الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواحة، فأثبت قدميه حتى أصيب، فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم إصبعيه قال: اللهم هو سيف من سيوفك فانصره)).
وكان المسجد مقرًّا للقضاء، يقضي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بين المتخاصمين بالحق والعدل، لا تأخذه في الله لومة لائم.
وكان المسجد مركز تجمُّع للجيوش الإسلامية، ومركز انطلاق كذلك، تنطلق منه الجيوش بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بتوجيهاته وتوصياته، اغزُ باسم الله، وعلى بركة الله، يحدّد أهداف السرايا والبعوث، ويدعو إلى آداب الإسلام في القتال.
وكان المسجد مقرًّا للشورى، يستشير الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين فيه، فهو بمثابة مجلس الأمة، تُعرض فيه قضاياها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويفكر المسلمون وأهل الحل والعقد خاصّة بإيجاد الحلول المناسبة لتلك القضايا، في جوٍّ من الحرية في التفكير.
إنَّ على العلماء والدعاة والمسئولين أن يعيدوا للمسجد قدسيته، بإعادة إليه رسالته، فيكون مدرسة ومعهدًا وجامعة، ومحضنًا للتربية، ومجلسًا للأمة، ومركز إشعاع فكري، وتوجيه خلقي، وتوعية سياسية، ومنبرًا لقول كلمة الحق.
ملامح شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
-
شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أهله:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في معيشته، في نفسه، لا يتكلف في لباس ولا طعام، يلبس ما تيسّر، وأكثر لبسه المعتاد من لباس الناس، وكان يلبس جيد الثياب إذا اقتضى الأمر لمقابلة وفود، أو لمناسبة عيد، وكان يأكل ما يجده، فإن وجد اللحم والحلوى أكل، وإن لم يجد إلا الخبز والزيت أو الخل أكل، وإن لم يجد ما يأكله بات طاويًا، وربما شدَّ على بطنه الحجر من شدة الجوع.
وكان ينام على فراض من جلد حشوه ليف، ويجلس على الحصير، وينام عليها كثيرًا.
معيشته في بيته:
كان حلو المعاشرة لزوجاته، كثير المسامرة لهنّ، متحملًا لأخلاقهنّ، وخاصة غيرتهن، وكان يقول:((خيركم خيركم لأهله))، وكان نساءه يحتملن منه شدة الحال وخشونة العيش، وكان يسره ذلك منهنّ، فلمّا فكّرن يومًا أن يطلبن منه التوسعة والزينة والمطعم، شقّ ذلك عليه، وهجرهنّ شهرًا لا يكلمهن، ثم نزل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب:28، 29).
فلمّا نزلت هاتان الآيتان خيّرَ نساءه وبدأ بعائشة، وقال لها:((ما أحبّ أن تختاري حتى تستأمري أبواك)) ثم تلا عليها الآيات، وفيها التخيير بين أن تبقى عنده على شظف العيش وخشونة الحياة، وبين أن يفارقها ويمتعها متاعًا جميلًا، فكان جوابها على الفور: أفيك أستأمر أبواي، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وكذلك فعل بكلِّ واحدة من نسائه على انفراد، فكان جوابها كجواب عائشة، وهي لا تعلم بما أجابت به غيرها.
وظلَّ هكذا شأنه مع نسائه من التقشف وخشونة العيش حتى توفاه الله.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "ما شبع آل محمد يومين من خبز بُرّ، ولقد كنا نمكث الشهر والشهرين لا يوقد في بيتنا نار، وما كان طعامنا إلّا التمر والماء، ولقد توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتنا شيء يأكله ذو كبد، إلّا كسرة خبز من شعير على رفٍّ لي"، وقال أنس:"رَهن النبي صلى الله عليه وسلم درعًا له على شعير يأخذه لطعام أهله".
عمله في بيته صلى الله عليه وسلم:
سئِلت عائشة رضي الله عنها: ماذا كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت؟ فقالت: "كان بشرًا من البشر، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويعمل ما يعمل الرجل في بيته، فإذا حضرت الصلاة خرج".
خشيته وعبادته صلى الله عليه وسلم:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير المراقبة لله عز وجل واسع الخشية منه، عظيم العبادة له، ففي الليل متهجدًا راكعًا ساجدًا، حتى تتورّم قدماه، وتفيض عيناه بالدمع من خشية الله، حتى يسمَع لصدره أزيز كأزيز الرجل المرجل من البكاء، فتقول له في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها:((أتفعل ذلك يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر، فيجيبها: أفلا أكون عبدًا شكورًا)).
وكان كثير اللهج باسم الله عز وجل، فإذا أكل أو شرب، أو قام أو قعد، أو ابتدأ شيئًا، أو فعل أمرًا، بدأ ذلك كله بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا اختتمه بالحمد لله رب العالمين.
وكان لا يفتر عن الدعاء لربه، ومن دعائه عليه الصلاة والسلام:((اللهم إني أعوذ بك من عمل لا ينفع، وعمل لا يرفع، ودعاء لا يسمع، اللهم إني أسألك من الخير كله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء)).
ولما كذّبته ثقيف في الطائف وآذته، وأغرت به سفهاءها يرجمونه بالأحجار، حتى دميت قدماه، اتجه إلى الله خالقه بهذا الدعاء الرهيب:((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدوٍّ يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أنّ عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السموات الأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحلّ علي غضبك، أو ينزل بي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)).
مزاحه ودعابته صلى الله عليه وسلم:
وممَّا يتصل بطيب النفس حب الدعابة البريئة، والمزاح مع الأصحاب والمترددين عليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الدعابة، ويبتسم بالنكتة اللطيفة، ويمازح أصحابه، ويداعبهم بالنكات اللطيفة، جاءته امرأة عجوز تطلب إليه أن يدعو الله لها بدخول الجنة، فقال لها مداعبًا:((أوَمَا علمت أنّ الجنة لا تدخلها عجوز؟ فولّت تبكي، فقال: ردوها، أما قرأت قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً* فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا* عُرُبًا أَتْرَابًا} (الواقعة:35 - 37))) وجاءته امرأة من الأنصار تشكو إليه زوجها، فقال:((أزوجك الذي في عينه بياض)) فجزعت؛ إذ ظنّت أن بعينه عيبًا لم تطلّع عليه، فأفهمها أنّ كل إنسان في عينه بياض حول المقلة، وجاءه أعرابي يسأله أن يمنحه ناقة يركب عليها في سفره، فقال له:((أنا حاملك على ولد ناقة، فقال: وما أصنع به يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأمزح وما أقول إلا خيرًا)).
تواضعه وسماحته صلى الله عليه وسلم:
قد رأيت فيما مرَّ معك من معاملته لأصحابه أنَّها معاملة نبيّ كريم، وزعيم محبوب، وإنسان عظيم، استمدَّ عظمته من خصائصه لا من جاهه ولا من نفوذه، ومما يروع في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ظلّ هو الإنسان المتواضع، تواضع الأنبياء العظماء في مختلف مراحل دعوته؛ حين كان مضطهدًا، وحين كان منتصرًا، وحين كان وحيدًا، وحين كان سيد الجزيرة العربية المطاع، حين كان في أشد المحن، وما عهدنا بمثل هذا في تاريخ العظماء، وما كان محمد عظيمًا فحسب، ولكنه رسول الله أيضًا، يوم فتح الله له مكة، وانهزمت أمام جحافل جيوشه قريش الطاغية الباغية، التي ناصبته العداء نحوًا من عشرين عامًا، دخل مكة على جمل له، مطأطئ الرأس خضوعًا لله وشكرًا، وجاءه الرجال خائفين، وفيهم رجل ترتعد فرائسه، فقال له:((هوّن عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)).
وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع إلى العبد والعجوز والأرملة والمسكين، يقف في الطريق لكل من يستوقفه، ويصافح كل من يلقاه، فلا يترك يده حتى يكون الذي استوقفه هو الذي يترك يده، يتفقّد أصحابه، ويزور مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويستمع إلى مشاكلهم، ويشاركهم أحزانهم وأفراحهم.
رحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم واسع الرحمة بالأطفال والنساء والضعفاء، سمع بكاء صبي وهو في الصلاة، فخفّف صلاته؛ كي لا تفتن أمه التي كانت تصلي وراءه، ومرَّ بعد
انتهاء إحدى المعارك بجثة امرأة مقتولة، فغضب وقال:((ألم أنهكم عن قتل النساء؟! ما كانت هذه لقاتل))، وبلغت رحمته بالحيوان حدًّا عجيبًا، فقد أمال الإناء إلى هرّة أرادت الشرب، ورأى جملًا هزيلًا فقال:((اتقوا الله في هذه البهائم، أطعموها واركبوها صالحة))، وبلغت معاملته للأرقّاء ووصاياه فيهم حدًّا لم يعرفه التاريخ، وكل ذلك دليل على ما فاضت به نفسه الكبيرة من معاني الرحمة والشفقة.
مشاركته لآلام الناس:
اشتكت إليه فاطمة بنته ما تلقاه من أعمال البيت من شدة وعناء، وطلبت إليه أن يخدمها خادمًا، فرفض عليه الصلاة والسلام ذلك، وقال لها:((لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع)).
وذهبت أم الحكم بنت الزبير وأختها فاطمة تسألان النبي صلى الله عليه وسلم معونة على أعمالهما البيتية، فقال لهما:((سبقكما يتامى بدر)) وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة يزوره، ثم عدل فلم يدخل عليها، فبعثت عليًّا ليسأل عن سبب عدوله عن زيارتها، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم:((إني رأيت على بابها سترًا موشيًا)) فعاد عليّ إلى فاطمة فأخبرها الخبر، فقالت فاطمة: ليأمرني فيه بما شاء، فقال عليه الصلاة والسلام:((لترسلي به إلى فلان)) أهل بيت بهم حاجة، وأراد زيارتها مرة أخرى، فعاد كذلك دون أن يدخل عليها، فأرسلت تسأله عن سرِّ ذلك أيضًا، فأجابها:((إني وجدت في يدها سوارين من فضة)) فبلغها ذلك، فأرسلتهما إليه، فباعهما النبي صلى الله عليه وسلم بدرهمين ونصف، وتصدق بهما على الفقراء.
زهده في الدنيا صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 131) قال بقية بن الوليد، عن الزبيدي، عن الزهري، عن محمد بن عبد الله بن عباس قال:((كان ابن عباس يحدّث أنَّ الله تعالى أرسل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ملكًا من الملائكة معه جبريل، فقال الملك: إنّ الله يخيّرك بين أن تكون عبدًا نبيًّا وبين أن تكون ملكًا نبيًّا، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تواضع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أكون عبدًا نبيًّا)).
وقال عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، حدثني ابن عباس أنّ عمر رضي الله عنه قال:((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزانته، فإذا هو مضطجع على حصير، فأدنى عليه إزاره وجلس، وإذا الحصير قد أثّر بجنبه، فقلبت عيني في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ليس فيها شيء من الدنيا غير قبضتين، أو قال: قبضة من شعير، وقبضة من أرز نحو الصاعين، وإذا أفيق معلق أو أفيقان، قال: فابتدرت عيناي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يابن الخطاب؟ قلت: يا رسول الله، ومالي لا أبكي وأنت صفوة الله ورسوله وخيرته، وهذا خزانتك، وكسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت هكذا؟ فقال: يابن الخطاب، أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا، قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاحمد الله تعالى)) أخرجه مسلم.
هذا وبالله التوفيق.