الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بينها، بعد أن عايشهم وخبرهم وأحاط بمذاهبهم وأخلاقهم، وذلك من صناعة الله وتقديره، نلحظ ذلك في قصص القرآن الكريم؛ حيث إن نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم -عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه- قد أرسِلوا إلى أقوامهم بعد أن عاشوا قبلهم مدة ما قبل الرسالة، ولذلك كان رسل الله -عليهم الصلاة والسلام- يدعون قومهم إلى التوحيد، وبعدها ينتقلون مباشرة إلى توجيههم نحو الصواب، ووجوب التخلّص من الرذائل التي كانت متفشية فيهم.
إنّ الرسل كانوا يتحرّكون بوحي من الله تعالى، ومع ذلك فقد جعل الله حركتهم أسوة للمؤمنين، يتخذونها منهجًا للدعوة، ودستورًا للعمل الخير الأمين.
سنة الاختلاف، والاختلاف فى علم الفقه، والاختلاف بين الصحابة
الاختلاف بين الناس سنة من سنن الله في الخلق والتكوين، يقول الله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود: 118، 119) قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة، من إيمان وكفران، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (يونس: 99) وقوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (هود: 119) أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآراءهم"، وقال عكرمة:"مختلفين في الهدى"، وقال الحسن: "مختلفين في الرزق، سخر بعضهم بعضًا، والمشهور الصحيح الأول، وقوله:{إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (هود: 119) أي: الموحدين من أتباع الرسل، الذين تمسّكوا بما أمروا به من الدين، أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم وخاتم الرسل والأنبياء، فاتبعوه وصدقوه ووازروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة؛ لأنهم الفرقة الناجية، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن، من طرقٍ يشد
بعضها بعضًا: ((إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)) رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة.
كما قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59) أمّا الاختلاف الذي يؤدي إلى إضعاف الأمة وتفرقها فهو منهي عنه، من ذلك ما رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:((خطبنا عمر، فقال: يأيها الناس، إني قمت فيكم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)) وروي في الصحيحين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنّ من فارق الجماعة شبرًا فمات، مات ميتة جاهلية، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ إلى النار)).
الاختلاف في علم الفقه:
يقول الشيخ الإمام محمد أبو زهرة: "يجب أن نقرّر أنّ الاختلاف الفقهي في غير ما جاء به نصٌّ من الكتاب والسنة، كان دراسة عميقة لمعاني الكتاب والسنة، وما
يستنبط منهما من أقيسة، ولم يكن افتراقًا، بل كان خلافًا في النظر، ولا شك أن هذا النوع من الاختلاف فيه تيسير على المسلمين، يقول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولًا واحدًا لكان الناس في ضيق".
وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في (حلية الأولياء) عن عبد الله بن الحكم قال: سمعت مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- يقول: "شاورني هارون الرشيد في أن يعلق (الموطأ) في الكعبة، ويحمل الناس على ما كان فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكلّ عند نفسه مصيب، فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في (الفتاوى): "صنّف رجل كتابًا في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه كتاب الاختلاف، ولكن سمه السعة"، وروى ابن سعد في (الطبقات) عن الواقدي قال:"سمعت مالك بن أنس يقول: لمّا حجّ المنصور قال لي: إني قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم، ودانوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم".
وقال ابن قدامة المقدسي -رحمه الله تعالى: "وأما بالنسبة إلى إمام في فروع الدين؛ كالطوائف، وهي المذاهب الفقهية الأربعة، فليس بمذموم، فإن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم، مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة".
روى أبو نعيم بسنده عن سفيان الثوري أنه قال: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه"، وذكر ابن مفلح في (الآداب الشرعية) عن الإمام أحمد، أنّه لا إنكار على من اجتهد فيما يصوغ فيه خلاف في الفروع، فقال:"وقد قال أحمد في رواية المروذي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب، ولا يشدد عليهم".
روى الخطيب البغدادي عن سفيان الثوري: "ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهي أحد من إخواني أن يأخذ به"، وقال ابن رجب الحنبلي:"والمنكر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعًا عليه، فإن المختلف فيه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدًا أو مقلدًا لمجتهد تقليدًا سائغًا"، وقال ابن قدامة:"لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه، فإنه لا إنكار على المجتهدات".
وقال الدهلوي: "لقد كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم فيهم من يقرأ البسملة، وفيهم من لا يقرأها، ومنهم من لا يجهر بها، ومنهم من يسرّ بها، وكان منهم من يقنط في الفجر، ومنهم من لا يقنط، ومنهم من لا يتوضأ من الحجامة، ومنهم من يتوضأ من ذلك، إلى أن قال: ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض مثلما كان أبو حنيفة أو أصحابه، والشافعي، وغيرهم، يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم، وإن كانوا لا يقرءون البسملة لا سرًّا ولا جهرًا".
هذا وقد اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم في الطريق لحرب بني قريظة، حول حديث النبي صلى الله عليه وسلم لهم:((لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة)) فأدركتهم الصلاة في الطريق، فقال قوم: لا نصلي إلّا في بني قريظة، وفاتتهم صلاة العصر، وقال قوم: لم يرد منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب
واحدًا من الطائفتين إذن، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحد الفريقين بالقضاء، ولم يعنفه على اجتهاده.
قال ابن عبد البر: "ونهى السلف -رحمهم الله تعالى- عن الجدال في الله -جل ثناؤه- في صفاته وأسمائه، وأمّا الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يحتاج فيه إلى ردّ الفروع على الأصول؛ للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك".
وقال الآمدي: "وإن أفضى الخلاف بين المجتهدين، فإن ذلك غير محذور مطلقًا، فإن جميع الشرائع والملل كلها من عند الله، وهي مختلفة، ولا محذور فيها، وإلا لما كانت مشروعة من عند الله، كيف وأن الأمة الإسلامية معصومة من الخطأ على ما عُرِف، فلو كان الاختلاف مذمومًا ومحذورًا على الإطلاق لكانت الصحابة مع اشتهار اختلافهم وتباين أقوالهم في المسائل الفقهية مخطئة، بل الأمة قاطبة، وذلك ممتنع، وعلى هذا فيجب حمل ما ورد من ذم الاختلاف والنهي عنه على الاختلاف في التوحيد والإيمان بالله ورسوله، والقيام بنصرته، وفيما المطلوب فيه بالقطع دون الظن، والاختلاف بعد الوفاق، واختلاف العامّة ومن ليس له أهلية النظر والاجتهاد".
اختلاف الصحابة:
قال أبو الحسن الأشعري صاحب كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين): "اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة، ضلّل بعضهم بعضًا، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقًا متباينين، وأحزابا متشتتين، إلّا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم".
قال محقق هذا الكتاب محمد محي الدين عبد الحميد معلقًا على كلام الأشعري: "اعلم أولًا أنّ أصحاب الرسول كانوا كلهم أجمعون عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها على عقيدة واحدة، وطريق واحد، ولم يكن أحدهم ليختلف مع الآخر، إلا في فهمٍ أوتي في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يعرضه على أخيه، فإن لم يكن عنده ما يدفعه من سنة أو فهم في كتاب أو سنة، رجع إلى قول أخيه، وتقبله أحسن القبول، إلّا قومًا كانوا يبطنون النفاق ويظهرون الوفاق، كان منهم المعروف في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وإذا أنت نظرت فيما اختلفوا فيه وجدتهم قد اختلفوا في أمور اجتهادية، لا يوجب الخلاف في أحدها إيمانًا ولا كفرًا، بل لا يوجب الخلاف فيها كلها مجتمعة إيمانًا ولا كفرًا، ووجدت أنهم قد كان غرض كل واحد من المختلفين في كل مسألة منها إقامة مراسم الدين، وإدانة مناهج الشرع القويم، بل أنت تجدهم قد اختلفوا في بعض هذه المسائل، والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم لم يفارق هذه الدنيا، ثم جاء من بعد عصرهم -رضوان الله تعالى عليهم- قوم استغلوا أحيانًا اختلاف الصحابة في بعض المسائل، واتخذوا من هذا الخلاف سبيلًا يسلكونه إلى تفريق كلمة هذه الأمة، وراحوا يلتمسون لبعض وجهات النظر أدلة لم يقتنع بها الذين خالفوا هذا الاتجاه في العصر السابق، بل لعلّ الذين كانوا يرون هذا الاتجاه قد عدلوا عنه، ولم يبقوا متمسكين به، إمّا اقتناعًا بما استدل به من خالفهم، وإما إبقاء على وحدة الأمة واستمساكها، بالإيلاف الذي امتنّ الله تعالى به عليهم؛ إذ لم يكن في أحد الرأيين ما يخالف نصًّا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم بذلك يضربون أروع المثل لفناء الفرد في الجماعة الصالحة".
ونستطيع أن نقسّم لك بعد الذي أسلفناه الاختلاف الحاصل في المسائل الاجتهادية بين الصحابة إلى قسمين:
القسم الأول: الاختلاف في مسائل لم تصل فيما بعد من شعار جماعة من أهل الفرق.
القسم الثاني: الاختلاف في مسائل اجتهادية أيضًا، اتخذها قوم من بعدهم تكأة، إمّا للطعن في بعض الصحابة، وإمّا جعلوها أساسًا لنحلتهم، أو استدلوا بها في مسألة من مسائلهم التي اتخذوها شعارًا لهم، وهذا التقسيم يمكن أن يأخذ من قول المؤلف عقيب ذكر الاختلاف في شأن عثمان رضي الله عنه وعقيب الاختلاف في عهد علي، وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم، ونضرب لك أمثلة من كل واحد من هذين النوعين؛ ليتضح أمرهما اتضاحًا لا نحتاج معه إلى شيء.
لمَّا اشتد الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن حوله من أصحابه: ((أأتوني بقرطاس أكتب لكم كتابًا، لا تضلوا بعدي)) فاختلف من حوله: هل يجيئون بقرطاس ليملي عليهم الرسول -صلوات الله وسلامه عليه، أم يكتفون بما علموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال عمر بن الخطاب: إن النبي قد غيّبه الوجع، حسبنا كتاب الله، وكثر اللغط في ذلك، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:((قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع)).
كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم قبيل مرضه الذي عقِبَه انتقاله للرفيق الأعلى، قد جهّز جيشًا، وجعل على رأسه أسامة بن زيد، ولما أخذه المرض توقّف الجيش عن المسير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته:((جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلّف عنه)) مع هذا اختلفوا أيتمون بعث أسامة إيذانًا للعرب ولغيرهم بأنّ وجع النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته لم تثنِ عزائم أصحابه عن إتمام ما شرع لهم، أم يبقون أسامة ومن معهم يترقّبون ما يكون من العرب، فقد كان بعضهم يخشى انتقاد العرب، اختلفوا في ذلك قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، ولكن أبا بكر رضي الله عنه أصرّ على اتّباع الأمر، ثقة منه بأن البركة في اتباع أمره صلى الله عليه وسلم وأنّ في بعثه إرهابًا لمن تحدثه نفسه من العرب بالانتقاد.
كذلك لما أذيع نعي النبي صلى الله عليه وسلم هال الخبر بعض أصحابه، حتى غيب عقولهم فاختلفوا: أمات الرسول صلى الله عليه وسلم أم لم يمت، حتى قال عمر بن الخطاب -وهو من هو في- هذا الصدد:"من قال إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات ضربته بالسيف" ووقف أبو بكر رضي الله عنه يعلن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لحق بربه، وأن شأنه في هذا الأمر شأن غيره من الناس، ويتلو على الذين هالتهم المصيبة قول الله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144) ويسمع عمر المضطرب القويّ الضعيف عن احتمال الفاجعة هذه الآية الكريمة، فيثوب إليه الرشد، ويعلم أنّ وعد الله حق، ويتذكر ما حفظه من قبل من هذه الآية، ومن نحو قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر: 30) ومن نحو قوله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء: 34) فيخضع لقضاء الله، ويؤمن بأن الله تعالى قد اختار لرسوله ما عنده، بعد أن أكمل به الدين الذي رضيه لهم، ويقول:"والله لكأنّي لم أسمع هذه الآية من قبل".
كذلك، اختلفوا في المكان الذي يدفنون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيذهبون بجثمانه الطاهر إلى مكة فيدفنونه هناك في مقابر آبائه؛ ولأن مكة مكان مولده ومبعثه، ثم فيها البيت الحرام الذي جعله الله قبلته، وفيها قبر أبيه إسماعيل عليه السلام أم يذهبون به إلى بيت المقدس فيدفنونه هناك؛ حيث يوجد قبر أبيه الخليل إبراهيم عليه السلام وكثير من الأنبياء، أم يبقونه في المدينة؛ لأنها دار هجرته، ومقر أنصاره الذين أظهر الله بهم دينه، ويقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه في هذه المسألة موقف الحكيم الرزين، فيروي لهم، أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرّر أن الأنبياء يدفنون حيث يقبضون، فتجتمع كلمتهم على أن يدفن في حجرة عائشة التي مات بها، وهي في داره صلى الله عليه وسلم الملاصقة لمسجده والشارعة أبوابها فيه.
كما حدث أن استحلّ جماعة من العرب منع الزكاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ويختلف الصحابة في أمرهم: أيقاتلونهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل الكفار، أم يتركونهم مخافة ألا يقووا على قتالهم، فتضيع هيبة العرب إياهم، وينحاز عمر بن الخطاب إلى القائلين بترك قتالهم، ويشتد في خلاف أبي بكر، ويستدل لما ذهب إليه من الرأي، ويقول لأبي بكر: كيف نقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم)) ويجد أبو بكر مساغًا للردّ عليه، ويقول له: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا: ((إلّا بحقها)) ومن حقها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، ويذعن عمر رضي الله عنه وينقاد لفهم أبي بكر في الحديث.
ويحارب المسلمين من ارتدّ من العرب، ويحاربون غيرهم، وفي المسلمين كثير ممن حفظ القرآن الكريم، ويموت بعض هؤلاء في حروب الردة وغيرها، فيخاف عمر أن يستحرّ القتل في حفظة القرآن الكريم، فيذهب إلى أبي بكر يلتمس منه أن يجمع القرآن، ويعرضه على ثقات الحفاظ، ويأبى أبو بكر رضي الله عنه؛ لأن ذلك شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحاول عمر إقناعه بأن المصلحة فيما يدعوه إليه، وأن الضرر الذي ينجم عن الامتناع أكثر مما يتعلل به، وينضم إلى أبي بكر جماعة من الصحابة، ولكن إخلاص عمر رضي الله عنه في الذي يدعوهم إليه، ما يزال يدفعه إلى مقاولتهم وحجاجهم حتى يشرح الله صدورهم لما شرح له صدر عمر، فيؤخذوا في جمع الصحف والعسب والرقاع والأدم، ويرسم أبو بكر الطريق إلى بلوغ هذه الغاية، ويستقر رأي جميعهم على ما شرح الله له صدور الذين كانوا يختلفون.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.