الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس: 1 الإيمان بالقضاء والقدر
.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(الإيمان بالقضاء والقدر)
حقيقة مذهب السلف في الإيمان بالقدر، والنصوص الدالة عليه
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونصلي ونسلم على خير خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها؛ ففي (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: -أي جبريل، عليه السلام صدقت)).
والنصوص المخبرة عن قدرة الله أو الآمرة بالإيمان بالقدر كثيرة: فمن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49)، وقوله:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (الأحزاب: 38) وقوله: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} (الأنفال: 42) وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 2) وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى: 1 - 3).
وروى مسلم في صحيحه عن طاوس قال: أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز.
وروى مسلم أيضًا عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر؛ فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 48، 49).
والنصوص في ذلك كثيرة جدًّا؛ فإن النصوص الدالة على علم الله وقدرته ومشيئته وخلقه تدل على قدره تبارك وتعالى فالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله ومشيئته
وخلقه، والقدر يدل بوضعه -كما يقول الراغب الأصفهاني فيما نقله عنه ابن حجر العسقلاني- على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم؛ فلله تعالى القدرة المطلقة، وقدرته لا يعجزها شيء، ومن أسمائه تبارك وتعالى القادر والقدير والمقتدر، والقدرة صفة من صفاته؛ فالقادر: اسم فاعل من قدر يقدر، والقدير: فعيل منه، وهو للمبالغة، ومعنى "القدير": الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة، لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه؛ ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله عز وجل، قال تعالى:{إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فصلت: 39)، والمقتدر: مفتعل من اقتدر، وهو أبلغ من قدير، ومنه قوله:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر: 55).
وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن القدر؟ فقال: القدر قدرة الله، قال ابن القيم: وقال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدًّا، وقال: هذا يدل على دقة أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين.
وهو كما قال أبو الوفا؛ فإن إنكاره إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها، وقد صاغ ابن القيم هذا المعنى شعرًا فقال:
فحقيقة القدر الذي حار الورى
…
في شأنه هو قدرة الرحمن
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد
…
لما حكاه عن الرضا الرباني
والحق أن تعريف أحمد -رحمه الله تعالى- قد كفى وشفى؛ فالقدر يعني ما قرره الله سبحانه في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (آل عمران: 154) وفي قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} (هود: 123) وغير ذلك من الآيات التي تدل على أنه لا يحدث شيء في الكون إلا بإرادة الله ومشيئته.
قال الطحاوي: وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئتُه تنفذ؛ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء الله؛ فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن، لا راد لقضائه؛ ولذا فإن الذين يكذبون بالقدر لا يُثبتون قدرة الله تعالى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: من لم يقل بقول السلف فإنه لا يثبت لله قدرة، ولا يثبته قادرًا، كالجهمية ومن اتبعهم والمعتزلة المجبرة النافية، حقيقة قولهم: أنه ليس قادرًا وليس له الملك؛ فإن الملك إما أن يكون هو القدرة، أو المقدور، أو كلاهما، وعلى كل تقدير فلابد من القدرة؛ فمن لم يثبت له قدرة حقيقة لم يثبت له ملكًا، والذين كذبوا بالقدر لم يوحدوا الله عز وجل فإن نفاة القدر يقولون: خالق الخير غير خالق الشر.
ويقول من كان منهم في ملتنا: إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى، وربما قالوا: ولا يعلمها أيضًا، ويقولون: إن جميع أفعال الحيوان واقعة بغير قدرته ولا صنعه؛ فيجحدون مشيئته النافذة وقدرته الشاملة؛ ولهذا قال ابن عباس: القدر نظام التوحيد؛ فمن وحَّد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده.
وقد تقاطر أهل العلم على تقرير القدر والنص على وجوب الإيمان به، وما من عالم من علماء أهل السنة الذين هم أعلام الهدى وأنوار الدجى إلا وقد نص على وجوب الإيمان به، وبدّع وسفّه من أنكره وردَّه.
يقول النووي -رحمه الله تعالى- في شرحه لأحاديث القدر من (صحيح مسلم): وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر، وأن جميع الواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها.
قال في موضع آخر: تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى.
ويقول ابن حجر -رحمه الله تعالى-: مذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى، كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: 21).