الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن كل ما سبق يتضح للرائي الجو القائم الذي ظللته إحن الاختلاف ولبدته بغيوم التردد والشك أهواء وعصبيات، ومع ذلك كله لم تحجب تلك الغيم سماء الحقيقة، ولم تطمث إشراق الحق الذي ظل منبلجا في قلوب أهله.
ومن كرم ذي الفضل العظيم، وفيض جوده العميم أن انحصر أهل الأهواء والبدع والعصبيات في شراذم قليلة، وتجمع أنصار الحق ودافعوا عنه في ثبات وصدق، فكان صوتهم الأقوى ونداؤهم الأعلى ونهجهم الأوضح الأجلى أمام تلك الأمواج العاتية وقفت الكثرة الكاثرة من التابعين تذود عن حياض الدين وتظهر إفك الأفاكين، وتتصدى في ثبات ويقين لأي محاولة تستهدف كتاب الله أو سنة نبيه، فمع التابعين وهم في أعمهم وأغلبهم متبعون لا مبتدعون، ومنصفون لا متعصبون.
جهود التابعين في المحافظة على الحديث ومقاومة الضالين:
على طريق الصحابة ومع بعضهم سار التابعون لهم بإحسان يمثلون الكثرة وينهضون بهذه المهمة: المحافظة على الحديث وتبليغه سالما من الدس والتدليس نقيا من الهوى بعيدا عن التعصب.
مضى جمهور التابعين غير منخدع بترويج أهل البدع والأهواء لآرائهم الفاسدة، وإنما تمسك بالسنة ولا يهتز، واحتياط في الرواية وتثبت من الأخبار، فهم يوقنون أن الحديث دين، فلينظروا عمن يأخذون دينهم وهم يدركون اختلاط الغث بالسمين، فلا بد من المبالغة في التأمل والتبصر بما ينقلون، وما كان التابعي ليقبل أن يكون حاطب ليل ربما يحتطب أو يجمع إلى
الحطب الأفاعي والثعابين وهو لا يدري بل لا بد وأن يحاط خبرًا بما يرويه.
كان ولا بد أن يسألوا، وأن يتحروا والعلة في ذلك يوضحها لنا أحدهم محمد بن سيرين1 إذ يقول:"إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"2 وقال أيضا: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"3.
هكذا نستطيع أن نقول إن شطط أهل البدع والأهواء واجتراءهم على الحديث بالوضع والدس فيه، أو محاولة النيل منه بانتقاص راوية، هذا الشطط والاجتراء كما أثمر جانبا سلبيا من خلال المجابهة والمضادة بين أصحاب الأهواء، أثمر أيضا جانبا إيجابيا تمثل في حفز همم أنصار الحق وشحذ عزائمهم ليشتد تمسكهم بالحق ويقوى بحثهم عن اليقين، ويزدادوا تثبتا إلى تثبتهم، واحتياطا إلى احتياطهم.
1 كنيته أبو بكر ونسب إلى الأنصار لكونه مولى أنس، وهو من سبي عين التمر، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وتوفي في شوال من سنة عشرة ومائة بعد الحسن بمائة يوم، وعرف ابن سرين بالتعبير، وهو من أروى الناس وأوثقهم عن عبيدة السلماني وشريح، ولقي ثلاثين صحابيا، وأجمعوا على ثقته وورعه وإمامته. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج9 ص214، وطبقات ابن سعد ج2، ق1، ص140 تذكرة الحفاظ ج1، ص77 وطبقات الحفاظ ص31-32، والكاشف ج2، ص51-52.
2 مسلم بشرح النووي ج1، ص84.
3 المرجع السابق ج1، ص84.
وقد كان التابعون يسترشدون ويستشهدون برأي من بقي معهم من الهادين المهديين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم بسنده عن "مجاهد1 قال: جاء بشير العدوي2 إلى ابن عباس، فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع! فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف"3.
رأى التابعون رأي العين أن الناس ركبوا الصعب والذلول، فلم يقبلوا من كل أحد استأمنوا على الذهب والفضة وأتمنوا عليهما ولم يأتمنوا على
1 ابن جبر المكي المخزومي مولى السائب بن أبي السائب، ولد سنة إحدى وعشرين، اشتهر بالتفسير وعرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، واشتهر بميله إلى النزعة العقلية في التفسير، وتوفي سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث ومائة. نظر ترجمته في طبقات ابن سعد ج5 ص343، تهذيب التهذيب ج10، 42 ميزان الاعتدال ج3، ص439، تذكرة الحفاظ ج1، ص92، طبقات الحفاظ ص35-36.
2 هو بشير "بصيغة التصغير" ابن كعب العدوي، ويقال: العامري أبو أيوب، روى عن شداد بن أوس وأبي ذر وأبي هريرة وروى عنه ابن برية وثابت البناني وقتادة وغيرهم، وهو ثقة عند سائرهم. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج1، ص471-472، والكاشف ج1، ص160.
3 مسلم بشرح النووي ج1، ص81-82.
الحديث أن يأخذوه إلا ممن يثقون فيه، ها هو ذا أبو الزناد1 يقول:"أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله"2 وكان الإمام مالك يقول: لقد أدركت في هذا المسجد أي النبوي سبعين ممن يقول: قال فلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو أن أحدهم أؤتمن على بيت مال لكان أمينا عليه، ولكني ما أخذت عنهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الشأن أي علم الحديث والرواية.
على هذا النحو كان احتياط التابعين وتثبتهم فيما يروون، واستيثاقهم ممن عنه ينقلون، على أنهم قد حاكوا الصحابة وقلدوهم في التقلل من الحديث، والتخفف منه، فلا يروي الواحد منهم إلا قدر ما تلح عليه الضرورة ويحتاج إليه البيان "جالس الشعبي3 ابن عمر سنة فما سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"4 وقال مجاهد: صحبت ابن عمر
1 عبد الله بن ذكوان مولى رملة بنت شيبة زوج عثمان، وقيل: إن ذكوان أخو أبي لؤلؤة، وكان أبو الزناد يلقب بأمير المؤمنين في الحديث، وهو من أعلم التابعين ومن أرواهم، لقي من الصحابة ابن عمر وأنسا وأبا أمامة، وتوفي أبو الزناد سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين ومائة عن ست وستين سنة انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ ج1، ص134، وتهذيب التهذيب ج5، ص203، وميزان الاعتدال ج2، ص418، وطبقات الحفاظ ص54-56.
2 مسلم بشرح النووي ج1، ص86-88.
3 هو عامر بن شراحبيل، ولد لست مضت من خلافة عمر، وأدرك خمسمائة صحابي، قال عن نفسه: ما كتبت سوداء في بياض قط، ولا حدثني رجل بحديث فأحببت أن يعيده عليّ، ولا حدثني رجل بحديث إلا حفظته توفي سنة ثلاث أو أربع أو سبع أو عشر ومائة، انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ ج1، ص79، طبقات ابن سعد ج6، ص171 وتهذيب التهذيب ج5، ص65.
4 سنن الدارمي ص84، ج1، وابن ماجه ج1، ص8.
من مكة إلى المدينة، فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث:"مثل المؤمن مثل النخلة".
وقال السائب1: إنه "صحب سعد بن أبي وقاص2 من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا حتى رجع"3.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن التابعين يعدون بحق امتداد للصحابة في كل شيء، وهم بنص المعصوم صلى الله عليه سلم خير القرون، ولا يجانب الصواب من يقول: إن دور التابعين كان أدق وموقفهم كان أصعب وأشق، إذ كان عليهم أن يواجهوا الخطر المحدق، وأن يتصدوا للمحاولات التي بذلت عبثا للنيل من الحديث والمحدثين.
وإذا وقفنا على تراجم بعض التابعين فسيهولنا ما لهم من مواقف جليلة، وإذا ذهبنا معهم حيث ذهبوا، ومضينا إلى الأمصار التر تفرقوا فيها أو التي وجدوا فيها تلاميذ نجباء لأساتذةٍ ألباء فقهاء، فسننبهر بتلك المدارس.
1 ابن يزيد بن سعيد له ولأبيه صحبة، وهو من صغار الصحابة، توفي سنة إحدى أو اثنتين وثمانين. انظر ترجمته في الإصابة ج2، ص12-13.
2 واسم أبي وقاص: وهيب بن عبد مناف، ومن هنا كان خالا له صلى الله عليه وسلم كنية سعد أبو إسحاق، أحد السابقين، قال عن نفسه: إنه كان ثالث ثلاثة في الإسلام، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله كان مستجاب الدعوة، وكان أحد قاد الإسلام، توفي سنة خمس وخمسين على الراجح وكان معتزلا للفتنة. انظر ترجمته في الاستيعاب ج2، ص18-27 بهامش الإصابة، طبقات ابن سعد ج3، ق1، ص97 والإصابة ج2، ص34.
3 سنن ابن ماجه ج1، 9.