الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن
(تابع دروس وعبر من مراحل الدعوة إلى الله عز وجل
الهجرة إلى الحبشة، وما يستفاد منها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين وبعد:
الهجرة الأولى إلى الحبشة:
كانت بداية الاعتداءات على المسلمين في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة بدأت ضعيفة، ثم لم تزل تشتد يومًا فيومًا، وشهرًا فشهرًا، حتى تفاقمت في أواسط السنة الخامسة، ونبا بهم المقام في مكة، وأخذوا يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم، وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر، تشير إلى اتخاذ سبيل الهجرة، وتعلن بأنَّ أرض الله ليست بضيقة، قال سبحانه وتعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10).
ولمَّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما كان ينالهم من التعذيب والإهانة، وأنه لا يقدر أن يمنع عنهم ما يصيبهم، نصح المسلمين بالخروج إلى الحبشة، وفي تلك الظروف الحرجة كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة فرارًا بدينهم من بلاد الفتنة إلى بلاد الأمان.
ومن الثابت أنَّ المسلمين هاجروا إلى الحبشة مرَّتين، وكانت الهجرة الأولى في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وهم أحد عشر رجلًا وأربع نسوة، خرجوا متسللين سرًّا.
وقد ثبت من طرق صحيحة ما ورد عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وكانت ضمن من هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولى؛ حيث قالت: "لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في
منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيها)) فخرجنا إليها أرسالًا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، فأمنا على ديننا ولم نخش منه شيئًا، وكان عثمان بن عفان أوّل من خرج مهاجرًا، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأورد الإمام البخاري حديثًا بسندٍ موصول إلى أنس قال: ((أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت له: لقد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال صلى الله عليه وسلم: صحبهما الله)).
إنَّ عثمان لأوّل من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام، وقد سرد ابن إسحاق وغيره أسماء مهاجرة الحبشة، وهم: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو حذيفة بن عتبة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، وأبو صبرة بن أبي رهف العامري، وحاطب بن عمرو العامري.
وأمَّا النسوة فهنّ: رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أبي أمية امرأة أبي سلمة، وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة، وقد عُرِفَت هذه بالهجرة الأولى إلى الحبشة.
الهجرة الثانية إلى الحبشة:
عندما كان المسلمون في الحبشة أُشِيع أن قريشًا قد أسلمت، فرجع ناس منهم: عثمان بن مظعون، فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحًا، فرجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية، وقد ذكرت إحدى الروايات الصحيحة أنَّهم كانوا اثنتين وثمانين رجلًا سوى نسائهم وأبنائهم.
وقيل: إن عدة نسائهم كانت ثماني عشرة امرأة، ولا شكَّ في أن دوافع الهجرة الثانية قد شملت اشتداد البلاء، وتعاظم الفتنة، والتعذيب الدائم للمستضعفين من المسلمين، والعدوان المستمر على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
مكيدة قريش بمهاجري الحبشة:
عزَّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنًا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جَلَدَين لبيبين، وهما عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، قبل أن يُسلما، وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوَّداهم بالحجج التي يُطرَد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي وقدَّمَا له الهدايا، ثم كلماه وقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم؛ من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهم، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.
ولكن رأى النجاشي أنه لا بُدَّ من تمحيص القضية وسماع أطرافها جميعًا، فأرسل إلى المسلمين ودعاهم فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنًا ما كان، فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا دين أحد من هذه الملل؟ قال جعفر بن أبي طالب، وكان هو المتحدث عن المسلمين: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منَّا، نعرف نسبه وصدقه
وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فعدّد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنّا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحلَّ ما كنّا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألّا نظلم عندك أيها الملك.
وبذلك يكون جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قد وضع ملخصًا عامًّا للإسلام والدعوة إليه بين يدي ملك الحبشة ومن حوله، فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ، فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص} فبكى والله النجاشي حتى اخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إنَّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلّمهم إليكما، ولا يكادون، يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه، فخرجا، فلمَّا خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة: والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصرَّ عمرو على رأيه، فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا،
فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح، ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق كائنًا ما كان، فلمَّا دخلوا عليه وسألهم قال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فأخذ النجاشي عودًا من الأرض، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم والله! ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شيومٌ بأرضي، والشيوم: الآمنون بلسان الحبشة، مَنْ سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرًا من ذهب وأني آذيت رجلًا منكم، والدبر الجبل بلسان الحبشة.
ثم قال لحاشيته: ردوا إليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله منّا الرشوة حين ردَّ علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، قالت أم سلمة -التي تروي هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحين، عليهما ما جاء به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
ما يستفاد من الهجرة إلى الحبشة:
أولًا: يذكر الحديث سببًا للهجرة إلى الحبشة، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا))، وهذا لا يعني أن هذا هو السبب الوحيد، والباعث الوحيد على الهجرة إلى الحبشة.
ونرى أن هناك سببًا آخر للهجرة، هو البحث عن محضنٍ آمن للدعوة الإسلامية، وإقليم للدولة الإسلامية، وقد ثبت أنَّ مكة لا تصلح أن تكون ذلك المحضن، ولا ذلك الإقليم لدولة الإسلام، وأن يقوم بدراسة الحبشة دراسة ميدانية،
ومدى صلاحيتها لمن هاجر إليها من المسلمين، والذي دفعنا لاستخلاص هذا الباعث، أنّ الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة كانت لهم منعة وقوة في قومهم، ولم يكونوا من الفقراء والعبيد المستضعفين، بل كانوا من أشراف قومهم، وكانوا ذوي رأي حصيف وخبرة بالناس؛ كعثمان بن عفان وامرأته، وأبي حذيفة بن عتبة وامرأته، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة وزوجه أم سلمة، وعثمان بن مظعون.
وكان من أهداف هذه الهجرة شرح قضية الإسلام، وموقف قريش منه، وإقناع الرأي العام بعدالة قضية المسلمين، على نحو ما تفعله الدول الحديثة من تحرُّك سياسي بشرح قضاياها وكسب الرأي العام إلى جوارها.
ثانيًا: إنَّ القائد دائم التفكير في أمر جماعته وأتباعه، فهو يبحث لهم عن مكان آمنٍ يأمنون فيه على دينهم، وعلى أنفسهم، وعلى ممارستهم لشعائر هذا الدين، وسائر أنواع العلاقات مع الله ومع الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم القائد والرائد، هداه الله إلى اختيار الحبشة؛ ليأمن أتباعه على أنفسهم.
ثالثًًا: الدين أهم شيء في حياة المسلم، فهو أغلى من النفس والمال والأهل والولد والعشيرة والأقارب والقوم، وإذا اقتضت سلامة الدين مفارقة الأوطان والأولاد والأهل والقبيلة فليكن، وإن كانت هذه الأمور صعبة وشاقّة على النفس، إنَّ الغربة وهجرة الأوطان وَقْعُها على النفس أليم، وهكذا صمّم المهاجرون إلى الحبشة على هجرة الأوطان والإخوان والأقارب في سبيل الحفاظ على دينهم.
رابعًا: جواز الهجرة إلى بلد غير إسلامي، والحياة فيه حتى يأتي الله عز وجل بالفرج والنصر، فإنَّ الحبشة كمكة ليست دار إسلام آنذاك، فهما دار كفر، إلّا أنَّ مكة
دار كفر معادية للإسلام والمسلمين، والمسلم ليس آمنًا على دينه وعلى نفسه وماله، والحق أنّ المسلمين قد استفادوا من جوِّ الحرية العقدية المتاح في الحبشة، والذي لم يتوفّر في مكة، فعاشوا فيها آمنين على دينهم وأنفسهم.
ونجد من الواجب علينا هنا أن نستدرك فنقول: إنَّ الحياة في أيّ بلد غير إسلامي توفر الأمن فيه للدعاة يجب أن يكون بعيدًا عن التنازل عن أي شيء من هذا الدين، سواء كان عقيدة أو شريعة، وهذا ما وقفه المهاجرون بقيادة جعفر حينما سئلوا عن عقيدتهم في عيسى.
خامسًا: السرية والسرعة في الحركة وسيلة النجاح في مهمة الهجرة إلى الحبشة:
لقد خرج المهاجرون أفواجًا أفواجًا، ولم يخرجوا جميعًا في وقت واحد، وتجمَّعت هذه الأفواج حتى بلغت ثلاثة وثمانين رجلًا وتسع عشرة امرأة، ولقد تسلّل هؤلاء في الخفاء على شكل أفواج، فوجًا بعد فوج، حتى لا تشعر قريش بهم، وتسمع بخبرهم، فتهب لمنعهم من الهجرة، وتستمر في فتنتهم، وتزداد في تعذيبهم، ويوم أن علمت قريش متأخرة بخروج الفوج الأوّل إلى الحبشة سارعت إلى البحر لتمنعهم، وإذا هم قد ركبوا السفينة، وأخذت تبحر بهم في عباب البحر، فرجعوا خاسرين.
سادسًا: البطارقة قوم مرتشون، كان هذا شائعًا عند المشركين وعند غيرهم، ولقد سجّل القرآن هذه الصفة الذميمة لهم بقوله:{إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (التوبة: 34) وهذه الصفة يخبرك بها أيضًا أحداث هذه الهجرة؛ إذ حمل عمرو بن العاص وزميله هدايا إلى البطارقة؛ كرشوة لهم حتى يؤيدوهم عند النجاشي فيما يريدون من إعادة المهاجرين إلى مكة، وقد نجح في التأثير عليهم بذلك، فوقف البطارقة يؤيدون طلب عمرو بن العاص وزميله في إعادة المهاجرين من الحبشة إلى مكة.
سابعًا: منطق معكوس:
إذا فسد الناس وفسدت القيم نجد أنَّ المعروف يصبح منكرًا، والمنكر يصبح معروفًا، ويؤمَّن الخائن ويخوّن الأمين، ويحكم الرويبضة، وهو الرجل التافه الحقير، يتكلم في شئون العامّة، لقد وقف عمرو بن العاص يصف هؤلاء المؤمنين الأتقياء الأنقياء بالسفهاء، وأنّهم فتية صغار أغرار، يوجههم طيشهم وضعف عقلهم وفهمهم، أمّا الذين يعبدون الأصنام الحجرية أو البشرية فهؤلاء أصحاب عقول كبيرة، وتصرفات سليمة مليئة بالحكمة، تأمّل قول عمرو: أنَّ فتية منا سفهاء، فارقوا دين قومهم، ووالله الذي لا إله إلا هو إنَّ السفيه هو الذي يرغب عن ملة الإسلام، وعبد الطاغوت وسجد للأوثان والأصنام، قال تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130).
ثامنًا: لقد كان هدف قريش من إرسال سفيريها إلى الحبشة وملكها وبطارقتها هو إعادة المهاجرين بدينهم إلى أعتى قلاع الشرك، وفاتنة أهل الإيمان مكة، وقد كان أسلوب عمرو بن العاص في استجلاب البطارقة، وأسلوبه في التحريض على المسلمين، يخدم هدفه ويتناسب تمام التناسب مع الهدف الخبيث، فجاء بأسلوب ذكي، فيه من الغمز والتحريض ما يثير التعاطف ضد المسلمين، تأمَّل عبارته: إن فتية منَّا سفهاء، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، ومع هذا جاءوا لاجئين إلى الملك، يعيشون في حمايته، ويخالفوا دينه.
تاسعًا: يحرم السجود لغير الله من بشر أو شجر أو حجر:
هذا ما نطق به جعفر وتعلّمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالسجود عبادة تدل على التذلل والخشوع والانكسار، وهذه العبادة لا تكون إلّا لله سبحانه وتعالى، وينبغي ألّا تكون
لغير الله، وإن كان ملكًا من الملوك، أو عظيمًا من العظماء، أمّا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يعلمنا العلم والعمل به، فإنه قد يعلم كثير من الناس أحكامًا شرعية، ولكنّهم عند العمل ينكصون على أعقابهم، بل إنهم يعملون نقيض ما تعلموه من أحكام، فإنَّ هيبة الملك ورهبة الأحوال وصعوبة الظروف وحساسيتها لم تؤثّر على جعفر وعلى من معه، فلم يسجدوا، وقد رأوا الناس يسجدون، ولم يجدوا حرجًا وقد عاينهم الملك الذي سيقبل بإقامتهم عنده أو يرفضها، ويرجعهم إلى العذاب والفتنة حين قال: ما لكم لا تحيوني كما يحيوني من أتانا من قومكم؟ فقال جعفر: إننا لا نسجد إلا لله.
أقول: جدير بالذين يطأطئون هاماتهم لطواغيت الأرض وقد أغناهم الله عنهم، ويا ليت هؤلاء يطَّلعون على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه في هذا الشأن، يا ليتهم يطلعون على موقف جعفر يقود المهاجرين إلى الحبشة، وهو يرفض أن يسجد للملك، ويقول له دون تلجلج: إننا لا نسجد إلا لله، إنه الإسلام العزيز الذي يهب أصحابه وأتباعه العزة والمنعة والاستعلاء.
عاشرًا: سمات المجتمع الجاهلي:
قد حدثنا عن صفات المجتمع الجاهلي وسماته من اكتوى بنار جاهليته، وعاش فيها أعوامًا من حياته، إنه جعفر بن أبي طالب، فأبوه زعيم مكة، وبنو هاشم أهل الريادة والقيادة والرئاسة فيها، لقد عانى منها في مكة، وعانى منها بعد خروجه من مكة، وحياته في بلاء الغربة، فجاهلية قريش وكل جاهلية تقوم على الشرك وعبادة الأوثان، وإنّ الضد بعكسه تتميز الأشياء، فذكر الإسلام وخصائصه، وتأثيره في نفوس متبعيه؛ من تحرير من الشرك، وتأليه غير الله، وتحريم الزنا، وخطر سفك الدماء، وحرمة أكل الميتة، وحرمة اعتداء القوي
على الضعيف، لقد كانت استجابة من عنده عقل يميز الأشياء ويفرّق بين الحسنات والسيئات.
حادي عشر: الثقة المطلقة بالقائد:
لقد أخبر جعفر بأنَّ هذا الرسول موثوق عند قومه مؤمنهم وكافرهم، صادق لا يعرف الكذب إلى لسانه سبيلا، ولا إلى قلبه دليلًا، ومن كانت هذه صفاته جدير بأن يصدَّق وأن يتَّبع، وأن يطاع، فصدّقوه وآمنوا بما جاء به من دعوة إلى مكارم الأخلاق وكفٍّ عن شرورها.
ثاني عشر: الابتلاء في هذا الدين سنة لا تتوقف ولا تتخلف:
لقد أخبر جعفر عن هذه السنَّة، وأن الابتلاء لحق هؤلاء المؤمنين في مكة، وكان ابتلاء بالضرّاء، بالأذى، بحرق الأجسام، بخنق الدعاة، بتعذيبهم بوسائل يعجز عنها شياطين الجن، والموقف من هذا الابتلاء الثبات على المبدأ، والصبر على هذا الدين، حتى يأتي الله بالفرج والنصر والتمكين.
ثالث عشر: أسلوب جعفر في عرض قضيته -قضية المسلمين المهاجرين- كان أسلوبًا موفَّقًا ومؤثرًا وصادقًا، وجادًّا ومتميزًا، مما جعل النجاشي يتأثر بقوله، ويطلب أن يسمعه شيئًا من هذا القرآن الذي دعا إلى ما دعا إليه؛ من محاربة الرذائل، والإقبال على الفضائل، لقد بدأ يذكر قبائح الجاهلية التي تحاربها الفطرة السوية، ثم ذكر موقف الإسلام من القبائح، رفضها وتغييرها، والتزامهم بالتغيير، مما ترتَّب عليه الاضطهاد، فكان حسن التأني للأمور وجودة الأسلوب دافعًا للملك أن يتعاطف معهم، وأن يوفّر لهم في بلده الأمن والأمان.
أمَّا البطارقة فإنهم لم يتأثروا؛ لأنهم لا إيمان لهم، وقلوبهم مشغولة بالدنيا، ويبيعون أنفسهم ودينهم وأمانتِهم بهدية من مشرك أو كافر كما علمت.
رابع عشر: إننا نحسب بل نجزم أنَّ النجاشي الذي أسلم، هو هذا النجاشي الذي أعلن تأييده لما قال جعفر في عيسى عليه السلام؛ إذ نفى عنه صفة الألوهية، ووصفه بالعبودية لله، في حين أن البطارقة غضبوا من وصفه، وأنكروا عليه ذلك.
لقد قال لجعفر ولهم حين سمع عقيدة المسلمين في عيسى عليه السلام: أنَّ مصدر عقيدة المسلمين وغيرهم في الله، قبل التحريف واحدة: إنها عقيدة التوحيد، المحاربة للشرك، فالله غني عن الولد والوالد والزوجة، والذي يقول هذا كافر في دين الله.
وأمّام ضغط البطارقة والدولة لهم فيها نفوذ كبير، كتم النجاشي إيمانه بالله وتوحيده وعبادته، وترك أوضار الشرك وعقيدة التثليث، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بحقيقة إيمان الرجل فنعاه، وبعد موته صلى عليه صلاة الجنازة.
خامس عشر: الحبشة لا تصلح أن تكون محضنًا للدعوة الإسلامية، وإقليمًا للدولة الإسلامية: لقد تبيّن من الدراسة الميدانية أنَّ الحبشة لا تصلح لتكون إقليم الدولة الإسلامية المرتقبة لعدة أسباب هي:
1 -
النظام الحاكم في الحبشة نظام ملكي ضعيف وغير مستقر، وبخاصَّة بين النجاشي الحاكم وبين مخالفيه من أسرته الحاكمة، الذين ينازعونه الملك، وقد وصل هذا النزاع إلى حدِّ القتال، ولقد عانى المسلمون من هذه الحالة القلق والاضطراب، وكانت ساعات حرجة؛ لأنها تقرر مصيرهم.
2 -
إنَّ الملك -وإن كان حاكمًا على الحبشة- لم يكن قد بسط نفوذه على الناس، ولم يكن ليجرأ على إعلان عقيدته وإيمانه، بل كان ينكر ذلك