المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وجوه بين السنة للقرآن - الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين

[أحمد محرم الشيخ ناجي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌المبحث الأول: الحديث في العهد النبوي

- ‌القرآن يقدم الحديث وصاحبه إلى الأمة:

- ‌على طريق التأكيد تمضي المائدة والأنفال:

- ‌القرآن يواصل حديثه عن استواء طاعة الله ورسوله في الوجوب:

- ‌قمة ما تستند إليه السنة في حجيتها:

- ‌‌‌المطاعوالمطاع فيه والمطيعون

- ‌المطاع

- ‌المطاع فيه: "السنة أو الحديث

- ‌المطيعون:

- ‌الترغيب في طلب وحفظ السنة وتبليغها

- ‌إقبال الصحابة على تلقي الكتاب والسنة:

- ‌وجوه بين السنة للقرآن

- ‌عوامل وأسباب انتشار السنة في العهد النبوي:

- ‌المبحث الثاني: السنة في عهد الصحابة

- ‌مدخل

- ‌احتياط الصحابة وتثبتهم من الراوي والمروي:

- ‌نقد الصحابة للمتن:

- ‌رد ما جاء في ضعيف الخبر من أن عمر حبس ثلاثة نفر من الصحابة لإكثارهم الرواية

- ‌مدخل

- ‌أولا: ابن مسعود:

- ‌ثانيا: أبو الدرداء:

- ‌ثالثا: أبو مسعود الأنصاري:

- ‌رابعًا: أبو ذر الغفاري:

- ‌هل روى الصحابة الحديث بالمعنى أم باللفظ

- ‌دعوى باطلة وردها:

- ‌عدالة الصحابة ومعناها:

- ‌المكثرون من الرواية والتعريف بهم:

- ‌رواية الإسلام: أبو هريرة

- ‌عدد مروياته وما أثير حوله من شبه:

- ‌افتيات أبي رية وجرأته:

- ‌من المكثرين من الرواية "عبد الله بن عمر

- ‌ومن المكثرين من الرواية "أنس بن مالك

- ‌من المكثرين من الرواية "أم المؤمنين عائشة

- ‌من المكثرين من الرواية "عبد الله بن عباس

- ‌ومن المكثرين من الرواية "جابر بن عبد الله الأنصاري

- ‌ومن المكثرين من الرواية "أبو سعيد الخدري

- ‌من المكثرين من الرواية عبد الله بن عمرو العاص

- ‌كلمة عن الإسرائيليات وموقف الصحابة منها والرد على المتقولين:

- ‌فمن وهب ومتى ولد وما رأى علماء الجرح التعديل فيه

- ‌المبحث الثالث: التابعون والحديث إلى نهاية القرن

- ‌مدخل

- ‌من هم التابعون

- ‌هل التابعون كلهم عدول

- ‌ظهور الفرق في عهد التابعين:

- ‌الخوارج:

- ‌قلة فقه الخوارج، واجتراؤهم على الحديث:

- ‌الشيعة:

- ‌موقف الشيعة من الحديث ووضعهم له:

- ‌الفرق الأخرى وأثرهم في الحديث:

- ‌جهود التابعين في المحافظة على الحديث ومقاومة الضالين:

- ‌أهم المدارس الحديثية في الأمصار الإسلامية ومناهج

- ‌مدخل

- ‌ مدرسة المدينة:

- ‌ مدرسة مكة:

- ‌ مدرسة الكوفة:

- ‌ مدرسة البصرة:

- ‌ مدرسة الشام:

- ‌ مدرسة مصر:

- ‌ مدرسة اليمن:

- ‌ سعيد بن المسيب:

- ‌ سالم بن عبد الله:

- ‌ سليمان بن يسار:

- ‌ عبيد الله بن عتبة:

- ‌ عروة بن الزبير:

- ‌ القاسم:

- ‌ ابن شهاب الزهري:

- ‌ نافع مولى ابن عمر:

- ‌المبحث الرابع: مناهج المحدثين في القرن الهجري الثاني

- ‌مدخل

- ‌ أبو حنيفة:

- ‌ الإمام مالك:

- ‌الإمام الشافعي وجهوده في السنة

- ‌ ابن جريج وقيمة الرواية عنه:

- ‌ شعبة أمير المؤمنين في الحديث:

- ‌ علم الرواية والنقد والورع والزهد "ابن المبارك

- ‌مسك الختام مع علم الأعلام في الرواية والنقد": "ابن مهدي

- ‌خاتمة

- ‌الفهرس

الفصل: ‌وجوه بين السنة للقرآن

عامة تحتاج إلى تخصيص، أو مطلقة تحتاج إلى تقييد، فأنى لهم تفصيل المجمل، أو توضيح المبهم، أو تقييد المطلق، أو تخصيص العام بعيدا عن من أنزل عليه القرآن، وكلفه تكليفا جازما بالبيان له.

فقال فيما أنزل عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1.

وبعد تسع عشرة آية من نفس السورة يقول الحق عز من قائل بأسلوب القصر ومن خلال أقوى طرقه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2 فكيف كان البيان؟ وما وجوهه؟

1 سورة النحل الآيتان 43، 44.

2 سورة النحل الآية رقم 64.

ص: 57

‌وجوه بين السنة للقرآن

وجوه بيان السنة للقرآن:

تدور استعمالات اللغة لكلمة "بيان" ومادته على الوضوح والظهور والتفصيل والإفصاح مع ذكاء1، وقد عرف ابن حزم البيان فقال: "كون الشيء في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه، والإبانة والتبيين: فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الإشكال إلى إمكان الفهم له بحقيقة، وقد يسمى أيضا على المجاز ما فهم منه الحق، وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد

1 القاموس المحيط ج4 ص206.

ص: 57

إلى الإفهام مبينا، كما تقول: بين لي الموت أن الناس لا يخلدون، والتبيين فعل نفس المبين للشيء في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضا، والمبين هو الدال نفسه1.

إذا تبين هذا نقول: قد أنزل الله القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وكفل فيه لهم ما يصلح حالهم ومآلهم، وجعل منهج حياة لهم، وحتى يتسنى لهم حفظه، وينجز لهم وعده بتيسيره للذكر جعله في الأعم الأغلب مجملا لا يتوصل إلى مراد الله به إلا من خلال الرجوع إلى من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم ربطا للدعوة بالداعية، وتوثيقا للصلة بين البيان والمبين.

ومما ينبغي أن يعلم رجوع السنة إلى القرآن، واعتباره أصلها فكل ما بينته من الأحكام، أو أسسته بمعنى استقلالها ببيان حكمه راجع إلى القرآن، فهو الذي أمر بطاعته صلى الله عليه وسلم، وحذر من مخالفته، وأمرنا بأخذ كل ما أعطانا والانتهاء عن كل ما عنه نهانا، ولقد مر بك فهم الشافعي لهذا المعنى، وسبق ابن مسعود له بهذا الفهم، وكيف اعتبر أن ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم صريحا مفصلا جاء ضمنا أو مجملا في القرآن، على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يتولى مهمة البيان لا يصدر عن نفسه، إنما يتبع ما يوحى إليه من ربه الذي أعلن في وضوح تام أن كل ما يجيء به فعن الله:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 2.

1 الإحكام في أصول الأحكام ج1 ص46.

2 سورة النجم: 3، 4.

ص: 58

فوظيفة السنة تفسير القرآن، والكشف عن أسراره، وتوضيح مراد الله تعالى من أوامره وأحكامه.

والمتتبع للسنة من حيث دلالتها على الأحكام المتضمنة في القرآن إجمالا أو تفصيلا فسيلفينها واردة على وجوه أربعة:

الأول: قد ترد السنة موافقة لما في القرآن مطابقة له، فيكون ورودها على جهة التأكيد والتقرير والتقوية لما جاء فيه، وذلك كتوصيته بالنساء وحضه على الإحسان إليهن ومداراتهن، فإن كل ما ورد في هذا الباب يعد تأكيدًا لما في قوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 1.

الثاني: وقد ترد السنة بيانا لما أريد بالقرآن من خلال تفصيل مجمله، أو تقييد مطلقه، أو تخصيص عامه، أو توضيح مشكله، فمن باب تفصيل المجمل ما وضحته السنة من مواقيت الصلاة وعدد ركعاتها وكيفيتها والهيئات التي تؤدى عليها، وكبيان الأنواع التي تجب فيها الزكاة والنصاب الذي يجب ببلوغ المال حده، والقدر المخرج في كل نوع. فالقرآن إنما أمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة على جهة الإجمال، وتولت السنة تفصيل ذلك كله، ومثل ذلك في الحج، أوجبه القرآن على المستطيع، وأوجب إتمامه والعمرة على من شرع فيها، ثم جاءت السنة فبينت المناسك ووضحت كل الشعائر التي أمر الله بتعظيمها.

وما من عبادة في القرآن إلا وهي محتاجة إلى البيان العملي لها.

1 سورة النساء: 19.

ص: 59

ومن باب تقييد المطلق تحديد اليد التي أمر الله بقطعها في السرقة في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1.

فههنا أمر بقطع الأيدي وذلك عام في اليدين كلتيهما يصدق على اليمنى واليسرى ويصدق على كل اليد من العضد إلى الكف، فهل تقطع اليدان أم اليمنى أم اليسرى؟ وهل يكون القطع من العضد أم من المرفق أم من الكوع؟ إبهام لا يرفعه إلا تقييد المطلق ببيان أن المقصود بالأيدي إحداهما واليمنى بالذات، ثم يكون القطع من الكوع.

ومن باب تخصيص العام توضيح معنى الظلم في قوله: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2، فإن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا من الآية عموم الظلم، ففزعوا فزعا شديدًا، فأي الناس لم يخلط إيمانه بظلم؟ فبين لهم النبي صلى الله عليه سلم أن المراد بالظلم هنا ظلم مخصوص لا عموم ظلم، وردهم إلى قوله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3.

ومن أمثلة توضيح المشكل ما جاء في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 4 فقد فهم البعض

1 سورة المائدة: 39.

2 سورة الأنعام: 82.

3 سورة لقمان: 13.

4 سورة البقرة: 187.

ص: 60

من لفظ الآية أن المقصود به العقال الأبيض والعقال الأسود، وجعل عريض القفا يمسك بهما، ولا يمسك عن الطعام والشراب حتى يتبين له أحدهما من الآخر، فبين لهم النبي صلى الله عليه سلم إزاحة للإشكال أن المراد من البياض والسواد بياض الصبح وسواد الليل.

ولا يخفى عليك أن أصل هذه الأحكام موجودة في القرآن، وغاية ما هناك أنه تطلب البيان ممن هو أعلم بالقرآن.

الثالث: من وجوه السنة للقرآن أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن كالحكم بطهورية ماء البحر وحل ميتته، وكتحريم لحوم الحمر الأهلية، وتحريم كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السباع، وتحريم ربا الفضل، وتحريم الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها.

فهذه الأحكام كلها استقلت السنة بتشريعها وليس للقرآن نص فيها، لكنها لا تخرج عنه إذ لا سبيل للفصل بينه وبين السنة، أليس هو الآمر بأخذ كل ما فيها والانتهاء عن كل ما نهت عنه.

الرابع: قد ترد السنة ناسخة لحكم ثبت بالكتاب على رأي من يقول بنسخ السنة للقرآن، فهناك رأيان للعلماء في هذه المسألة، الأول قال به الأحناف فجوزوا نسخ الكتاب بالسنة المتواترة والمشهورة، وحجتهم في ذلك أن المتواتر قطعي الثبوت كالقرآن، والمشهور قد اكتسب من القوة نظرا لاشتهاره في أيدي العلماء، وعمل الفقهاء به ما يلحقه بالمتواتر، والمتواتر والمشهور وحي غير متلو، فلا مانع من أن ينسخ بهما الوحي المتلو، ومثلوا للنسخ بالمشهور بالمسح على الخفين وللنسخ بالمتواتر نسخ الوصية للوالدين ولسائر الوارثين لذوي القرابات بحديث "لا وصية لوارث" والرأي،

ص: 61

الثاني، رأي الجمهور القائل: بأنه لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة سواء كانت متواترة أو غير متواترة، وقد استدل الجمهور بقوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 1 قالوا: وليست السنة مثل القرآن فضلا عن أن تكون خيرا منه، واستدلوا أيضا بقوله تعالى:{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} 2، فدل ذلك على أنه متبع لكل ما يوحى إليه، وغير مبدل له والنسخ تبديل، ثم إنه مكلف ببيان ما نزل إليه ليعمل الناس بالمنزل.

والقول بنسخ السنة للكتاب معناه: تعطيل للمنزل والعمل بغيره، واستدل الجمهور أيضا بأن "مع نسخ الكتاب بالسنة أقرب إلى صيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طعن الطاعنين فيه، وبالاتفاق يجب المصير في باب بيان أحكام الشرع إلى طريق يكون أبعد عن الطعن فيه، وذلك أنه إذا جاء منه أن يقول ما هو مخالف للمنزل في الظاهر على وجه النسخ له، فالطاعن يقول: "هو أول قائل وأول عامل بخلاف ما يزعم أنه أنزل عليه، فكيف يعتمد قوله فيه؟ وإذا ظهر منه قول، ثم قرأ ما هو مخالف لما ظهر منه من القول، فالطاعن يقول: قد كذبه ربه فيما قال فكيف نصدقه؟ وإلى هذا أشار بقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} 3، ثم نفى عنه هذا الطعن بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ

1 سورة البقرة: 106.

2 سورة يونس: 15.

3 سورة النحل: 101.

ص: 62

رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 1 ففي هذا بيان أنه ليس في نسخ الكتاب بالكتاب تعريضه للطعن من الوجه الذي قاله الطاعنون، فيجب سد هذا الباب لعلمنا أنه مصون عما يوهم الطعن فيه"2.

ونرى مع الإمام مالك والأحناف والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة جواز نسخ الكتاب بالسنة، فكلاهما وحي من الله عز وجل بنص القرآن والمثلية أو الخيرية في المأتي به بدل المنسوخ أهم من أن تكون فيما لا يتلى في المصلحة أو الثواب.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حين يأتي بسنة ناسخة لما في القرآن، لن يكون من تلقاء نفسه، وإنما التبديل بوحي من عند الله.

ولا عبرة باعتراض المعترضين على الوحي، ووقوع النسخ فيه فلو أقمنا وزنا لاعتراضهم ما سلم شيء وما استقام شرع، فالمعترض الجاحد قد يكون مرد اعتراضه إلى جحوده، ألا ترى إلى تسلية الله لرسوله وتسريته عنه {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 3.

ثم إن نسخ القرآن بالسنة ليس إبطالا للبيان، بل هو نوع منه، فالنسخ بيان لأمد العمل بالحكم السابق، وإنهاء له بالدليل الشرعي المتأخر المقتضي رفع العمل بالمتقدم، فالنسخ نوع من البيان.

1 سورة النحل: 102.

2 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص397-398.

3 سورة الأنعام: 33.

ص: 63

بقي أن جواز نسخ القرآن بالسنة، وإن كان ممكن الوقوع عقلا وشرعا إلا أننا نوافق القائلين بعدم وقوعه، والمسائل التي قيل فيها: إنها منسوخة بالسنة عند التأمل يتضح انها منسوخة بالقرآن.

وقد أيد الشيخ الزرقاني رأي الإمام مالك وأصحاب أبي حنيفة وجمهور المتكلمين في هذه المسألة، ثم رأى عدم وقوع النسخ للكتاب بالسنة، ثم أورد هذين الاعتراضين.

"لقائل أن يقول: إن من السنة ما يكون ثمرة لاجتهاده صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس وحيا أوحى إليه به، بدليل العتاب الذي وجهه القرآن إلى الرسول في لطف تارة وفي عنف أخرى، فكيف يستقيم بعد هذا أن نقول: إن السنة وحي من الله؟

والجواب أن مرادنا هنا بالسنة، ما كانت عن وحي جلي أو خفي، أما السنة الاجتهادية فليست مرادة هنا البتة، لأن الاجتهاد لا يكون إلا عند عدم النص، فكيف يعارضه ويرفعه؟

ولقائل أن يقول: إن من السنة ما كان أحاديا، وخبر الواحد مهما صح، فإنه لا يفيد القطع والقرآن قطعي المتن، فكيف ينسخ بالسنة التي لا تفيد القطع؟ ومتى استطاع الظن أن يرفع اليقين؟

والجواب: أن المراد بالسنة هنا السنة المتواترة دون الأحادية، والسنة المتواترة قطعية الثبوت أيضا كالقرآن، فهما متكافئان من هذه الناحية، فلا مانع أن ينسخ أحدهما الآخر، أما خبر الواحد فالحق عدم جواز نسخ القرآن به، للمعنى المذكور، وهو أنه ظني والقرآن قطعي، والظني أضعف

ص: 64

من القطعي فلا يقوى على رفعه، والقائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة الأحادية، اعتمادا على أن القرآن ظني الدلالة، حجتهم داحضة؛ لأن القرآن إن لم يكن قطعي الدلالة فهو قطعي الثبوت، والسنة الأحادية ظنية الدلالة والثبوت معا، فهي أضعف منه فكيف ترفعه؟ "1.

هذا وكل ما مضى هو في وجوه بيان السنة للقرآن فيما يتصل بالأحكام أما في بيانها له في غير الأحكام؛ يقع على ثلاثة أضرب:

الأول: ما يرد موافقا لما في القرآن فيكون مؤكدًا له، ولا يخلو مع ذلك عن شرح وبيان؛ كحديث الخضر مع موسى عليه السلام في البخاري وغيره، فإنه يوافق القصة المذكورة عنهما في سورة الكهف.

الثاني: ما يرد مورد التوضيح والشرح؛ ومثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح، فيقال: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه، فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، يقال: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته"، قال:"فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ". أخرجه البخاري والترمذي.

الثالث: ما يرد على طريق الاستقلال؛ ومن أمثلته حديث جريج العابد، وحديث الأبرص والأقرع والأعمى، وحديث الصخرة؛ فهذه الأحاديث وما في

1 مناهل العرفان ج2 ص137-138.

ص: 65

معناها مؤكدة للمقاصد التي جاء بها القرآن، وحكمتها تنشيط المكلفين وتنبيه الغافلين". ا. هـ1.

وبعد هذا الإسهاب في بيان وجوه السنة للكتاب، قد يقول قائل: كيف تزعمون أن السنة مبينة للكتاب؟ أو أنه محتاج إلى بيان وقد قال الله فيه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} 2.

وقال أيضا: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 3.

أبعد هذا التبيان والتبيين يستقيم ما تقولون من أن السنة مبينة للكتاب؟ والجواب الذي لا يبقى معه ريبة لمرتاب هو: إن بيان السنة للكتاب متضمن فيه فهو الذي أمر بطاعتها، وأخذ ما فيها، والانتهاء عن نواهيها، وهو الذي نطق موكلا إليها مهمة البيان، ولسنا نقول: إن السنة قد جاءت بما ليس في القرآن، وإنما نقول: إنها فصلت ما أجمله وبينه، وهي منه محفوظة بحفظه، ونستطيع أن نقرر في يقين أن الصحابة رضوان الله عليهم أجميعن أقبلوا على السنة طائعين، مطيعين أمر رب العالمين، متجاوبين مع طبيعة الدعوة والداعية، محققين تدينهم من خلال انكبابهم عليها، منفذين أوامر الله عز وجل ومطلوبه منهم من خلال بيانها وتوضيحها. فإذا قال الله في وصف حبيبه ومصطفاه

1 الحديث والمحدثون، ص45.

2 سورة الأنعام: 38.

3 سورة النحل: 89.

ص: 66

{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وأرادت عائشة رضي الله عنها أن تجيب سائلها عن هذا الخلق العظيم، الجواب المقنع الموضح طاب لها أن تقول:"كان خلقه القرآن". على ما رواه مسلم. معنى هذا أنه تمثل القرآن فكان قرآنا يمشي على الأرض.

وتمثل أصحابه خلقه، فهو الأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا، وأي الخَلْق أرجى لله واليوم الآخر من أصحاب محمد؟ وأي الناس أذكر لربهم منهم؟ إن منهم الأرجى والأذكر والأتقى والأشكر، بل هم جماع الفضائل كلها، واختارهم الله ليكونوا مادة دينه، وحملة شرعه ونقلة وحيه، وألزمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها فاستعذبوا الصعاب في سبيل خدمة عقيدتهم، سألوا واستفتوا واسترشدوا واستشهدوا، وتحققوا ودققوا طلبا للفهم وطمعا في الهضم، حضروا وشهدوا، ثم بعدوا في الأرض يبلغون ما شهدوه لمن غابوا عنه.

ويبدو أنهم كانوا موصلين جيدين لنور النبوة وإشراقها إلى كل من لقوا، فإذا بهم يؤثرون تأثير السحر فيمن بلغوه ما سمعوه، فصادفت دعوتهم صدى طيبا، ولقيت تجاوبا سريعا، وآتت أكلها أضعافا مضاعفة إيمانا تفيض به القلوب ويقينا تفعم بها الأفئدة، وتأثرا بالرسالة والرسول إلى حد أن هناك من المبلغين المدعوين من أخرجه الشوق من بلده وولده، وقصد المدينة يريد لقاء النبي صلى الله عليه وسلم غير مكتف بما حدث به عنه، بل متطلعا إلى رتبة المشافهة والأخذ المباشر من صاحب الرسالة في العرض والقراءة على المحدث. أخرج لنا البخاري بسند عن أنس بن مالك

ص: 67

رضي لله عنه قال: "بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض ابن عبد المطلب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجبتك". فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك، فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليّ في نفسك، فقال: "سل عما بدا لك" ، فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: "اللهم نعم" ، قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله آالله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم" ، فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول مَنْ ورائي مِنْ قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد"1.

فضمام بن ثعلبة لم يكتف هو ولا قومه بنو سعد بن بكر بن هوازن بما أعلمتهم به رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء يسأل عن أركان الإسلام، وتقطع أسئلته بسبق علمه بها، فماذا طلب هو وقومه؟ طلبوا ما عبر عنه المحدثون بعد بعلو الإسناد، ومن هنا قالوا: إن علو الإسناد سنة لما أن ضماما فعله وأقره عليه صاحب الشرع، فلم ينكر عليه.

1 صحيح البخاري "كتاب العلم" هامش فتح الباري ج1 ص158-161.

ص: 68