الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع
(دروس في فقه الدعوة من خلال الهجرة إلى المدينة)
المسلمون يبدءون الهجرة إلى المدينة بعد بيعة العقبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين ورحمة الله للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن استنّ بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
المسلمون يبدءون الهجرة إلى المدينة:
بعد بيعة العقبة الثانية أخذ المسلمون يهاجرون من مكة إلى المدينة، وظلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظر الإذن من ربه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراه الله دار هجرته وهي المدينة.
روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابّتين، وهما الحرّتان)) والحرة أرض ذات حجارة سود كأنها قد احترقت.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لمَّا صدر السبعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة وقومًا، أهل حرب وعدة ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين؛ لما يعلمون من الخروج، فضيّقوا على أصحابه، وتعبّثوا بهم، ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنوه في الهجرة، فقال: قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابّتين. ثم خرج إليهم مسرورًا وحدّد لهم مكان الهجرة، فقال: يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها، فجعل القوم يتجهّزون ويترافقون ويتواسون ويخرجون، ويخفون ذلك)).
هجرة عمر كانت علنًا، وهجرة غيره كانت سرًّا، كان المسلمون يهاجرون سرًّا؛ لأن قريشًا كانت تمنع كل من يريد الهجرة بالقوة وتؤذيه، أمّا عمر فقد أعلن أنه سيهاجر، وحدّد موعد هجرته متحديًا، فقد روى ابن عساكر وابن السمان في (الموافقة)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "ما علمت أحدًا من المهاجرين
هاجر إلا مختفيًا، إلّا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه لمَّا همَّ بالهجرة تقلّد سيفه، وتنكّب قوسه، وأنفض بدنه -أي: أخرج أسهمًا من كنانته- وجعلها في يديه معدّة للرمي بها، واختصر عنزته، أي: حملها مضمومة إلى خاصرته، ومضى قِبَل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أتى المقام فصلّى ركعتين، ثم وقف على الحلق، واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلّا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمّل زوجته، فليتبعني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحد".
وقفة تأمل:
إنَّ القارئ لأحداث الهجرة يجد أنَّ الجميع وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجروا سرًّا وخفية عن قريش، أمّا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد هاجر علانية، فماذا نستفيد من هذا؟
أقول: إنّ عمر بن الخطاب لم يكن أشجع المسلمين، بل كان من بينهم، فمن هو أشجع منه، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدانيه عمر في الشجاعة، كما علمنا من سيرته صلى الله عليه وسلم في الحرب؛ إذ كان أقرب المسلمين المقاتلين في ميدان المعركة إلى العدو، وكان إذا اشتدت الحرب وحَمِي الوطيس اتقى الصحابة -رضوان الله عليهم- بما فيهم علي بن أبي طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحكمة من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم سرًّا تعود إلى أنَّ تصرفه يعدُّ تشريعًا عامًّا لجميع المسلمين، بخلاف اجتهاد عمر في هجرته، والرسول مطلوب منه التيسير على المسلمين، وهجرته علنًا وحمل المسلمين على الاقتداء به فيه حرج شديد لهم، وتكليف لهم بما يشقّ عليهم، والله تبارك وتعالى جعل أساس التكليف نفي
الحرج، فقال سبحانه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185) فالحيطة والحذر، والأخذ بالأسباب، والتخفي من العدو، أمور مشروعة ومستحبة، أخذ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمر لم يأخذ بها، والاقتداء بالرسول في هذه الأمور مطلوب، وعدم الحيطة والحذر مرفوض في الشرع على عمومه.
ويمكننا أيضًا أن نستخلص من فعل عمر في الهجرة على النحوِّ الذي هاجر فيه، وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وعدم إنكاره عليه هجرته على هذه الصورة، جواز أن يتحدّى الفرد العدو الكثير من المشركين، معتزًّا بإيمانه وإسلامه.
هذا ولقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب الهجرة وطريقها إلى المسلمين، فاتخذوا أسلوب السرّية، وهو ينسجم مع طبيعة المرحلة الدعوية، وشعارها: سرّية التنظيم، فالحركة كانت سرّية، وكان المشركون يفتنون من هاجر ويمنعونه ويؤذونه، أمّا عمر فقد خرج مهاجرًا علنًا يتحمّل مسئولية إعلانه، ووفقه الله لإرهاب عدوه، وقد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجرته، فأذن له.
أجواء مكة بعد رحيل المسلمين منها:
ذكر البخاري أن أوّل من هاجر إلى المدينة مصعب بن عمير، وعبد الله بن أم مكتوم، وذكر ابن إسحاق وابن سعد أنّ أول من هاجر هو أبو سلمة بن عبد الأسد، وجزم بذلك موسى بن عقبة، وقد جمع الحافظ بن حجر بين ما ذكره البخاري وأصحاب السير، بحمل الأوّليّة على صفة خاصة، هي أنّ أبا سلمة خرج لها لقصد الإقامة بالمدينة، بخلاف مصعب، فكان عليه نية الإقامة بها؛ ليعلّم من أسلم من أهلها، فلكلٍّ أولية من جهة.
قال ابن إسحاق عن هجرة أبي سلمة: هاجر إلى المدينة قبل بيعة العقبة بسنة، وكان قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أرض الحبشة، فلمّا آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج إلى المدينة مهاجرًا.
محنة أبي سلمة:
عن أمّ سلمة قالت: لمَّا أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة، رحّل لي بعيري، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة في حجري، ثم خرج بي، فلمّا رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه، على ما نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، فقالوا: لا والله، لا نترك ابنتنا عندها، فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي إلى المدينة، ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني، قالت: فكنت أخرج كل غداة، فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبًا منها، حتى مرَّ بي رجل من بني عمي، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا ترحموا هذه المسكينة؟ فرّقتم بينها وبين زوجها وابنها، فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت، قالت: وردَّ بنو عبد الأسد إلي ابني، ثم خرجت أريد زوجي، وما معي أحد من خلق الله، قالت: أتبلّغ ممن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار، فقال لي: إلى أين يا بنت أمية، قلت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أوَما معك أحد؟ فقلت: لا والله، إلا الله وابني هذا، قال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلًا من العرب كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت فحط عن
البعير، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عنّي إلى شجرة فاضطجّع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلي بعيري فقدّمه، فرحّله ثم استأخر عني، وقال: اركبي، حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلًا، فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة، فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.
وعندما أراد صهيب الهجرة، قال له المشركون: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قال: فإني جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((ربح صهيب)).
استئذان أبي بكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وتآمر قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فكّر الصديق رضي الله عنه في الهجرة، وعندما أراد أن يهاجر طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم الانتظار؛ ليصحبه في هجرته عندما يؤذَن له بذلك، فأخذ الصديق في الاستعداد لهذه الهجرة، فاشترى راحلتين، وظلّ يعلفهما لمدة أربعة أشهر.
وقد روى الحاكم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: ((من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصديق))، وفي بعض الروايات أنَّ أبا بكر كثيرًا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له:((لا تعجل، لعلّ الله يجعل لك صاحبًا)) فيطمع أبو بكر أن يكون هذا الصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عندما علم المشركون بما تمَّ في بيعة العقبة الثانية، وعندما رأوا المسلمين يهاجرون إلى المدينة، شعروا بالخطر من تجمُّع المسلمين بالمدينة، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم،
فبدءوا يفكّرون في القضاء على هذا الخطر المحتمل المتمثّل في تهديد تجارتهم، وتنامِي قوة الإسلام الذي وقفوا أمامه طوال ثلاث عشرة سنة.
وفي يوم الخميس السادس والعشرين من شهر صفر، السنة الرابعة عشرة من النبوة، الموافق للثاني عشر من سبتمبر عام ستمائة واثنين وعشرين لميلاد المسيح عليه السلام، بعد شهرين ونصف تقريبًا من بيعة العقبة الكبرى، عقد زعماء قريش اجتماعًا خطيرًا في دار الندوة؛ ليتشاوروا في أنجح الوسائل للتخلُّص من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30).
وقد أجمل القرآن الكريم في هذه الآية الآراء التي طُرِحَت في هذا الاجتماع الخطير.
وفي رواية عن ابن عباس: ٍ أنّهم عندما اجتمعوا في دار الندوة للتشاور في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، جاءهم إبليس على هيئة شيخ جليل من أهل نجد، فقالوا: من الشيخ؟ قال: من أهل نجد، سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألّا يعدمكم رأيًا ونصحًا، وعندما دارت المناقشات اقترح أحد المؤتمرين أن يحبسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه -كما تقولون- ليخرجن أمره من وراء الباب، هذا الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه، ثم يكاثروكم به، حتى يغلبوكم على أمركم.
ثم اقترح أحدهم أن ينفوه، فدحض النجدي الاقتراح، مبينًا حسن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنطقه، وأسره القلوب، سيجذب الناس إليه، ويغلب بهم قريشًا، وأخيرًا اقترح أبو جهل أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابًّا فتيًّا وسطًا