الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الحديث في العهد النبوي
القرآن يقدم الحديث وصاحبه إلى الأمة:
قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 1، وقال عز ذكره:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 2.
في قمة الامتنان، وفي معرض الحديث عن دروب الإنعام والإحسان التي منّ بها الرحمن على الإنسان، يسوق لنا القرآن بآكد أسلوب وأقواه حديثا عن مهام الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، وإنما ينتفع به المؤمن وتظهر وجوه التفضيل به على المؤمنين الذين يشرق نوره في قلوبهم، وتسطع أضواؤه في كل جوانب حياتهم، فينكشف لهم تمام المنة به عليهم.
واللام في قوله: {لَقَدْ مَنَّ} موطئة للقسم، والتقدير: والله لقد منّ، والمنّ في لغة القرآن يجيء على معانٍ منها: ما ينزل من السماء، الذي قالوا فيه: إنه
1 سورة آل عمران 164.
2 سورة الجمعة 2.
أحلى من العسل، وهو الذي أنعم به على بني إسرائيل {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} ، ومنها القطع كقوله:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ومنها أن تمنّ بما أعطيته للغير وتتحدث عنه فيتأذى به ذلك الغير.
ومنه قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} ، وقوله:{ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} .
ومنها: الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه كقوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} والمنان في صفة الله تعالى: المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا.
والمفسرون1 على أن {مَنَّ} هنا بمعنى أحسن وأنعم على المؤمنين في علمه أو الذين يئول حالهم إلى الإيمان، منّ عليهم ببعث رسول عظيم من أشرفهم وأنبلهم وأكرمهم وأفضلهم وأوسطهم نسبا، ثم كان مهمة الرسول المبينة في هذه الآية تمثل ثلاث حلقات: قراءة للآيات، وتبليغ لها، وتزكية للنفوس وتطهيرها، وتعليم للكتاب وللحكمة، وقد علم أن الكتاب هو القرآن. فما الحكمة؟ لن تكون إلا السنة كما نص على ذلك أبو السعود2، وسبقه إلى تقريره وتأكيده الشافعي3، وهو يطلب ويستقصي أنواع بيان والسنة للقرآن.
1 انظر التفسير الكبير المعروف بمفاتيح الغيب ج9، ص80، وروح المعاني ج4، ص114.
2 إرشاد العقل السليم ج1، ص441.
3 الرسالة للإمام الشافعي ص32، وص78.
وتزيدنا سورة الأعراف بعض الأوصاف التي كانت علامات وسمات واضحة فيه صلى الله عليه وسلم، نصبت حتى قبل زمان نبوته، إقامة للحجة، وإسقاطا لمعذرة المتأبين على طاعته الرافضين لمتابعته {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1.
وتتوجه سورة المائدة بالخطاب في أشد عتاب لأهل الكتاب على الإعراض عن الحق والتعامي عن النور {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.
ومعروف أن الكتاب المبين إنما هو القرآن، ولن يكون النور إلا من كلف بالبيان.
من ذلك كله يتضح جليا المنزلة التي بوأها الله نبيه صلى الله عليه وسلم، والصورة التي قدمه للناس من خلالها، إنه حبيبه ومصطفاه وخيرته من خلقه ومجتباه لتبليغ ما أراده من خلقه، فمنطقي أن يأمر بطاعته وأن يقرن
1 سورة المائدة 15، 16.
2 سورة الأعراف 157.
تلك الطاعة بطاعته جل في علاه فربما ينظمها أمر واحد، وربما تنفرد كل طاعة بأمر على استقلالها.
فالمؤمنون يقرءون في سورة آل عمران من كتاب ربهم المكنون: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 1 وبعد تسع وتسعين آية يقرءون في نفس السورة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2.
سورة النساء تؤكد على وجوب طاعة الرسول والتحاكم إليه:
ثم يجيء إفراد كل من الطاعتين على الاستقلال في سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 3.
وأعجب كل العجب لإفراده طاعته بأمر وطاعة رسوله كذلك، ثم تأمل دمج طاعة أولي الأمر في طاعته تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإيجابه علينا رد ما يعرض فيه التنازع إلى الله ورسوله، وبعد خمس آيات يجيء قسم أصدق القائلين، ففيم القسم؟ وعلام يقسم؟ على نفي الإيمان عن كل من لم يحتكم إليه ويحكمه فيما شجر أو ظهر من نزاع، بل ولا يكتفي
1 سورة آل عمران 31، 32.
2 سورة آل عمران 132.
3 سورة النساء 59.
بمجرد التحاكم، بل لا بد من الرضا التام عن كل ما صدر من الأحكام، والإذعان والتسليم والقبول لقضاء الرسول صلى الله عليه وسلم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1.
ونترك الحافظ ابن كثير المؤرخ المفسر المحدث يسفر ويبين عن مناهج المحدثين في فهم وإفهام آي التنزيل "يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحدكم حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا؛ ولهذا قال:{ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة.
كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
ثم ساق رواية البخاري بسنده عن عروة قال: "خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة2، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم أرسل
1 سورة النساء 65.
2 قوله "شراج" بكسر الشين جمع شرج بفتح فسكون كبحر وبحار، ويجمع على شروج، والمراد به هنا موضع مسيل الماء. و"الحرة" اسم مكان في المدينة. "فتح الباري بتصرف ج5 ص433".
الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك" ، فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية"1.
وأشار الحافظ ابن كثير إلى أن البخاري أخرج الحديث في كتاب التفسير والشرب والصلح، وأن الإمام أحمد وافقه على إخراجه، وأن أكثر طرقه فيها إرسال لأن عروة بن الزبير لم يسمع من أبيه.
والراجح أنه سمعه عن عبد الله عن أبيه، وقد رجح البخاري بإخراجه له اتصاله بناء على ترجح سماع عروة من الزبير، وكيفما درا الحديث فهو عن الثقات.
والحديث يحكي نازلة حدثت مع الزبير، وكل من عروة وعبد الله توجد عندهما داعية قوية لحفظه لتعلقه بأبيهما.
وقد استرسلنا مع هذا الحديث لشدة الإعجاب بتحكم الصنعة الحديثية في ابن كثير2.
1 البخاري في كتاب الأشربة ج5 ص431، وأخرجه في كتاب التفسير ج9 ص323 بهامش الفتح.
2 تفسير ابن كثير ج1، ص520-521 "بتصرف".