الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا أدري؛ كيف ساغ لهذا الرجل أن يشكك في هذا الحديث الذي يتطابق مع القرآن؟ ألم يقرأ قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}
…
الآية والتي بعدها؟ ثم أين قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ؟ 1.
1 سورة البقرة: 146.
كلمة عن الإسرائيليات وموقف الصحابة منها والرد على المتقولين:
يمضي أبو رية في هذا المهيع، في خلط مريع بين الحق والباطل، ولبس للهدى بالضلال مستغرقا نحوا من ثمان وثلاثين صفحة1.
ينقل عن الأستاذ أحمد أمين في ضحى الإسلام، وعن ابن خلدون في مقدمته ما يفيد ذم الإسرائيليات، ويظهر خطرها والنقل عنها وانخداع البعض بها، ولا أحد يقبل الإسرائيليات على إطلاقها، ولا يستطيع أحد أن يهون خطرها؛ لكن الذي يجب أن يعلم هو أن الإسرائيليات يمكن أن يحكم عليها من خلال الصحيح الذي بين أيدينا، وأن مسلمة أهل الكتاب ليسوا جميعا سيِّئِي النية، خبيثي الطوية، وأن الثلاثة الذين انتقصهم لا يسلم له انتقاصهم.
وقد صح إباحة التحديث عن بني إسرائيل على ما مضى: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" ، وصح النهي عن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم.
1 أضواء على السنة ص117-154.
وأمرنا أن نقول: {آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1.
ونستطيع أن نقسم الأخبار المنقولة عن مسلمة أهل الكتاب إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذلك صحيح.
ثانيها: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه، وهذا باطل يحكم برده؛ ويمثل للأول بحديث ابن عمر السالف الذكر، ويمثل للثاني بالكثير من سفاهات اليهود وضلالتهم في نقولهم على الله ما لا يليق به، أو وصفهم له تعالى بما تنزه عنه، وكذا ترهاتهم وفظائعهم التي رموا بها الأنبياء مما يتنافى مع عصمتهم -عليهم صلوات الله وتسليماته- كنسبة لوط إلى السكر والزنى، وقل أن يسلم نبي عندهم من مثل هذا.
ثالثها: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به، ولا نذكبه، وتصح حكايته وذلك كقصة البقرة التي أمروا بذبحها، فقد سكت القرآن عن ثمنها، وإن كان قد تعرض لتحديدها في ضوء استفساراتهم، وذكر علة ذبحها.
وقد بذل المحدثون جهدًا مشكورًا في نقد الإسرائيليات وتمحيصها، ورد ما تأباه أصولنا، وبلغ من شدة تحريهم ونقدهم، وحرصهم على تجلية الحق أنهم قالوا: إن قول الصحابي إذا كان في شيء لا مجال للرأي فيه يأخذ
1 سورة العنكبوت: 46.
حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه سلم بشرط أن لا يكون ذلك الصحابي ممن عرف بالأخذ عن الإسرائيليات، فإن كان كذلك توقفنا في الحكم على قوله.
وقد رأينا كيف أحجم التابعون عن روايات عبد الله بن عمرو فلم ينقلوا منها إلا القليل؛ لشغفه بمطالعة كتب أهل الكتاب.
ومن الجدير بالذكر أن المنقول في الإسرائيليات يدور حول أخبار الأمم السابقة وقصصهم، ولا تعلق له في الأعم الأغلب بالأحكام أو العقائد، اللهم إلا جزء يسير يتعلق بالنبوات، وغالبا ما يظهر عليه ما يقتضي رده ورفضه.
بقي أن نتعرف حال الثلاثة الذين نال منهم أبو رية، بل ونال من الصحابة من خلال نيله منهم. قال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في الدفاع عن ابن سلام ووهب وكعب: "أما عبد الله بن سلام فصحابي جليل أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره، وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلا جدا، وقلما ذكر عن كتب أهل الكتاب، وما ثبت عنه من ذلك فهو مصدق به حتما، وإن لم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن، إذ قد ثبت أن كثيرا من كتبهم انقرض، ولا يسيء الظن بعبد الله بن سلام إلا جاهل أو مكذب لله ورسوله.
وأما وهب بن منبه فولد في الإسلام سنة 34هـ وأدرك بعض الصحابة
ولم يعرف أن أحدا منهم سمع منه أو حكى عنه، وإنما يحكي عنه من بعدهم، وأما كعب فأسلم في عهد عمر وسمع منه، ومن غيره من الصحابة، وحكى عنه بعضهم وبعض التابعين.
ثم يقول بعد ذلك: وأما ما رواه كعب ووهب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقليل جدا، وهو مرسل لأنهما لم يدركاه، والمرسل ليس بحجة، وقد كان الصحابة ربما توقف بعضهم عن قبول خبر بعض إخوانه من الصحابة حتى يستثبت، فما بالك بما يرسله كعب، فأما وهب فمتأخر وأما ما روياه عن بعض الصحابة أو التابعين فإن أهل العلم نقدوه كما ينقدون رواية سائر التابعين، أقول: لكعب الأحبار ترجمة في تهذيب التهذيب.
وليس فيها عن أحد من المتقدمين توثيقه، إنما فيها ثناء بعض الصحابة عليه بالعلم، وكان المزي علم عليه علامة الشيخين مع أنه إنما جرى ذكره في الصحيحين عرضا، لم يسند من طريقه شيء من الحديث فيهما، ولا أعرف له رواية يحتاج إليها أهل العلم.
فأما ما كان يحكيه عن الكتب القديمة، فليس بحجة عند أحد من المسلمين، وإن حكاه بعض السلف لمناسبته عنده لما ذكره في القرآن.
وبعد فليس كل ما نسب إلى كعب في الكتب بثابت عنه، فإن الكذابين من بعده قد نسبوا إليه أشياء كثيرة لم يقلها، وما صح عنه من الأقوال ولم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن ليس بحجة واضحة على
كذبه، فإن كثيرا من كتبهم انقرضت نسخها، ثم لم يزالوا يحرفون ويبدلون"1.
هكذا بان لنا سلامة مقف الصحابة رضوان الله عليهم من كعب وأمثاله، بل وسلامة موقف كعب ووهب وانحراف الطاعنين عليهما وبهما فيمن تنزهت ساحته عن الطعن. على أن الذين ترجموا لكعب ووهب أجمعوا على أنه لا رواية لكعب في الصحيحين، وإنما ذكر اسمه في معرض ثناء معاوية رضي الله عنه عليه بقوله:"إن كان لَمِنْ أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب"، قال الحافظ ابن حجر:"قلت: هذا جميع ما له في البخاري، وليست هذه برواية عنه"، ثم قال:"وقد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع في مسلم في أواخر كتاب الإيمان، وفي حديث معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه: "إذا أدى العبد حق الله، وحق مواليه، كان له أجران" ، قال: فحدثت به كعبا، فقال كعب: "ليس عليه حساب، ولا على مؤمن مزهد"2.
1 الأنوار الكاشفة ص97-99 بتصرف.
2 مُزهد بضم الميم وإسكان الزاي: قليل المال، والمراد بهذا الكلام؛ أن العبد إذا أدى حق الله تعالى، وحق مواليه، فليس عليه حساب لكثرة أجره وعدم معصيته، وهذا الذي قاله كعب يحتمل أنه أخذه توقيف، ويحتمل أنه بالاجتهاد؛ لأن من رجحت حسناته وأوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورًا، والحديث كما أخرجه مسلم في آخر كتاب الأيمان والنذور ج11، ص136 بشرح النووي، أخرجه البخاري في عدة مواضع دون ذكر كعب في الرواية.
وقال البخاري في البيوع بعد رواية فليح عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن عمرو في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال، وقال سعيد يعني ابن أبي هلال عن هلال عن عطاء عن ابن سلام، ورواية سعيد ذكرت في تعليق التعليق"1.
وهاك رواية في مسلم ترد على المتخرصين، المتقولين بالباطل على كعب، وأمثاله حول مدى تأثيرهم على الصحابة، فالحق أن الصحابة هم الذين أثروا، وهم الذين رووا، وحدثوا، فقد روى مسلم في صحيحه بسنده "أن أبا هريرة قال لكعب الأحبار: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة يدعوها، فأنا أريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة"، فقال كعب لأبي هريرة: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو هريرة: نعم"2.
وعلى هذا النحو تمضي الروايات الصحيحة عن كعب، فماذا فيها مما يوجب هذا التقريع كله للصحابة على نقلهم عنه؟ وما جريرة كعب؟ وما ينقم المتهجمون؟ أأن كان يهوديًّا فأسلم فكان ممن يؤتيهم الله أجرهم مرتين؟ ذكره ابن سعد3 في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وقال: كان على دين
1 تهذيب التهذيب ج8، ص439-440.
2 مسلم بشرح النووي كتاب النووي ج3، ص74.
3 طبقات ابن سعد، ج7، ق2، ص156.