الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مناهج المحدثين في القرن الهجري الثاني
مدخل
…
المبحث الرابع: مناهج المحدثين: في القرن الهجري الثاني
كان ولا بد وأن تثمر تلك الجهود الضخمة التي بذلت إبان القرن الأول أينع الثمار، وأن تؤتي أكلها ضعفين بإذن ربها، ثم بإخلاص باذليها، فما إن بدت أضواء القرن الثاني تلوح حتى كان الحديث والمحدثون في طور جديد، وشهدت فاتحة القرن الهجري الثاني نهضة كبيرة على طريق تدوين الحديث، وشيوع التصنيف فيه، فيأمر عمر بن عبد العزيز دون أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم1، وابن شهاب الزهري وغيرهما.
الحديث ونسخت النسخ مما دون، ووزعت على الأمصار لتكون للناس موئلا ومرجعًا وفي التأريخ لهذا العمل العمري المبارك والتعليل له يروي البخاري في كتاب العلم باب كيف يقبض العلم.
"وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه: "فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء
1 هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري نسب إلى جد أبيه ولجده عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية، وأبو بكر تابعي فقيه استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة قضائها، ولهذا كتب إليه، ولا يعرف له اسم سوى أبي بكر، وقيل كنيته أبو عبد الملك واسمه أبو بكر، وقيل اسمه كنيته. فتح الباري ج1، ص204.
ولا يقبل إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم وليفشوا العلم وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا"1.
وكأننا بالورع الزاهد العالم العابد الخليفة الراشد، وهو يضع معالم مناهج المحدثين فهو ينبه على ضرورة استقلال الحديث وتخليص الألفاظ النبوية من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ثم على المحدثين أن يحضروا مجالس التحديث، فلا يتكلوا على الكتابة والتدوين، فلا بد من المشافهة، ويتحتم
تضافر كل الجهود حتى لا يندرس العلم ويفشو الجهل.
ومما ينبغي التنبه له أن هذا التدوين هو الذي اشتهر وانتشر وذاع وشاع، وملأ البقاع، لا لأنه كان جديدا في زمانه، فقد سبقته محاولات كثيرة ترجع إلى عصر النبوة كما سبق أن ألمحنا، وإنما لأسباب أخرى ستسفر عن نفسها قريبا، وليس صحيحا ما ذهب إليه صاحب مجلة المنار الأستاذ محمد رشيد رضا من أن أول من دون الحديث خالد بن معدان؛ لذا تأباه النصوص الصحيحة والصريحة في إفادة أن هناك صحفا كانت لبعض الصحابة كصحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد مر بك خبرها آنفا كالصادقة لعبد الله بن عمر وغيرها كثير.
وليس صحيحا تأويله لأحاديث الإذن في الكتابة للحديث، ولا ادعاؤه أن أحاديث النهي عن الكتابة ناسخة لأحاديث الإذن فيها.
1 صحيح البخاري بهامش فتح الباري ج1، ص204-205.
ولا يقبل أيضا جمع صاحب المنار بين أحاديث النهي والإذن بما لا يصلح، ولا ادعاؤه بأن الصحابة لم يدونوا الأحاديث؛ لأنهم لم يتخذوها دينا عاما دائما كالقرآن1.
ولا ندري كيف لم يتخذ الصحابة الأحاديث دينا، فأي شيء اتخذوه دينا إذن؟ القرآن: وهو لا سبيل لفهمه، ولا الوقوف على أسراره واستنباط أحكامه ووجوه هدايته إلا بالوقوف على السنة.
وقد أسفر القرآن عن هذه الحقيقة، وأبانها إسفار الصبح وبيانه، وعلم الصحابة ذلك علم اليقين، وقد ذكرنا دقة فهمهم لهذه المعاني وروعة استنباطهم للحكم الذي لم ينص القرآن عليه مع ذلك أخذه منه من خلال أمره بأخذ ما آتانا الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك ما نهانا عنه والأمر بالاقتداء بالصحابة، ونقل فعلهم على أنه من القرآن.
الحق الثابت الذي لا تردد فيه هو أن تدوين الحديث وكتابته يرجع إلى عصر مبكر ربما إلى عصر النبوة، أو بعده مباشرة، وأما ما كان في فاتحة القرن الهجري الثاني على أيدي النبهاء كابن حزم وابن شهاب من اشتهار التدوين وانتشاره فإنه يرجع إلى ما يأتي:
1 انظر ما كتبه المغفور له الأستاذ الدكتور/ محمد محمد أبو زهو في هذا الموضوع في: "الحديث والمحدثون" ص220-236. وقد أوجزنا القول فيه هنا للتعرض إلى تقريره في ثنايا الموضوعات.
1-
اتخاذ التدوين طابعا رسميا فقد كان بأمر الخليفة وتنفيذًا لرغبته.
2-
ظهور الوضع والوضاعين، ذلك أن أعداء الدين أحكموا كيدهم المتين، وأوردوا طعن الإسلام من الخلف بعد أن عجروا عن النيل منه، وضعفوا عن مواجهته، كفاحا فلبسوا مسوحه وتزيوا بمظهره، وانطوت قلوبهم على حقد دفين فراحوا يؤججون نار الفتنة ويسعرون أوارها، ويلهبون الخلافات ويغذونها ببذور الشقاق والفرقة، وظنوا أن في السنة مرتعا خصبا يتخذون منه هدفا لسهامهم المسمومة، فراحوا يدسون ويكذبون كل ذي رأي يدعي أنه على الحق ويلتمس دليلا لمدعاه وهيهات أن يجد في كتاب الله ما يوافق هواه، لكن ماذا عساه أن يفعل أكثر من أن يقول في القرآن بغير علم، ويأوله على وفق متمناه، ويعجز عن أن ينقص أو يزيد فيه.
أما السنة فبحارها تتلاطم أمواجا، والناس يدخلون فيها أفواجا، ويسلكون إليها سبلا فجاجا مما يزين لأصحاب العقول الضيقة أنه بوسعهم أن يختلقوا وأن يأفكوا من غير أن يتنبه أحد لإفكهم واختلاقهم، لكن الله عز وجل هيأ للسنة رجالا أكفاء يذودون عنها كل خطر ويدفعون كل شعر ويذبون كذب الكاذبين.
3-
تفرق الصحابة ومن بعدهم التابعون، وتوزعوا على الأمصار كل يحدث بما سمع ويبلغ ما وعى، مما دعت الحاجة معه إلى جمع ما تفرق، وتأليف ما توزع.
4-
اتساع رقعة الدولة بعد الفتوحات الإسلامية العظيمة وانشغال
الناس بالدنيا وانغماس الكثيرين في طلب تحصيلها أدى ذلك إلى ضعف ملكة الحفظ شيئا ما، وجد مسيس الحاجة إلى تدوين الحديث مخافة أن يضيع.
كل ذلك، وأكثر منه كان وراء نشاط حركة الجمع والتصفيف تلك الحركة التي لم تنشأ من فراغ، وإنما اعتمدت على زاد ضخم وحصاد عظيم كان ثمرة جهد وكد السابقين الذين ذهب بعضهم قبل بدء القرن الثاني، وبقي تراثهم يواصل إحياء ذكرهم.
وهناك كثيرون ممن كانت لهم اليد الطولى في حفظ السنة في القرن الأول واصلوا جهدهم في القرن الثاني، ولم يسلموا الراية إلا عند إسلام أرواحهم إلى بارئها، ولم يسلموها إلا لمن يجهد حملها والذود عنها.
والناظر إلى القرن الهجري الثاني يبهره صنيع المحدثين فيه، ويهوله ذلك الجهد المضني الذي بذل بسخاء خدمة السنة النبوية المطهرة.
وتلمع نجوم حديثية في هذا القرن، وتسطع أضواؤها فتلمع من عمالقة الحديث في هذا القرن الأئمة الأربعة، وإن كان رابعهم عاش أكثر من نصف عمره في القرن الثالث ونلمح سفيان بن عيينة المولود سنة سبع ومائة، والمتوفى سنة ثمان وتسعين ومائة، ونلمح ابن إسحاق وموسى بن عقبة وشعبة والثوري؛ كلهم جدير بلقب "أمير المؤمنين بالحديث"، والذي يطالع كتب الصحاح يدرك ما لهؤلاء من أثر.
وتنوعت طرق التحديث عن هؤلاء فمنهم من اكتفى بتصدر مجالس
التحديث يروي للناس السنن كالسفيانين، ومنهم من يتكلم في الرواية، وما يتصل بها من أحكام الدراية كشعبة بن الحجاج، ومنهم من جمع إلى التحديث والتصنيف.
وتعددت مناحيهم في التصنيف، فمنهم من اعتنى بالمباحث الفقهية، وركز كل اهتمامه على الأحكام وجمع من الرواية اجتهاد بعض الأئمة، ومع ذلك كله اعتبر صنيعه توطئة للحديث، وتمهيدًا للدخول فيه، فسمي "موطأ"، ومنهم من نظر إلى السنة خلال أخذها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فعني بجمع مرويات الصحابي وسماها مسندا، وأضافها إلى الصحابي، ولم يراع في ترتيبها إلا من مرويات تلك الصحابي الذي يعنى بجميع منقوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يرتب الصحابة إما على السبق للإسلام، وإما على مراتبهم ودرجات تفضيلهم ككون الواحد منهم من العشرة المبشرين بالجنة، أو ممن شهد بدرًا، أو بيعة الرضوان إما أن يراعى في الترتيب حرف المعجم، وعرفت هذه الطريقة بالمسانيد.
وكما اشتهر في الكتب المرتبة على الأبواب "موطأ مالك" و"موطأ بن أبي ذئب"، اشتهر أيضا في الكتب المرتبة على المسانيد "مسند أبي داود الطيالسي" و"مسند ابن أبي شيبة"، وكان أجمع المسانيد وأنفعها "مسند الإمام""أحمد ابن حنبل".
وهناك من رتب تصنيفه على الأطراف بأن ذكر طرف الحديث فقط
اعتمادًا على الذاكرة، من هؤلاء "عبد بن حميد العبدي" كتب أطراف الحديث عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وتعددت الأسماء اللامعة في التصنيف، ولا يكاد يخلو بلد من علم من أعلام الحديث المحدثين، وقد اتسمت مصنفات هذا القرن بالسمات الآتية:
1-
الذين صنفوا على الأبواب جمعوا حديث كل باب على حدة، ثم أدرجوا الأبواب تحت الكتب فنرى أحاديث الصلاة موزعة على أبوابها، مجموعة تحت كتاب الصلاة وكذا الزكاة.
2-
يلاحظ أن مصنفي هذا القرن لم يقتصروا في مصنفاتهم على الصحيح فحسب، بل وجد في كتبهم الصحيح والضعيف لكنهم تجنبوا الموضوع.
3-
عني هؤلاء بجمع طرق الحديث الواحد، وسوقه من عدة روايات؛ ولهذا أهميته القصوى عند جهابذة الحديث والعارفين بمواطن النقد والتمحيص.
4-
مزج مصنفو هذا العصر الأحاديث النبوية بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وفي العقدين الأخيرين من هذا القرن رأى بعض أهل الحديث أن يفسروا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤلفات خاصة.
ونختار بعض أعلام المحدثين في القرن الثاني؛ لنتعرف عليهم وعلى مناهجم: