الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال في ترجمة عمر: "وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب، فروى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن له، فرجع، فأرسل عمر في أثره، فقال: لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاث، فلم يجب، فليرجع" ، قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك، فجاء أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس، فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا، وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم، كلنا سمعه، فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر، فأخبره؛ أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر، ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم، ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد، وقد كان عمر من وجله أن يخطئ الصاحب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرهم أن يقلوا الرواية عن نبيهم، ولئلا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن"1.
1 تذكرة الحفاظ ج1 ص6-7.
نقد الصحابة للمتن:
غالبا ما يأخذ الصحابي من النبي مشافهة، وإذا أخذ عنه صلى الله عليه وسلم بواسطة فغالبًا ما يرفع الحديث ولا يذكر الواسطة.
وقد اتفق علماء الحديث على أن الرواية بهذه الكيفية تسمى "مرسل
الصحابي"، واتفقوا على أن "مرسل الصحابي" مقبول، وذلك فرع اتفاقهم على أن الصحابة عدول، فإذا نقد صحابي رواية ما أو ردها، فلا يعقل أن يكون ناقدًا أو رادًّا للرواية على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما صدر عنه فوق المناقشة وفوق الشك والريب، فهو المعصوم من الخطأ.
تدور المناقشات إذن بين الصحابي والصحابي فيما رواه أحدهما ليس من باب تكذيبه، وإنما من باب توهيمه أو توهيم الواسطة التي أخذ عنها، ومعلوم أن كل ابن آدم خطاء، وأن كل كلام يؤخذ منه ويرد عليه إلا كلام المعصوم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وإنما يقع الوهم عند الراوي الموثوق به وبعدالته، لواحد من الأسباب الآتية:
1-
إن يحدث بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدري أنه منسوخ.
2-
أن يقع له انقلاب بين شيئين أو لفظين، فيجعل كل واحد منهما مكان الآخر، وهذا هو "المقلوب".
3-
أن يقول مع رواية الحديث قولا من عند نفسه، متصلا بنص الحديث، فيظنه السامعون أنه مرفوع، وهذا هو "المدرج".
4-
أن يروي الحديث في مورد يجعله يتحمل من المعنى أكثر مما يحتمل.
5-
أن لا يضبط لفظ الحديث بحيث يختلف المعنى.
6-
أن يروي الحديث على غير وجهه لغفلته عن سبب الورود.
7-
أن يقع له غلط فيروي واهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعه منه"1.
وقد اشتهر بالنقد من أعلام الصحابة: أم المؤمنين عائشة وعمر وابن مسعود وابن عباس، ولا سبيل إلى استقصاء الأخبار التي انتقدها بعض الصحابة على بعض بالذكر، وإنما نسوق بعض الأمثلة التي يعلم بها مدى دقة الصحابة وتثبتهم في المروي، كما رأينا اسيتثاقهم من الراوي، وبالمثال يتضح الحال ويعلم أن المحدثين ما كانوا ولن يكونوا زوامل أسفار، ونقلة أخبار لا خبرة لهم بها، ولا قدرة لديهم على فهمها، وإنما كانوا الفاهمين الهاضمين لما نقلوه الحافظين الواعين لما سمعه، الملتزمين جانب الأدب فيما قبلوه أو ردوه.
المثال الأول:
روي أن عائشة ردت رواية من يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء والمعارج، واعتبرت ذلك من أعظم الفرية، واعتمدت في رأيها على قوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 2.
وقد فهمت من الإدراك في الآية الرؤية، وفهم العلماء منها الإحاطة3.
1 منهج نقد المتن ص106.
2 سورة الأنعام 103.
3 الحديث والمحدثون ص71.
المثال الثاني:
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي أو ببكاء أهله عليه" ، روى ذلك عنه أبو هريرة وعمر وعبد الله بن عمر والمغيرة بن شعبة، لكن عائشة رأت أن هذه الرواية تتعارض مع قوله تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1.
فبرأت الراوين عن الكذب أو نسبتهم إليه فقالت: "إنكم تحدثوننا غير كاذبين ولا مكذبين"، وقالت عن ابن عمر:"يرحم الله أبا عبد الرحمن أو غفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ"، ثم ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بدار رجل من اليهود قد مات، وأهله يبكون عليه، وأنه قال:"إنهم ليبكون عليه وإنه ليعذب"2.
المثال الثالث:
رد عمر رضي الله عنه قول فاطمة بنت قيس3 التي جاءته وأخبرته بأن المطلقة ثلاثا لا نفقة لها ولا كسوة، فقال لها عمر: لا ندع كتاب ربنا، ولا سنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت4.
1 سورة فاطر: 18.
2 منهج نقد المتن ص111-112.
3 هي فاطمة بنت قيس بن خالد، القرشية، الفهرية، أخت الضحاك بن قيس وهي من المهاجرات الأول، طلقها زوجها أبو بكر بن حفص فأمرها النبي أن تعتد عند أم شريك، ثم عند ابن أم مكتوم، فلما انقضت عدتها خطبها معاوية وأبو الجهم، فأشار عليها النبي بأسامة بن زيد. "انظر الإصابة ج4 ص385".
4 حجة الله البالغة ج1 ص142.
ثم كان أن استفاض واشتهر قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا نفقة ولا كسوة للمبتوتة على نحو ما روت فاطمة، فاستقر العمل على ذلك وقال به الفقهاء.
المثال الرابع:
مسألة الوضوء مما مست النار "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء مما مست النار ثم نسخه، وبقي عدد من الصحابة يرون الأمر الأول لعدم علمهم بالنسخ، ويرون إيجاب الوضوء من ذلك، ومنهم أبو هريرة، وقد انتقد ابن عباس رواية أبي هريرة، ووجد أن العقل لا يؤيدها، ولعل خلافا وقع بين الصحابة في تعيين الناسخ والمنسوخ قبل أن يصرح جابر ببيان ذلك فوجد ابن عباس أن الناسخ هو ما رجحه العقل ولذلك وجه النقد لمتن الرواية الأخرى.
وكان نقده منصبا على أن الطعام الحلال لا يمكن أن يكون سببا مؤثرا في نقض الوضوء فقال: "أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالا، لأن النار مسته؟ " أما أبو هريرة فجمع بيده حصى، وقال:"أشهد عدد هذا الحصى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "توضئوا مما مست النار" فقد استبعد ابن عباس أن يكون أكثر الطعام الحلال ناقضا للوضوء؛ لأن النار مسته والمعهود في الشريعة أن ينتقض الوضوء بالخارج النجس لا بالداخل الحلال الطاهر"1.
1 منهج نقد المتن ص139-140.
المثال الخامس:
نكاح المتعة: رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر، ثم نهى عنه، ثم رخص فيه في أوطاس، ثم نهى عنه، وكان آخر الأمرين نهيه عن نكاح المتعة، قال ابن عباس: كانت الرخصة للضرورة، والنهي لانقضاء الضرورة، والحكم باق إلى ذلك أي على الترخيص فيها عند الضرورة وقال الجمهور: كانت الرخصة إباحة والنهي نسخًا لها1.
وبذلك يبين أن نقد الصحابة لبعض الروايات كان موضع أخذ ورد، ولم يكن مسلما على إطلاقه، بل إن كثيرًا من العلماء تشدد في مساندة الرواية ورد النقد الموجه إليها، وعلى سبيل المثال في نقد عائشة لحديث ابن عمر:"إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" بتعارضه مع الآية. لم يقبل العلماء قولها والتمسوا وجوهًا للجمع بين الروايات الصحيحة وبين الآية بأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه لكون هذا من كسبه، حيث إنه لم يوص بضده قبل موته، أو حدث مع غيره فرضي عليه ولم ينكره، وربما يكون قد وصى بذلك، وطلب وقوعه إلى غير ذلك من وجوه الجمع التي تساند الروايات وتآزرها.
ويبقى تقلل الصحابة من الرواية وتثبتهم من الراوي والمروي، وطرحهم الشك وأخذهم باليقين، يبقى لهم هذا التحوط والمبالغة في التثبت والتأكد. يبقى لهم ذلك كله اعتزازا بالسنة وإعلاء لشأنها وذبا لكل محاولة تريد النيل منها سواء بإخراج بعضها أو إدخال ما ليس منها، ولا يعد هذا منهم بأي حال إعراضًا عن السنة أو هجرًا لها أو عدولا عنها إلى الرأي، فهم أبعد ما يكونون عن الرأي والقول به في الدين.
1 حجة الله البالغة ج1 ص143 "بتصرف".
وما أكثر ما نقل عنهم من ذم له وللأخذ به مع وجود النص المعول عليه، قال عمر رضي الله عنه:"أصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم أن يعوها، وتفلتت منهم أن يرووها، فاستبقوها بالرأي"، وقال رضي الله عنه:"اتقوا الرأي في دينكم"، وقال أيضا:"أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم"، قال ابن القيم بعد سوق هذه الآثار وغيرها عن عمر:"وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة"1.
ثم ساق عن كثير من الصحابة ذمهم للرأي وعليه فلا سبيل لهم إلى الأخذ به إلا إذا عجزوا عن الوقوف على نص في النازلة أو الواقعة، فهم لا يقدمون شيئا على كتاب ربهم تبارك وتعالى وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. تلكم طريقتهم ومنهجهم في المحافظة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية الوقع في الخطأ أو تسرب الدس إلى الحديث الشريف من الجهلاء وأصحاب الأهواء، أو أن تحمل بعض الأحاديث على غير وجه الحق والصواب، فيكون الحكم بخلاف ما أخذ به، فعلوا ذلك كله احتياطيا للدين ورعاية لمصلحة المسلمين لا زهدا في الحديث النبوي ولا تعطيلا له.
فلا يجوز لإنسان أن يفهم من منهاج الصحابة ومن تشدد عمر خاصة
1 أعلام الموقعين ج1، ص55.
هجر الصحابة للسنة أو زهدهم فيها، معاذ الله أن يقول هذا إلا جاهل أو صاحب هوى، لا علم له بقليل من السنة ولم تخالط قلبه روح الصحابة، ولا أنار سبيله قبس من هداهم.
فقد ثبت عن الصحابة جميعا تمسكهم بالحديث الشريف وإجلالهم إياه وأخذهم به، وقد تواتر خبر اجتهاد الصحابة إذا وقعت لهم حادثة شرعية من حلال أو حرام، وفزعهم إلى كتاب الله تعالى فإن وجدوا فيه ما يريدون تمسكون به، وأجروا -حكم الحادثة- على مقتضاه، وإن لم يجدوا ما يطلبون فزعوا إلبى السنة، فإن روي لهم خبر أخذوا به ونزلوا على حكمه وإن لم يجدوا الخبر فزعوا إلى الاجتهاد بالرأي.
هكذا كان منهج الصحابة في كل ما يرد عليهم، وليس لأحد بعد هذا أن يتخذ بعض ما ورد عن الصحابة ذريعة لهواه"1.
ومن كل ما مضى يتضح لنا أن الصحابة رضوان الله عليهم بلغوا الذرورة في التثبت من الحديث، وأعملوا الرواية والأناة في تحمل الخبر وأدائه، ولم يحدثوا إلا عن ثقة تامة بصحة ما يحدثون به، وقد حرصوا كل الحرص على المحافظة على الحديث، وما تركوا وسيلة تبلغهم هذه الغاية إلا أخذوا بها، وتحروا أقوم المناهج وأدقها في الذب عن السنة ودفع كل دغل عنها.
وقد حمل لواء هذه المحافظة والحرص على السنن جميع الصحابة، وكان عمر بما تميز به من شدة في الحق، وغلظة على أهل الباطل ذا شهرة خاصة في
1 السنة قبل التدوين ص98-99 "بتصرف".