الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيهم، ويعطَى كل واحد منهم سيفًا صارمًا، فيضربون جميعًا بأسيافهم محمدًا ضربة رجل واحد؛ ليتفرق دمه بين القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فيرضوا بالدية، وأيّد النجدي هذا الاقتراح، ووافق عليه الجميع، وتفرقوا على ذلك، ولم يبق إلّا التنفيذ، وعلّل السهيلي حضور إبليس على هيئة رجل من نجد أنهم قالوا بأنَّ اجتماعهم لا يحضره أحد من تهامة؛ لأن هواهم مع محمد صلى الله عليه وسلم.
الإعداد والتخطيط للهجرة، والدروس المستفادة منها
الإعداد والتخطيط للهجرة:
الإذن بالهجرة والتخطيط لها، وتجمُّع قريش حول بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتله والخروج من بيت الصديق إلى غار ثور:
لمّا تمَّ اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، نزل إليه جبريل بوحي ربه تعالى، وأخبره بمؤامرة قريش، وأنَّ الله قد أذن له في الخروج، وحدّد له وقت الهجرة قائلًا:((لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه))، وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة إلى أبي بكر الصديق، ليتفق معه على خطة الهجرة.
قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلّا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن فأذِنَ له فدخل، فتأخّر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما جاء بك إلّا أمر حدث، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: لا عين عليك، إنما هما ابنتاي، وفي لفظ: أهلك، فقال: إن الله قد أذن في الخروج والهجرة. فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: نعم، قالت عائشة: فوالله ما أنّ أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ.
وفي هذا اللقاء تمَّ الاتفاق على خُطَّة الخروج من مكة، وعاد إلى بيته صلى الله عليه وسلم، غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة سبع وعشرين من شهر صفر، سنة أربعة عشرة من النبوة، الموافق الثاني عشر والثالث عشر من سبتمبر سنة ستمائة واثنين وعشرين من الميلاد.
وأتى دار الصديق، ومنها خرَج إلى الغار، وتقدَّم معنا أنَّ الصديق قد جهَّز راحلتين منذ فترة لهذه الساعة، ساعة ميلاد الدولة الإسلامية، فقال الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم:((خذ إحدى راحلتي هاتين، فقال صلى الله عليه وسلم: بالثمن، لا أركب بعيرًا ليس لي، قال: هو لك، قال: ولكن بالثمن، قال: أخذتها بكذا وكذا، فقال: أخذتها بذلك))، وقيل: بأنّ هذه الراحلة هي الجدعاء، وكان الثمن ثمانمائة درهم، قالت عائشة: فحهزناها أحثّ الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فشقّت أسماء بنت الصديق قطعة من نطاقها لتربط به القربة، وقد عرفت بذات النطاقين.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لها نطاقين في الجنة)) واستأجرا رجلًا ماهرًا بالطريق، وواعداه بعد ثلاث في الغار، وقد أمناه وهو على كفره، وقد أسلم بعد ذلك، واسمه عبد الله بن أريقط، وخرج الصديق بجميع ماله، وكان خمسة آلاف درهم؛ لينفقه في سبيل الله، كما أنفق أكثر من خمسة وثلاثين ألفًا قبل ذلك في سبيل الله، وقد خرجا من بابٍ خلفيّ في بيت الصديق، متنكرين، وفي
طريقهما إلى الغار ودّع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة التي أحبها، مكة التي وُلِد فيها وترعرع، فقال:((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجتُ منك لما خرجت)).
وفي رواية أخرى: ((ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)).
وفي طريقهما إلى الغار، كان الصديق يمشي أمام الرسول صلى الله عليه وسلم أحيانًا، وأحيانًا خلفه، فسأله صلى الله عليه وسلم عن السبب، فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي أمامك، وعندما انتهيا إلى الغار، قال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مكانك حتى أستبرئ لك الغار، وبعدما تأكّد من خلوِّ الغار قال: انزل يا رسول الله، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار.
موقف قريش بعد فشل خطتها في التخلّص من الرسول صلى الله عليه وسلم والخروج من الغار:
1 -
إلقاء القبض على عليّ بن أبي طالب للتحقيق معه، وسحبه إلى الكعبة، وضربه لأخذ المعلومات منه.
2 -
جاءت مجموعة منهم إلى بيت الصديق للبحث عنه هناك، أو لأخذ الصديق ليفعلوا معه ما فعلوا مع عليّ، فخرجت إليهم أسماء، فسألوها عن والدها، فقالت: بأنّها لا تدري، فغضب أبو جهل، فلطمها لطمة طرح منها قرطها.
3 -
وضعوا جميع الطرق الخارجة من مكة تحت المراقبة.
4 -
قرروا منح جائزة مقدارها مائتا ناقة من الإبل لمن يعثر عليهما حيين أو ميتين.
5 -
استأجروا قصّاص الآثار ليتَّبِعوا آثارهما حيثما حلّا.
وصل المطاردون إلى فم الغار، فقد روى البخاري عن أبي بكر قال:((كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي، فإذا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ رأسه رآنا، قال: ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)).
وقد روي أنَّ الله أمر شجرة فنبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فسترته، وأمر حمامتين فوقعتا في فم الغار، وأنّ العنكبوت نسجَت على بابه، وقد ضعَّف بعضهم هذه الروايات من حيث الإسناد، والله تبارك وتعالى قادر على كل شيء.
وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت قريش بعد استمرار المطاردة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج.
فلمَّا كانت ليلة الاثنين غرة ربيع الأول السنة الأولى من الهجرة، الموافق السادس عشر من سبتمبر سنة ستمائة واثنين وعشرين من الميلاد ارتحلا، وارتحل معهما عامر بن فهيرة لخدمتهما، وأخذ بهما الدليل على طريق الساحل.
وروى البخاري عن الصديق رضي الله عنه قال: ((أسرينا ليلتنا ومن الغد، حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق لا يمرّ فيه أحد، فرُفِعَت لنا صخرة طويلة، لها ذيل لم تأتِ عليها الشمس)) الحديث. فنزلوا تحت ظلها بعدما سوّى الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكانًا، وأعدَّ له فراشًا، ثم بدا الصديق يستكشف المكان، ويبحث عمَّن حوله، فوجد راعيًا عنده غنم، فحلب له لبنًا قدِمَ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب منه صلى الله عليه وسلم، ثم قال للصديق: ألم يأن الرحيل؟ قلت: بلى، قال: فارتحلنا.
حاول سراقة بن مالك الظفر بالمكافأة، فلاحظ وهو جالسٌ في قومه مرور الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق معه، فخرج مسرعًا في أثرهما، وكلما قاربهما ساخت أقدام فرسه في التراب، يقول سراقة: فناديت بالأمان فوافقا.
وذكر الإمام البخاري في صحيحه، عن الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجيّ وهو ابن أخي سراقة، أنَّ أباه أخبره، أنه سمع سراقة يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم دية، كل واحد منهما من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جالسون، فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفًا أسودة في الساحل، أراها محمدًا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبست في المجلس ساعة، ثم قمتُ فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرِج بفرسي، وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجة الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء، مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إنّ قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزئاني ولم يسألاني إلّا أن قالا: اخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدُم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومرَّ صلى الله عليه وسلم على خيمة أمّ معبد الخزاعية، وكانت بفناء خيمتها شاة عجفاء أقعدها الهزال عن الخروج إلى المرعى، فمسح صلى الله عليه وسلم على ضرعها، فتفاجت عليه ودرّت، فدعا بقدح يكفي الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فشرب الجميع، ثم حلبها مرة أخرى وملأه، ثم تركه عندها.
وخرج الركب الميمون، وجاء زوجها، فوجد اللبن عندها، فأخبرته الخبر، وذكرت له أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلنّ إن وجدت إلى ذلك سبيلًا.
إسلام بريدة الأسلمي:
ذكر ابن حجر العسقلاني رحمه الله في الإصابة، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة، لقي بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، وقد غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة، ويؤخذ من هذا أنّ الداعية لا يفتر عن الدعوة إلى الله، بل يبشّر بدعوته وينشرها ويبلغها للناس، وهذا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دروس من الهجرة النبوية:
ومنَ الدروس المستفادة من الهجرة النبوية، إنّ الدارس لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بتفاصيلها، يستخلص منها الدروس التالية:
أولًا: التخطيط في الهجرة:
فقد كان لخطة الرسول صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة العناصر التالية:
الهدف: الوصول إلى المدينة بسلام.
الرفيق في الرحلة: الصديق أبو بكر رضي الله عنه.
الفدائي الذي يفدي الرسول صلى الله عليه وسلم: علي بن أبي طالب.
المكان الآمن المؤقّت: غار ثور.
جهة التموين: أسماء بنت أبي بكر.
الاستخبارات: عبد الله بن أبي بكر.
دليل الرحلة: عبد الله بن أريقط.
مخفي الآثار: عامر بن فهيرة.
موعد الانطلاق من الغار: بعد ثلاثة أيام.
تفاصيل الخطة وشرحها:
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قرّر ألّا يهاجر وحده، ولا بُدَّ من رفيق يساعده ويستعين به، لقد قرّر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون أبو بكر هو هذا الرفيق، فقد كان شجاعًا لا ينهار أمام الشدائد والمفاجآت، فالرحلة طويلة وشاقة، والسفر يسفر عن أخلاق الرجال.
وممّا يجدر ذكره أنَّ أبا بكر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فلم يأذن له، وقال له:((لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبًا)).
لقد أذن الله للرسول صلى الله عليه وسلم والرفيق ينتظر الصحبة، فتوجه إلى بيت أبي بكر، لكنه يعلم أن قريش إنْ أحسّت بذلك ستمنعه، وعيون قريش تراقب حركاته وسكناته، وهي تعلم أنّ تحركات النبي في أول النهار وفي آخره، ويقيل في
وسطه، لا بُدّ أن يفوّت على مخابرات قريش ما تريد، فهم يراقبونه في وقت خروجه وتجواله، ويسكنون بسكونه، وتغفل أعينهم عن مراقبته، فاختار وقتًا لا يخرج فيه عادة، وقت الهاجرة، أي: شدة الحر؛ حيث تخف الحركة، يبقى كل واحد في بيته توقيًا لشدة الحر، دخل بيت الصديق رضي الله عنه في هذا الوقت، فوجد ابنتيه عائشة وأسماء رضي الله عنهما، فقال:((أخرج عني من عندك، فقال يا رسول الله، إنهم أهلك، فقال: إنّ الله قد أذن لي في الخروج والهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: الصحبة)).
والمدقق يجد أن غار ثور جنوب المدينة، وهذا تورية من الرسول صلى الله عليه وسلم على العدو؛ لأن الذي سيطارده سيتوجه فورًا إلى الشمال نحو المدينة، ولا يخطر بباله أن يتوجه إلى الجنوب حيث غار ثور؛ لأنه عكس طريق الهجرة تمامًا، إنه التخطيط النبوي العميق، والتنفيذ الدقيق.
هذا، وبالله التوفيق.