الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
"
الإمام الشافعي وجهوده في السنة
":
لا نظن أن أي إنسان كائنا من كان، مهما أوتي من البيان يتسنى له أن يوفي ترجمة الإمام من حق وإكرام وعرفان بما أسدى وما أدى للحديث خاصة وللعلم عامة، فمن الشافعي؟
إنه إمام الأئمة، وعلم هذه الأمة، وحيد دهره، وفريد عصره أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي القرشي الحسيب النسيب الملتقي مع الشفيع الحبيب صلى الله عليه وسلم في الجد الثالث "عبد مناف بن قصي"، فهو من أشرف القبائل "قريش"، وأفضلها بعد النبي وأصحابه. ولد سنة خمسين ومائة حيث مات أبو حنيفة، وهكذا يقدر الملك العلام أن يموت إمام ويحيى إمام، وكان مولده بغزة، ثم حمل إلى مكة، وهو ابن سنتين، وتربى بالصحراء، وأخذ كل ما فيها من صفاء، ورحل في طلب العلم ضاربًا في طول البلاد وعرضها، نقل عنه أنه حفظ القرآن وهو ابن سبع والموطأ وهو ابن عشر، وكان أجل من رواه عن مالك وأفقههم به.
وقد استظهر الشافعي علم المدينة بعد أن نهل من علم مكة وأخذ عن شيخ المكيين سفيان، كما استظهر فقه أبي حنيفة والعراقيين مشافهة عن محمد بن الحسن وأبي يوسف، كما سمع من ابن علية وابن أبي فديك ومن خلق لا يحصون.
وعنه أخذ أساطين الرواية والفقه كأبي ثور والإمام أحمد ويونس بن
عبد الأعلى، وحرملة بن يحيى، والربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، والمزني، وأبي يعقوب البويطي، وخلق كثير غيرهم.
قال الإمام أحمد: إن الله تعالى يقيض للناس في رأس كل مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب، فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز وفي رأس المائتين الشافعي.
وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يفتي وله خمس عشرة سنة، وكان يحيي الليل إلى أن مات.
وقال ابن مهدي: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها.
ولقد برع الشافعي في كل شيء، فكان فارسًا لا يشق له غبار، حاذقا في الرمي، من أصوب قريش رماية، يصيب من العشرة عشرة. ولله دره من شاعر مجيد ولغوي متمكن ونسابة أحاط بأيام العرب خبرًا.
ونقول مع الأستاذ المحقق الكبير السيد أحمد صقر أثناء تقدمته لكتاب: "مناقب الشافعي" للبيهقي: ولا أريد أن أطيل في ذكر ألوان عظمة الشافعي التي تتجلى من هذا الكتاب، فإن فيما رواه البيهقي عن داود بن علي الظاهري غنية عن ذلك.
وأقوال داود تلك من أهم ما اشتمل عليه كتاب المناقب. قال داود: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره:
فأول ذلك: شرف نسبه ومنصبه، وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها: صحة الدين وسلامة الاعتقاد من الأهواء والبدع.
ومنها: حفظه لكتاب ربه، ومعرفته به، وجمعه لسنن النبي، ومعرفته بالواجب منها من الندب، ومعرفته بناسخ القرآن من منسوخه، والعام منه والخاص، ثم معرفته بسيرة هدى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأئمة الهدى بعده، ومغازي رسول الله وخلفائه، وتركه تقليد أهل بلده، وإيثاره ما دل عليه كتاب ربه وثبت عن نبيه.
ثم ما كشف عن تمويه المخالفين، وما أبطل من زخرفهم بالحق الذي قذف به على باطلهم فيدمغه، ثم ما بين من الحق الذي سهل -بتوفيق خالقه- معرفته حتى استطال به من لم يكن يميز بين ظلام وضياء، وألفوا للكتب وناظروا المخالفين.
ومنها: ما من الله عليه من منطقه الذي طبع عليه، وكان يعترف له به كل من شاهده، ويقر بتقصيره عن بلوغ أدنى ما من الله به عليه منه.
ومنها: ما وقاه الله من شح النفس الموجب له الفلاح.
وما علمت أحدا من عصره كان أمن على أهل الإسلام منه لما نشر من الحق وقمع من الباطل، وأظهر من الحجج وعلم من الخير".
وقل أن تجد مترجما للشافعي إلا وهو يعتذر بضيق المقام عن توفية الإمام حقه من الإجلال والإعظام.
ونشير إلى أهم من ترجم له من الأئمة الأعلام؛ فمنهم: البخاري1، وابن أبي حاتم2، وابن النديم3، والبيهقي4، والخطيب5، وابن الجوزي6، وابن فرحون7، والذهبي8، وابن كثير9، وابن حجر10، والسيوطي11، والكتاني12، وابن خلكان13، والشيخ أبو زهرة14، والدكتور السباعي15، والدكتور أبو زهو16، والأستاذ عامر حيدر17، والدكتور صبحي صالح18.
1 في التاريخ الصغير ق2، ص302.
2 في الجرح والتعديل ج7، ص201-104.
3 في الفهرست ص294-297.
4 في كتاب مناقب الشافعي، وهو جزآن يقارب الألف صفحة.
5 في تاريخ بغداد ج2، ص56-73.
6 في صفة الصفوة ج2، ص248-259.
7 في الديباج المذهب ج2، ص156-161.
8 في التذكرة ج1، ص361-363، في الكاشف ج3، ص17.
9 في البداية والنهاية ج10 ص251-252.
10 تهذيب التهذيب ج9، ص25-31.
11 في طبقات الحفاظ ص152-154، حسن المحاضرة ج1، ص303-304.
12 في الرسالة المستطرفة ص14.
13 في وفيات الأعيان ج4، ص163-169.
14 في تاريخ المذاهب الإسلامية ص435-482.
15 في السنة ومكانتها في التشريع ص439-441.
16 في: "الحديث والمحدثون" ص298-301.
17 في مقدمة تحقيقه لكتاب اختلاف الحديث للشافعي ص9-28.
18 في علوم الحديث ومصطلحه ص388-390.
جهود الشافعي في السنة:
عن جهود الشافعي في السنة حدث بإسهاب، وأطنب ما وسعك الإطناب، فلقد كان رضي الله عنه فائق العناية بالحديث والمحدثين، شديد الاهتمام بالأصلين الأصيلين للدين، فكان أعلم أهل عصره بمعاني القرآن والسنة، وقد جمع في مذهبه بين أطراف الأدلة مع الإتقان والتحقيق والغوص على المعاني.
ولقد عرف فضله على المشتغلين بالأثر، وذلك بإظهار معاني السنن ومعالمها، وامتشاقه الصارم المسلول في وجه كل من اجترأ على الحديث وأهله، أو آثر على القرآن والسنة سواهما. فها هو ذا يشتد على أهل الأهواء وكثيرا ما نهى عن ترك الكتاب والسنة إلى غيرهما من آراء الناس وأهوائهم، وقال: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد. وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في القبائل وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جزاهم الله خيرًا، حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل. ومما قاله نظما في هذه المعنى:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة
…
إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا
…
وما سوى ذاك وسواس الشياطين
ولقد صدق قول الزعفراني: كان أصحاب الحديث رقودًا، فأيقظهم الشافعي. فبم أيقظهم؟ بخدمته الجادة الدءوبة للسنة من خلال ذوده عن
حياضها، ومنافحته عن أهلها، أقام الحجج والبراهين على حجيتها، والتمس اعتماد خبر الواحد والركون إليه من آكد الوجوه، وبالغ في الرد على مهمليه، ولو وقفت على كتابه "الأم" المنسوب إليه قطعا، لبدت لك قطعية أدلته، وسلامة حجته، فكيف بك إذا قرأت الرسالة التي يكفيها تقريظا ومدحا أنها من تصنيف الشافعي؟ كتبها مرتين قديما في مكة، ثم أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي ببغداد، ويبدو أن ذا سر تسميتها بالرسالة، كان ابن مهدي قد طلب إليه أن يكتب له كتابا في معاني القرآن، فكتب له مجيبا طلبه، ثم أعادها الشافعي بمصر إملاء على الربيع، وهي أصل الأصول لكتب الأصول بين فيها منزلة السنة من الكتاب، ووجه بيانها له، ثم تكلم عن الناسخ والمنسوخ في تثبت ورسوخ، ثم سرد وجوها من الفرائض والأحكام، ثم أورد وجوها من علل الحديث، ثم تكلم عن العلم وأردفه بالحديث عن خبر الواحد والإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان والاختلاف؛ كل ذلك في أدب راق ورائق، وفي أسلوب مشوق فائق، وليس لمشتغل بالحديث أو الفقه أو الأصول أو التفسير غنى عن قراءة كتاب "الرسالة"، ومن كتب الشافعي المتداولة المطبوعة كتاب "اختلاف الحديث".
وقد طبع في حاشية الجزء السابع من كتاب "الأم" بمطبعة، بولاق، ثم حققه السيد عامر أحمد حيدر، وقدم له مقدمة طيبة، وخرج أحاديثه، وجاء الكتاب في ثلاثمائة وست عشرة صفحة.
ويعنى باختلاف الحديث أو مختلفه إتيان حديثين متضادين في المعنى ظاهرًا، فإن أمكن التوفيق بينهما صير إليه، وإلا حاولنا الترجيح بينهما
فيعمل بالراجح دون غيره، وكان الشافعي أول من تكلم فيه، وصنف من غير قصد الاستيعاب، وإنما ذكر جملة منه في كتاب "الأم" ينبه بها على طريقة الجمع في ذلك.
وقد صنف فيه بعض العلماء كابن قتيبة المتوفى سنة ست وسبعين ومائتين، وكمحمد بن إسحاق بن خزيمة المتوفى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وهو من أحسن الناس كلاما فيه حتى قال: لا أعرف حديثين متضادين، فمن كان عنده فليأتني بهما لأؤلف بينهما، ومن جمع الحديث والفقه والأصول والغوص على المعاني الدقيقة لا يشكل عليه من ذلك إلا النادر.
والناظر في كتاب "اختلاف الحديث" للشافعي يجد أن كل أبوابه متصلة بالأحكام اللهم إلا كلامه في "باب بكاء الحي على الميت"1.
ولا يبعد اندراجه في الأحكام أيضا، وبعد فكما قال شيخ المحققين الأستاذ أحمد محمد شاكر وهو يقدم لرسالة الشافعي: كفى الشافعي مدحا أنه الشافعي. نقول: إن الشافعي أمة وحده، وماذا لو أن العمر قد امتد به، ولكن لا مكان للو، فقد قدر الله وما شاء فعل، ولقي الشافعي ربه على خير العمل في شعبان سنة أربع ومائتين، وغمرت السعادة مصر والمصريين بجوار إمام الأصوليين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأدباء، عالم العلماء وفتى قريش الذي ملأ طباق الأرض علما فرضي الله عن الإمام الشافعي وأرضاه وطيب ثراه.
1 اختلاف الحديث ص223-225.