الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا الباب؛ لذا رأينا الكثيرين يخافون مخفقته أو درته. وقد وقفت آنفا على طرف من أقواله في ذم الرأي والحث على متابعة السنة، ومدح أهلها، والقدح في منابذها، فالفاروق يرى مع جمهور الصحابة أن من تثبت من حفظه، وتيقن ما يرويه فهمه، واتضحت له مراميه، حق له أن يروي وأن يحدث طلبا لإشاعة السنة وإفشائها، وخروجا عن عهدة كتمانها.
أما من شك في شيء أو ارتاب فيه، أو اختلط عليه فهم معانيه فلا عليه إلا أن يقل الرواية طلبا للنجاة، وفرارا من الخطأ أو التحريف.
على هذا النحو ينبغي أن تفهم النصوص الورادة عن الصحابة عامة وعن عمر خاصة، فما كانوا ليزهدوا الناس في السنن أو يرغبوهم عنها، وهم ممن يسنون، ويستن بسنتهم التابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين.
رد ما جاء في ضعيف الخبر من أن عمر حبس ثلاثة نفر من الصحابة لإكثارهم الرواية
مدخل
…
رد ما جاء في ضعيف الخبر من أن عمر حبس ثلاثة نفر من الصحابة لإكثارهم الرواية:
فيما يبدو الفاروق عملاقا في شتى المجالات، تأتي بعض الروايات التي تريد، أو يريد البعض من خلالها أن يباين بين الرجل وبين جوهر عظمته، ذلك أن مفتاح تلك العظمة تمثل في حسن المتابعة والاقتداء بأمير الأنبياء صلى الله عليه وسلم، والعمل على نشر دعوته وإحياء سنته.
وفي الوقت الذي يظهر فيه عمر غيورًا على السنة دءوبا على حفظها، مبجلا لها وللمشتغلين بها تأتي هذه الرواية التي تفيد أنه رضي الله عنه حبس
ثلاثة نفر من عليه الصحابة وكبرائهم بسبب إكثارهم الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأصل هذه الرواية ما رواه الطبراني في الأوسط عن "إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال: بعث عمر بن الخطاب إلى ابن مسعود وأبي مسعود الأنصاري وأبي الدرداء، فقال ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول لله صلى الله عليه وسلم فحبسهم بالمدينة حتى استشهد".
وإليك ما قاله أحد صيارفة الحديث في هذه الرواية، قال الهيثمي:"هذا أثر منقطع وإبراهيم ولد سنة عشرين، ولم يدرك من حياة عمر إلا ثلاث سنين وابن مسعود كان بالكوفة ولا يصح هذا عن عمر"1.
نعم لا يصح هذا عن عمر لا نقلا ولا عقلا، أما نقلا فقد تكفل الهيثمي ببيان نفي صحته، وأما عقلا فلأن هؤلاء الثلاثة من أجلاء الصحابة وفضلائهم، فأنى لعاقل تصديق أن عمر حبسهم؟ وما جريرتهم؟ أو الجرم الذي يصلح حيثية لحبسهم؟ متى كان تبليغ السنن ذنبا يعاقب عليه القانون؟ وقانون من؟ قانون العدل الذي لا يضاهى فيه عمر فضلا عن أن يبارى.
إن القارئ لمثل هذه الأخبار لتعتريه الدهشة فيتساءل منكرا: ما حد الإكثار الذي يعد آتيه مقارفًا الأوزار؟ وقد ساق الإمام ابن حزم هذا الخبر المنكر وناقشه مناقشة قوية قال: "هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح، ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو نفسه ظاهر الكذب
1 مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج1، ص139.
والتوليد؛ لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه أو يكون نهى عن نفس الحديث، وعن تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وألزمهم كتمانها وجحدها، وأن لا يذكروها لأحد، فهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، ولئن كان سائر الصحابة متهمين في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فما عمر إلا واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلا، ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين لقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء، ولا بد له من أحدهما1" على أن هناك تضاربا في هذا الخبر يقتضي التأكيد على رده، فبينما يذكر الذهبي2 أن المحبوسين هم ابن مسعود وأبو الدرداء وأبو مسعود الأنصاري، إذا بابن حزم يذكر أبا ذر بدلا من أبي مسعود، فهل وقع الحبس من عمر؟ لو حدث لاشتهر، على أن خبرا كهذا يعظم خطره كان ولا بد أن يتطاير شرره، وأن يعرف به السابق واللاحق، ونتساءل: لماذا حبس عمر هؤلاء وهناك من هو أكثر رواية منهم؟ كأبي هريرة الذي روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثا، فإن قيل: إن أبا هريرة لم يكثر الرواية إلا بعد استشهاد عمر لكونه كان يخافه في حياته، قلنا: ولِمَ لَمْ يخف هؤلاء من عمر؟ وقد ذكر أن عمر نفسه روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم نيف وخمسمائة حديث، ولم يزد عليه من
1 الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج2 ص316-317.
2 تذكرة الحفاظ ج1 ص7.