من طرق التبرك فليس بمشروع، بل ممنوع.
انظر: التبرك أنواعه وأحكامه، ناصر الجديع، ص381.
الحث والاستحباب، وذلك لتحصيل البركة ودفع دواعي الكبر، ولا يكون الإلعاق إلا لمن تيقن تقبُّله له وعدمَ استقذاره لذلك.
ولو وُجد منصف من هؤلاء نظر إلى هذا الحديث فرأى فيه أمراً متشابهاً، لعدل عنه إلى ما لا يحصى كثرةً من النصوص في كتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم الدّاعية إلى نظافة المسلم
وطهارته حسيًّا ومعنوياً.
ويكفي في ذلك أنّ المسلم يتوضأ خمس مرات لصلواته في اليوم وجوباً، ويغتسل الجنب، وكذا الحائض والنفساء عقب الطهر وجوباً، ولا تقبل صلاة من كان في بدنه أو ثوبه أو البقعة التي يصلي عليها نجاسة، وإذا ولغ الكلب في الإناء وجب غسله سبع مرات إحداهنّ بالتراب، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشدة عذاب رجل كان لا يستنزه من البول، وأخبر أنّ الطهور شطر الإيمان، وأنّ الله جميل يحب الجمال، وأنّ على المسلم الاعتناء بخصال الفطرة وهي دائرة حول التنظف، وغير ذلك.
والشّواهد على مراعاة الإسلام للذّوق السليم، والفطر المستقيمة، والطّباع السّويّة، لا تحصر، وفيما سبق بعض الإشارات لهذا.
وبهذا يكتمل الحديث عن بيان وردِّ أبرز الشّبهات حول السّنّة، ويتبعه ما يتعلق بالشّبهات حول التشريع الإسلامي.