الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى شاكلة ضمام قدمت الوفود من السهول والآكام، بل ومن كل مكان تطلب، وتتلقى وتعود إلى قبائلها مبشرة بالدين الجديد، وبذا ذاعت السنة وشاعت وطبقت الآفاق، واشتهرت وانتشرت في كل مكان، وكان وراء انتشارها واشتهرها عوامل نوجزها لك فيما يأتي.
عوامل وأسباب انتشار السنة في العهد النبوي:
لم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا والسنة مشهورة منشورة في جزيرة العرب وخارجها.
أما جزيرة العرب؛ فقد دخل أكثرها في دين الله أفواجا، وأما خارج الجزيرة؛ فقد ترامت إليهم الأخبار الكثيرة عن هذا الدين الجديد، ووصلت كتبه صلى الله عليه وسلم ورسله إلى قصور كسرى وهرقل والمقوقس وأمراء الحيرة وغسان، وغيرها من البلدان، مما يطمئن الباحث معه إلى أن يقول: إن السنة قد انتشرت، وملأت الآفاق، وصاحبها ما زال بعد يصدع بأمر ربه، ويبلغ ما أوحي إليه.
وقد كانت هناك عوامل وراء انتشار السنة أهمها:
1-
نشاط النبي صلى الله عليه سلم، وجده، واجتهاده في تبليغ الدعوة، فما ترك سبيلا إلى نشرها إلا وسلكه، وما وجد بابا يمكن أن يفتح أمامها إلا وطرقه، عرض نفسه على القبائل، غير آبه بما لاقى من صنوف الأذى، ويا لهولِ ما لاقى، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، وما ضعف، وما استكان، وإنما صبر، وثابر، وجاهد في الله حق جهاده، وأتقن، وأحسن، فأنجز له الوعد
المبذول {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} ، فوجدت دعوته طريقها إلى قلوب الناس، وتبوأت السنة مكانتها عند المسلمين المستجيبين لما دعوا إليه.
2-
طبيعة الإسلام ونظامه الجديد، الذي جعل الناس يتساءلون عن أحكامه وعن رسوله وأهدافه، فكان بعض من يسمع بالدعوة يقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام، فيعلن إسلامه، وينطلق إلى قومه ليبلغهم ما رأى، ويخبرهم ما سمع.
3-
نشاط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في تلقي السنة، واندفاعهم في طلب العلم، وحرصهم على كل ما يصدر عن معلمهم حرص الضنين، وقد مر الكثير من صور تكريمهم له، وتهافتهم على وضوئه، وأتمارهم بأمره، وابتدارهم إلى طاعته.
4-
دور أمهات المؤمنين:
لا شك أنهن قمن بدور بارز في نشر السنة وتبليغها، وأسهمن بنصيب موفور في تبليغ الدين إلى نساء المؤمنين، فمعلوم أن هناك مسائل كثيرة تستحيي المرأة أن تستبينها من الرجل، وقد علم أنهن شكون كثرة مجالسة الرجال له، فقلن: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما فخصهن بيوم، ثم كان تقدير الله عز وجل واختياره نساء نبيه، مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات عالمات محدثات مشتهرات بالحرص على ذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، وشاءت حكمة العلي القدير كثرة عددهن، فاجتمعن في عصمته، وبلغن تسع نسوة، ونبغ منهن الكثيرات.
فعرفت الصديقة بنت الصديق بسعة العلم، ورحابة الأفق، والسؤال عن كل شيء، ومراجعة الحكم للتثبت منه، واشتهر عن السيدة الجليلة أم سلمة اللباقة وحسن التصرف، واشتهرت السيدة زينب بنت جحش بالنسك وكثرة العبادة، وما أعظم بركة جريرة بنت الحارث على ذويها.
5-
النساء الصحابيات شاركن بدور في تبليغ السنة، لا يقل على دور الصحابة، واضطلعن مع أمهات المؤمنين بتبليغ أحكام الدين، وحفظ ما يخص النساء، ولا سبيل إلى خبرة الرجال به، وما أكثر ما نقرأ في السنة من تساؤلات واستفسارات ومناقشات نسائية، وقضايا فرضت نفسها على الفقه الإسلامي، ونبأ ذلك كله مستفيض.
6-
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار السنة؛ الرسل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبائل، وإلى الملوك والأمراء، وغالبا ما أرسل معهم كتبا يبين فيها جوهر دعوته، ويدعو إلى متابعته فما أن استقرت الأمور في المدينة المنورة، حتى خرج أولئك الرسل يطوفون البقاع، ويجوبون الأسقاع محملين بزاد روحي ومزودين بمنهج متكامل وبطاقة حماسية، فهم ميسرون لا معسرون، ومبشرون لا منفرون، على نحو ما أمر معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري حين أرسلا إلى اليمن، وهم عادلون لا جائرون، وبلغاء وليسوا عيياء، وقد اشتهر العام السابع من الهجرة بإرسال الكتب، فبعد صلح الحديبية، ووضع الحرب بين المسلمين، وبين أعدائهم، كانت الفرصة سانحة لتحرك سياسي محسوب، وفي يوم واحد انطلق ستة نفر إلى جهات مختلفة يتكلم كل واحد بلسان القوم الذين بعث إليهم.
فقد اشتهر أنه راسل رسله إلى قيصر الروم، وإلى أمير بصرى، وإلى الحارث بن أبي شمر أمير دمشق، ومن قبل هرقل، يدعوهم إلى الإسلام، كما وجه كتبه إلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وأرسل كتبه ورسله إلى عمان واليمامة وغيرها.
وكان الرسل يجيبون عما يسألهم عنه الملوك والأمراء ورؤساء القبائل، ويبينون لهم الإسلام وغاياته على ضوء ما يزودهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوجيه والإرشاد، وكان صلى الله عليه وسلم يولي على كل قوم قبلوا الإسلام كبيرهم، ويمدهم بمن يفقههم ويعلمهم.
7-
الفتح الأعظم:
بعد أن نقضت قريش عهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأعانت بكرا على خزاعة، فبيت الخزاعيون بالوتير هجدا، وقتلوا ركّعا وسجّدا، وقدر الله المخرج للمضطهدين في مكة، الذين لا يجدون سبيلا للفرار بدينهم، ويبقيهم الحرص على الوفاء مكبلين في أغلال الظلم والصف القرشي، فسار النبي صلى الله عليه وسلم في جيش عرمرم قوامه عشرة آلاف مجاهد، لم تشهد له جزيرة العرب قبل ذلك نظيرا، ودخل مكة فاتحا منتصرا فرحا مستبشرًا بنصر الله والفتح المبين، وخطب في جموع الذين آذوه وطردوه، وشملهم بعفوه وصفحه الجميل، واشتهرت خطبة الفتح بما أرسته من دعائم، وأصلته من قواعد؛ كنهيه عن أن يقتل مسلم بكافر، وعن أن يرث المسلم الكافر، وعن أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وكتغليظه حرمة مكة، وزجره
من نادى على ذلك اليوم أنه "يوم الملحمة" يوم تستباح فيه الحرمة، لكن الرءوف الرحيم اعتبره يوم المرحمة، ويوم تعظيم الحرمة، ولقد أذن يوم الفتح بدوال دولة الكفر، وسقوط معقل المناوأة والمجابهة للدين الجديد.
8-
الوفود:
كان فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة، وبعده حنين في شوال من نفس السنة، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واستقبل فيها سنة تسع، تلك السنة التي عرفت بعام الوفود لكثرة الوفود التي وفدت على المدينة وجاءت من داني المكان وقاصيه، تتزود بتعاليم الدين الجديد وتتعلم أحكامه.
وكان من هذه الوفود من يقيم عند النبي صلى الله عليه وسلم الليالي ذوات العدد، ثم يقفلون عائدين إلى قومهم منذرين، وقد وقفت على نبأ الوفد الذي تزعمه ضمام بن ثعلبة.
ومن الوفود التي قدمت المدينة وطار نبؤها، وعمرت برواية خبرها وفد عبد القيس، ووفود بني حنيفة وطيئ وكندة وأزدشنوءة، ووفد ملوك حمير ووفد همدان.
والحديث عن الوفود وأثرها في نشر السنة طويل.
9-
حجة الوداع:
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وأنجز له ولصحبه الوعد الصدق، فمكنهم من دخول البيت آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، وأظهر لهم مكنون ما لا سبق لهم بعلمه، فمكنهم من أداء الحج، وصحبت النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة جموع غفيرة، وخطب خطبته الجامعة في يوم الحج الأكبر، يوم أن أكمل الله دينه وأتم نعمته ورضي الإسلام لهذه الأمة دينا، أبان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم عرفة الكثير من الأحكام منها: حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم كحرمة الزمان والمكان، ومنها: وجوب أداء الأمانة ووضع ربا الجاهلية، وتحقيقا لمبدأ المساواة بين الناس كان أول ربا وضعه ربا عمه العباس، ومنع النسيء والتأخير للشهر الحرام تأكيدا لما قرره الكتاب، وبين حقوق الرجال والنساء، وحض على حسن معاملتهن والترفق بهن، وأكد على أهمية ما أبانه من أحكام، ووجوب تبليغه إلى الأنام بقوله:"ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه"1.
وفي رواية: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب
…
ألا هل بلغت، ألا هل بلغت" 2.
1 كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ أوى من سامع، ج1 ص167-168، صحيح البخاري بهامش فتح الباري.
2 المصدر السابق، كتاب العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب ج1 ص208-209.
هكذا انتشرت السنة في العهد النبوي، وأخذ تبليغها الطابع التكليفي، فإيصالها إلى الغير أمانة يجب أن تؤدى إلى أهلها، ويستحق مؤديها الثناء عليه لرعايته إياها وحفظها.
وصار الصحابة هم الأمناء عليها، ترى هل كانوا أهلا لتلك الأمانة؟ أم مضيعين لها؟ ذلك ما لا يقوله عاقل، إذ إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ما كانوا قط مضيعين ولا مفرطين أو مقصرين أو مُحْدِثين مبتدعين، وإنما كانوا المتبعين المقتدين الراعين للأمانة والمؤدين لها، الحريصين على التبليغ المتحوطين في النقل المتثبتين في العمل والقول، فكيف كان حالهم مع الحديث أو مع السنة؟ وما هو الدور الذي تمادوا في أدائه؟ وما طريقتهم في الأخذ والإعطاء لها؟ ذلك ما سنتبينه في المبحث التالي: السنة في عهد الصحابة.