الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول البراء بن عازب رضي الله عنه "أتاه جبريل وميكائيل فنزل جبريل وبقي ميكائيل واقفًا بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال هو هو قال: فزنه برجل فوزنه به، فرجحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فزنه بعشرة فوزنه فرجحهم قال: زنه بمائة فوزنه فرجحهم قال زنه بألف فوزنه فرجحهم ثم جعلوا يتساقطون عليه من كفة الميزان فقال ميكائيل: تبعته أمته تبعته أمته ورب الكعبة، ثم أجلسني على بساط كهيئة درنوك فيه الياقوت واللؤلؤ فقال أحدهما لصاحبه: شق بطنه فشقه فأخرجه منه مغمز الشيطان، وعلق الدم فطرحها فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه فخاطه، ثم أجلساه فبشره جبريل برسالة ربه حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم".
وفي (صحيح مسلم) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده جبريل، إذ سمع مقيضًا من السماء من فوق، فرجع جبريل، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: يا محمد هذا ملك قد نزل، لم ينزل إلى الأرض قط، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته)).
حديث بدء الوحي وما فيه من الفوائد
وعن بداية نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ((أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني
فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (العلق: 1 - 3).
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب منه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة رضي الله عنها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي بصره، فقالت له خديجة: يابن عمي اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني فيها جزعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟! قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي)).
فهذه قصة بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل إذا أراد شيئًا هيئ أسبابه، حتى يظهر شيئًا فشيئًا، فأول ذلك الرؤيا الصادقة، وهي جزء من أجزاء النبوة بالنسبة للمؤمن، وحبب إليه صلى الله عليه وسلم الخلاء، وهو الابتعاد عن الخلائق، وذلك من أجل التعبد والخلوة بالله عز وجل، وكيف لا تتعلق نفس النبي صلى الله عليه وسلم بالعبادة، وتُحبب إليه وهو النبي الخاتم، الذي بعثه الله عز وجل لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور.
والوصول إلى المراتب العظيمة، والارتفاع إلى المنازل العالية لا يكون بيسر وسهولة، ولكن بمعاناة ومشقة، وهذا ما تشير إليه ضم جبريل عليه السلام لرسولنا صلى الله عليه وسلم حتى بلغ منه الجهد، وإن كانت الدعوة تحتاج إلى جهد ومشقة ومكابدة، فتلَقِّي الوحي كذلك كان غالبه بجهد ومشقة ومكابدة، كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل:((كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قاله، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا، فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا)).
وفي الحديث من الفوائد والآثار الإيمانية:
1 -
فضل اعتزال أهل السوء والمعاصي، وبركة الخلوة من أجل العبادة والتقرب إلى الله عز وجل، ودل عليها كذلك قول الله سبحانه وتعالى حاكيًا عن إبراهيم عليه السلام:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (مريم: 48، 49).
2 -
فضل الرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو تُرَى له، فقد كانت الرؤيا الصالحة بداية إشراق شمس النبوة، فما زال النور يتسع حتى أشرقت شمس النبوة.
3 -
فضل أُمِّنا خديجة رضي الله عنها وكيف أنها مثال للزوجة الصالحة، التي تعين زوجها على العبادة والطاعة، وكيف تستقبل الزوجة زوجها إذا عاد مهمومًا، وكيف تسعى لتفريج همه وتنفيس كربه، فخففت عنه أولًا بأن من اتصف بالصفات الفاضلة، لا يمكن أن يخزيه الله، بل لابد أن يرفعه
وأن يكرمه، ثم لم تقتصر رضي الله عنها على ذلك حتى ذهبت به إلى ورقة بن نوفل فبشّره بالنبوة، وكيف لا تكون خديجة رضي الله عنها كذلك، وقد اصطفاها الله عز وجل لخاتم أنبيائه وإمام رسله في الدنيا والآخرة، وقد ورد في فضلها رضي الله عنها أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم:((هذه خديجة، أقرئها السلام من ربها، وأمره أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)).
4 -
وفي الحديث كذلك فضل ورقة بن نوفل، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته في هيئة حسنة، وقال صلى الله عليه وسلم:((لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين)).
5 -
قال الحافظ: "وفي هذه القصة من الفوائد: استحباب تأنيس من نزل به أمر؛ بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن من نزل به أمر استحب له أن يُطْلِع عليه من يثق بنصحه وصحة رأيه".
6 -
وفي الحديث بيان سنة من سنن الأمم مع من يدعوهم إلى الله عز وجل وهي التكذيب والإخراج، كما قال الله تعالى عن قوم لوط:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (النمل: 56)، وكما قال قوم شعيب:{لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} (الأعراف: 88)، وقال تعالى أيضًا:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: 13).
7 -
عبادة الأصنام مرفوضة عند العقلاء الذين يستخدمون عقولهم.
8 -
لقد أعد الله محمد بن عبد الله قبل البعثة لتلقي الوحي والتكليف بالرسالة، فبرأه الله من كل أعمال أهل الجاهلية الشركية، وعصمه من ذلك.
9 -
هجر عبادة الأصنام وسيلة من وسائل الإنكار والتحصين للهاجر.
10 -
إن التدبر والتفكر والبحث عن الحقيقة نوع من أنواع العبادة والهداية، يجدر بالمسلم أن يهتم بها.
11 -
منزلة الكعبة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة، فقد كان يقدسها ويجلها ويطوف بها معظمًا لها، وهذا من بقايا ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
12 -
أهمية القراءة والكتابة في هذا الدين، إذ بدأ الوحي بهما، فذكرهما في أول سورة أنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم.
13 -
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ومع معرفة خديجة رضي الله عنها بما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم وما استنتجته من ذلك، ولكنها ذهبت لتسأل من هو أعلم منها في هذا الشأن، إنه ورقة بن نوفل النصراني، الذي درس كتب أهل الكتاب فعضد رأيها.
14 -
النبوات والرسالات تنطلق من مشكاة واحدة في الوحي، وجبريل عليه السلام هو الذي نزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كما نزل بسائر الكتب على سائر الأنبياء.
15 -
العقبات في الطريق؛ لقد ذكر ورقة بن نوفل للرسول صلى الله عليه وسلم ما سيلاقيه من العنت والمشقة على أيدي الكفار، وأوصاه بالثبات، كما استعد بنصره إن بقي على قيد الحياة، وهذه طبيعة الدعاة من الرسل وغيرهم، إنه طريق الابتلاء والصبر ثم النصر، وهكذا كان يحدث لجميع الرسل.
هذا وبالله التوفيق.