المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السخرية والتكذيب، وصد الناس عن الدعوة، والاعتداء، والمطالب التعجيزية - أصول الدعوة وطرقها ٣ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌حقيقة مذهب السلف في الإيمان بالقدر، والنصوص الدالة عليه

- ‌تعريفات القضاء والقدر، والفرق بينهما

- ‌أدلة وجوب الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌الدرس: 2 تابع الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌أقسام القدر، وحكم التكذيب به

- ‌الاحتجاجُ بالقدر لترك الواجبات وفعل المعاصي احتجاجٌ باطلٌ

- ‌أثر الإيمان بالقدر على المسلم

- ‌الدرس: 3 الأساليب والوسائل الدعوية من خلال السيرة النبوية (1)

- ‌أهداف دراسة السيرة النبوية، والبيئة التي نشأت فيها الدعوة

- ‌الإعداد الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم بأعباء الدعوة

- ‌دلائل النبوة في مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 4 الأساليب والوسائل الدعوية من خلال السيرة النبوية (2)

- ‌عصمة الله رسولَه صلى الله عليه وسلم من دنس الجاهلية

- ‌الإعداد الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سن الخامسة والعشرين حتى بلوغه الأربعين

- ‌الدرس: 5 الأساليب والوسائل الدعوية من خلال السيرة النبوية (3)

- ‌حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي

- ‌حال النبي عند نزول الوحي عليه، وصور ذلك الوحي

- ‌حديث بدء الوحي وما فيه من الفوائد

- ‌الدرس: 6 بدء الوحي، وبداية الدعوة السرية

- ‌بداية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وفترته

- ‌مرحلة الدعوة السرية

- ‌الدرس: 7 دروس وعبر من مراحل الدعوة إلى الله عز وجل

- ‌أساليب المشركين المتنوعة في إجهاض الدعوة

- ‌السخرية والتكذيب، وصد الناس عن الدعوة، والاعتداء، والمطالب التعجيزية

- ‌الدرس: 8 تابع دروس وعبر من مراحل الدعوة إلى الله عز وجل

- ‌الهجرة إلى الحبشة، وما يستفاد منها

- ‌مرحلة ما بعد وفاة أبي طالب والسيدة خديجة، والرحلة إلى الطائف

- ‌الدرس: 9 دروس في فقه الدعوة من خلال الهجرة إلى المدينة

- ‌المسلمون يبدءون الهجرة إلى المدينة بعد بيعة العقبة الثانية

- ‌الإعداد والتخطيط للهجرة، والدروس المستفادة منها

- ‌الدرس: 10 تابع دروس في فقه الدعوة من خلال الهجرة إلى المدينة

- ‌تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة إلى المدينة

- ‌نتائج الهجرة

- ‌ملامح شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 11 هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تريبة أصحابه

- ‌تربية الصحابة على أخلاق الإسلام السامية

- ‌وُدُّ النبي صلى الله عليه وسلم ووفاؤه، وتفقُّد أحوال أصحابه، وكرمه

- ‌غضبه صلى الله عليه وسلم وشدته في الحق

- ‌الدرس: 12 تابع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تريبة أصحابه

- ‌أثر شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه

- ‌تأليف قلوب الصحابه واستمالتهم، والاهتمام بأمرهم، وتفقد أحوالهم، وقضاء حوائجهم

- ‌الدرس: 13 تعريف بالمدعو وبيان حقوقه وواجباته، وسنة الاختلاف

- ‌التعريف بالمدعو، وبيان حقوقه وواجباته

- ‌سنة الاختلاف، والاختلاف فى علم الفقه، والاختلاف بين الصحابة

- ‌الدرس: 14 أصناف المدعوين وكيفية دعوتهم، والدعوة على الوجه الأمثل

- ‌أصناف المدعوين: الملأ، وجمهور الناس، والمنافقون، والعصاة

- ‌تنوع الخطاب الدعوي وفق أحوال المدعوّين

- ‌أحوال الدعوة في الأقطار الإسلامية، وكيف تكون الدعوة على الوجه الأمثل

- ‌الدرس: 15 معاملة غير المسلمين وكيف يدعون إلى الإسلام

- ‌القاعدة الأولى في معاملة أهل الذمة في دار الإسلام

- ‌الأساس الفكري لتسامح المسلمين، وتبليغ الدعوة لغير المسلمين

- ‌الدرس: 16 أساليب الإقناع والتأثير النفسي: الخطابة

- ‌الخطابة: تعريفها، وقيمتها، وتاريخها، ومكانتها في العصر الجاهلي

- ‌خصائص الخطابة في العصر الجاهلي وأغراضها

- ‌الدرس: 17 بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم وأثرها في الخطابة

- ‌أثر القرآن في بلاغة الرسول، وبلوغه صلى الله عليه وسلم الغاية في البيان

- ‌أمور مهمة في وصف بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمثلة من كلامه

- ‌الدرس: 18 من أنواع الخطابة الدينية: خطبة الجمعة

- ‌الجمعة: تعريفها، وفضلها، وسننها، وشروطها، ووقتها، ومن تجب عليهم

- ‌آداب الجمعة

- ‌الدرس: 19 خطبتا العيدين، والخطب الدينية في موسم الحج

- ‌صفة صلاة العيد وكيفيتها

- ‌الخطب الدينية في موسم الحج

- ‌شروط وجوب الحج، وصحة أركانه، وواجباته ومحظوراته

- ‌الدرس: 20 تابع الخطب الدينية في موسم الحج

- ‌بيان بعض أحكام الحج

- ‌ركوب الطائف، وسنن الوقوف بعرفة، والدفع إلى منى

- ‌الدرس: 21 من أساليب الإقناع العقلي ووسائله

- ‌الجدل

- ‌المحاجة، والمناظرة، والمحاضرة، والندوة، والدرس الديني

الفصل: ‌السخرية والتكذيب، وصد الناس عن الدعوة، والاعتداء، والمطالب التعجيزية

اشتداد التضييق على الدعوة إلى الله:

قال ابن إسحاق: "ثم إن قريشًا اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن أسلم معه منهم، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءهم، فكذبوه وآذوه ورموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به، يبادلهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم على كفرهم.

‌السخرية والتكذيب، وصد الناس عن الدعوة، والاعتداء، والمطالب التعجيزية

وقد سلكت قريش أساليب كثيرة لمجابهة الدعوة؛ والتي منها:

1 -

السخرية والتحقير والاستهزاء والتكذيب:

قصدوا بها تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلى الله عليه وسلم بتهم هازلة وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون:{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر: 6) يصفونه بالسحر والكذب، {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (ص: 4) وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة وعواطف مفتعلة، وعواطف منفعلة هائجة {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُون} (القلم: 51).

وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزءوا بهم، وقالوا: هؤلاء جلساؤه، مَنَّ الله عليهم من بيننا؟! قال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِين} (الأنعام: 53) وكانوا كما قص الله علينا: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} (المطففين: 29 - 33).

ص: 122

وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء، وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًا فشيئًا، حتى أَثَّر ذلك في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} (الحجر: 97) ثم ثبته الله وأمره بما يذهب بهذا الضيق، فقال:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر: 99،98) وقد أخبره مِن قَبل أن يكفيه هؤلاء المستهزئين، حيث قال:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الحجر: 95، 96).

وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالًا عليهم، فقال:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأنعام: 10).

2 -

الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن، ومعارضته بأساطير الأولين:

كان المشركون يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآن، ودعوة الإسلام بكل طريق يمكن، فكانوا يطردون الناس، ويثيرون الشغب والضوضاء، ويتغنون ويلعبون إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يتهيأ للدعوة، أو إذا رأوه يصلي ويتلو القرآن. قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26).

حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكن من تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة من النبوة، وذلك أيضًا عن طريق المفاجأة دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلاوة.

وكان النضر بن الحارث -أحد شياطين قريش- قد قدم الحيرة، ومعه بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم بسفنديار، وفي رواية عن ابن عباس: أن النضر كان قد اشترى قينة، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه اسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (لقمان: 6).

ص: 123

3 -

اعتداءات على رسول الله صلى الله عليه وسلم:

واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتحترمه، منذ ظهرت الدعوة على الساحة، فقد صعب على غطرستها وكبريائها أن تصبر طويلًا، فمدّت يد الاعتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما كانت تأتيه من السخرية والاستهزاء والتشويه والتلبيس والتشويش، وغير ذلك.

وكان من الطبيعي أن يكون أبو لهب في مقدمتهم وعلى رأسهم، فإنه كان أحد رءوس بني هاشم، فلم يكن يخشى ما يخشاه الآخرون، فكان عدوًّا لدودًا للإسلام وأهله، وقد وقف موقف العداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول، واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش، وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا، ورأى رسول الله من المشركين كثير الأذى وعظيم الشدة، خصوصًا إذا ذهب إلى الصلاة عند البيت، وكان من أعظمهم أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة سموا لكثرة أذاهم بالمستهزئين.

فأولهم وأشدهم عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، قال يومًا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد أتى ما ترون من عيب دينكم، وشتم آلهتكم، وتسفيه أحلامكم، وسب آبائكم، إني أعاهد الله لأجلسن له غدًا بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، فلما أصبح أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا عليه الصلاة والسلام كما كان يغدو إلى صلاته، وقريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد عليه الصلاة والسلام، احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا ممتقعًا لونه من الفزع، ورمى حجره من يده، فقام إليه رجال من قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟!

ص: 124

قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم، فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل، والله ما رأيت مثله قط، هم بي أن يأكلني، فلما ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ذاك جبريل ولو دنا منه لأخذه)).

وكان أبو جهل كثيرًا ما ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن صلاته عند البيت، فقال له مرة بعد أن رآه يصلي: ألم أنهك عن هذا، فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم القول وهدده، فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا، فأنزل الله تهديدًا له في آخر سورة اقرأ:{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (العلق: 15 - 19).

ومن أذيته للرسول صلى الله عليه وسلم ما حكاه عبد الله بن مسعود من رواية البخاري قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو يصلي، فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى فرث جزور بني فلان فيلقه على محمد وهو ساجد، فقام عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وجاء بذلك الفرث فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فلم يقدر أحد من المسلمين -الذين كانوا بالمسجد- على إلقائه عنه؛ لضعفهم عن مقاومة عدوهم، ولم يزل عليه الصلاة والسلام ساجدًا حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر ورمته، فلما قام دعا على من صنع هذا الصنع القبيح فقال: اللهم عليك بالملأ من قريش، وسمى أقوامًا. قال ابن مسعود: فرأيتهم قتلوا يوم بدر)).

ومما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي جهل ((أن هذا ابتاع أجمالًا من رجل يقال له الأراشي، فمطله بأثمانها، فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدته على أخذ ماله، فدلوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل؛ استهزاء مما يعلمونه من أفعال ذلك الشقي بالرسول صلى الله عليه وسلم فتوجه الرجل إليه وطلب منه المساعدة على أبي جهل، فخرج معه حتى ضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: محمد،

ص: 125

فخرج ممتقعًا لونه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أعط هذا حقه، فقال أبو جهل: لا تبرح حتى تأخذه، فلم يبرح الرجل حتى أخذ دينه، فقالت قريش: ويلك يا أبا الحكم! ما رأينا مثل ما صنعت. قال: ويْحكم، والله ما هو إلا أن ضرب عليَّ بابي، حتى سمعت صوته فملئت منه رعبًا، حتى خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلًا من الإبل ما رأيت مثله قط، لو أبيت أو تأخرت لأكلني)).

ومن المستهزئين عقبة بن أبي معيط، كان الجار الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يعمل معه كأبي لهب، صنع مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام:((والله لا آكل طعامك حتى تؤمن بالله فتشهد، فبلغ ذلك أبي بن خلف وكان صديقًا له فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال: لا شيء، دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له، قال أبي: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدًا فلم تطأ عنقه، وتبصق في وجهه، وتلطم عينه، فلما رأى عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل به ذلك)) فأنزل الله فيه سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (الفرقان: 27 - 29).

ومن أشد ما صنعه ذلك الشقي برسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري في صحيحه قال: "بينما النبي يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! ".

ومن جماعة المستهزئين: العاص بن وائل السهمي القرشي، والد عمرو بن العاص، كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: "غَرَّ محمد أصحابه أن

ص: 126

يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر" فقال الله ردًّا عليه في دعواه في سورة الجاثية:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24).

وكان عليه دَين لخباب بن الأرت أحد رجال المسلمين، فتقاضاه إياه فقال العاصي: "أليس يزعم محمد هذا -الذي أنت على دينه- أن في الجنة ما يبتغي أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟ قال خباب: بلى، قال: فأنظرني إلى هذا اليوم، فسأوتى مالًا وولدًا وأقضيك دينك، فأنزل الله في سورة مريم:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (مريم: 77 - 80).

ومن جماعة المستهزئين الأسود بن عبد يغوث الزهري، وهو ابن أخي آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من بني زهرة أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول:"قد جاءكم ملوك الأرض! استهزاءً بهم؛ لأنهم كانوا متقشفين، ثيابهم رثة، وعيشهم خشن، وكان يقول لرسول الله سخرية: أما كُلمت اليوم من السماء؟! ".

ومنهم الأسود بن المطلب الأسدي، ابن عم خديجة، كان هو وشيعته إذا مر عليهم المسلمون يتغامزون، وفيهم نزل في سورة المطففين:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} (المطففين: 29 - 32).

ومنهم الوليد بن المغيرة عم أبي جهل، كان من عظماء قريش، وفي سعة من العيش، سمع القرآن مرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقومه بني مخزوم: "والله لقد

ص: 127

سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، لتصبأن قريش كلها، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فتوجه وقعد إليه حزينًا وكلمه بما أحماه -أي: أغضبه- فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمدًا مجنون، فهل رأيتموه يهوس؟! وتقولون: إنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن؟! وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرًا قط؟! وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئًا من الكذب؟! فقالوا في كل ذلك: اللهم لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر قليلًا ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فارتج النادي فرحًا، فأنزل الله في شأن الوليد في سورة المدثر مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (المدثر: 11 - 26).

4 -

لجوء المشركين إلى أسئلة تعجيزية ومطالب غير عقلية:

وطالبت قريش أن يريهم الرسول صلى الله عليه وسلم معجزات أو مزايا ليست عند البشر العاديين، من ذلك قولهم:{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا*أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} ، فرد عليهم الله تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15).

ص: 128

وقولهم: وقالوا: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا*أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا*أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلا*أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ} (الإسراء: 90 - 93)، ولذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الآية نفسها:{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (الإسراء: 93) وسألوه أن يُسيِّر لهم جبال مكة ويقطع لهم الأرض ليزرعوها، ويبعث إليهم من مضى من الآباء الموتى -أمثال قصي- ليسألوه عن صدق محمد صلى الله عليه وسلم فرد الله عليهم في قوله:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} (الرعد: 31).

ولقد كان طلبهم على وجه العناد، لا على وجه طلب الهدى والرشاد. قال تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام: 109 - 111).

وقال سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) وهكذا دأب كفار مكة على توجيه الأسئلة التعجيزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يحقق لهم أشياء ليست في مقدور البشر، من ذلك أنهم أرسلوا رسلهم إلى أهل الكتاب، يسألون عن مدى علمهم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وكيفية كشف مزاعمه.

يقول محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: "بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألوا الأحبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد

ص: 129

جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل مُتَقَوِّل، فتروا فيه أمركم.

سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار اليهود أن نسأله عن أمور وأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن كذا وكذا، وسألوه عن الأمور التي حددها الأحبار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أخبركم غدًا عما سألتم عنه))، ولم يستثنِ، فانصرفوا عنه.

ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا ينزل عليه من الله وحي، ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعَدَنا محمد غدًا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها، ولم يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم من انقطاع الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، وبعد خمس عشرة يومًا جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، وفيها يعاتبه الله على حزنه عليهم، ويخبره عما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطوَّاف، وقول الله عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85).

فلما أخبرهم بنبأ ما سألوه عنه رجعوا إلى أنفسهم، وعلموا أنه لا طاقة لهم بمواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهة عقلية فكرية، ولذا لجئوا إلى العدوان والإيذاء المادي، ونشر الأكاذيب والمفتريات حول محمد ودعوته".

هذا، وبالله التوفيق.

ص: 130