الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيئ لك، قم للجهد والنصب والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل والجهاد الطويل الشاق، قم فتهيئ لهذا الأمر واستعد.
إنها كلمة عظيمة رهيبة، تنزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ، لتدفع به في الخضم بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس، وفي واقع الحياة سواء.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا، لم يسترح ولم يسكن ولم يعش لنفسه، ولا لأهله، قام وظل قائمًا على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ، ولا ينوء به عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.
عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عامًا، لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد، منذ أن سمع النداء العلوي الجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب، جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء.
مرحلة الدعوة السرية
مرحلة الجهاد بالدعوة إلى الله سرّا ثلاث سنوات:
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول ما تقدم من آيات سورة المدثر بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وحيث إن قومه كانوا جفاة، لا دين لهم إلا عبادة الأصنام والأوثان، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا آباءهم على ذلك، ولا أخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنفة، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلا السيف، وكانوا مع ذلك متصدّرين للزعامة الدينية في جزيرة العرب، ومحتلين مركزها الرئيسي، ضامنين حفظ كيانها، فقد
كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية؛ لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم.
الرعيل الأول:
وكان من الطبيعي أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم أولًا على ألصق الناس به من أهل بيته وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وجلالة نفسه، وصدق خبره، جمعٌ عُرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم: زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ومولاه زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وابن عمه علي بن أبي طالب، وكان صبيًّا يعيش في كفالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصديقه الحميم أبو بكر الصديق، أسلم هؤلاء في أول يوم من أيام الدعوة.
قال ابن إسحاق: "وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به، ثم إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افترضت عليه الصلاة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له عينٌ من ماء زمزم، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام، ثم صلى ركعتين وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقرّ الله عينه وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله، فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصليان سرًّا.
قلت: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبيَّن له أوقات الصلوات الخمس؛ أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الإسراء.
فصل: أول من أسلم من متقدمي الإسلام والصحابة وغيرهم:
قال ابن إسحاق: ((ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء بعد ذلك بيوم وهما يصليان، فقال علي: يا محمد ما هذا؟ قال: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى، فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاضٍ أمرًا حتى أحدّث به أبا طالب، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سرّه قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا عليّ، إذ لم تسلم فاكتم، فمكث عليّ تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب عليّ الإسلام، فأصبح غاديًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فقال: ماذا عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد، ففعل علي وأسلم)).
ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم على إسلامه ولم يظهره، وأسلم ابن حارثة -يعني زيدًا- فمكث قريبًا من شهر يختلف عليٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما أنعم الله به على عليٍّ أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام.
قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: وكان مما أنعم الله به على عليّ أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس، وكان من أيسر بني هاشم:((يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق حتى نخفف عنه من عياله، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيًّا، فاتبعه علي وآمن به وصدقه)).
وقال آخرون: أول من أسلم من هذه الأمة أبو بكر الصديق.
والجمع بين الأقوال كلها: أن خديجة أول من أسلم من النساء، وظاهر السياقات، وقيل الرجال أيضًا، وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وأول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب، فإنه كان صغيرًا دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت، وأول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم؛ إذ كان صدرًا معظمًا ورئيسًا في قريش مكرّمًا، وصاحب مال وداعية إلى الإسلام، وكان محببًا متألفًا يبذل المال في طاعة الله ورسوله.
قال يونس عن ابن إسحاق: ((ثم إن أبا بكر الصديق لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحقٌّ ما تقول قريش يا محمد، مِن تركك آلهتنا وتسفيهك عقولنا وتكفيرك آبائنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته، وقرأ عليه القرآن فلم يُقر، ولم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدِّق)).
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما دعوتُ أحدًا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر)) ".
ما يستفاد من الدعوة السرية:
1 -
إن بدأ الدعوة النبوية بالسرية فيه حكمة جليلة ومصلحة عامة، تهم الدعوة في ذلك:
لأن بداية الدعوة لا يكون لها أنصار، والناس أعداء لكل جديد وإن كان خيرًا، وأعداء لما يجهلون، فإذا بدأ الرسول بإعلان دعوته قبل أن يؤمن بها أحد،
سيواجه أهل الصولة والجولة والقوة، فيقضون عليه وعلى دعوته قبل وجود أنصار من الذين يقفون إلى جانبه، ويقومون بتبليغ دعوته، ولذلك بدأ هذه المرحلة بتكوين الأنصار، ثم أعلن بعد ثلاث سنوات عن دعوته.
2 -
الأخذ بالأسباب:
فإن على الداعية أن يحافظ على دعوته وعلى نفسه قبل أن تنتشر؛ حتى تنتشر ويوجد من يحمل الرسالة من بعده، ولا يكون ذلك إلا بالأسباب التي تحافظ عليه حتى يؤدي رسالته، ومن أهم هذه الأسباب: السرية.
3 -
نعمة الزوجة الصالحة:
كان مِن نعم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أن هداه إلى اختيار خديجة زوجة له، فكانت معينًا ومثبتًا بفضل الله ومنته.
4 -
جواز الاستعانة بمال الزوجة لنشر الدعوة إذا كان بطيب نفس منها، كما كان من خديجة رضي الله عنها.
5 -
صفات الرسول تؤهله لحمل الرسالة:
لقد مَنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأخلاق حميدة وصفات عظيمة، أهَّلته لتلقي الرسالة وحملها. قال تعالى:{اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124).
6 -
حسن معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم حببت من يعرفه بالإسلام فآمن وصدق وتابع.
7 -
الفقراء هم أتباع الرسل:
يُذْكَر أن معظم الذين آمنوا من الفقراء، فما السر في ذلك؟
إن الفقراء أقرب في الفطرة إلى الهداية؛ لأن سبيل الإغراء والإغواء لا تتوفر لهم بعكس الأغنياء، فإن سبل الفساد والإفساد متوفرة لهم وفي متناول أيديهم، والفقراء يبحثون عن محرر لهم، ومنصف ينصفهم من الطواغيت، الذين أذلوهم، وصادروا حرياتهم، واغتصبوا حقوقهم، والرسل وحدهم هم المنقذون لهم.
وخلاصة القول: إن الدعوة الإسلامية في مكة كانت في هذه المرحلة سرية، وكانت فكرة الدعوة ورسالة الدعاة مجهولة تمامًا عند الناس، وعند التنظيمات الأخرى، وعند أصحاب الجاه والسلطان، وعلى هذا، كانت الجماعة الإسلامية والدعوة الإسلامية تعيش في أمن وأمان، لا تصطدم مع غيرها، ولم تتعرض لمضايقة أحد من الزعماء وأصحاب النفوذ؛ لأنهم لم يشعروا بها ولم يعرفوا أهدافها ومراميها.
الجهر بالدعوة:
أول أمر بإظهار الدعوة لما تكونت جماعة من المؤمنين، تقوم على الأخوة والتعاون، وتحمل عبء تبليغ الرسالة، نزل الوحي يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالنة الدعوة ومجابهة الباطل بالحسنى، وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين} (الشعراء: 214) وقد ورد في سياق ذكرت فيه أولًا قصة موسى عليه السلام من بداية نبوته، إلى هجرته مع بني إسرائيل، وقصص نجاتهم من فرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه.
وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل، التي مر بها موسى عليه السلام خلال دعوة فرعون وقومه إلى الله، وكأن هذا التفصيل جيء به مع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجهر الدعوة إلى الله؛ ليكون أمامه وأمام أصحابه مثال لما يلقونه من التكذيب والاضطهاد، حينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ البداية.
ومن ناحية أخرى: تشتمل هذه السورة على ذكر مآل المكذبين للرسل، مِن قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب الأيكة، عدا ما ذُكر من أمر فرعون وقومه؛ ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب عاقبة أمرهم، وما سيلقونه من مؤاخذة الله إن استمروا عليها، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم وليس للمكذبين.
الدعوة في الأقربين:
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الآية، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلًا، فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره أبو لهب وقال:"هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم ودعْ الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يُسب بك بطون قريش، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بِشرٍّ مما جئت به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في ذلك المجلس".
ثم دعاهم ثانية وقال: ((الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم قال: إن الرائد لا يَكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا، أو النار أبدًا)). فقال أبو طالب: "ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامضِ إلى ما أُمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب، فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا، على جبل الصفا".
وبعدما تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلغ عن ربه.