الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعريفات القضاء والقدر، والفرق بينهما
التعريف بالقضاء والقدر:
التعريف بالقدر:
القدر مصدر، تقول: قدَرت الشيء -بتخفيف الدال وفتحها-: أقدره -بالكسر والفتح- قدْرًا وقدَرا إذا أحطت بمقداره، والقدر في اللغة: القضاء والحكم، ومبلغ الشيء، والتقدير: التروية والتفكر في تسوية الأمر.
والقدر -في الاصطلاح-: ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه عز وجل قدّر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى وعلى صفات مخصوصة؛ فهي تقع على حسب ما قدرها.
وقال ابن حجر في تعريفه: المراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد؛ فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته.
ونقل السفاريني عن الأشعرية: أن القدر إيجاد الله تعالى الأشياء على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها طبق ما سبق به العلم وجرى به القلم.
وهذه التعريفات متقاربة فيما بينها، وهي تفيد أن القدر يشمل أمرين:
الأول: علم الله الأزلي الذي حكم فيه بوجود ما شاء أن يوجده، وحدد صفات المخلوقات التي يريد إيجادها، وقد كتب كل ذلك في اللوح المحفوظ بكلماته؛ فالأرض والسماء أحجامهما وأبعادهما وطريقة تكوينهما وما بينهما وما فيهما؛ كل ذلك مدوّن علمه في اللوح المحفوظ تدوينًا دقيقًا وافيًا.
والثاني: إيجاد ما قدّر الله إيجاده على النحو الذي سبق علمه وجرى به قلمه؛ فيأتي الواقع المشهود مطابقًا للعلم السابق المكتوب، والقدر يطلق ويراد به التقدير السابق لما في علم الله، ويطلق ويراد ما خلقه وأوجده على النحو الذي علمه.
وسئل الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- عن القدر؟ فأجاب شعرًا قائلًا:
فما شئتَ كان وإن لم أشأْ
…
وما شئتُ إن لم تشأْ لم يكن
خلقتَ العباد على ما علمت
…
ففي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت
…
وهذا أعنت وهذا لم تُعِن
فمنهم شقي ومنهم سعيد
…
ومنهم قبيح ومنهم حسن
التعريف بالقضاء:
القضاء: الفصل والحكم، وقد تقرر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر القضاء، وأصله القطع والفصل؛ يقال: قضى يقضي قضاء فهو قاضٍ إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه؛ فيكون بمعنى الخلق، وقال الزهري: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه، وكل ما أُحكم عمله أو أُتم أو أُدي أو أُوجب أو عُلم أو نُفّذ أو أُمضي فقد قضي، وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الأحاديث.
وللعلماء في التفرقة بين القضاء والقدر قولان:
الأول: القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر: وقوع الخلق على وزن الأمر المقضى السابق.
يقول ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-: قال العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله.
وقال في موضع آخر: القضاء: الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر: الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل.
الثاني: عكس القول السابق؛ فالقدر: هو الحكم السابق، والقضاء: هو الخلق؛ قال ابن بطال: القضاء هو المقضي، ومراده بالمقضي: المخلوق، وهذا هو قول الخطابي؛ فقد قال في (معالم السنن): القدر اسم لما صار مقدرًا عن فعل القادر؛ كالهدم والنشر والقبض، أسماء لما صدر من فعل الهادم والناشر والقابض، والقضاء -في هذا-: معناه الخلق؛ كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 12) أي خلقهن.
وبناء على هذا القول يكون القضاء من الله تعالى أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقديرين؛ فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع.
ويدل لصحة هذا القول نصوص كثيرة من كتاب الله، قال تعالى:{وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (مريم: 21) وقال: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (مريم: 71)، وقال:{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (البقرة: 117) فالقضاء والقدر -بناء على هذا القول- أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس -وهو القدر-، والآخر بمنزلة البناء -وهو القضاء- فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء.
معنى الإيمان بالقدر:
ويجب على كل مسلم أن يؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره، ويقصد بالإيمان بالقدر: الإيمان بعلم الله القديم، والإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وفي
بيان ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: الإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون، بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق؛ فـ ((أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة))؛ فما أصاب الإنسان لم يكن يخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف؛ كما قال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحج: 70) وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحد: 22).
وأما الدرجة الثانية: فهي الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة: وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه -سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه-، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته.
وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد.
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن، والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم.
هذا؛ وإن تقسيم القدر الذي يجب الإيمان به إلى خير وشر إنما هو بإضافته إلى الناس والمخلوقات؛ أما بالنسبة لله عز وجل فالقدر خير كله والشر لا ينسب إلى الله؛ فعلم الله ومشيئته وكتابته وخلقه للأشياء والحوادث، هذا كله حكمة وعدل ورحمة وخير؛ فإن الشر لا يدخل في شيء من صفات الله تعالى ولا أفعاله، ولا يلحق ذاتَه تبارك وتعالى نقصٌ ولا شرٌّ؛ فله الكمال المطلق والجلال التام؛ ولذلك لا يجوز إضافة الشر إلى الله مفردًا؛ وإنما يجوز أن يدخل الشر في العموم كقوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الرعد: 16) ويجوز أن يضاف إلى السبب كقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (الفلق: 1، 2) ويجوز أن يذكر بحذف فاعله، كقوله تعالى -فيما حكاه عن الجن-:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (الجن: 10).
والحق أن الله تعالى لم يخلق شرًّا محضًا من جميع الوجوه؛ فإن حكمته سبحانه تأبى ذلك؛ فلا يمكن في جانبه تعالى أن يريد شيئًا يكون فسادًا من كل وجه ولا مصلحة في خلقه بوجه ما؛ فإنه تعالى بيده الخير كله والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم النسبة إليه؛ فلو نسب إليه لم يكن شرًّا، وهو من حيث نسبته إلى الله تعالى خلقًا ومشيئة، وليس بشر.
المرض مثلًا شر ومصيبة بالنسبة للإنسان عاجلًا؛ ولكنه خير في الآجل، وخير بالنسبة لله عز وجل لما يعلم ما يعقبه من مغفرة الذنوب وتطهير النفوس، وكذلك سجن أعداء الله للمؤمنين شرٌّ في ظاهره لما فيه من الآلام والمحن؛ ولكنه تمحيص