الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويذكر ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: "ألا تسألني شيئا من هذه الغنائم" ، فأجاب بما يفيد أنه لا يريد إلا علما ينفعه الله به.
ويتهم أبو هريرة بأنه سرق عشرة آلاف حين كان واليا على البحرين من قبل عمر، وأن الفاروق استردها منه بعد عزله، بينما الحق أنه لما سئل عن نماء ماله أفاد بأنه ربح تجارته، ونتاج ماشيته وخراج أعبده.
وقد عرف أن عمر شاطر عماله على الأمصار أموالهم. فهل يعني هذا اتهاما لهم بالسرقة؟ إنه باب شر يفتح بهذه الادعاءات، وماذا نقول فيمن يكيلون الاتهامات، ويبتغون للبرآء العنت فيرون قرب أبي هريرة من عثمان ابتداء مشايعته لبني أمية، ويعيبونه باعتزال الفتنة عندما حمي الوطيس مع نطق الحق بأن القاعد فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي، وأن من تعرض لتلك الفتن واستشرف لها تستشرفه، ويبالغ عبد الحسين في اختلاف تشيع أبي هريرة للأمويين، ويتهمه بوضع الأحاديث.
ومواقف الصحابة منه ترد ذلك وتأباه؛ وننتقل إلى موقف أبي رية.
افتيات أبي رية وجرأته:
حين تنقلب الحقائق، فيقال عن التطاول والبذاءة في حق ذوي العدالة والنزاهة: إنه تعمق في البحث ونتائج أوصل إليها طول التنقيب، وأنطق اللسان بها الجرأة والجسارة، حين يصل الأمر إلى هذا فلا يعاب التمثل بما قاله أبو العلاء:
فيا موت زر إن الحياة ذميمة
…
ويا نفس جدي إن دهرك عازل
وحين يرمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتطاول عليهم فذاك أمر أغرب من مفاخرة الحصى للشهب والقدح في نور الصبح على لسان الدجى.
ولقد جاء أبو رية في ظلماته التي حاول أن يلقيها على السنة فما استطاع، جاء بأقصى المستطاع إفكا وزورًا حين عرض لترجمة الصحابي الجليل، فيما يزيد على ثلاثين صفحة1.
فلم يدع منقصة ولا مذمة إلا ألصقها به، ونال شططه من الصحابة، بل ونال المحدثين من شططه ونزغه حين حكموا بعدالتهم ما يستحيى من ذكره، وإنك لتخجل كل الخجل حين ترى هذا الدعي في العلم يستبيح لنفسه أن يرمي أبا هريرة بكل جارحة من القول تعليقا على كلمة لسيدنا أبي هريرة قالها تحدثا بنعمة الله. قال أبو رية: "ولقد استخفه أشره وزهوه -يعني أبا هريرة- ونم عليه أصله وتحيزته فخرج عن حدود الأدب والوقار مع هذه السيدة الكريمة، فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان يحلم به: إني كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني، فكنت إذا ركبوا سقت بهم، وإذا نزلوا خدمتهم والآن تزوجتها، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني
…
إلخ".
1 انظر ص167-198 هذا بالإضافة إلى المواضع العديدة التي همز فيها ولمز.
ومما أخرجه ابن سعد أنه قال: أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي، فكانت تطلقني أن أركب قائما وأرد حافيا، فلما كان بعد ذلك زوجنيها الله، فكلفتها أن تركب قائمة وأن تورد حافية"1.
هكذا يصدع أبو هريرة لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ، ويوقف نفسه موقف الرضا من ربه حين يظهر أثر نعمته عليه. لكن أبا رية لا يعجبه هذا فيطلق العنان لقلمه إلى حد أن يكتب في الهامش ما نصه:"انظر إلى هذا الكلام الذي تعرى عن كل مروءة وكرم، واتسم بكل دناءة ولؤم، فتجده يباهي بامتهان زوجه والتشفي منها، وهل يفعل مثل ذلك رجل كريم خرج من أصل عريق"، أستغفر الله من ذنبي كله، ومن إيراد مثل هذا السفه والطعن في راوية الإسلام.
وهاك أضحوكة ونادرة تفكه بها، يتهكم أبو رية من راوية الإسلام، ويلقبه بشيخ المضيرة؛ والمضيرة: مريقة تطبخ باللبن المضير الحامض، وربما أضيف إليه الحليب، وكانت تعد من أطايب الطعام ولذائذه في تلك الأيام.
وقد حلى لصاحب كتاب أضواء على السنة المحمدية أن يشير مرارًا إلى كتابه "المغيرة على شيخ المضيرة"، وينقل من كتاب "ثمار القلوب" للثعالبي سببا لهذا التلقيب "وكان يعجبه المضيرة جدًّا ليأكل مع معاوية،
1 أضواء على السنة المحمدية ص187.
فإذا أحضرت الصلاة صلى خلف علي رضي الله عنه فإذا قيل له في ذلك قال: مضيرة معاوية أرسم وأطيب، والصلاة خلف علي أفضل، وكان يقال له شيخ المضيرة"، ولا ندري كيف تقبل العقول هذا، وإنما الذي ندريه أن الرجل يهرف بما لا يعرف، أو على الأقل يحرف الكلم عن مواضعه ويزيف الحدث عن مواقعه، وإلا فكيف يأكل أبو هريرة مضيرة معاوية ويصلي خلف علي، ورضي الله عن الثلاثة الكرام الذين تفرقوا بين المدينة والعراق والشام. فهل ملك أبو هريرة بساط الريح ليغدوا به ويروح.
إن ابن عبد البر يقطع بأنه لم يغادر المدينة منذ أن عزله عمر عن البحرين، فقد طلبه للإمارة فأبى عليه، ولم يزل يسكن المدينة، وبها توفي سنة سبع وخمسين أو ثمان أو تسع وخمسين.
لكن أبا رية يصر على اتهام الصحابي فينقل عن غير واحد أن أبا هريرة حضر موقعة صفين، وكان فيها يصانع الفئتين، فكان في بعض الأيام يصلي في جماعة علي رضي الله عنه، ويأكل في جماعة معاوية، فإذا حمي الوطيس لحق بالجبل، فإذا ما سئل قال: علي أعلم، ومعاوية أدسم، والجبل أسلم.
هكذا يسف في اتهام الرجل، بل وفي اتهام سائر الصحابة معه، وإذًا كيف نامت فطنتهم وغاب وعيهم بحيث لم يكشفوا حيلة المداهن المصانع الذي يصلي خلف قائد هذه الفئة، ويأكل على مائدة قائد تلك؟ ويفقد الجميع الإحساس بمخادعته ومصادنعته.
ثم يدعي أبو رية أن كل من أرخ لأبي هريرة أجمع على أنه كان مزاحا مهذارًا، يكثر ذكر النوادر والغرائب؛ ليجذب الناس نحوه ويحببهم فيه، وما أشده من تناقض ذاك الذي وقع فيه، فقد ادعى زورًا وبهتانا أنه بينهم لم يكن في العير ولا في النفير، وأعجب كيف يكون أبو هريرة بين الصحابة مغمورًا مبهما مغفل الذكر، مهضوم القدر، ثم يدعي أن كل من أرخ له أجمعوا على كونه مزاحًا مهذارًا.
وليس هناك ما يدل على مزاحه إلا رواية ذكرها ابن حجر في الإصابة عن ابن أبي الدنيا مفادها أنه قال لرجل ادعى أنه شرب ناسيا: سقاك الله، فلما قال له: أكلت ناسيا، قال: أطعمك الله، فلما تكرر ذلك منه، قال له: يابن أخي أنت لم تتعود الصيام. فمن أين جاءت دعوى الإجماع؟ لعلها جاءت من نفس الباب الذي جاءت منه دعاواه الباطلة الكثيرة التي لا سبيل إلى تحقيقها.
ويستغل أبو رية ما كان من بعض الصحابة من مناقشات لما دار فيما بينهم من روايات، وينسخ منها الحكايات ويجعلها عمدته في توجيه الشتائم والبذاءات إلى هذا الصحابي الجليل.
وقد سبق أن أوقفناك على بعض تلك المناقشات، وما كان فيها من وجهات نظر مع التزام بعدم الانتقاص، ولم ينفرد الصحابي الجليل أبو هريرة بمناقشة رواياته من البعض، وإنما شاركه غيره من أجلاء الصحابة كعمر أفقههم صاحب الموافقات، وليس أبو هريرة أول رواتهم في الإسلام
ولا يصح أن ينسب الحديث الموضوع إليه بمعنى: أن يكون هو الذي وضعه، فإن المحقق أن الصحابة ليس فيهم وضاع ولا كذاب.
وتبقى مسألة كثرة مرويات أبي هريرة أشد المسائل لغطًا، وأكثرها بين القديم والحديث، ونتساءل: لماذا يقبل الناس حفظ فلان لآلاف الأبيات من الشعر؟ أو استظهار الآخر للعديد من الكتب؟ أو حفظ ثالث لكل ما تقع عليه عينه، ولا يتوقف أحد في قبول مثل هذا؟ ولا يعده منقصة فيمن نسب إليه، بل على العكس يحصيه بين المآثر والمفاخر.
ولو جمعنا كل مرويات أبي هريرة في كتاب واحد، فلن تزيد عن جزء صغير، ذلك أن الكثير من الخمسة آلاف والثلاثمائة والأربع والسبعين عدد ما رواه لا يجاوز السطر والسطرين، فلم هذا اللغط؟ وأين هذا الرقم مما قيل عن حفظ الجاحظ أو بشار بن برد أو غيرهما؟ لكنه تصيد الأباطيل واختلاق الإفك ليرمي به أحد أعلام الروايات.
والمتأمل المنصف يمكن أن يرجع كثرة مرويات أبي هريرة إلى ما يأتي:
1-
ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2-
صفاء ذهنه، وشدة ذكائه مما جعله أحفظ الصحابة.
3-
حرصه على الحديث وتعهده مجلسه.
4-
تفرغه لذلك وانعدام ما يشغله عنه.
5-
عدم انشغاله بالإمارة أو بالدنيا بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم فمنذ أن عزله عمر رضي الله عنه عن البحرين لم يتول منصبا.
6-
تأخر وفاته مما أتاح له أن يلقى الكثيرين من التابعين حتى قيل: إنه روى عنه ثمانمائة1.
7-
وأهم من كل ما مضى انتفاعه ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق أن أشرنا.
وبعد فإن الذين أرادوا النيل من راوية الإسلام، لم يلتزموا بواجب الاحترام سيما أولئك الأعلام.
وإذا كان الحديث يقرر: "أن المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" ، فكيف بهؤلاء الذين اعتمدوا على خيال الأدباء، وتتبعوا حكايات القصاصين المؤرخين، ونسجوا منها وجوها للطعن في البرآء المنزهين؟
وإنك لتزداد عجبا حين ترى الواحد منهم يأخذ بعض الكلام، ويترك بعضه مكتفيا بما يحقق غرضه، فحينما امتشق ابن قتيبة حسامه ليدافع عن المحدثين، وأورد ما قاله المبطلون فيهم ليدحضه ويبطله، ترى البعض ينقل تصويره للشبه التي أوردها ليدفعها على أنها من كلامه تمثل رأيه ووجهة نظره، وليس هذا إلا صنيع من أفتى بتحريم الصلاة متوقفًا على قوله
1 نقل ذلك ابن حجر عن البخاري، فتح الباري ج1، ص217.