الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1-
أبو حنيفة:
اسمه ونسبه ومكانته:
إنه الإمام الأعظم، فقيه أهل العراق، أقدم الأئمة الأربعة زمانًا، وأكثرهم تابعًا، غلبت كنيته واشتهر بها، واسمه النعمان بن زوطى التيمي، وزوطى جده من أهل كابل كان مملوكا لبني تميم الله بن ثعلبة فأعتق.
وولد ثابت في الإسلام ولا صحة لادعاء نصرانيته وتسمية ولده له بذلك، وقد اختلف في سنة مولده على ثلاثة أقوال، قيل: سنة ثلاث وستين وقيل: سنة سبعين، وقيل: سنة ثمانين وأكثرهم على الأخير وقد نفى بعضهم1 الرق عن جد الإمام وأثبت أنه كان أميرا أفغانيا، ولعل من قال برقه وعتقه فهم ذلك من كونه مولى لبني تميم، ولا يبعد أن يكون هذا الولاء ولاء إسلام لا ولاء نسب.
وفي الكوفة نشأ الإمام كغيره من الأئمة الأعلام شغوفا بالعلم دءوبا على طلبه، والكوفة يومئذ من حواضر الإسلام تموج بمجالس العلم، وتزخر بأرباب النباهة والفهم، وصدى صوت ابن مسعود وتلاميذه النجباء يجلجل في الأرجاء.
لقي الإمام أنسا غير مرة لما قدم عليهم الكوفة، وحدث عن عطاء
1 ذكر محقق المجروحين لابن حبان ما يشير إلى أن جد أبي حنيفة كان أحد أمراء بلاد الأفغان، واختلف أقوال أحفاده في مسألة أسر جده، ثم عتقه، قال أحدهم:"والله ما وقع لنا رق قط". انظر المجروحين ج3، ص63.
ونافع وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وعدي بن ثابت وسلمة بن كهيل وأبي جعفر محمد بن علي وقتادة وعمرو بن دينار وأبي إسحاق وخلق كثير.
وتفقه به زفر بن الهزيل وداود الطائي، والقاضي أبو يوسف، ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو والحسن بن زياد اللؤلؤي وأبو مطيع البلخي وغيره.
ومن أشهر من تفقه بهم حماد بن سليمان الذي أخذ عن إبراهيم النخعي الذي أخذ عن علقمة بن قيس الذي أخذ عن ابن مسعود.
وكان أبو حنيفة إمامًا ورعا عالما عاملا متعبدا كبير الشأن، لا يقبل جوائز السلطان، بل يتجر ويكسب، سئل يزيد بن هارون أيهما أفقه الثوري أو أبو حنيفة؟ فقال: أبو حنيفة أفقه وسفيان أحفظ للحديث. وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس. وقال أيضا: إنه آية. فقيل له: آية في الشر أو في الخير؟ فقال: اسكت يا هذا، يقال: غاية في الشر وآية في الخير. قال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وقال يزيد: ما رأيت أحدا أروع، ولا أعقل من أبي حنيفة، وقال ابن معين: ثقة لا يحدث من الحديث إلا بما يحفظه ولا يحدث بما لا يحفظه، وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل زمانه، وما رأيت في الكوفيين أورع منه.
واشتهر عنه إحياء الليل، فعن أبي يوسف قال: كنت أمشي مع أبي حنيفة، فقال رجل لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال: والله لا يتحدث الناس عني بما لم أفعل، فكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعًا.
وقد طلب لمنصب القضاء فأبى، وضربه ابن هبيرة يزيد بن عمر من أجل ذلك مائة جلدة فما لان وما استكان، وظل متعففا يقتات من الرزق الحلال إلى أن وافاه الأجل سنة خمسين ومائة.
ورغم كثرة مادحيه وجد له خصوم قادحون فيه ما سلم منهم في حياته، ولا كف أذاهم عنه بعد مماته؛ اتهموه بأنه قدري تارة، ومرجئ تارة أخرى، ونسبوه إلى الرأي وجردوه له، فهو لا يأخذ إلا به وبالقياس المتفرع عنه، ويهمل الحديث ويعمل العقل، وراح الخطيب ومن قبله ابن حبان يطيلان في ذكر مثالبه ونقض وهدم مناقبه.
وقد استحق الخطيب كما استحق غيره شدة التأنيب على ذكر الروايات التي تغض من قدر الإمام، ولا أدل على ضعفها، بل واختلاقها من نسبتها إلى الأئمة الذين نقل عنهم في الأصح والأرجح مدح الإمام ووصفه بما يستحقه، كمالك والشافعي وأحمد وابن معين وابن المبارك والسفيانين والأوزاعي، الذي قيل1: إنه كان يسيء الظن بأبي حنيفة حين بدأ يشتهر أمره، ولم يكن قد اجتمع به بعد حتى قال مرة لعبد الله بن المبارك: من هذا المبتدع الذي خرج بالكوفة، ويكنى أبا حنيفة؟ فلم يجبه ابن المبارك، بل أخذ يذكر مسائل عويصة وطرق فهمها والفتوى فيها، فقال الأوزاعي: من صاحب هذه الفتاوى؟ فقال: شيخ لقيته بالعراق، فقال الأوزاعي: هذا نبل من المشايخ، اذهب فاستكثر منه، قال ابن المبارك: هذا أبو حنيفة.
1 السنة ومكانتها في التشريع الإسلام ص408.
ثم اجتمع الأوزاعي وأبو حنيفة بمكة، فتذاكرا المسائل التي ذكرها ابن المبارك فكشفها، فلما افترقا: قال الأوزاعي لابن المبارك، غبطت الرجل بكثرة علمه ووفور عقله وأستغفر الله تعالى، لقد كنت في غلط ظاهر، الزم الرجل، فإنه بخلاف ما بلغني عنه.
وقد كانت الأصول التي اعتمد عليها الإمام في استنباط الأحكام، تتمثل في الكتاب: يأخذ به، فإن لم يجد، أخذ بالسنة، فإن لم يجد، أخذ بأقوال الصحابة متخيرا منها، فإن لم يجد اجتهد رأيه فقاس أو استحسن.
وليس هناك تباين بين هذه الأصول، وبين ما جرى عليه بقية الأئمة المجتهدين، وكان بعض حق الإمام أن يجري ذكره عبقا عطرا على مر الزمان يلهج بالثناء عليه كل لسان، ويتضوع أريج ذكراه في كل مكان، ولكن كيف وتغاير العلماء وتنافر المتعاصرين؟ من هنا أثيرت ضجة كبرى حول الإمام تكيل له الاتهام وترميه بزور الكلام، وكان وراء هذه الضجة الأسباب الآتية:
1-
كان أبو حنيفة أول من توسع في استنباط أحكام الفقه من أئمة عصره، وأسبق من فرع الفروع على الأصول، ووضع افتراضات لأمور لم تقع، وإنما قدر احتمال وقوعها وضرورة الاستعداد لها.
وكان أكثرهم يكرهون ذلك. نقلوا عن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن مسألة، يقول: هل وقعت؟ فإن قالوا: لا، قال: ذروها حتى تقع
أما أبو حنيفة فكان المجتهد الذي يمهد الفقه للناس ولأصل المسائل ويستعد للبلاء قبل قوعه.
2-
عرف عن أبي حنيفة تشدده في قبول الأخبار، واشتراطه شروطا أصعب مما اشترط المحدثون مما جعله يضعف أحاديث يقبلها أكثرهم، وقد حداه إلى ذلك انتشار الوضع في الحديث سيما وكان العراق بلد الشقاق يفور بقيادات فكرية متنافرة وخلافات مذهبية متناحرة، فهو مرتع خصب للإفك والكذب فعنَّ للإمام أن يبالغ في التثبت والاحتياط.
3-
وعلى العكس من ذلك كان يحتج بالمرسل إذا كان الذي أرسله ثقة خلافا لما ذهب إليه جمهور المحدثين، مما جعله يستل بأحاديث هي عندهم ضعيفة لا يحتج بها.
4-
ونتيجة لتضييق أبي حنيفة من دائرة العمل بالحديث في الحدود التي رسمها واطمأن إليها، واضطر إلى القياس وإعمال الرأي.
وقد آتاه الله فيه موهبة عجيبة فذة لا مثيل لها، ولا ريب أن استعماله القياس إلى مدى واسع باعد الشقة بينه وبين أهل الحديث، كما بالمدينة، وبين بعض الفقهاء الذين لا يستعملون القياس إلا في نطاق ضيق.
5-
كان أبو حنيفة دقيق المسلك في الاستنباط دقة عجيبة بعيدة المدى، قادرا على تقلب وجوه الرأي في كل مسألة لدرجة تذهل وتدهش.
"أخرج ابن أبي العوام بسنده إلى محمد بن الحسن قال: كان أبو حنيفة قد حمل إلى بغداد، فاجتمع أصحابه وفيهم أبو يوسف وزفر وأسد بن عمرو
وعامة الفقهاء المتقدمين من أصحابه فعملوا مسألة أيدوها بالحجاج وتفوقوا في تقديمها وقالوا: نسأل أبا حنيفة أول ما يقدم، فلما قدم أبو حنيفة كان أول مسألة سئل عنا تلك المسألة، فأجابهم بغير ما عندهم فصاحوا من نواحي الحلقة: يا أبا حنيفة بلدتك الغربة، فقال لهم: رفقا رفقا ماذا تقولون؟ قالوا: ليس هكذا القول، قال: عال، أبحجة أم بغير حجة؟ قالوا: بحجة، قال: هاتوا، فناظرهم فغلبهم بالحجاج حتى ردهم إلى قوله، وأذعنهم أن الخطأ منهم، فقال لهم: أعرفتم الآن؟ قالوا: نعم، قال: فما تقولون فيمن يزعم أن قولكم هو الصواب، وأن هذا القول خطأ؟ فقالوا: لا يكون ذاك، قد صح هذا القول، فناظرهم حتى ردهم عن القول، فقالوا: يا أبا حنيفة ظلمتنا والصواب كان معنا، قال: فما تقولون فيمن يزعم أن هذا القول خطأ، والأول خطأ والصواب قول ثالث؟ فقالوا: هذا لا يكون، قال: فاجتمعوا واخترع قولا ثالثا، وناظرهم عليه حتى ردهم إليه فأذعنوا، وقالوا: يا أبا حنيفة علمنا، قال: الصواب هو القول الأول الذي أجبتكم به لعلة كذا وكذا، وهذه المسألة لا تخرج من هذه الثلاثة الأنحاء، ولكل منها وجه في الفقه ومذهب، وهذا الصواب فخذوه وارفضوا ما سواه"1.
ليس يرتبا عاقل في أن من أوتي القدرة العجيبة على تقليب وجه الرأي في المسألة الواحدة والاستعداد للدفاع عن كل رأي محتمل، رجل كهذا أوتي براعة كتلك في استطاعته كما يقول مالك وقد سئل:
1 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص405-406.
"هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم: رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته"1.
6-
بلغ أبو حنيفة منزلة الإمام الأعظم، وكان الكثير من أهل عصره يجلونه ويكبرونه، مما أوغر عليه بعض الصدور، وهيج عليه بعض المشاعر. فالنفوس البشرية ليست معصومة من الغيرة، وحين يشتد التنافس لا عاصم من الزلل في القول أو الفعل إلا من رحم الله، فسما بنفسه وترفع بخلقه واستلهم نهج النبيين والصديقين، وقد قالوا: إن المعاصر لا يناصر. وعقد ابن البر بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض، وآخر: في أنه لا يقبل قول بعض إلا ببينة، وذكر فيما ذكر قول ابن عباس: استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زربها"2.
7-
لقد كان أثر العوامل السابقة مجتمعة أن تناقل الناس أشياء عن أبي حنيفة منها ما لا ظل له من الحق، ومنها ما لم يفهمه الناس على حقيقته من طرائق أبي حنيفة في الاجتهاد، ولقد وصل ذلك إلى أسماع بعض العلماء البعيدين عنه كما بلغهم بعض آرائه التي خالفهم فيها دون أن يعرفوا مبرره في الخلاف مع اقتناعهم بترجيح أدلتهم وموافقة نظرهم للحق، وهنا يعبرون عن معارضتهم بعنف، وربما ينالون من الرجل أو ينتقصونه لعدم تبين الأمر، فإذا عرضوا الحق بدت لهم وجهة نظر الإمام ورأوا ما استند إليه سريعا ما يعدول عن رأيهم فيه فينصفونه بعد أن يروا من دقة رأيه وقوة دينه ما يحمله على الثناء عليه وامتداح رأيه.
1 تاريخ بغداد ج13، ص338.
2 جامع بيان العلم وفضله ج2، ص151، وانظر الكلام في البابين ص150-161.
وما حديث الأوزاعي مع ابن المبارك من الأسماع ببعيد.
ما اتهم به الإمام في القديم والحديث من أنه كان قليل البضاعة في الحديث:
مناقشة ذلك:
يتحامل الخطيب البغدادي على الإمام الأعظم تحاملا عجيبا، فينقل بأسانيد متهافتة عن كثير من الأئمة ما يفيد أنه كان يتيما في الحديث وزمنا فيه، ولم يكن صاحب حديث، ولا يمثل أي شيء فيه حتى يسأل عنه، وليس له رأي ولا حديث، وأن جميع ما روي عنه مائة وخمسون حديثا، أخطأ في نصفها، وأن عبد الرزاق لم يكتب عن أبي حنيفة إلا ليكثر به رجاله.
إلى غير ذلك من متناقض الروايات التي بثها الخطيب في ترجمته المطولة التي خصص نصفها تقريبا لما للإمام من مناقب ونصفها الآخر لما ألصق به من المثالب.
وإنك لترى من أغرب الغرائب أن ينقل إمام، نقاد بصير صيرفي في الحديث وبالرواية خبير كالخطيب روايات متناقضة عن الأئمة، فهو ينقل عن الإمام الواحد المدح والقدح، فكيف السبيل إلى قبول ذلك؟
ومن قبل الخطيب ومن بعده تحامل كثيرون على شيخ الفقهاء، فها هو ذا ابن حبان يذكره بين المجروحين، ويتحامل عليه إلى حد أن محقق الكتاب جرد قلمه ليبرر صنيع أبي حاتم، وإنما ليرد عليه، فهو يقول بعد تصوير تحامل ابن حبان وتصنيفه كتابين في التهجم عليه، ورد ما قيل في مناقب أبي حنيفة بزعم أنه له عللا.
ورد رأيه أيضا بادعاء إبطال مستنده، يقول محقق كتاب المجروحين: "وليس ابن حبان أول محدث حمل على أبي حنيفة هذه الحملة، ولكن الأئمة العدول من المحدثين الذين خبروا الإمام قد أنصفوه ولم يسلموه لأقوال المتحاملين.
يقول اللكنوي الهندي بعد أن ذكر فرح الدارقطني في أبي حنيفة. وقوله: إنه ضعيف في الحديث: "فتارة يقول إنه كان مشتغلا بالفقه". انظر بالإنصاف أي قبح فيما قالوا؟ بل الفقيه أولى بأن يؤخذ الحديث عنه.
وتارة يقولون: إنه لم يلاق أئمة الحديث، إنما أخذ ما أخذ من حماد، وهذا باطل، فإنه روى عن كثير من الأئمة كالإمام محمد الباقر، والأعمش وغيرهما.
مع أن حمادا كان وعاء للعلم فالأخذ منه أغناه عن الأخذ عن غيره، وهذا أيضا آية على ورعه وكمال تقواه، فإنه لم يكثر الأساتذة لئلا تكثر الحقوق فيخاف عجزه عن إيفائها، وتارة يقولون إنه من أصحاب القياس والرأي، وكان لا يعمل بالحديث حتى وضع أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه المصنف بابا للرد عليه، ترجمته "باب الرد على أبي حنيفة".
وهذا أيضا من التعصب، كيف وقد قبل المراسيل وقال: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبالرأس والعين، وما جاء عن أصحابه فلا أتركه. ولم يخصص بالقياس عام خبر الواحد، فضلا عن عام الكتاب، ولم يعمل بالإحالة والمصالح المرسلة"1.
1 كتبه الأستاذ محمود إبراهيم زايد بهامش المجروحين ج3، ص61-62.
بل وأكثر من ذلك نجده يقدم الحديث الضعيف على القياس والرأي، وعلى ذلك انبنى مذهبه.
قال العلامة ابن القيم: "وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله يجمعون على أن مذهب أبي حنيفة: أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي، وعلى ذلك بنى مذهبه كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس، ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعف، وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف، وشرط في إقامة الجمعة المصر والحديث فيه كذلك، وترك القياس في مسائل الآبار لآثار فيه غير مرفوعة.
فتقدم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله وقول الإمام أحمد، وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفًا"1.
ويترامى رنين صوت الادعاء بأن الإمام أبو حنيفة كان قليل البضاعة في الحديث، ويتناقل البعض هذه القضية تارة بحسن نية، وأخرى بخبث وسوء طوية، وإن المرء ليبلغ به الاندهاش مداه إزاء هذا الاتجاه الذي يحرص أصحابه على انتقاص قدر الأئمة والنيل منهم.
وإمام ينتشر مذهبه ويكثر أتباعه إلى حد عشرات الملايين بل مئاتها، كيف يسوغ اتهامه بقلة البضاعة فيما تنبني عليه استنباطاته وأحكامه؟
1 أعلام الموقعين ج1، ص77.
ولتأكيد معنى الإنكار في هذا الاستفهام نقول:
أولا: كان أبو حنيفة إماما مجتهدا بإجماع موافقيه ومخالفيه، من شروط الاجتهاد أن يحيط علما بالأصول التي تنبني عليها الأحكام، ولا يختلف ذي الأفهام في أن الأحاديث هي أهم تلك الأصول، فلا يعقل أن يسلم للإمام اجتهاده إلا وهو ملم بالآلاف من الأحاديث أو على الأقل المئات لا سبعة عشرة حديثا فحسب كما تردد ذلك في بعض الكتب.
ثانيا: لو طالعنا مذهب الإمام لوجدناه قد وافق الأحاديث الصحيحة في مئات المسائل: وقد جمع الشارح القاموس المحيط وإحياء علوم الدين السيد مرتضى الزبيدي رحمه الله كتابا جمع فيه الأحاديث من مسانيد الإمام أبي حنيفة، والتي وافقه في روايتها أصحاب الكتب الستة سماه "عقد الجواهر المنيفة في أدلة أبي حنيفة"، فكيف وافق اجتهاد الإمام مئات الأحاديث الصحيحة، وليس عنده إلا بضعة عشر حديثا، أو خمسون أو مائة وخمسون أخطأ في نصفها!
ثالثا: ولقد أفرد ابن أبي شيبة في مصنفه الكبير بابا لما خالف فيه أبو حنيفة ما صح من الأحاديث، فبلغت مائة وخمسة وعشرون مسألة.
فلو سلم لابن أبي شيبة جميع ما أخذه عن أبي حنيفة كانت بقية المسائل التي أثرت عنه موافقة للحديث في كل مسألة ورد فيها حديث.
وإذا كانت مسائل أبي حنيفة على أقل تقدير ثلاثا وثمانين ألف مسألة.
وهناك روايات تبلغ العدد إلى ألف ألف ومائتي ألف. فهل هذا العدد
الضخم الباقي من المسائل التي يعترف ابن أبي شيبة أن أبا حنيفة لم يخالف فيها السنة جاءت فيها سنة أم لا؟ فإن جاءت فيها أو في بعضها سنة لزم ذلك أن يكون ما عند أبي حنيفة من الحديث مئات وآلاف ولم يجئ في شيء منها سنة، لزم أن يكون ما ورد من السنة لا يزيد على مائة وخمسة وعشرين حديثا فقط، ولا يقول هذا أحد من أئمة المسلمين وأهل العلم بالحديث"1.
رابعًا: للإمام أبي حنيفة آراء في كثير من مسائل المصطلح مبثوثة في كتب علم الحديث، فكيف يكون قليل البضاعة في الحديث، ويعتمد كلامه فيه أئمته وحذاقه؟
خامسًا: عد الذهبي الإمام أبا حنيفة من بين الحفاظ وترجم له في تذكرته المخصصة لهم، وأفرد مناقبه بجزء وقد ذكروا أن الإمام أخذ عن أربعة آلاف شيخ، وأن يحيى بن نصر دخل عليه في بيت مملوء كتبا، فقال له: ما هذا؟ فقال: هذه الأحاديث وما حدثت منها إلا اليسير الذي ينتفع به.
سادسًا: إذا كان أبو حينفة لم يجلس مجلس التحديث والإملاء، وكشأن أكثر العلماء، ولم يفرد كتابا في الأخبار والروايات كما فعل الإمام مالك، فلا يعني ذلك قلة ما روي عنه من الحديث، إلى هذا الحد الذي ذكره ابن خلدون، وتلقفه منه بعض المعاصرين كالأستاذ أحمد أمين.
1 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص213-214.
إن الأدق والأوفق للحق هو أن ما روي عن الإمام سبعة عشر مسندًا كما ذكر علامة الشام محمد بن يوسف الصالحي، وكما ذكره ابن طولون أيضا.
سبعة عشر مسندًا تحتوي على ألوف الأحاديث ويضاف إليها مسند الدارقطني والخطيب وابن شاهين، وهي لهم بأسانيدهم إلى الإمام.
فهل بعد ذلك يستقيم الكلام حين يدعي قلة بضاعته في الحديث، أو ندرة ما روي عنه إلى الحد الذي ذكره ابن خلدون الذي نحسن الظن به ونقول: لعل الذي أوقعه في هذا هو أن محمد بن الحسن روى الموطأ عن مالك، وزاد فيه ثلاثة عشر حديثا من روايته عن أبي حنيفة وأربعة أحاديث من روايته عن أبي يوسف، فظن البعض أن زيادات ابن الحسن على الموطأ هي مروياته عن أبي حنيفة.
وتنوقل هذا الوهم الذي يأباه الواقع ويرده، وقصارى القول وحماداه أن للإمام أبي حنيفة منزلته في الرواية التي كان يقدمها في الاستدلال على غيرها، ويخطئ من ظن أنه كان يقدم الرأي والقياس عليها، والأخبار المنقولة عنه مجمعة على تكذيب من يدعي أنه يقدم الرأي أو القياس، فهو لا يلجأ إليها إلا حين يعدم النص الصحيح الصريح في حكم النازلة، فحينئذ يقيس مسكوتا عليه على أمر آخر مبين مقول فيه.
وأي غضاضة في هذا؟ وماذا يقال في حق ما يقول: "ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وما جاء عن الصحابة قبلناه وما جاء عن التابعين زاحمناهم فيه أو: فهم رجال ونحن رجال؛ لأنه كان تابعيا مثلهم، ولقد اتفق المحدثون على رد الحديث المرسل واعتباره من أنواع
الضعيف، ووافقهم الإمام الشافعي والإمام أحمد، أما أبو حنيفة فرأيه قبول المرسل والاستشهاد به اعتزازًا بالحديث واعتدادا به.
فكيف يسوغ لمتقول ادعاء رد الإمام للآثار على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبولها؟ نعم توقف الإمام في قول بعض الآثار شأنه في ذلك شأن الأئمة الذين لا يترجح عندهم مدلول بعض الآثار على مدلول بعضها الآخر، فلا يردونها، وإنما غاية أمرهم التوقف في قبولها، أو في العمل بها.
وفي هذا الإطار أخذ بعض المحدثين على أبي حنيفة تركه لبعض الآثار التي صحت عندهم، وعدم أخذه بها كرفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه، وككون المسلم لا يقتل بالكافر.
وذكر ابن أبي شيبة أن أبا حنيفة خالف الحديث في مائة وخمس وعشرين مسألة، فكيف جاز ذلك مع إجماع أهل العلم أنه لا يجوز لمسلم مخالفة حديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد أجيب عن ذلك من وجوه منها:
1-
تتفاوت الأنظار وتخلتف في الحكم على الحديث تصحيحا أو تضعيفا، وذلك لاختلاف وجهات النظر في حال الرواة، فقد ينظر أبو حنيفة إلى راو فيراه عدلا ثقة أهلا للرواية عنه، ويخالفه غيره في ذلك، وقد كان أبو حنيفة أعرف بشيوخه الذين روى عنهم، وكان العهد بينه وبين الصحابة قريبا، فقد لا يفضله عن الصحابي إلا راو أو راويان فحينئذ يولي ثقته لما يرويه
هو عن شيوخه ولقلة معرفته بشيوخ الشاميين كثيرا ما يتوقف في قبول مروياتهم كما يتوقفون هم في قبول مروياته.
2-
قد يرى المجتهد فيما صح عنده، وعند غيره ما يخرجه عن ظاهره إلى وجه آخر لدليل ترجح عنده.
وقد يترك العمل بالحديث لاعتقاده، وهم الراوي أو لعلمه بوجود ناسخ له، فيظن مخالفه أنه رد الحديث، ومن ذلك ما كتب به الليث بن سعد إلى مالك عن أنه عد عليه سبعين حديثا ترك العمل بها مع إخراجه لها في الموطأ.
3-
لا يستطيع أحد أن ينكر أن أبا حنيفة قد فاته بعض الحديث فمن ذا الذي أحاط بالسنة كلها؟ ولم يغب عليه شيء منها؟ وقد علم أن الصحابة تفرقوا في الأمصار، وبثوا ما معهم من الأخبار، وأخذ كل واحد حظه من العلم بقدر ما يسر له، بل إن الصحابة أنفسهم ما ادعى واحد منهم أنه أحاط بكل شيء في السنة علما، وإنما حفظ بعضهم ما نسيه البعض الآخر، وتساءلوا عما عساه أن يكون قد خفي عليهم.
4-
إن لأبي حنيفة شروطا دقيقة في قبول الأخبار حمله عليها نشو الكذب في الحديث في عهده، فأراد أن يحتاط لدين الله عز وجل، فتشدد في قبول الأخبار، ومن شروطه في ذلك:
1-
ألا يعارض خبر الآحاد الأصول المجتمعة عنده بعد استقراء موارد الشرع، فإذا خالف تركه عملا بأقوى الدليلين وعد الخبر شاذا.
2-
ألا يعارض عمومات الكتاب وظواهره، فإذا عارضها أخذ بظاهر الكتاب وترك الخبر عملا بأقوى الدليل، أما إذا كان بيانا لمجمل أو نصا لحكم جديد فيأخذ به.
3-
ألا يخالف السنة المشهورة، سواء أكانت قولية أو فعلية عملا بأقوى الدليلين.
4-
ألا يعارض خبرا مثله، فإذا عارض رجح أحدهما بوجوه من الترجيح كأن يكون أحد الصحابيين أفقه من الآخر أو أحدهما فقيها أو غير فقيه أو أحدهما شابا والآخر هرما ابتعادا عن مظان الغلط.
5-
ألا يعمل الراوي بخلاف حديثه، كحديث أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، فإنه مخالف لفتياه.
6-
ألا يكون الخبر منفردا بزيادة سواء كانت في المتن أو السند، إذ يعمل بالناقص منهما، احتياطا في دين الله.
7-
ألا يكون فيما تعم به البلوى، إذ لا بد حينئذ من الشهرة أو التواتر.
8-
ألا يترك أحد المختلفين في الحكم من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه أحدهم، إذ لو كان ثابتا لاحتج به أحدهم.
9-
ألا يسبق طعن أحد من السلف فيه.
10-
الأخذ بالأخف فيما ورد في الحدود والعقوبات عند اختلاف الروايات.
11-
أن يستمر حفظ الراوي لرويه عند التحمل إلى وقت الأداء من غير تخلل نسيان.
12-
ألا يخالف العمل المتوارث بين الصحابة والتابعين دون تخصيص ببلد.
13-
ألا يعول الراوي على خطه ما لم يذكر مرويه.
ذلك هو أهم ما اشترطه أبو حنيفة لصحة خبر الآحاد والعمل به، ولا شك أن المحدثين لا يوافقونه على أكثر هذه الشروط إذا لم نقل: كلها، وغيره من الأئمة يخالفونه في بعضها"1.
ولسنا بصدد الدفاع عن الإمام فيما ذهب إليه وارتضاه وخالفه فيه غيره من الأئمة، وإنما الذي عنينا به أن نبرر موقف الإمام من بعض الأحاديث، وأن نجلي أمر اعتماده على الرأي والقياس، فهذا الذي قيل: إنه خالف فيه الناس إن كان عن اجتهاد، فليس بدعا فيه شأنه شأن من سبقه ومن لحقه إن كان عن هوى وعناد فهيات هيهات أن ينزلق إليه إمام ورع زاهد متنسك ثبتت إمامته، وعلت مكانته وسمت منزلته رغم أنف الكارهين، وقد أطال الكثيرون في ذكر مناقب هذا الإمام وأسهبوا في الترجمة له2.
1 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص422-424.
2 له ترجمة في طبقات ابن سعد ج6، ص256، وترجم له النسائي في الضعفاء والمتروكين ص233-234، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج8، ص449-450، وابن النديم في الفهرست =