الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(أصناف المدعوين وكيفية دعوتهم، والدعوة على الوجه الأمثل)
أصناف المدعوين: الملأ، وجمهور الناس، والمنافقون، والعصاة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
في كل مجتمع يوجَد سادة كما يوجد أشراف لهم نفوذ فيه، وقد يكون بأيديهم السلطان، وهؤلاء هم الصفّ الأول من المدعوين، ويسميهم القرآن الملأ.
وإزاء هؤلاء يوجد جمهور الناس وعامّتهم، وهؤلاء هم الصنف الثاني من المدعوين.
فإذا ما استجاب الناس إلى الدعوة إلى الله، ودخل الإيمان في قلوبهم، وصارت الغلبة للمؤمنين، وصار المجتمع إسلاميًّا- أمكن عند ذاك ظهور صنف آخر يظهر الإسلام رياءً ونفاقًا ويبطن الكفر، وهؤلاء هم المنافقون، وهم الصنف الثالث من أصناف المدعوين.
كما أن من دخل في الإسلام قد يكون إسلامه ضعيفًا، وإيمانه رقيقًا، مما يجعل انزلاقه إلى المعاصي سهلًا، وهؤلاء هم العصاة، ويكوّنون الصنف الرابع من أصناف المدعوين، ولا بد من الكلام عن هذه الأصناف في المباحث التالية:
المبحث الأول: الملأ:
تعريف الملأ: يستعمل القرآن الكريم كلمة الملأ في قصصه عن الرسل الكرام، وما جرى لهم من أقوامهم، والملأ كما يقول المفسرون: هم أشراف القوم وقادتهم ورؤساؤهم وسادتهم، فهم إذن البارزون في المجتمع وأصحاب النفوذ فيه، الذين يعتبرهم الناس أشرافًا وسادة، أو يعتبرون حسب مفاهيم المجتمع وقيمه أشراف المجتمع وسادته، ومن ثَمَّ يستحقون في عرف الناس قيادة المجتمع والزعامة والرئاسة فيه، وقد يباشرون ذلك فعلًا، وإطلاق كلمة الملأ على هؤلاء
في القرآن الكريم بهذا المعنى هو من قبيل بيان الواقع، لا من قبيل بيان استحقاقهم فعلًا للشرف والسيادة والقيادة والرئاسة، ويشبه هذا الإطلاق ما ورد في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى رؤساء فارس والروم ومصر، فقد جاء في بعض هذه الرسائل مخاطبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى رئيس الروم بعبارة: إلى عظيم الروم، فإطلاق هذه العبارة على رئيس الروم من قبيل بيان واقعة، وهو أنه عظيم في نظر الروم؛ لرئاسته لهم، وليس بيانًا لاستحقاقه هذا الوصف.
الملأ والدعوة إلى الله:
والوصف الغالب على الملأ من كل قوم معاداتهم للدعوة إلى الله، فقد قاوموا دعوة الرسل الكرام إلى الله تعالى، وكانوا هم الذين يتولون كبر المقاومة الأثيمة للدعوة إلى الله، ويقودون حملة التكذيب والافتراء والتضليل ضد أنبياء الله تعالى، يدل على ذلك قول ربنا تبارك وتعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (سبأ: 34، 35) يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة رسولَه محمد صلى الله عليه وسلم مسليًا له، أنه ما أرسل من رسول إلى قرية إلّا قال مترفوها وهم أولي القوة والحشمة والثروة والترف والرياسة، وقادة الناس في الشر: لا نؤمن به ولا نتبعه، وقال تعالى عن سيدنا نوح عليه السلام:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 59) فقال الملأ من قومه: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الأعراف: 60).
فالملأ من قوم نوح هم الذين تصدّوا للدعوة إلى الله، وهم الذين نسبوا نبيهم إلى الضلال المبين، وهذا من أعظم الظلم والصد عن سبيل الله؛ إذ يوصف الحق الذي جاء به نوح من ربه بالضلال، ولكن هذا هو منطق الملأ، وكذلك كان
موقف الملأ من قريش من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاوموا هذه الدعوة المباركة، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورموه بالكذب وتآمروا به قال تعالى:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ* مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (ص: 4 - 7)، والملأ في الآية الكريمة هم سادة قريش وقادتها ورؤساؤها وكبراؤها، قالوا لقومهم: استمروا على دينكم ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد.
وفي السيرة النبوية الشيء الكثير عن موقف الملأ من قريش وغيرهم من الدعوة إلى الله، التي بلغهم إياها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما ذكره ابن هشام في سيرته من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى القبائل ويدعوها إلى الله، وكان يمشي وراءه أبو لهب -وهو من أشراف قريش- ويقول للناس: لا تطيعوه ولا تسمعوا منه، وكذلك عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، واجتمع بنفر منهم -وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافها- ردوه أقبح رد، ولم يكتفوا بذلك، وإنما أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس.
أسباب عداوة الملأ للدعوة إلى الله:
من التأمل في الآيات المسوقة في قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أقوامهم، تظهر لنا أسباب مخاصمة الملأ للرسل الكرام، وعداوتهم لهم، ورفضهم دعوتهم، ومن أهم هذه الأسباب: الكبر الذي تغلغل في نفوسهم، وحبهم الرياسة والجاه، والجهالات التي حسبوه أدلة ويقينيات، ونتكلم فيما يلي عن كل سبب مع ما ورد بشأنه من آيات وآثار.
أولًا: الكِبْر:
الكبر خلق ذميم وآفة عظيمة متسقرة في النفس، وتظهر آثاره في الخارج بأشكال مختلفة ومواقف متعددة، ومن آثاره عدم رؤية الحق في غالب الأحيان، أو رؤيته ولكن الكبر يمنع من الاعتراف به والانقياد له، كما يمنع الاعتراف بالفضل لأولي الفضل، ويمنع الكبر من الرؤية الصحيحة لقدر نفسه، فيراها فوق أقدار الناس، فيستنكف أن يكون معهم أو تابعًا لأحد منهم، وقد يقترن الحسد مع الكبر، فيزيد من آثاره سوءًا وصدودًا عن الحق وجحدًا له، ومحاربة لأهله وعداوة لهم، ومن الآيات الدالة على صفة الكبر في الملأ، وما أدت إليه من نتائج غاية في السوء والقبح قوله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل: 14) ففرعون وقومه أنكروا نبوة موسى عليه السلام مع أن نفوسهم أيقنت بها، وكان الحامل لهم على إنكارها ظلمهم وتكبرهم على موسى عليه السلام.
كذلك ما بينه الله تعالى عن الملأ من قريش، وكيف أنهم وصفوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بالكذب والاختلاق، قال تعالى مخبرًا عنهم:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (ص: 7) وكيف أنهم وصفوه بالسحر والجنون -قبّحهم الله تعالى- قال تعالى مخبرًا عن الملأ من قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود: 27) فالملأ من قوم نوح يقولون: ما نراك اتبعك إلّا أراذل القوم، وهم الفقراء والضعفاء وأصحاب الحرف الخسيسة، ولم يتبعك السادة والأشراف، ولا القادة والرؤساء، فيكيف نكون معهم ومثلهم في متابعتك.
وفي السيرة النبوية: أنّ الملأ من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نرضى أن نكون مع هؤلاء، يعنون ضعفاء المسلمين مثل صهيب وعمار وبلال وخباب، فاطردهم عنك ولا تبقهم في مجلسك إذا دخلنا عليك، فإذا فرغنا من الحديث معك والسماع منك وخرجنا، فأدخلهم إن شئت، فأنزل الله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} (الكهف: 28) وقال تعالى عن أولئك المتكبرين المتعجرفين، الذين طلبوا ما طلبوا:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: 28) وقال تعالى عن المتكبرين عن رسالة الإسلام والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزخرف: 31، 32) ومعنى هذه الآية الكريمة: أنّ المعترضين على القرآن الكريم، المتكبرين عن الإيمان به، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: هلّا كان إنزال القرآن على رجل كبير في أعينهم من القريتين مكة والطائف، وعن ابن عباس: يعنون بالرجل العظيم جبارًا من جبابرة قريش، فهم بدافع كبرهم النفسي يستصغرون شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يرونه أهلًا للرسالة، وأنهم أو غيرهم من الكبراء هم المستحقون للرسالة وتنزّل الوحي، ورد الله عليهم قولهم بأنّ الأمر بيد الله، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
ثانيا: حب الرياسة والجاه:
والملأ يحبون الرياسة والجاه والتسلط على رقاب العباد، ولذلك فهم يعارضون كل دعوة تسلبهم مكانتهم بين الناس، وتجعلهم تابعين كبقية الناس، وهم يتصورون أن قبولهم الدعوة إلى الله يسلبهم جاههم وسلطانهم، ولذلك يقاومونها ويعادونها، ويأتون بالأباطيل لتبرير عداوتهم، ومن الآيات الدالة على
حبهم للرياسة والجاه، أن هذا الحب كان من أسباب رفضهم دعوة الحق إلى الله تعالى ما يأتي:
1 -
في قصة نوح عليه السلام قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 24) فالملأ دفاعًا عن رياستهم على الناس، وتسلطهم عليهم يقولون لقومهم: إن نوحًا بدعوته هذه يريد أن يتفضل عليكم، أن يترفع ويتعاظم عليكم ويترأس عليكم، ويريد الملأ بهذا الادعاء صرف الناس عن نوح عليه السلام؛ لتبقى سيطرتهم ورياستهم عليهم، والحقيقة أن رسل الله لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، ولا رياسة ولا تعاظمًا، وإنما هم بطبيعة دعوتهم يصيرون أئمة للناس، وتصير لهم الرياسة، ولكن ليست هي مثل رياسة أولئك الملأ المتكبرين على الله.
قال تعالى عن فرعون وملئه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ* قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ* قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} (يونس: 75 - 78) ففرعون وملؤه استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له، وكانوا قومًا مجرمين، ثم برروا استكبارهم عن الحق بالادِّعاء بأن موسى وهارون يريدان ثنيهم عن الدين الذي كان عليه آباؤهم، أو أنهما يريدان أن تكون لهما الكبرياء، أي: العظمة والرياسة في الأرض.
وقال تعالى عن الملأ من قريش: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} (ص: 6) هذا بعض ما قاله الملأ من قريش، ومعناه كما جاء في
(تفسير القرطبي): إن هذا لشيء يراد، كلمة تحذير، أي: إنما يريد محمد صلى الله عليه وسلم بما يقول الانقياد له، ليعلو علينا، ونكون له أتباعًا، فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه.
ثالثا: الجهالة:
والملأ غارق في الجهالة، ولا يشعر بجهالته، فهو يكفر بربه، ويرد دعوته الكريمة التي بعث بها رسله إلى الناس، ويصفها بأنها ضلال، ويرمي مبلغيها وهم الرسل الكرام بالسفاهة وخفة العقل، ويقلّب الدهماء عليهم، ويكيد ضدهم ويعاديهم، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) والمترفون هم الملأ، وجوابهم على دعوة رسل الله أنهم وجدوا آباءهم على ملة ودين، وأنهم مقتفون أثرهم، لا يحيدون عن ذلك، وهذا من جهلهم؛ لأن الباطل لا يتابع، وأن الحق أحق أن يتبع، وهذا التقليد الذميم للباطل القديم الذي كان عليه الآباء والأجداد من أعظم أسباب التمرد على الحق، قال تعالى في داء التقليد الذميم:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (الأعراف: 127).
الملأ من قوم فرعون يعتبرون موسى نبي الله والداعي إليه، وأتباعه المؤمنين- مفسدين في الأرض، ويقلّبون فرعون على مقاومتهم والقضاء عليهم، إن جهلهم مع كبرهم وحبهم للرياسة والجاه جعلهم يعتبرون موسى مفسدًا في الأرض.
الملأ هم الملأ في كل زمان ومكان، والملأ بأوصافهم وأخلاقهم التي بينها القرآن الكريم يوجدون في كل مجتمع، وفي كل مكان وزمان، ولهذا فهم يقفون غالبًا في وجه كل دعوة إلى الله تعالى، ويحاربونها بدافع من الكبر الذي يغشى نفوسهم، وبدافع حب الرياسة على الناس، وخوفهم من أن تسلبهم هذه الدعوة الإصلاحية مركزهم ومكانتهم وترفهم، ومما يدل على بقاء الملأ في كل زمان ومكان، معارضين لكل دعوة طيبة خيرة تريد الإصلاح وإيصال الناس إلى خالقهم.
إن الدوافع التي دفعت الملأ من الأقوام الماضية إلى محاربة رسل الله والدعوة إليه، هي نفسها توجد في نفوس الكبراء والمترفين، فالكبر يعلق في النفوس المريضة، والحرص على الرياسة والجاه والمنزلة موجود في النفوس، وإنما ينقمع بالإيمان، والجهل يخيم على مثل هذه النفوس التي تعشق العلوّ في الأرض، وإذا ما دخل أصل الإيمان في نفوس السادة والكبراء والأشراف، فإن هذا الإيمان يبقى ضعيفًا غالبًا، لا يقوى على منعهم من الصد عن سبيل الله، ولا عن محاربة الدعاة إلى الله تعالى بشبهات واهية من جنس شبهات الملأ القدامى، الذين حاربوا رسل الله وصدوا عن دعوتهم المباركة، وقد تنبه المفسرون إلى أن الملأ يبقون معارضين للدعوة إلى الله.
جاء في تفسير ابن كثير بصدد قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الأعراف: 60) قال: وهكذا حال الفجار، إنما يرون الأبرار في ضلالة، وقال أيضًا في مكان آخر من تفسيره: ثم الواقع غالبًا أن من يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته.
المبحث الثاني: جمهور الناس:
تعريف جمهور الناس: نريد من قولنا: جمهور الناس معظمهم؛ لأن جمهور كل شيء معظمه وأكثره، والمقصود بمعظم الناس ما عدا الملأ، وهم عادة قلة،
أما ما عاداهم فهم أكثرية الناس في أي مجتمع بشري، وهؤلاء الجمهور يكونون عادة مرءوسين للملأ وتابعين لهم، وكما يكونون غالبًا فقراء وضعفاء، ويباشرون مختلف الأعمال والحرف، والجمهور أسرع من غيرهم إلى الاستجابة إلى الحق، فهم أتباع رسل الله، يصدقونهم ويؤمنون بهم قبل غيرهم، قال هرقل لأبي سفيان يوم اجتمع به في الشام، لما سمع هرقل بأنه من مكة، فأراد أن يسأل عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، قال هرقل: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
والواقع أن أتباع رسل الله كانوا من جمهور الناس، والملأ قالوا لنوح عليه السلام:{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} وقول الملأ من ثمود كما حكاه الله جل جلاله عنهم: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 75) وكذلك كان أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة من الضعفاء، وقد نالهم من المشركين أذًى كثيرًا، قال ابن كثير: ثم الواقع غالبًا أن يتبع الحق ضعفاء الناس.
المبحث الثالث: المنافقون:
تعريف المنافق: المنافق في الاصطلاح الشرعي هو الذي يظهر غير ما يبطنه ويخفيه، فإن كان الذي يخفيه التكذيب بأصول الإيمان فهو المنافق الخالص، وحكمه في الآخرة حكم الكافر، وقد يزيد عليه في العذاب لخداعه المؤمنين بما يظهره لهم من الإسلام، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء: 145) وإن كان الذي يخفيه غير الكفر بالله وكتابه ورسوله، وإنما هو
شيء من المعصية لله، فهو الذي فيه شعبة أو أكثر من شعب النفاق، وأساس النفاق الكفر والجبن، أمّا الكفر فهو ما يبطنه المنافق، وأما الجبن فهو الذي يجعل المنافق يظهر خلاف ما يبطنه من الكفر، ولهذا لا يكون المنافق إلّا جبانًا خوّارًا، ضعيف القلب، يحسن الكيد والمواربة والعمل في الظلام، وإذا لقي المؤمنين أظهر لهم نفسه كأنه مؤمن، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14) فهم لجبنهم يقولون: إننا مؤمنون، وإذا خلوا إلى قرنائهم من المنافقين والكاذبين قالوا: نحن نستهزئ بالمؤمنين بقولنا لهم: إننا مؤمنون.
المبحث الرابع: العصاة:
تعريفهم: نريد بالعصاة كصنف من أصناف الناس: من كان عندهم أصل الإيمان، وهو الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولكنهم لا يقومون بحقوق هذه الشهادة، فهم يخالفون بعض أوامر الشرع، ويرتكبون بعض نواهيه، ومنهم المكثر من المعاصي، ومنهم المقلّ، ومنهم بين ذلك على درجات كثيرة جدًّا، ومتنوعة جدًّا، لا يحصيها إلّا الله تعالى، والمسلم غير معصوم من المعصية، جاء في الحديث:((كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطاءين التوابون)) وتعليل ذلك أنّ نفس الإنسان قابلة لارتكاب المعصية، كما هي قابلة لفعل الطاعة، والمطلوب من المسلم أن يحرص على طاعة الله وعدم معصيته، قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 7 - 10) وإذا وقع في معصية فعليه أن يسارع إلى التوبة، ويقلع عن معصيته، وينيب إلى ربه.
اتحادٌ بين الأصل الإنساني ووحدة التكاليف الشرعية:
الله سبحانه وتعالى يخاطب الناس جميعًا بأنه خلقهم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، فقال عز وجل:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (النساء: 1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقرّر أنّ الناس لآدم، وآدم من تراب.
إن الأديان ضرورية للبشرية وفطرية بها، هذه حقيقة تاريخية وفكرية ودينية أيضًا، فكل إنسان له دين، والذين ينكرون الأديان لا يؤمنون بأي دين منها، ويحاربون كل الأديان، لهم دين جديد هو ألّا يكون لهم دين، فهم عندما رفضوا الدين اتخذوا دينًا آخر وهو الهوى، قال سبحانه وتعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الجاثية: 23) ولمّا كان الإسلام دعوة إلى الكافة وإلى العالم أجمع، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا إلى الناس جميعًا، قال تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) وأنه لا نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم النبيين، قال سبحانه وتعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19).
والنتيجة من كل ذلك أنّ الإسلام هو دين جميع الشعوب والأجيال، فهو دين الجيل الذي بُعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم ودين الأجيال من بعده حتى يوم الدين؛ لأنه دين