الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تخدعها الشعوذة والخرافات والأوهام، بل قلَّ أن تجد للكهانة بين أبناء الأمة الإسلامية سوقًا نافقة، كما تجدها في سائر الديانات، ذلك أنَّ الإسلام قام على النظر في البرهان، قال تعالى:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111).
4 -
غرس مبادئ قوة العزم والرأي، واستقلال الفكر، والاعتماد على النفس، ولهذا لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه ضعفًا في مواقف الجدِّ، فلم يجد همَمَهم فاترة، وعقولهم قاصرة، كما وجد موسى عليه السلام في بني إسرائيل ذلك الخَوَر الفاضح، حين ذهب بهم إلى العدو، إذا بهم ينكصون على أعقابهم، ويخاطبونه بلسان الخائر الجبان:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 24) ألَا بعدًا لقوم لا يؤمنون، ألهذا كانوا يقترحون الآيات ويمعنون في طلب المعجزات، كلا لم يجد من أصحابه مثل هذا.
وُدُّ النبي صلى الله عليه وسلم ووفاؤه، وتفقُّد أحوال أصحابه، وكرمه
ودّه صلى الله عليه وسلم ووفاؤه:
كان صلى الله عليه وسلم أكثر ما يكون ودًّا ووفاء للضعفاء والبسطاء من الذين حملوا معه أعباء الدعوة وأثقال الجهاد، وذات يوم مرَّ أبو سفيان على سليمان وصهيب وبلال، وكانوا عبيدًا فأعتقوا، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدوّ الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقصَّ عليه فقال: ((يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك)) فانطلق إليهم أبو بكر فقال: أغضبتم يا إخوتي؟ قالوا: لا، يغفر الله لك، لقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون قد مسَّهم حرج أو استشعروا إهانة، وهم البسطاء الضعفاء، الذين لم يكن لهم شرف ولا كرامة إلّا بالإسلام، فإنه
لشرف لا يعدوه شرف، كرامة لا تعلو عليها كرامة، فأي سموّ ارتقى إليه هذا الإنسان العظيم الذي وسع خلقه كل الناس، وعمّ أرجاء الدنيا.
ولنواصل المسيرة مع شيء من ذلك النبع الفيّاض في حياة الرسول الوفي صلى الله عليه وسلم:
كان يقف كل يوم عقب صلاة الصبح ويقول: ((هل فيكم مريض أعوده؟ هل فيكم جنازة أتبعها؟ فإن قالوا: لا، قال: من رأى منكم رؤيا فليقصها))، وتموت امرأة كانت تباشر خدمة المسجد، ويدفنها المسلمون دون أن يعلموا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعرف النبي بوفاتها بعد ذلك، فيحزن ويقول لأصحابه متألمًا:((هلّا أعلمتموني))، قالوا: ماتت بالليل، وكانت ظلمة، فكرهنا أن نشقّ عليك، فيذهب عليه الصلاة والسلام إلى قبرها، ويدعو الله لها، ثم ينطلق إلى أهلها فيقدّم لهم العزاء والسلوى.
ويبلغ به الوفاء مبلغًا هو في غاية السمو والجلال، وذلك حين يقدُم عليه وفد النجاشي ملك الحبشة، الذي كان له يد بيضاء على المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده فرارًا من ظلم قريش، واستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقوم النبي بنفسه على خدمة الوفد ورعايته، فيقول له أصحابه: يا رسول الله، إنا نكفيك هذا، فيقول:((إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافأهم)).
لقد كافأهم بنفسه؛ لأن ردَّ الجميل عنده لا يقبل الإنابة، إنهم قد أكرموا أصحابه من أجله في ديارهم، وأعزوهم في هجرتهم وغربتهم، وكذلك يكون الوفاء.
وهو وفيّ في غضبه مثل وفائه في رضاه، ودودٌ في حزنه مثل ودّه في سروره، وذلك غاية الكمال والجلال، في أعقاب معركة حنين قسّم الغنائم على المهاجرين دون الأنصار، وهم الذين تحملوا عبء المعركة وأهوالها، وهم الذين ثبتوا مع رسول صلى الله عليه وسلم حتى تبدّل الفرار انتصارًا، وضاقت نفوس الأنصار لحرمانهم من
الغنائم، وتحدّثوا في ذلك، وعلم عليه الصلاة والسلام بهذا، فقام فيهم خطيبًا وقال:((يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم، قالوا: بلى، قال: ألَا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المَنُّ لله ورسوله، قال: والله لو شئتم فقلتم فصدّقتم وصُدِّقتم، جئتنا وحيدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك، وخائفًا فأمّنّاك، ومخذولًا فنصرناك، فقالوا: المَنّ لله ورسوله، فقال: أوجدتم في نفوسكم يا معاشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألّفت بها قومًا أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شعبًا وسلك الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، فبكى القوم، وقالوا: رضينا بالله ربًّا، ورسوله قسمًا، ثم انصرفوا وقد رضوا واطمأنوا)).
فليس حرمان الأنصار من الغنائم تخليًا عنهم، ولا قَلَا لهم، ولا نكرانًا لدورهم، ولا جحودًا لسجلهم المشرّف في تاريخ الدعوة، ولكنّه لحكمة أجَلّ وأعظم، أما الودّ فباقٍ على حاله، وأمّا الوفاء فهو منهم ولهم وبهم؛ لأنهم أنصاره وكفى.
وكان له مع الأنصار أيضًا مواقف تفيض ودًّا ووفاءً، وهم بذلك جديرون، فبعد أن أتمّ الله عليه نعمته، وأكمل له دينه، ففتح له مكة، ودانت له جزيرة العرب، سمع همسات الأنصار من حوله: إن دولة المدينة قد دالت، فإن محمدًا سيبقى في بلده مسقط رأسه، والتي يحمل إليها أسمى معاني الحب والوفاء، من يوم أن تركها إلى يومنا هذا، والتي كان يتوجّه إليها دائمًا بقوله:((والله إنك لأحب البلاد إلى الله، وإنك لأحبّ البلاد إلي، ولولا أنّ قومك أخرجوني منك ما خرجت))،
والآن قد عاد إليها وطاب له المقام فيها، ويسمع الرسول منهم ذلك، فيذهب إليهم ويقول لهم في ودٍّ ووفاء:((يا معشر الأنصار، معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم))، وهنا ترتفع أصواتهم شاكرة لله فضله، وللرسول وفاءه.
إنه سيعود إليهم وسيموت ويدفَن في المدينة، ذلك البلد الأمين الذي آواه وأيده ونصره وأعزه، عرفانًا بالجميل، ووفاء للذكرى، وتقديرًا لأهله الكرام الأوفياء.
كان صلى الله عليه وسلم وفيًّا للكرام الأوفياء، محبًّا لهم على البعد، مقدرًا لهم على السمعة، وكان يعطيهم حقهم من التكريم والتعظيم والوفاء، ولم يكن هذا بغريب على شيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بعد أن انتهت إحدى المعارك بين المسلمين وأعدائهم، وقد انتصر فيها المسلمون، ووقع في أيديهم عدد من الأسرى، سيقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تقدّمت إحدى الأسيرات ووقفت بين يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وقالت: يا محمد، هلك الولد، وغاب الرافد، فإن رأيت أن تمنَّ علي، وتخلّي عني، ولا تشمت بي الأعداء، فإني ابنة سيد قومه، إن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويفشي السلام، ولا يرد طالب حاجة، فقال صلى الله عليه وسلم:((من أبوك؟)) قالوا: حاتم الطائي، فقال:((لو كان أبوها مسلمًا لترحمنا عليه، فخلوا سبيلها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق))، فخرجت إلى أخيها عدي وقالت: ائت محمدًا، فإن فيه خصال الخير كلها، إنه يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الضعيف، ويعرف حق الكبير، وما رأيت أحدًا أجود منه ولا أكرم.