الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العاشر
(تابع دروس في فقه الدعوة من خلال الهجرة إلى المدينة)
تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة إلى المدينة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين ورحمة الله للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن استنَّ بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين وبعد:
تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة:
والمدقق يجد أن غار ثور جنوب المدينة، وهذا تورية من الرسول صلى الله عليه وسلم على العدو؛ لأنَّ الذي سيطارده سيتوجّه فورًا إلى الشمال نحو مكة، ولا يخطر بباله أن يتوجّه إلى الجنوب حيث غار ثور؛ لأنّه عكس طريق الهجرة تمامًا، إنه التخطيط النبوي العميق، والتنفيذ الدقيق.
وتقتضي الخطة أن يلجأ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى الغار، يخرجان في اليوم الثالث منه، ويتوجّهان نحو المدينة، ويقوم علي بن أبي طالب بالنوم في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، ورَدِّ الأمانات إلى أهلها من مشركي مكة، ويقوم عبد الله بن أبي بكر بعد أن يطوف بنوادي قريش، ويسمع منهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما الإجراءات التي سيتخذونها ضده، بتزويد النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار قريش مساء، بعد أن يقضي طول النهار مع زعمائها وقادتها.
- وتقوم أسماء بتزويد النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام والشراب في النهار، ويأتي عامر بن فهيرة راعي أبي بكر، فيخفي آثار عبد الله وأسماء، وكأنّي بعبد الله بن أبي بكر يأتي في اليوم الأول، فيخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الطلب بشأنه شديد، ويوصي بعدم الخروج من الغار، ويأتي في اليوم الثاني بأخبار أنّ الرصد قد خف، إلّا أن الخروج في اليوم الثاني حَرِج، ولكن التوصية أن يخرج في اليوم الثالث.
تأمّل الاتفاق بين التقدير النبوي الذي قدَّره الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أريقط، دليل الطريق، وبين تقرير عبد الله بن أبي بكر.
ثانيًا: الاستعانة بعبد الله بن أريقط:
يُستخلَص منها جواز الاستعانة بالمشرك، واتخاذه دليلًا إذا لم يعرف عنه العداوة والغدر والخيانة، واشتُهِر بالصدق والوفاء، فليس بمستهجن أن يتَّصف بعض غير المسلمين ببعض الصفات الحسنة؛ كالكرم والشجاعة والنجدة والوفاء والصدق، وهذا غير الولاء، فإنه لا يحل اتخاذ المسلم غير المسلم وليًّا، قال تعالى:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍُ} (آل عمران: 28).
ويؤخَذ من حادثة عبد الله بن أريقط الاستفادة من الكفاءة، وتوظيفها لخدمة الإسلام والدعوة الإسلامية، إن لم يوجد في المسلمين مثلها.
ثالثًًا: دور المرأة في الهجرة:
يتناسب مع طبيعتها وفطرتها، أُخِذ هذا من دور أسماء وعائشة في تجهيز الراحلتين، ودور أسماء في تمويل الرسول وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، ويومًا لا تجد ما تربط به الماء والغذاء، فتشقّ نطاقها شقين، فبشرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن لها نطاقين في الجنة، ودور أسماء في إقناع جدّها وقد تفقّد المال، وسأل عنه، وقد أخذه ولده المهاجر أبو بكر، فجزع وقال لأسماء: والله لقد فجعكم بماله مع نفسه، فقالت: كلّا، لقد ترك لنا خيرًا كثيرًا، وأخذت بيده ووضعتها على كوْم من الحجارة قد غطته، فقال لا بأس إذا كان لقد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، فقالت أسماء: لا والله ما ترك لنا شيئًا، ولكن أردت أن أسكت الشيخ بذلك.
ويؤخَذُ من هذا درس، وهو الاستفادة من موقف أسماء، بأن تقف المرأة الداعية في هذا العصر وفي كل عصر، وعند الملمات، تتحمّل الجوع من أجل دينها
ودعوتها وعقيدتها، وتسكن ثائرة الأهل إذا عضتهم الحاجة بثباتها، وعلّمت أسماء المرأة كيف تخفي أسرار الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسرار المؤمنين في كل زمان ومكان؛ حين أنكرت أنّها تعلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن أبيها شيئًا، وقد جاء أبي جهل يسأل عنهما، فلطمها لطمة شديدة أسقطت قرطها من أذنها.
فالمرأة المسلمة في هذا الدين مكلفة بحمله ونشره والدفاع عنه، والهجرة إلى دار الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وتقديم ما لديها من خبرة وجهد وجهاد في خدمة المجتمع الإسلامي، وبناء الدولة الإسلامية.
رابعًا: التآمر على حياة الرسول ليلة الهجرة فيه أكثر من درس:
1 -
أسلوب التصفية الجسدية من الطواغيت للرسل وأتباع الرسل، وسائر الدعاة في سائر الأمكنة والأزمان؛ إذ لمَّا أعياهم الرسول صلى الله عليه وسلم بصبره وثباته ورفضه لإغراءاتهم وإغواءاتهم، قرروا قتله، وأن يتوزّع دمه بين القبائل، قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30).
2 -
من أساليب التآمر على الدعاة النفي والتغريب من الوطن، وتقييد حرياتهم حتى لا يتصلوا بالناس، ولا يؤثّروا عليهم، أسلوب قديم حديث يتكرر عند المسلمين منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أن تقوم الساعة.
3 -
في قصة الشيطان الذي ظهر على صورة شيخ نجدي، دلالةٌ أنّ شياطين الإنس والجن متحدون ومتفقون في الهدف، وهو الصدّ عن سبيل الله، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا.
4 -
يظهر مدى حبِّ الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم حين رفض الشيخ النجدي اقتراح مَنْ اقترح السجن، بأنَّ الصحابة لن يسلّموه أبدًا، والشواهد على هذا الحب كثيرة، في الهجرة وغيرها.
5 -
فشل القبائل في قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوزيع دمه على القبائل، يدل على أن الله تعالى قد تعهَّد بحفظه وحمايته من الأعداء، على حياته، قال تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67).
6 -
أسلوب السخرية والاستهزاء بالدعوة والدعاة أسلوب خبيث استخدمه أبو جهل بقوله: إن محمد يعدكم جنانًا كجنان الأردن.
7 -
يفهم من كلام أبي جهل أنَّ الأردن كانت بلادًا زراعية، تجود فيها المزروعات والفواكه منذ قديم الزمان، ويفهم من ذلك أيضًا أنَّ الأردن كانت مأهولة بالسكان، ومما ينبغي ذكره أن الأردن لا تطلق على الأراضي التي تقع شرقي نهر الأردن، إنّ الأردن في ذلك الوقت وبعد الفتح الإسلامي، وحتى اتفاقية سايكس بيكو، كانت تطلق على شمال الأردن وشمال فلسطين، وإنّ فلسطين كانت تطلق على جنوب الأردن وجنوب فلسطين، وشمال الأردن وشمال فلسطين منذ القدم أراض زراعية كثيرة المياه، بخلاف جنوب الأردن وجنوب فلسطين، فمعظمها أرض شبه صحراوية، قليلة المياه، قليلة الينابيع.
8 -
ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بربه وبنصره جعلته يتحدّى أبا جهل وسائر المتآمرين المحاصرين له، وينثر الرمل على رءوسهم؛ لأن أبا جهل الذي قال متهكمًا: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنات كجنان الأردن، وإن أنتم لم تفعلوا كان