الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غضبه صلى الله عليه وسلم وشدته في الحق
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخشى في الله لومة لائم، وهذه بعض المواقف التي غضب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم:
فلقد غضب عندما قيل له: إن فلانة ماتت واستراحت، أخرج الإمام أحمد في المسند، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:((جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ماتت فلانة واستراحت، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنما يستريح من دخل الجنة))، قال قتيبة: من غفر له.
كما غضب صلى الله عليه وسلم عندما تكلّم البعض في إمارة أسامة بن زيد وأبيه رضي الله عنهما، قال أهل السير: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة، فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فعسكَر بالجرف، وخرج في عسكره أبو بكر وعمر وسعد وسعيد وأبو عبيدة، فتكلّم قوم وقالوا: يُستَعْمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، فخرج وقد عَصَّب رأسه بعصابة، فصعد المنبر وقال:((أمّا بعد، فما مقالة بلغتني عنكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وايم الله، إن كان للإمارة خليقًا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة)).
واشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر:((إن تطعنوا في إمارته -يريد أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايم الله، إن كان لخليقًا لها، وايم الله، إن كان لأحبّ الناس إليّ، وايم الله، إنّ هذا لها لخليق -يريد أسامة بن زيد- وايم الله، إن كان لأحبهم إليّ من بعده، فأوصيكم به، فإنه من صالحيكم)).
قوله صلى الله عليه وسلم: ((وايم الله، إن كان لخليقًا لها)) أي حقيقًا بها، وفيه جواز إمارة العتيق، وجواز تقديمه على العرب، وجواز تولية الصغير على الكبار، فقد كان أسامة صغيرًا جدًّا، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وقيل: عشرين، وجواز تولية المفضول على الفاضل للمصلحة، وفي هذه الأحاديث فضائل ظاهرة لزيد ولأسامة رضي الله عنهما.
كذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم عند الجَوْر في الوصية: عن الذيّال بن عبيد بن حنظلة بن حزيم، عن حنيفة، سمعت جدي يقول: قال حنيفة لابنه حزيم: اجمع لي بنيك، فإني أريد أن أوصي، فجمعهم ثم قال: جمعتهم يا أبتاه، قال: فإني أوّل ما أوصي به مائة من الإبل التي كنّا نسمي المطيبة في الجاهلية صدقة على يتيمي هذا، في حجره، قال: اسم اليتيم ضرس بن قطيعة، قال حزيم لأبيه حنيفة: إني أسمع بنيك يقولون: إنما تقرّ بها عين أبينا، فإذا مات اقتسمناها، وقسمنا له مثل نصيب بعضنا، قال: أسمعتهم يقولون ذلك؟ قال: نعم، قال: فبيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا إليه، فإذا هو جالس فقال: من هؤلاء المقبلون، فقالوا: هذا حنيفة النعم، أكثر الناس بعيرًا بالبادية، قال: فمن هذان حواليه؟ قالوا: أمّا الذي عن يمينه فابنه حزيم الأكبر، ولا نعرف الذي عن يساره، فلمّا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سلّم حنيفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سلّم حزيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا حزيم، ما رفعك إلينا؟ قال: هذا رفعني وضرب فخذ حزيم، قال: أوَليس هذا حزيم؟ قال: نعم، قال: يا رسول الله، إني رجل كثير المال، عليّ ألف بعير، وأربعون من الخيل، سوى مالي في البيوت، خشيت أن يفجأني الموت أو أمر الله، فأردت أن أوصي، فأوصيت بمائة من الإبل التي كنا نسميها في الجاهلية المطيبة، صدقة على يتيمي هذا في حجرته، قال: فرأيت
الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جثا على ركبتيه، ثم قال:((ألا لا -ثلاث مرار- إنما الصدقة خمس، وإلّا فعشر، وإلا فخمس عشرة، وإلّا فعشرون، وإلا فخمس وعشرون، وإلّا فثلاثون، فإن كثرت فأربعون))، قال: فبادره حنيفة قال: فأشهدك يا رسول الله إنها أربعون من التي كنا نسميها المطيبة في الجاهلية، قال: فودّعه حنيفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((فأين يتيمك يا أبا حُزيم))، قال: هو ذاك النائم، قال: وكان شبيه المحتلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لعظمت هذه هراوة يتيم))، ثم إن حنيفة وبنيه قاموا إلى أبا عِرْهم، فقال حزيم: يا رسول الله، إن لي بنين كثيرة، منهم ذو اللحى، ومنهم دون ذلك، وهذا أصغرهم وهو حنظلة، فقسمت عليه يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((ادنُ يا غلام، فدنا منه، فرفع يديه فوضعهما على رأسه، ثم قال: بارك الله فيه))، قال الذيال: فرأيت حنظلة يؤتَى بالرجل الوارم وجهه، والشاة الوارم ضرعها، فيتفل في كفّه، ثم يضعه على صلعته، ثم يقول: باسم الله، على أثر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يمسح الورم فيذهب.
وكذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم عند حثّ خباب رضي الله عنه بالصبر على ما يلقاه من أذى:
عن قيس بن أبي حازم، عن خباب رضي الله عنه قال:((أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة في ظل الكعبة، فشكونا إليه، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألَا تدعو الله لنا؟ فجلس محمرًا وجهه، فقال: قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه، فيجعل فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشّط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يصير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت، ما يخاف إلّا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
وخباب هو ابن الأرت، وكان ممن أوذي في الله، سُبي في الجاهلية، فاشترته أم أنمار، وكان حدادًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يألفه قبل النبوة، فلمّا شرّفه الله بها أسلم خباب، فكانت مولاته تعذبه بالنار، فتأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره ليكفر، فلا يزيده ذلك إلّا إيمانًا.
وقوله: متوسّدٌ بردة -أي: كساء مخططًا- والمعنى: جاعل البردة وسادة له، من توسّد الشيء جعله تحت رأسه، فشكونا: أي الكفار، ألَا تدعو الله لنا، أي: على المشركين فإنهم يؤذوننا، فقوله: محمرًا وجهه، أي: من أثر النوم، ويحتمل أن يكون من الغضب، وبه جزم ابن التين. قاله الحافظ.
فيُحفر له بصيغة المجهول، أي: يجعل له حفرة، بالمنشار -بكسر الميم- وهو آلة يشقّ بها الخشبة، فيجعل فرقتين: أي يجعل الرجل شقين، يعني: يقطع نصفين، ما يصرفه ذلك: أي لا يمنعه ذلك العذاب الشديد عن دينه، ويمشّط بصيغة المجهول بأمشاط الحديد، جمع المشط وهو ما يتمشّط به الشعر، ما دون عظمه من لحم وعصب.
قوله: والذئب على غنمه: أي ما يخاف إلا الذئب على غنمه، ولا يخفى ما فيه من المبالغة في حصول الأمن وزوال الخوف، ولكنكم تستعجلون: أي سيزول عذاب المشركين، فاصبروا على أمر الدين كما صبر من سبقكم، قال ابن بطال: أجمعوا على أنّ من أكرِه على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممن اختار الرخصة.
وأما غير الكفر، فإن أكره على أكل الخنزير مثلًا فالفعل أولى.
قال المحققون من العلماء: إذا تلفّظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلّا مجرى المعاريض، فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، ومتى لم يكن كذلك
كان كافرًا؛ لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها، مثاله: أن يقال له: اكفر بالله، فيقول: باللاهي.
كذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم عندما طلبت منه قريش رد عبدين كانا أسلما، وأتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلح الحديبية.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم، قالوا: يا محمد، والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هربًا من الرقّ، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله، ردّهم إليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:((ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا، وأبَى أن يردّهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل).
كذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن أشياء كرهها:
عن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلّى لهم صلاة الظهر، فلما سلّم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أنّ قبلها أمورًا عظامًا، ثم قال: من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه، فوالله لا تسألونني عن شيء إلّا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فأكثر الناس البكاء حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني، فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله، قال: أبوك حذافة، فلمّا أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول: سلوني، برك عمر رضي الله عنه فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى والذي نفس محمد بيده، لقد عرضت عليّ الجنة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر.
قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتيبة بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت بابن قط أعق منك، أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس، قال عبد الله بن حذافة: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
كذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم عند اعتزاله لنسائه:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((لما اعتزل نبي الله نساءه قال: دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وذلك قبل أن يؤمرنَ بالحجاب، فقال عمر: فقلت: لأعلمنّ ذلك اليوم، قال: فدخلت على عائشة، فقلت: يا بنت أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله، فقالت: ما لي ومالك يابن الخطاب، عليك بعيبتك، قال: فدخلت على حفصة بنت عمر، فقلت لها: يا حفصة قد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله، والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله، فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله؟ قالت: هو في خزانته في المشربة، فدخلت، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أسقف المشرُبة، مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر، فناديت: يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئًا، ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئًا، ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله، فإنّي أظن أن رسول الله ظنّ أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله بضرب عنقها لأضربنَّ عنقها، ورفعت صوتي، فأومأ إلي أن: ارقه، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه
إزاره، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قرظًا في ناحية الغرفة، وإذا أفيق معلّق، قال: فابتدرت عيناي، قال: ما يبكيك يابن الخطاب؟ قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلّا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته من خلقه، وهذه خزانتك! فقال: يابن الخطاب، ألَا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت: بلى، قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء، فإن كنت طلقتهن فإنّ الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر، والمؤمنون معك، وقلّما تكلمت، وأحمد الله بكلام إلّا رجوت أن يكون الله مصدق قولي، والذي أقول، ونزلت هذه الآية آية التخيير:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} (التحريم: 5) وقوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التحريم: 4) وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي، فقلت: يا رسول الله، أطلقتهن؟ قال: لا، قلت: يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طلق رسول الله نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: نعم إن شئت، فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرًا، ثم نزل نبي الله ونزلت)).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.