الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعل هذا القول الأخير أقوم من غيره، فهو الذي يتفق وما شغف محمد صلى الله عليه وسلم به من التأمل، ومن التفكير، وما عرف من غياب الشرائع يوم ذاك، حتى إن كثيرًا من الحنفاء لم يصلوا إلى شيء، رغم ما بذلوا من جهد للوصول إلى دين حقيقي.
واستمر محمد صلى الله عليه وسلم على عادته تلك في حب الخلاء والانقطاع له، ومداومة البحث عن الحقيقة حتى هداه الله إليه، بنزول الوحي وبدء الرسالة، وفي ذلك يقول الله تعالى:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (الضحى: 7).
يذهب المفسرون في بيان المعنى المراد من الضلال إلى معان كثيرة، فهو بمعنى الغفلة عما يراد بك من أمر النبوة، وبمعنى عدم معرفة دين وشرع ما، فهداك الله للإسلام وشريعته، وبمعنى في وسط ضلال قومك وكفرهم فهداهم الله بك، وبمعنى الحيرة فيما ترى فعرَّفك بالصواب والحق.
حال النبي عند نزول الوحي عليه، وصور ذلك الوحي
بلوغ محمد صلى الله عليه وسلم سن الأربعين:
وبلغ محمد صلى الله عليه وسلم سن الأربعين، وكمل في ذاته وأصبح مستعدًا لتكميل الآخرين، وهنا جاء وحي الله، كما هو الشأن مع جميع الأنبياء والمرسلين.
يروي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((أُنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة)).
لقد حاول محمد صلى الله عليه وسلم الوصول إلى الحقيقة المتصلة بالوجود والحياة، وطال تفكيره وتدبره، ولم يصل إلى ما يتمنى ويريد، إنه يسمع عن دين الله وأنبياء الله، لكنه
لا يعرف حقيقة الألوهية وحقوقها، ويجهل كل ما يتصل بالنبوة والرسالة، وإدراكه للملأ الأعلى بسيط، والأسرار من حوله تتكاثر وتتعدد، وكلما طال تأمله تشعبت مناحي النظر، وبعدت عن الأسرار والغايات.
والعقل مهما سما إدراكه، ومهما دق فكره، ومهما تعمقت تأملاته ونظراته، لا يمكنه أن يصل إلى شيء من حقائق هذا الوجود، ولابد له من وحي الله؛ يكشف له الأسرار التي يحتاج إليها، ومحمد صلى الله عليه وسلم مع صفاء نفسه وكمال عقله وسمو روحه- يحتاج إلى فيوضات الله تهديه للحق، وتنقذه من الحيرة، وتعرفه بالحقائق الدينية التي لا يمكن للعقل أن يصل إليها.
كما يحتاج لرحمة الله مراعاةً لجانب البشرية فيه، حتى لا تفاجئه روحانية الوحي، وغرائب الملأ الأعلى، ويحتاج كذلك إلى تعلم كيفية الاتصال بخالقه والتعامل مع الملائكة، واستقبال الوحي بمختلف صوره وأشكاله.
وقد تجلت فيوضات الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم بصورة رقيقة شفيقة، عمادها الرحمة والمودة، وعناصرها الترقي ببشرية محمد صلى الله عليه وسلم ليكون نبيًّا ورسولًا.
وكانت رحمة الله مع محمد صلى الله عليه وسلم حين جاءه وحي الله تعالى؛ إذ كلفه بالنبوة أولًا، وجاءه الوحي ينبئه، ومن المعروف أن النبوة لا تُزيل طباع البشرية كلها، فلما خبر النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، ورأى صوره وأنواعه، وأصبح متألقًا مع لقائه، جاءته الرسالة فصار رسولًا نبيًّا.
ولقد نُبئ محمد صلى الله عليه وسلم وجاءه الوحي من عند الله، واستمر على ذلك مدة تُعد تمهيدًا لإرساله، أراد الله أن يهيئه خلالها للتعامل مع الملائكة والاتصال بالله، ويعرفه كذلك بكل ما تحتاجه الرسالة من أمور لابد منها للرسول المختار.
بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم:
إن الرسول بشر يتصل بالله وبالناس، ولا بد له أن يتصف بصفات ذاتية، ترتقي به إلى درجة الكمال البشري، والسمو الروحي؛ ليسهل عليه الاتصال بالملأ الأعلى بجانبه الروحي، والتعامل مع الناس بجانبه في توازن وانسجام، وقد بدأت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأوليات الوحي، كما أرادها الله تعالى، ولم يكلف بالرسالة إلا بعد أن أصبح مؤهلًا لها مستعدًا للقيام بواجبها.
وقد كان صلى الله عليه وسلم في مرحلة النبوة يخاف من الوحي يأتيه بإحدى صوره، ولذلك كان يأتي لخديجة شاكيًا ويقول لها:((خشيت على نفسي)). ويصف الرجل الذي يظهر أمامه ويقول: سطا عليَّ الرجل، وكان يجري منه محاولًا الهرب من أمامه.
أما في مرحلة الرسالة؛ فكان يأنس بالوحي ويتعجله، ويخاف أن يتركه ولا يأتيه، وقد ذكر ابن كثير أن بدْأ الوحي بصورة التدرج يهدئ القلب ويطمئن النفس.
ومن صور الوحي في بدايته ما يلي:
1 -
الرؤيا الصادقة:
إذا نام الإنسان انقطع عن عالم الناس، وعاش مع باطنه وإدراكاته اللاشعورية، وخلال النوم تهيم نفس النائم في رؤى، تتضمن أفكارًا وأحداثًا، لا يمكن له أن يتصور حدوثها في حالة اليقظة، ولذا كانت الرؤى المنامية تدريبًا للإنسان وهو في عالم اللاشعور، على ما سوف يراه في عالم الإدراك والشعور.
إن هذه المقدمة باب لأهمية الرؤى، وإبراز لدورها في تهيئة الإنسان لأحداث عالم اليقظة، وبخاصة إذا كانت الأحداث غريبة مدهشة.
ولقد كان من رحمة الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن بدأ الوحي بالرؤية الصادقة، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها:((أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح))، وبذلك كان الوحي يُعلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم ما يريده الله تعالى في رؤى صادقة خالية من الضعف والوهن، وكانت رؤى الوحي في وضوحها وظهورها تشبه ضوء الصبح في بيانه وسطوعه.
جاء في (فتح الباري) أنه ثبت في مراسيل عبيد بن عمير أنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه أولًا في المنام، حتى أتاه الملك بعد ذلك في اليقظة، على الصورة التي أتاه بها في المنام.
وقد تعددت الرؤى المنامية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يندهش لذلك، ((رأى أن آتٍ أتاه ومعه صاحبان له فنظروا إليه فقالوا: هو هو، ثم ذهبوا، فهاله ذلك وتساءل عما رأى وعن حديثهم أمامه، فقال له عمه أبو طالب: يابن أخي ليس بشيء، وأتاه هذا الآتي مرة أخرى فجاء لعمه وقال له: يا عم، سطا بي الرجل الذي ذكرت لك، فأدخل يده في جوفي حتى إني أجد بردها، فخرج به عمه إلى رجل من أهل الكتاب يتطير بمكة، فحدثه حديثه وقال: عالجه، فصوب به وصعد وكشف عن قدميه، ونظر بين كتفيه وقال: يابن عبد مناف ابنك هذا طيب طيب، للخير فيه علامات، إن ظفرت به يهود قتلته)).
وأيضًا رأى في منامه أن سقف بيته نُزعت منه خشبة، وأُدخل فيه سلم من فضة، ثم نزل إليه رجلان، فأراد أن يستغيث فمُنع من الكلام، فقعد أحدهما إليه والآخر إلى جنبه، وأدخل أحدهما يده في جنبه، فنزع ضلعين منه، وأدخل يده في جوفه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجد بردهما، فأخرج قلبه ووضعه على كفه وقال لصاحبه: "نعم القلب، قلب رجل صالح، فطهّر قلبه وغسله، ثم أدخل القلب
مكانه، ووضع الضلعين، ثم ارتفعا ورفعا سلمهما، فإذا السقف كما هو، فذكر ذلك لخديجة بنت خويلد، فقالت له: أبشر؛ فإن الله لا يصنع بك إلا خيرًا، هذا خير فأبشر".
وهكذا تعددت الرؤى، وركزت على قضية إعلام الرسول بنبوته وتطهيره، وإعلامه ما ينتظره من أحوال وأعمال، حتى لا يفجأه الملك في صورته الحقيقية فيصاب بالخوف والاضطراب.
2 -
نداءات الملائكة:
من صور الوحي الذي بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم نداء الملائكة عليه، وإعلامهم إياه بنبوته، وهو لا يعرف المنادي ولا يمكنه تحديد مصدر النداء.
من ذلك ما رواه ابن كثير بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: ((إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر. قالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل ذلك بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث، فلما دخل أبو بكر قالت له خديجة: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة قال: ومن أخبرك؟ قال: خديجة، فانطلقا إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد، فأنطلق هاربًا في الأرض، فقال له: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول لك، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه: يا محمد قل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، حتى بلغ: ولا الضالين، قل: لا إله إلا الله، فأتى محمد ورقة فذكر له ذلك، فقال ورقة: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وإنك نبي مرسل)).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خرجت مرة حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتًا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل، فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، فرفعت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفًا لا أتقدم أمامي وما أتأخر ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرفت راجعًا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إليها فقالت: يأبا القاسم أين كنت، فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إليّ؟ ثم حدثتُها بالذي رأيت فقالت: أبشر يابن عمي واثبت، فوالذي نفسي بيده إني أرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة، فأخبرته بما أخبرتها به، فقال ورقة: قدوس قدوس، والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وأنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت، فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة)).
وفي مرة تالية قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، وانصرف يسمع كما كان يسمع، حيث بدأ بالكعبة فطاف، فلقيه ورقة عند الكعبة قال له:"يابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فلما أخبره قال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبن، ولتقاتَلن، ولتؤذَين، ولئن أدركت ذلك لأنصرن الله نصرًا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبَّل يافوخه".
ويقول صلى الله عليه وسلم لخديجة: ((لما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، فنظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا بين السماء والأرض فقلت: دثروني دثروني، وصبوا عليَّ ماء باردًا)).
إن نداءات الملائكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجبه مما يسمع، دفعه إلى معرفة شيء من أسرار ما يسمع، ولذلك كان يرجع لخديجة يقص عليها ما رأى، وكانت خديجة رضي الله عنها خير معين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمع منه، وتجتهد في معرفة أسباب ذلك، وتسأل أهل الكتاب عن خبر ما يسمع، فتخبر زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يُسرِّي عنه ويطمئنه.
وكانت تبحث عن أسرار ما يرى لتطمئن عليه وتطمئنه رضي الله عنها، قالت له مرة:((يا بن عمي أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبريل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني، فقالت: قم يابن عمي، فاجلس على فخذي اليسرى، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، فحسرت فألقت خمارها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت: يابن عمي اثبت وأبشر، فوالله إنه لملك، ما هذا شيطان)).
3 -
كلام الشجر والحجر:
يروي ابن سعد بسنده ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتدائه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يَرى بيتًا، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه، فلا يرى أحدًا)).
روى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أعرف حجرًا كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)).
وروى ابن سعد عن هشام بن عروة عن أبيه -رحمهما الله تعالى- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا خديجة إني أرى ضوءًا وأسمع صوتًا لقد خشيت أن أكون كاهنًا فقالت: إن الله تعالى لا يفعل بك ذلك يابن عبد الله، إنك تصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتصل الرحم)).
4 -
لقاء الملائكة:
من رحمة الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن أخذ يهيئه للقاء ملك الوحي، وذلك بإرسال الملائكة إليه تعلمه كلمة أو شيئًا ما؛ ليستعد بذلك على ملاقاة جبريل عليه السلام.
يروي ابن سعد ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه النبوة كان يأتيه إسرافيل، واستمر معه يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل شيئًا من القرآن على لسانه)).
يقول أبو شامة: ((إن إسرافيل كان يأتي النبي وهو في غار حراء، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه تدرجًا وتمرينًا، وأحيانًا كان يأتيه جبريل يصحبه ملك آخر. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصفا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، والذي بعثك بالحق، ما أمسى لآل محمد سَفَّة دقيق ولا كف من سويق، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هَدَّة من السماء أفزعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأمر الله القيامة أن تقوم؟ فقال جبريل: لا، ولكن أمر الله إسرافيل فنزل إليك حتى يَسمع كلامك، فأتاه إسرافيل فقال: إن الله تعالى بعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض إليك أن أُسَيِّر معك جبال تهامة زمردًا وياقوتًا وذهبًا وفضة، فإن شئت نبيًّا ملكًا، وإن شئت نبيًّا عبدًا، فأومأ إليه جبريل: أن تواضع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نبيًّا عبدًا، ثلاثًا)).