الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
(معاملة غير المسلمين وكيف يُدعَون إلى الإسلام)
القاعدة الأولى في معاملة أهل الذمة في دار الإسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
القاعدة الأولى في معاملة أهل الذمة في دار الإسلام: أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين إلا في أمور محددة مستثناة؛ كما أن عليهم ما على المسلمين من واجبات إلا ما استثنى:
- حق الحماية:
فأول هذه الحقوق: هو حق تمتعهم بحماية الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، وهذه الحماية تشمل حمايتهم من كل عدوان خارجي، ومن كل ظلم داخلي؛ حتى ينعموا بالأمان والاستقرار.
أ- الحماية من الاعتداء الخارجي:
أما الحماية من الاعتداء الخارجي؛ فيجب لهم ما يجب للمسلمين، وعلى الإمام أو ولي الأمر في المسلمين بما له من سلطة شرعية وما لديه من قوة عسكرية أن يوفر لهم هذه الحماية، قال في (مطالب أولي النهى) من كتب الحنابلة: يجب إلى الإمام حفظ أهله الذمة ومنع من يؤذيهم، وفك أسرهم، ودفع من قصدهم بأذى إن لم يكونوا بدار حرب؛ بل كانوا بدارنا ولو كانوا منفردين ببلد، وعلل ذلك بأنهم جرت عليهم أحكام الإسلام وتأبَّد عقدُهم؛ فلزمه ذلك كما يلزمه للمسلمين.
وينقل الإمام القرافي المالكي في كتبه (الفروق) قول الإمام الظاهري ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع): أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا
يقصدونه؛ وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح؛ ونموت دون ذلك؛ صونًا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى في ذلك إجماع الأمة، وعلق على ذلك القرافي بقوله: فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صونًا لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم.
ومن المواقف التطبيقية لهذا المبدأ الإسلامي: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية حينما تغلب التتار على الشام، وذهب الشيخ ليكلم قطلو شاه في إطلاق الأسرى؛ فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة؛ فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى؛ فهم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرًا لا من أهل الذمة ولا من أهل الملة؛ فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له.
ب - الحماية من الظلم الداخلي:
وأما الحماية من الظلم الداخلي؛ فهو أمر يوجبه الإسلام ويشدد في وجوبه، ويحذر المسلمين أن يمدوا أيديهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان؛ فالله تعالى لا يحب الظالمين ولا يهديهم؛ بل يعاجلهم بعذابه في الدنيا أو يؤخر لهم العقاب مضاعفًا في الآخرة.
وقد تكاثرت الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الظلم وتقبيحه وبيان آثاره الوخيمة في الآخرة والأولى، وجاءت أحاديث خاصة تحذر من ظلم غير المسلمين من أهل العهد والذمة؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((من ظلم معاهدًا، أو انتقصه حقًّا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة))، وقال صلى الله عليه وسلم:((من آذى ذميًّا؛ فأنا خصمه؛ ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة)) وقال أيضًا: ((من آذى ذميًّا فقد آذاني؛ ومن آذاني فقد آذى الله)).
وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: أنه لا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر؛ ولهذا كله اشتدت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين بدفع الظلم عن أهل الذمة وكف الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبَلهم.
كان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى؛ فيقولون له: ما نعلم إلا وفاء -أي بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين- وهذا يقتضي أن كلًّا من الطرفين وفّى بما عليه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول:"إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا".
- حق التدين:
ويحمي الإسلام فيما يحميه من حقوق أهل الذمة: حق الحرية، وأول هذه الحريات: حرية الاعتقاد والتعبد؛ فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه أي ضغط ليتحول منه إلى الإسلام، وأساس هذا الحق: قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256) وقوله سبحانه: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: أي لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا تحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه.
وسبب نزول الآية كما ذكر المفسرون يبين لنا جانبًا من إعجاز هذا الدين: فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت امرأة تكون مقلاة -أي قليلة النسل- فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار؛ فقال آباؤهم: لا
ندع أبناءنا -يعنون لا ندعهم يعتنقون اليهودية- فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256).
فرغم أن محاولات الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحاربين الذين يخالفونهم في دينهم وقوميتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين اليهودية وهم صغار، ورغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجات التعب والاضطهاد للمخالفين في المذهب؛ فضلًا عن الدين كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيرت رعاياها حينًا بين التنصر والقتل؛ فلما تبنت المذهب الملكاني؛ أقامت المذابح لكل من لا يدين به من المسيحيين من اليعاقبة وغيرهم، رغم كل هذا رفض القرآن الإكراه؛ بل من هداه الله وشرح صدره ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة؛ ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا -كما قال ابن كثير.
فالإيمان عند المسلمين ليس مجرد كلمة تلفظ باللسان أو طقوس تؤدى بالأبدان؛ بل أساسه إقرار القلب وإذعانه وتسليمه؛ ولهذا لم يعرف التاريخ شعبًا مسلمًا حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام؛ كما أقر بذلك المؤرخون الغربيون أنفسهم.
وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم وراعى حرمة شعائرهم؛ بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال: حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج: 39، 40).
وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران: أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملتهم وبِيَعهم، وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء القدس نص على حريتهم الدينية وحرمة معابدهم وشعائرهم:"هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملتها: لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود" -كما رواه الطبراني.
وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم؛ فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية، ولا يحدثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم تكن لهم فيها كنيسة من قبل؛ وذلك لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي مما قد يؤدي إلى فتنة واضطراب.
على أن من فقهاء المسلمين من أجاز لأهل الذمة إنشاء الكنائس والبيع وغيرها من المعابد في الأمصار الإسلامية، وفي البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، أي: أن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا لهم إلا بحد السيف إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك؛ بناء على مصلحة رآها ما دام الإسلام يقرهم على عقائدهم، وقد ذهب إلى ذلك الزيدية والإمام ابن القاسم من أصحاب مالك.
ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين وذلك منذ عهد مبكر؛ فقد بنيت في مصر عدة كنائس في القرن الأول الهجري، مثل: كنيسة ماري مرقص بالإسكندرية ما بين عامي 39 و56 هجرية؛ كما بنيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم ما بين عامي 47 و68 هجرية؛ كما سمح عبد العزيز بن مروان حين
أنشأ مدينة حلوان ببناء كنيسة فيها، وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها على الدين وتم لهم به النصر والغلبة أمر لم يعهد في تاريخ الديانات، وهذا ما شهد به الغربيون أنفسهم.
يقول العلامة الفرنسي غوستاف لوبون: رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفًا أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابون، أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب.
والعبارات الآتية التي اقتطفها من كتب الكثيرين منهم تثبت أن رأينا في هذه المسألة ليس خاصًّا بنا؛ قال روبرت سن: أن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرًا لدينهم تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارًا في التمسك بتعاليمهم الدينية.
تسامح فريد:
إن التسامح الديني والفكري له درجات ومراتب؛ فالدرجة الدنيا من التسامح: أن تدع لمخالفك حرية دينه وعقيدته، ولا تجبره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك؛ بحيث إذا أبى حكمت عليه بالموت أو العذاب أو المصادرة أو النفي أو غير ذلك من ألوان العقوبات والاضطهادات؛ فتدع له حرية الاعتقاد؛ ولكن لا تمكنه من ممارسة واجباته الدينية التي تفرضها عليه عقيدته، والامتناع مما يعتقد تحريمه عليه.
والدرجة الوسطى من التسامح: أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب، ثم لا تضيق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه أو فعل أمر يعتقد حرمته؛
فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت؛ فلا يجوز أن يكلف بعمل في هذا اليوم؛ لأنه لا يفعله إلا وهو يشعر بمخالفة دينه، وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد؛ فلا يجوز أن يمنع من ذلك في هذا اليوم.
والدرجة التي تعلو هذه في التسامح: ألا تضيق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك، وهذا ما كان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح؛ فقد التزموا كل ما يعتقده غير المسلم أنه حلال في دينه، ووسعوا له في ذلك، ولم يضيقوا عليه بالمنع والتحريم، وكان يمكنهم أن يحرموا ذلك مراعاة لشريعة الدولة ودينها، ولا يتهموا بكثير من التعصب أو قليل؛ وذلك لأن الشيء الذي يحله دين من الأديان ليس فرضًا على أتباعه أن يفعلوه؛ فإذا كان دين المجوسي يبيح له الزواج من أمه أو أخته؛ فيمكنه أن يتزوج من غيرهما ولا حرج، وإذا كان دين النصراني يحل له أكل الخنزير؛ فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير، وفي لحوم البقر والغنم والطير متسع له.
ومثل ذلك الخمر؛ فإذا كان الإنجيل قد جاء بإباحتها؛ فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخمر؛ فلو أن الإسلام قال للذميين: دعوا زواج المحارم وشرب الخمر وأكل الخنازير مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين لم يكن عليهم في ذلك أي حرج ديني؛ لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكرًا ولو أخلوا بواجب مقدس؛ ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك، ولم يشأ أن يضيق على غير المسلمين في أمر يعتقدون حله، وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون.
روح التسامح عند المسلمين:
على أن هناك شيئًا آخر لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، ويلزم بها القضاء، وتشرف على تنفيذها الحكومات؛ ذلك هو روح السماحة التي تبدو في حسن المعاشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار، وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان، وهي الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية ولا يغني فيها قانون ولا قضاء، وهذه الروح لا تكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي.
تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15).
وفي (ترغيب القرآن في البر والإقساط) إلى المخالفين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين قال سبحانه وتعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) وفي قول القرآن يصف الأبرار من عباد الله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8) ولم يكن الأسير حين نزلت الآية إلا من المشركين.
وفي (قول القرآن) يجيب عن شبهة المسلمين في مشروعية الإنفاق على ذويهم وجيرانهم من المشركين المصرّين: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (البقرة: 272).
وقد روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل مكة مالًا لما قحطوا ليوزع على فقرائهم؛ هذا على الرغم مما قاساه من أهل مكة من العنت والأذى هو وأصحابه، روى الإمام أحمد والشيخان عن أسماء بنت أبي
بكر قالت: قدمت أمي وهي مشركة؛ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله؛ إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم؛ صِلي أمك.
وفي (قول القرآن) يبيِّن أدب المجادلة مع المخالفين: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} (العنكبوت: 46)، وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب يهودًا كانوا أو نصارى؛ فقد كان يزوروهم ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم ويأخذ منهم ويعطيهم.
ذكر ابن إسحاق في السيرة: أن وفد نجران -وهم من النصارى- لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة دخلوا عليه مسجده بعد العصر؛ فكانت صلاتهم؛ فقاموا يصلون في مسجده؛ فأراد الناس منعهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوهم)) فاستقبل المشرق فصلوا صلاتهم.
وعقب المجتهد ابن القيم على هذه القصة في (الهدي النبوي)؛ فذكر مما فيها من الفقه جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وتمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضًا إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك.
وروى أبو عبيد في (الأموال) عن سعيد بن المسيب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهي تجرى عليهم". وروى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهوديًّا وعرض عليه الإسلام؛ فأسلم؛ فخرج وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه به من النار))، وروى البخاري أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله، وقد كان في وسعه أن يستقرض من أصحابه، وما كانوا ليضنوا عليه بشيء؛ ولكنه أراد أن يعلم أمته، وقبِل النبي صلى الله عليه وسلم الهدايا من غير المسلمين، واستعَّان في سلمه وحربه بغير المسلمين؛ حيث ضمن ولاءهم له،
ولم يخشَ منهم شرًّا ولا كيدًا؛ ومرت عليه جنازة فقام لها صلى الله عليه وسلم واقفًا؛ فقيل له: إنها جنازة يهودي؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((أليست نفسًا؟!)).
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الصحابة والتابعين لغير المسلمين؛ فعمر يأمر بصرف معاش دائم ليهودي وعياله من بيت مال المسلمين، ثم يقول قال الله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) وهذا من مساكين أهل الكتاب، ويمر في رحلته إلى الشام بقوم مجذومين من النصارى؛ فيأمر بمساعدة اجتماعية لهم من بيت مال المسلمين، وأصيب عمر بضربة رجل من أهل الذمة أبي لؤلؤة المجوسي؛ فلم يمنعه ذلك أن يوصي الخليفة من بعده -وهو على فراش الموت-: فيقول: أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، وأن يوفي بعهدهم وأن يقاتل من وراءهم؛ وألا يكلفهم فوق طاقتهم.
وابن عمر يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية، ويكرر الوصية مرة بعد مرة؛ حتى دهش الغلام وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي، قال ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) وماتت أم الحارث بن أبي ربيعة، وهي نصرانية؛ فشيعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بعض أجلاء التابعين يعطون نصيبًا من صدقة الفطر لرهبان النصارى، ولا يرون في ذلك حرجًا؛ بل ذهب بعضهم كعكرمة وابن سيرين والزهري إلى جواز إعطائهم من الزكاة نفسها.
وروى ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد: أنه سئل عن الصدقة فيمن توضع؟ فقال: في أهل ملتكم من المسلمين وأهل ذمتكم، وذكر القاضي عياض في (ترتيب المدارك) قال: حدث الدارقطني: أن القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه الوزير عبدون بن صاعد النصراني وزير الخليفة المعتضد بالله العباسي فقام له القاضي ورحب به: فرأى إنكار الشهود لذاك، فلما خرج الوزير قال القاضي